قال العراقي:
وإنما قصدت بهذا الإصلاح بين المسلمين واتفاق الفريقين لقول الله تعالى { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا".
والجواب أن يقال:
إذا اتحد الدين وحصل الإيمان بالله ورسوله، وعبادة الله وحده لا شريك وخلع ما سواه من الأنداد والآلهة، حصلت الإخوة في الدين، ووجب من حقوق الإسلام والمسلمين بعضهم على بعض ما أوجبه الله ورسوله. وقصد الإصلاح بينهم واجب. لقوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } لكن مفهوم هذا أن الأخوة تنتفي بانتفاء الإيمان. وقد صرّح الله بهذا المفهوم في مواضع من كتابه، كقوله تعالى: { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الآية، وقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ }، وقوله: { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } الآية، وقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ } الآية، وقال تعالى: { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } إلى قوله: { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ }، وهذا في القرآن كثير، ولكن خفي على العراقي أن دعاء الأنبياء والصالحين والاستعانة بهم، وصرف حقوق الله إليهم من الشرك الذي ينتفي معه أصل الإيمان ومسماه، بل ويخفى على هذا العراقي أن الإيمان هو التوحيد كما فسّره بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث وفد عبد القيس، وفي حديث معاذ، لما أرسله إلى اليمن. فلذلك قصد بجهله الإصلاح بين الطائفتين واتفاق الكلمتين، ولم يدر شرع الله وحكمه في هذه المباحث، ومثله لا يعذر بالجهل في هذه المباحث والأصول، بل عليه وزره ووزر من اتبعه. من غير أن ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا، وفي الحديث: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا".
لا أصلح الله منا من يصالحكم ** حتى يصالح ذئب المعز راعيها
فصل
قال العراقي في مقدمة رسالته:
اعلم أن شيخ الإسلام قال في بعض كتبه - كما سيأتي قريبًا - إن أول من أظهر كفر أهل السنة والجماعة وتشريكهم: هم الخوارج والرافضة والمعتزلة.
والجواب أن يقال:
قد تقدم جواب هذا، وأن أهل السنة والجماعة هم المتمسكون بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعتقد والدين الذي خالفوا به أهل البدع وباينوهم، فلم يذهبوا إلى ما ذهبت إليه الجهمية والمعطلة، ولا إلى ما ذهبت إليه القدرية النفاة والقدرية المجبرة، ولا إلى ما ذهبت إليه الخوارج والمعتزلة، ولا إلى ما ذهبت إليه الرافضة والمرجئة، ولم يذهبوا إلى ما افتراه الغلاة في الأولياء والصالحين من عباد القبور، ونحوهم. فإن هؤلاء يسمون عند أهل السنة والجماعة غالية كما سموا به من غلا في علي وزعم أنه الإله الحق، فاستتابهم علي، فأبوا فخدّ لهم الأخاديد وأوقد فيها النيران، وقذفهم فيها وقال:
إني إذا رأيت أمرًا منكرًا ** أججت ناري ودعوت قنبرًا
وفي رواية:
لما رأيت الأمر أمرًا منكرًا..
ومن زعم أن عباد القبور أهل سنة وجماعة فهو إلى أن يعالج عقله أحوج منه إلى أن يقام عليه الدليل.
وفي كلام العراقي لفظة مدرجة ليست من كلام الشيخ، وهي قوله: "وتشريكهم" ظن أنها تنفعه، لأن المسلمين حكموا على عباد القبور بالشرك، فزاد هذه الكلمة، وسيأتيك كلام الشيخ في الغالية وعبارته في الرسالة السنية قريبًا إن شاء الله تعالى.
فصل
قال العراقي:
والخوارج هم كما في البخاري ومسلم وغيرهم من سائر كتب الحديث أناس عمدوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين - وأطال الكلام في الخوارج، وذكر بعض النصوص فيهم مع تصرف وعدم تحقيق ومعرفة للنقل - إلى أن قال -: فتبين لك أن علامة الخوارج تنزيلهم آيات القرآن النازلة في الكفار على المؤمنين من أهل القبلة. ولهذا ما ترى أحدًا من أهل السنة يتفوه بذلك ولا يكفر أحدًا، ومنشأ هذه البدعة من سوء الظن واتباع العقل - ثم ذكر حديث اعتراض ذي الخويصرة التميميّ على قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قال له، ثم ذكر قول الخوارج: "لا حكم إلا لله" وقال بعده: وكذلك إخوانهم في هذا الزمان يقولون: "لا يعبد إلا الله" فنقول: صدقتم هذه كلمة حق، ولكن أين الذي يعبد غيره إذا كان مسلمًا ناطقًا بالشهادتين، ويصلي ويصوم ويزكي ويحج.
والجواب أن يقال:
إن الأحاديث والآثار التي جاءت بها السنة وصحت بها الأخبار في شأن الخوارج ووصفهم وذمهم، فهي معروفة مشهورة عند أهل العلم بالحديث والآثار، وقد ساقها مسلم في صحيحه من نحو عشرة أوجه، وهذا العراقي ليس من رجال هذا الشأن ولا يحسن الحكاية والنقل، ولا تمييز له بين مرفوعها وموقوفها وصحيحها وسقيمها وغيره.
يوضحه قوله: والخوارج هم كما في البخاري ومسلم وغيرهما من سائر كتب الحديث أناس عمدوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين. فهذا كلام غبي غوي لا يدري الصناعة ولا يعرف ما في تلك البضاعة، فإن هذا اللفظ ليس مرفوعًا باتفاق، وليس في سائر كتب الحديث والسنن الأربعة وصحيحي البخاري ومسلم، ليس فيها هذا اللفظ، فكلامه كلام جاهل بصناعة الحديث وروايته ولسنا بصدد بيان جهله وإفلاسه من العلوم، وإنما المراد كشف شبهه وردها.
وحاصل مقصوده ونقله: تشبيه أهل الإسلام والتوحيد بالخوارج في تكفيرهم من عبد الأنبياء والأولياء والصالحين، ودعاهم مع الله؛ لأن عباد القبور عنده أهل سنة وجماعة، وأهل الإسلام من جنس الخوارج الذين يكفرون أهل القبلة، هذا حاصل إسهابه ومضمون خطابه، لكنه أطال بما لا طائل تحته.
ونحن نتكلم على بدء أمر الخوارج وحقيقة مذهبهم، ثم نتكلم على مذهب عباد القبور وما هم عليه، ثم نتبع ذلك بفصل نافع في بيان حال الشيخ محمد رحمه الله وتقرير مذهبه، وما كان عليه في المعتقد والدين، ليعلم الواقف على ما قررناه حقيقة المذاهب، وحاصل العقائد، فيما وقعت فيه الخصومة فنقول:
اعلم أنه لما اشتد القتال يوم صفين قال عمرو بن العاص لمعاوية بن أبي سفيان: هل لك في أمر أعرضه عليك، لا يزيدنا إلا اجتماعًا ولا يزيدهم إلا فرقة؟ قال: نعم، قال: نرفع المصاحف، ثم نقول لما فيها: هذا حكم بيننا وبينكم، فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول: ينبغي لنا أن نقبها، فتكون فرقة فيهم، فإن قبلوا رفعنا القتال عنا إلى أجل، فرفعوا المصاحف بالرماح، وقالوا: هذا كتاب الله عز وجل بيننا وبينكم. من لثغور الشام بعد أهله؟ من لثغور العراق بعد أهله؟ فلما رآها الناس: قالوا: نجيب إلى كتاب الله. فقال لهم علي: عباد الله امضوا على حقكم وصدقكم، فإنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعلم بهم منكم، والله ما رفعوها إلا خديعة ووهنا ومكيدة. قالوا: لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله، وقال لهم علي: إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم الكتاب، فإنهم قد عصوا الله ونسوا عهده. فقال له مسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي في عصابة من القراء: يا علي أجب إلى كتاب الله عز وجل إذا دعيت إليه، وإلا دفعناك برمتك إلى القوم، أو نفعل بك كما فعلنا بابن عفان، فلم يزالوا به حتى نهى الناس عن القتال، ووقع السباب بينهم وبين الأشتر وغيره ممن يرون عدم التحكيم. فقال الناس: قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكمًا، فجاء الأشعث بن قيس إلى علي، فقال: إن الناس قد رضوا بما دعوهم إليه من حكم القرآن، إن شئت أتيت معاوية، قال على: ائته، فأتاه، فسأله لأي شيء رفعوا المصاحف؟ قال: لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به في كتابه، تبعثون رجلًا ترضون به، ونبعث رجلًا نرضى به، فنأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوان عنه، فعاد إلى علي فأخبره، فقال الناس: قد رضينا. فقال أهل الشام: رضينا عمرو بن العاص، وقال الأشعث وأولئك القوم الذين صاروا خوارج: فإنا قد رضينا بأبي موسى الأشعريّ فراودهم علي على غيره، وأراد ابن عباس، فقالوا: والله لا نبالي أنت كنت حكمها أم ابن عباس، ولا نرضى إلا رجلًا منك ومن معاوية سواء، وألحوا في ذلك وأبوا غير أبي موسى، فوافقهم علي كارهها، وكتب كتاب التحكيم، [2] فلما قرئ الكتاب على الناس سمعه عروة بن أدية أخو أبي بلال. فقال: تحكمون في أمر الله الرجال، لا حكم إلا لله، وشد بسيفه فضرب دابة من قرأ الكتاب، وكان ذلك أول ما ظهرت الحرورية الخوارج وفشت العداوة بينهم وبين عسكر علي، وقطعوا الطريق في إيابهم بالشتائم والتضارب بالسياط، تقول الخوارج: يا أعداء الله داهنتم في دين الله. ويقول الآخرون: فارقتم إمامنا وفرقتم جماعتنا. ولم يزالوا كذلك حتى قدموا العراق، فقال بعض الناس من المتخلفين: ما صنع علي شيئًا، ثم انصرف بغير شيء. فسمعها علي، فقال: وجوه قوم ما رأوا الشام، ثم أنشد:
أخوك الذي إن أحوجتك ملمة ** من الدهر لم يبرح ببابك واجما
وليس أخوك الذي إن تشعبت ** عليك الأمور ظل يلحاك لائما
فلما دخل الكوفة ذهبت الخوارج إلى حروراء فنزل بها اثنا عشر ألفًا على ما ذكره ابن جرير، [3] ونادى مناديهم: إنّ أمير القتال شبث بن ربعي التميميّ، وأمير الصلاة عبد الله بن الكواء اليشكريّ، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فلما سمع ذلك علي وأصحابه قامت إليه الشيعة، فقالوا له: في أعناقنا بيعة ثانية، نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. قالت لهم الخوارج: أسبقتم أنتم وأهل الشام إلى الكفر كفرسي رهان، أهل الشام بايعوا معاوية على ما أحب؛ وأنتم بايعتم عليًا على أنكم أولياء من والى وأعداء من عادى، يريدون أن البيعة لا تكون إلا على كتاب الله وسنة رسوله، لأن الطاعة له تعالى، وقال لهم زياد بن النضر: والله ما بسط على يده فبايعناه قط إلا على كتاب الله وسنة نبيه، ولكنكم خالفتموه جاءت شيعته فقالوا: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. ونحن كذلك وهو على الحق والهدى ومن خالفه ضال مضل.
وبعث علي رضي الله عنه عبد الله بن عباس إلى الخوارج، فخرج إليهم فأقبلوا يكلمونه، فقال: ما نقمتم من الحكمين، وقد قال الله عز وجل: { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } الآية فكيف بأمة محمد صلى الله عليه وسلم؟
قالوا له: أما ما جعل الله حكمه إلى الناس وأمرهم بالنظر فيه فهو إليهم. وما حكم هو فيه فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا فيه، حكم في الزاني مائة جلدة، وفي السارق قطع يده فليس للعباد أن ينظروا في هذا. قال ابن عباس: فإن الله تعالى يقول: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ }.
قالوا: تجعل الحكم في الصيد والحرث وما يكون بين المرأة وزوجها كالحكم في دماء المسلمين؟ وقالوا له: أعدل عندك عمرو بن العاص، وهو بالأمس يقاتلنا ويسفك دماءنا؟ فإن كان عدلا فلسنا بعدول. ونحن أهل حربه، وقد حكمتم في أمر الله الرجل وقد أمضى الله حكمه في معاوية وحربه أن يقتلوا أو يرجعوا. وقبل ذلك ما دعوناهم إلى كتاب الله فأبوه؟ ثم كتبتم بينكم وبينهم كتابًا، وجعلتم بينكم وبينهم الموادعة وقد قطع الله الموادعة بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت براءة إلا من أقر بالجزية.
فجاء علي وابن عباس يخاصمهم فقال: ألم أكن نهيتك عن كلامهم حتى آتيك؟ ثم تكلم رضي الله عنه فقال: اللهم هذا مقام من يفلج فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة وقال لهم: من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكواء، فقال: فما أخرجكم علينا؟ قالوا: حكومتكم يوم صفين، فقال: أنشدكم الله أتعلمون أنهم حينما رفعوا المصاحف فقلتم نجيبهم إلى كتاب الله قلت لكم: إني أعلم بالقوم منكم، إنهم ليسوا بأصحاب دين، وذكّرهم مقالته، ثم قال: وقد اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالفه، وإن أبيا فنحن من حكمهما برآء.
قالوا: فخبرنا أتراه عدلًا تحكيم الرجال في الدماء؟ قال: لسنا حكمنا الرجال إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال.
قالوا: فخبرنا على الأجل لماذا جعلته فيما بينك وبينهم؟ قال: ليعلم الجاهل ويتثبت العالم، ولعل الله يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة، فادخلوا مصركم رحمكم الله.
فدخلوا من عند آخرهم.
فلما جاء الأجل وأراد علي أن يبعث أبا موسى للحكومة أتاه رجلان من الخوارج زرعة بن البرج الطائي، وحُرقوص بن زهير السعدي، فقالا له: لا حكم إلا لله، وقالا له: تب من خطيئتك، وارجع عن قضيتك، واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربّنا.
فقال علي: قد أردتكم على ذلك فصيتموني. قد كتبنا بيننا وبين القوم كتابًا، وشرطنا شروطًا، وأعطينا عهودًا. وقد قال الله تعالى: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ }.
فقال حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه.
قال علي: ما هو ذنب، ولكنه عجز في الرأي وقد نهيتكم عنه.
قال زرعة: يا علي لئن حكّمت الرجال لأقاتلنّك، أطلب بذلك وجه الله.
فقال له علي: بؤسًا لك، وما أشقاك، كأني بك قتيلًا تسفي عليك الرياح.
قال: وددت لو كان ذلك. وخرجا من عنده يقولان: لا حكم إلا لله.
وخطب علي ذات يوم فقالوها في جوانب المسجد. فقال علي: الله أكبر كلمة حق أريد بها باطل، فوثب يزيد بن عاصم المحاربي فقال: الحمد لله غير مودع ربنا ولا مستغني عنه. اللهم إنا نعوذ بك من إعطاء الدنية في ديننا، فإن إعطاء الدنية في الدين إذهان في أمر الله وذل راجع بأهله إلى سخط الله، يا علي أبالقتل تخوفنا؟ أما والله إني لأرجو أن نضربكم بها عمّا قليل غير مصفحات، ثم لتعلم أينا أولى بها صليا.
وخطب علي يوما آخر، فقال رجال في المسجد: لا حكم إلا لله، يريدون بهذا إنكار المنكر على زعمهم. فقال علي: الله أكبر كلمة حق أريد بها باطل، أما إن لكم علينا ثلاثًا ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدؤنا، وإنا ننتظر فيكم أمر الله. ثم عاد إلى مكانة من الخطبة.
ثم إن الخوارج لقي بعضهم بعضًا واجتمعوا في منزل عبد الله بن وهب الراسبيّ، فخطبهم وزهّدهم في الدنيا، وأمرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال: اخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو إلى بعض هذه المدائن، منكرين لهذه البدع المضلة. فقال حرقوص بن زهير: إن المتاع في هذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك. فلا تدعونكم بزينتها وبهجتها إلى المقام بها. ولا تلفتنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم. فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. فقال حمزة بن سنان الأسدي: يا قوم إن الرأي ما رأيتم: قالوا: ولوا أمركم رجلًا منكم، فإنه لا بد لكم من عماد وسناد وراية تحفون بها وترجعون إليها. فعرضوا ولايتهم على زيد بن حصين الطائي وعلى حرقوص بن زهير وعلى حمزة بن سنان وشريح بن أوفى العبسي فأبوها، ثم عرضوها على عبد الله بن وهب فقال: هاتوها، أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا ولا أدعها فرارًا من الموت. فبايعوه لعشر خلون من شوال فكان يقال له ذو الثفنات، فاجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسيّ، فقال ابن وهب: اشخصوا بنا إلى بلدة نجتمع فيها وننفذ حكم الله، فإنكم أهل الحق. قال شريح: نخرج إلى المدائن فننزلها؛ ونأخذ بأبوابها ونخرج منها سكانها، ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة فيقدمون علينا، فقال زيد بن حصين: إنكم إن خرجتم مجتمعين اتبعوكم، ولكن اخرجوا وحدانًا مستخفين. فأما المدائن فإن بها من يمنعكم، ولكن سيروا حتى تنزلوا بجسر النهروان، وتكاتبوا إخوانكم من أهل البصرة. قالوا: هذا الرأي، فكتب عبد الله بن وهب إلى من بالبصرة منهم ليعلمهم ما اجتمعوا عليه ويحثهم على اللحاق بهم فأجابوه. فلما خرجوا صار شريح بن أوفى العبسي يتلو قوله: { فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ } إلى { سَوَاءَ السَبِيلِ } وخرج معهم طرفة بن عدي بن حاتم إلى عامل على أمير المدائن يحذره، فحذر، وضبط الأبواب، واستخلف عليها المختار بن أبي عبيد وخرج بالخيل في طلبهم، فأخبر ابن وهب خبره، فسار على بغداد ولحقهم سعد بن مسعود بالكرخ في خمسمائة فارس، فانصرف إليهم ابن وهب الخارجي في ثلاثين فارسًا له. فاقتتلوا ساعة وامتنع القوم منهم، فلما جن الليل على ابن وهب عبر دجلة وسار إلى النهروان، وصل إلى أصحابه وقد أيسوا منه، وتفلت رجال أهل الكوفة يريدون الخوارج، فردهم أهلوهم. ولما خرجت الخوارج من الكوفة عاد أصحاب علي وشيعته إليه. فقالوا: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. فشرط لهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء ربيعة بن أبي شداد الخثعمي. فقال له: أبايع على سنة أبي بكر وعمر؟ فقال علي: ويلك، لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسوله لم يكونا على شيء من الحق، فبايعه، ونظر إليه فقال: أما والله لكأني بك قد نفرت مع هذه الخوارج فقتلت، وكأني بك قد وطئتك الخيل بحوافرها، فكان ذلك وقتل يوم النهر مع خوارج البصرة.
وأما خوارج البصرة فإنهم اجتمعوا في خمسمائة رجل وجعلوا عليهم مسعر بن فدكي التميمي، فعلم بهم ابن عباس فأتبعهم أبا الأسود الدؤلي فلحقهم بالجسر الأكبر، فتوافقوا حتى حجز دونهم الليل وأدلج مسعر بأصحابه، وسار حتى لحق بابن وهب.
فلما انقضى أمر التحكيم وخدع عمرو بن العاص أبا موسى وصرح عمرو بولاية معاوية بعد أن عزل أبو موسى عليًا بخدعة عمرو وهرب أبو موسى إلى مكة قام علي فخطبهم، وقال في خطبته: الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح والحدثان الجليل، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. أما بعد، فإن المعصية تورث الحسرة، وتعقب الندم. وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين - يعني أبا موسى وعمرو بن العاص - وفي هذه الحكومة أمري ونحلتكم رأي، لو كان لقصير أمر، ولكن أبيتم إلا ما أردتم. فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ** فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
ألا إنّ هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما، وأحييا ما أمات القرآن، واتبع كل واحد منهما هواه بغير هدى من الله، فحكما بغير حجة بينة، ولا سنة ماضية، واختلفا في حكمهما، وكلاهما لم يرشد. فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين، فاستعدوا وتأهبوا للمسير إلى الشام وأصبحوا في معسكركم إن شاء الله يوم الاثنين.
وكتب للخوارج من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى زيد بن حصين وعبد الله بن وهب ومن معهما من الناس، أما بعد، فإن هذين الرجلين اللذين ارتضينا حكمين قد خانا كتاب الله واتبعا أهواءهما بغير هدى من الله فلم يعملا بالسنة ولم ينفذا للقرآن حكمًا. فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين. فإذا بلغكم كتابي هذا فأقبلوا إلينا فإنا سائرون إلى عدونا وعدوكم، ونحن على الأمر الأول الذي كنا عليه والسلام.
فكتبوا إليه: "أما بعد، فإنك لم تغضب لربك، وإنما غضبت لنفسك. فإن شهدت على نفسك بالكفر، واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد نابذناك على سواء. إن الله لا يحب الخائنين".
فلما قرأ كتابهم أيس منهم ورأى أن يدعهم ويمضي بالناس إلى قتال أهل الشام. فقام في أهل الكوفة فندبهم إلى الخروج معه وخرج معه أربعون ألف مقاتل وسبعة عشر من الأبناء وثمانية آلاف من الموالي والعبيد.
وأما أهل البصرة فتثاقلوا ولم يخرج إلا ثلاثة آلاف. وبلغ عليا أن الناس يرون قتال الخوارج أهم وأولى، فقال لهم علي: دعوا هؤلاء وسيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين ملوكًا ويتخذوا عباد الله خولًا.
فناداه الناس: أن سر بنا يا أمير المؤمنين حيث أحببت.
ثم إن الخوارج استعر أمرهم وبدأوا بسفك الدماء وأخذوا الأموال وقتلوا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدوه سائرًا بامرأته على حمار فانتهروه وأفزعوه ثم قالوا له: ما أنت؟ فأخبرهم، قالوا حدثنا عن أبيك خباب حديثًا سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله ينفعنا به. فقال: حدثني أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنه ستكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه، يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، ويصبح كافرًا ويمسي مؤمنًا" قالوا: لهذا سألناك. فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيرًا، فقالوا: ما تقول في عثمان في أول خلافته وفي آخرها؟ قال: إنه كان محقًا في أولها وآخرها. وأشد توقيًّا على دينه وأنفذ بصيرة، فقالوا: إنك تتبع الهوى، وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحدًا، فأخذوه وكتفوه ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى فنزلوا تحت نخل مثمر، فسقط منه رطبة فأخذها أحدهم فقذف بها في فمه، فقال له آخر: أخذتها بغير حلها وبغير ثمن، فألقاها، ثم مر بهم خنزير فضربهم أحدهم بسيفه، فقالوا له: هذا فساد في الأرض، فلقي صاحب الخنزير وهو من أهل الذمة فأرضاه، فلما ذلك ابن خباب قال: لئن كنتم صادقين فيما رأى فما علي من بأس، إني لمسلم ما أحدثت في الإسلام حدثًا، ولقد أمنتموني قلتم: لا روع عليك، فأضجعوه وذبحوه، وأقبلوا على المرأة فقالت: إنما أنا امرأة، ألا تتقون الله؟ فبقروا بطنه وقتلوا أم سنان الصيداوية وثلاثًا من النساء، فلما بلغ ذلك عليًّا بعث الحارث بن مرة العبدي يأتيه بالخبر فلما دنا منهم قتلوه، فألح الناس على عليّ في قتالهم، وقالوا: نخشى أن يخلفونا في عيالنا وأموالنا فسر بنا إليهم، وكلمه الأشعث بمثل ذلك، واجتمع الرأي على حربهم، وسار علي يريد قتالهم فلقيه منجم في مسيره فأشار عليه أن يسير في وقت مخصوص، وقال: إن سرت في غيره لقيت أنت وأصحابك ضررًا شديدًا، فخالفه علي، فسار في الوقت الذي نهاه عنه المنجم. فلما وصل إليهم قالوا: ادفعوا إلينا قتلة إخواننا نقتلهم ونترككم. فلعل الله يقبل بقلوبكم ويردكم إلى خير مما أنتم عليه. فقالوا: كلنا قتلهم: وكلنا مستحل لدمائهم ودمائكم. وخرج إليهم قيس بن سعد بن عبادة، فقال: عباد الله أخرجوا إلينا طلبتنا منكم وادخلوا في هذا الأمر الذي خرجتم منه، وعودوا بنا إلى قتال عدونا وعدوكم، فإنكم ركبتم عظيمًا من الأمر، تشهدون علينا بالشرك وتسفكون دماء المسلمين.
فقال له عبد الله بن شجرة السلمي: إن الحق قد أضاء لنا فلسنا متابعيكم، أو تأتونا بمثل عمر. فقال: ما نعلمه فينا غير صاحبنا، فهل تعلمونه فيكم؟ قالوا: لا. قال: نشدتكم الله في أنفسكم أن تهلكوها، فإني لا أرى الفتنة إلا وقد غلبت عليكم.
وخطبهم أبو أيوب الأنصاري فقال: عباد الله إنا وإياكم على الحال الأولى التي كنا عليها ليست بيننا وبينكم فرقة، فعلام تقاتلوننا؟ فقالوا: إن بايعناكم اليوم حكّمتم غدًا، فقال: إني أنشدكم الله لا تجعلوا فتنة العام مخافة ما يأتي في القابل قابل.
وأتاهم علي رضي الله عنه فقال: أيتها العصابة التي أخرجها عداوة المراء واللجاج وصدها عن الحق والهوى، وطمح بها، وأصبحت في الخطب العظيم. إني نذير لكم أن تصبحوا تلعنكم الأمة غدًا، صرعى بأثناء هذا النهر، وبأهضاب هذا الغائط، بغير بينة من ربكم ولا برهان مبين. ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة، ونبأتكم أنها مكيدة وأن القوم ليسوا بأصحاب دين، فعصيتموني. فلما فعلتم أخذت على الحكمين واستوثقت أن يحييا ما أحييا القرآن، ويميتا ما أمات القرآن، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب، فنبذنا أمرهما، فنحن على الأمر الأول، فمن أين أتيتم؟
قالوا: إنا حكّمنا فلما حكّمنا أثمنا، وكنا بذلك كافرين، وقد تبنا فإن تبت فنحن معك ومنك، فإن أبيت فإنا منابذوك على سواء.
قال علي: أصابكم حاصب، ولا بقي منكم وابر، بعد إيماني برسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله أشهد على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين.
وقيل: كان كلامه: يا هؤلاء إن أنفسكم قد سولت لكم فراقي بهذه الحكومة التي أنتم ابتدأتموها، وأنا لها كاره، وأنبأتكم أن القوم إنما طلبوها مكيدة ووهنًا، فأبيتم عليّ إباء المخالفين، وعدلتم عني عدول عيب النكد العاصين، حتى صرفت رأيي إلى رأيكم، وأنتم معاشر أخفاء إلهام، سفهاء أحلام، فلم آتي - لا أبا لكم - حرامًا والله ما خبلتكم عن أموركم، ولا أخفيت شيئًا من هذا الأمر عنكم، ولا أوطأتكم عشوة، ولا دنيت لكم الضراء، وإن كان أمرنا لأمر المسلمين ظاهرًا، فأجمع رأي مثلكم أن اختاروا رجلين، فأخذنا عليهما أن يحكما بالحق ولا يعداونه، فتركا الحق وهما يبصرانه، وكان الجور هواهما، والتقية دينهما- حتى خالفا سبيل الحق وأتيا بما لا يعرف فبينوا لنا بماذا تستحلون قتالنا والخروج عن جماعتنا، وتضعون سيوفكم عن عواتقكم ثم تستعرضون الناس تضربون رقابهم؟ إن هذا لهو الخسران المبين. والله لو قتلتم على هذا دجاجة لعظم عند الله قتلها، فكيف بالنفس التي قتلها عند الله حرام؟
فتنادوا: لا تخاطبوهم ولا تكلموهم، وتهيئوا للقاء الله، الرواح الرواح إلى الجنة.
فرجع علي عنهم، ثم إنهم قصدوا جسر النهر، فظن الناس أنهم عبروه.
فقال علي: لن يعبروه، وإن مصارعهم لدون الجسر، والله لا يقتلون منكم عشرة ولا يسلم منهم عشرة.
فتعبأ الفريقان للقتال: ورفع علي راية أمان مع أبي أيوب، فناداهم أبو أيوب: من جاء هذه الراية ممن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن، ومن انصرف إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن، فانصرف فروة بن نوفل الأشجعي في خمسمائة فارس، وخرجت طائفة أخرى متفرقين، فبقي مع عبد الله بن وهب ألفان وثمانمائة، فزحفوا إلى علي، وبدأوه بالقتال، وتنادوا: الرواح الرواح إلى الجنة، فاستقبلهم الرماة من جيش علي بالنبل والرماح والسيوف، ثم عطفت عليهم الخيل من الميمنة والميسرة؛ وعليها أبو أيوب الأنصاريّ، وعلى الرجالة أبو قتادة الأنصاري، فلما عطفت عليهم الخيل والرجال وتداعا عليهم الناس ما لبثوا أن أناموهم، فأهلكوا في ساعة واحدة، فكأنما قيل لهم موتوا فماتوا. وقتل ابن وهب وحرقوص وسائر سراتهم، وفتش علي في القتلى والتمس المخدّج الذي وصفه له النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الخوارج، فوجده في حفرة على شاطئ النهر، فنظر إلى عضده فإذا لحم مجتمع كثدي المرأة وحلمة عليها شعرات سود، فإذا مدت امتدت حتى تحاذي يده الطولى، فلما رآها علي قال: "الله أكبر، والله ما كذبت ولا كذبت، والله لولا أتنكلوا عن العمل لأخبرتكم بما قضى الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لمن قتلهم متصبّرًا في قتالهم، عارفًا للحق الذي نحن عليه" وقال حين مرّ بهم وهم صرعى: "بؤسًا لكم، لقد ضرّكم من غرّكم" قالوا: يا أمير المؤمنين، من غرّهم؟ قال: "الشيطان، ونفس أمارة بالسوء غرتهم بالأماني وزينت لهم المعاصي، ونبأتهم أنهم ظاهرون". هذا ملخص أمرهم.
وقد عرفت شبهتهم التي جزموا لأجلها بكفر علي وشيعته، ومعاوية وأصحابة، وبقي معتقدهم في أناس متفرقين بعد هذه الوقعة، ثم اجتمعت لهم شوكة ودولة فقاتلهم المهلب بن أبي صفرة، وقاتلهم الحجاج بن يوسف، وقاتلهم قبله ابن الزبير زمن أخيه عبد الله، وشاع عنهم التكفير بالذنوب، يعني ما دون الشرك.
وبهذا تعرف حقيقة الحال، ويزول الإشكال الذي نشأت منه الشبهة، وما أحسن ما قال العلامة ابن القيم في نونيته:
ومن العجائب أنهم قالوا لمن ** قد دان بالآثار والقرآن
أنتم بذا مثل الخوارج إنهم ** أخذوا الظواهر، ما اهتدوا لمعان
وهذا داء قديم من أهل الشرك والتعطيل: من كفّر بعبادتهم غير الله وتعطيل أوصافه وخقائق أسمائه، قالوا له: أنت مثل الخوارج، يكفرون بالذنوب ويأخذون بظواهر الآيات.
ومعلوم أن الذنوب تتفاوت وتختلف، بحسب منافاتها لأصل الحكمة المقصودة بإيجاد العالم، وخلق الجن والإنس، وبحسب ما يترتب عليها من هضم حقوق الربوبية، وتنقص رتبة الإلهية، وقد كفّر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بكثير من جنس الذنوب كالشرك وعبادة الصالحين وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه أكبر الكبائر، كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله: "أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك. قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك". فأنزل الله تعالى: { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ } الآية".
فمن أنكر التكفير جملة فهو محجوج بالكتاب والسنة. ومن فرّق بين ما فرّق الله ورسوله بينه من الذنوب، ودان بحكم الكتاب والسنة وإجماع الأمة في الفرق بين الذنوب فقد أنصف، ووافق أهل السنة والجماعة، ونحن لم نكفر أحدًا بذنب دون الشرك الأكبر الذي أجمعت الأمة على كفر فاعله، إذا قامت عليه الحجّة، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد، كما حكاه في الإعلام لابن حجر الشافعي.
فصل
ونذكر لك هنا طرفًا من معتقد عباد القبور والصالحين، وحقيقة ما هم عليه من الدين، ليعلم الواقف عليه أي الفريقين أحق بالأمن، إن كان الواقف ممن اختصه الله بالفضل والمن، ولئلا يلتبس الأمر بتسميتهم لكفرهم ومحالهم تشفعًا وتوسلًا واستظهارًا، مع ما في التسمية من الهلاك المتناهي عند من عقل الحقائق.
من ذلك محبتهم مع الله محبة تأله وخضوع ورجاء، ودعاؤهم مع الله في المهمات والملمات والحوادث التي لا يكشفها ولا يجيب الدعاء فيها إلا فاطر الأرض والسموات والعكوف حول أجداثهم، وتقبيل أعتابهم، والتمسح بآثارهم، طلبًا للغوث، واستجابة للدعوات وإظهارًا للفاقة، وإبداء للفقر والضراعة، واستنزالا للغوث والأمطار، وطلبًا للسلامة من شدائد البر والبحار، وسؤالهم تزويجهم الأرامل والأيامى، واللطف بالضعفاء واليتامى، والاعتماد عليهم في المطالب العالية، وتأهليهم لمغفرة الذنوب والنجاة من الهاوية، وإعطاء تلك المراتب السامية. وجماهيرهم لما ألفت ذلك طباعهم وفسدت به فطرهم، وعز عنهم امتناعهم، لا يكاد يخطر ببال أحدهم ما يخطر ببال آحاد المسلمين، من قصد الله تعالى والإنابة إليه، بل ليس لذلك عندهم إلا الولي الفلاني ومشهد الشيخ فلان. حتى جعلوا الذهاب إلى المشاهد عوضًا عن الخروج للاستسقاء والإنابة إلى الله في كشف الشدائد والبلوى. كل هذا رأيناه وسمعناه عنهم، وقد حدّث الشيخ مصطفة البولاقي أن بعض رؤساء الجامع الأزهر عادة لما اشتكى عينيه، وقال له: هلا ذهبت إلى مولد الشيخ أحمد البدوي فقد حكي أن إنسانًا شكا إليه هاب بصره، فسمع قائلًا يقول من الضريح: أعطوه عين كذا وكذا.
فانظر إلى ما خطر ببال هذا المتكلم من تعظيم الميت وتأهيله لتلك المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله القاهر الغالب. وقصد الوساطة هنا على ما فيها ما أظنها تخطر بباله أصلًا. فهل سمعت عن جاهلية العرب مثل هذه الغرائب التي ينتهي عندها العجب؟ والكلام مع ذكي القلب يقظ الذهن قوي الهمة العارف بالحقائق، وأما ميت القلب بليد الذهن وضيع النفس جامد القريحة ومن لا تفارق همته التشبث بأذيال التقليد، والتعلق على ما يحكى عن فلان وفلان من معتقد أهل المقابر والتنديد، فذاك فاسد الفطرة معتل المزاج، وخطابه محض عناء ولجاج.
ومما بلغنا عن بعض علماء زبيد: أن رجلين قصدا الطائف، فقال أحدهما لصاحبه - والمسئول ممن يترشح للعلم -: أهل الطائف لا يعرفون الله إنما يعرفون ابن عباس، فأجابه: بأن معرفتهم لابن عباس كافية، لأنه يعرف الله!.
فأيّ ملّة - صان الله ملّة الإسلام - لا تمانع هذه الكفريات ولا تدافعها؟
وذكر الزبيدي أيضًا أن رجلا كان بمكة عند بعض المشاهد، فقال لمن عنده: أريد الذهاب إلى الطواف، فقال بعض غلاتهم: مقامك هنا أكرم.
ومن وقف على كتاب مناقب الأربعة المعبودين بمصر، وهم: البدوي، والرفاعي، والدسوقي، ورابعهم فيما أظن أبو العلا - فقد وقف على ساحل كفرهم، وعرف صفة إفكهم.
وبلغنا عن بعض الثقات أن جماعة من المدعين للعلم بزبيد كانوا يقرؤون صحيح البخاري، فإذا فرغوا منه - إما أحيانًا أو مطلقًا - ذهبوا إلى قبر البحيرة أو غيره، فوقفوا عاكفين ما شاء الله، وعليهم من السكينة والوقار وضروب الخضوع لنازل الحفرة. قال من نقله: فالله أعلم، أهو شيء وجدوه في صحيح البخاري أو غيره، أو ما هو؟
ورأيت في حاشية الشيخ إبراهيم الباجوريّ على السنوسية نقلًا عن الدردير فيما أظن عن الشعراني: أن الله وكل بقبر كل ولي ملكًا يقضي حاجته من سأل ذلك الولي.
فقف هنا وانظر ما آل إليه شركهم وإفكهم، [4] فأين هذا من قوله تعالى { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } الآية، وقوله: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً }، وقوله: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ }، وقوله تعالى: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ }، وقوله تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } الآية وأيّ حجّة في هذا الذي قال الشعرانيّ لو كانوا يعلمون؟ ولكن القوم أصابهم داء الأمم قبلهم. فنبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تتلو الشياطين.
ومن هذا الجنس: ما ذكره الشعراني في ترجمة الملقب بشمس الدين الحنفي أنه قال في مرض موته: من كانت له حاجة فليأت قبري ويطلب مني أن أقضيها له، فإنما بيني وبينه ذراع من تراب، وكل رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب فليس برجل. انتهى.
وقد اجتمع جماعة من الموحدين من أهل الإسلام في بيت رجل من أهل مصر وبقربه رجل يدّعي العلم، فأرسل إليه صاحب البيت، فسأله بمسمع من الحاضرين فقال له: كم يتصرف في الكون؟ فقال: يا سيدي، سبعة، قال: من هم؟ قال: فلان وفلان وعدّ أربعة من المعبودين بمصر، فقال صاحب الدار لمن بحضرته من الموحدين: إنما بعثت لهذا الرجل وسألته لأعرفكم قدر ما أنتم فيه من نعمة الإسلام. أو كلامًا نحو هذا.
وباب تصرف المشايخ والأولياء قد اتسع حتى سلكه جمهور من يدعي الإسلام من أهل البسيطة. وخرقه قد هلك في بحاره أكثر من سكن الغبراء وأظلته المحيطة حتى نسي القصد الأول من التشفع والوساطة، فلا يعرج عليه عندهم إلا من نسي عهود الحمى. وقد ذكر هذا شيخ الإسلام في منهاجه عن غلاة الرافضة في علي، فعاد الأمر إلى الشرك في توحيد الربوبية والتدبير والتأثير، ولم يبلغ شرك الجاهلية الأولى إلى هذه الغاية، بل ذكر الله جل ذكره أنهم كانوا يعترفون له بتوحيد الربوبية ويقرون به، ولذلك احتج عليهم في غير موضع من كتابه بما أقروا به من الربوبية والتدبير على ما أنكروه من الإلهية.
ومن ذلك - وهو من عجيب أمرهم - ما ذكره حسين بن محمد النعمي اليمني في بعض رسائله: أن امرأة كف بصرها فنادت وليها: أما الله فقد صنع ما ترى، ولم يبق إلا حسابك. انتهى.
وحدثني سعد بن عبد الله بن سرور الهاشمي رحمه الله أن بعض المغاربة قدموا مصر يريدون الحجّ، فذهبوا إلى الضريح المنسوب إلى الحسين رضي الله عنه بالقاهرة فاستقبلوا القبر وأحرموا ووقفوا وركعوا وسجدوا لصاحب القبر حتى أنكر عليهم سدنة المشهد وبعض الحاضرين، فقالوا: هذا محبة في سيدنا الحسين. وذكر بعض المؤلفين من أهل اليمن أن مثل هذا واقع عندهم.
وقد حدثني الشيخ خليل الرشيدي بالجامع الأزهر أن بعض أعيان المدرسين هناك قال: لا يدق وتد في القاهرة إلا بإذن أحمد البدوي. قال: فقلت له: هذا لا يكون إلا لله - أو كلامًا نحو هذا -. فقال: حبي في سيدي أحمد اقتضى هذا. وحكي أن رجلًا يأل الآخر: كيف رأيت الجمع عند زيارة الشيخ الفلاني؟ فقال: لم أر أكثر منه إلا في جبل عرفات، إلا أني لم أرهم يجدوا لله سجدة قط، ولا صلوا مدة ثلاثة الأيام، فقال السائل: قد تحملها الشيخ!. قال بعض الأفاضل: وباب تحمل الشيخ مصراعاه ما بين بصرى وعدن، قد اتسع خرقه وتتابع فتقه، ونال رشاش زقومه الزائر والمعتقد وساكن البلد. انتهى.
وقد اشتهر ما يقع من السجود على أعتاب المشاهد، وقصد التبرك - مع ما فيه - لا يمنع حقيقة العبادة الصورية. ومن المعروف عنهم شراء الوالدان من الولي بشيء معين، يبقى رسمًا جاريًا يؤدى كل عام، وإن كانت امرأة فمهرها أو نصف مهرها لأنها مشتراة منه، ولا يماري في هذا إلّا مكابر. لأنه استفاض واشتهر. فلا ينكره إلا مكابر في الحسيات، وإن فقد بعض أنواعه في بعض البلاد فكم له من نظائر وهذا أشد وأشنع مما ذكر الله جل ذكره عن جاهلية العرب بقول: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا } الآية. وكذلك جعل السوائب باسم الولي لا يحمل عليها ولا تذبح، وسوق الهدايا والقرابين إلى مشاهد الأولياء وذبحها حبًا للشيخ، وتقربًا إليه، وهذا وإن ذكر اسم الله عليه فهو أشد تحريما مما ذبح للحم وذكر عليه اسم غير الله كعيسى مثلًا، فإن الشرك في العبادة أكبر من الشرك بالاستعانة.
ومن ذلك ترك الأشجار والكلأ والعشب إذا كا بقرب المشهد وجعله حرمًَا له.
ومنها الحج إلى المشاهد في أوقات مخصوصة مضاهاة لبي الله. فيطوفون حول الشريح ويستغيثون ويهدون لصاحب القبر ويذبحون، وبعض مشائخهم يأمر الزائر بحلق رأسه إذا فرغ من الزيارة، وقد صنف بعض غلاتهم كتابًا سماه حج المشاهد، ومنها التعريف في بعض البلاد عند من يعتقدونه من أهل القبور فيصلون عشية عرفة عند القبر خاضعين سائلين. والعراق فيه من ذلك الحظ الأكبر والنصيب الأوفر. بل فيه البحر الذي لا ساحل له والمهامة التي لا ينجو يالكها، ولا يكاد، ومنحوه درح الكفر وظهر الشرك والفساد، كما يعرف ذلك من له إلمام بالتاريخ. ومبدأ الحوادث في الدين، ومن شاهد ما يقع منهم عند مشهد الحسين ومشهد علي والكاظم عند رافضتهم وعبد القادر والحسن البصري والزبير وأمثالهم عند سنييهم: من العبادات وطلب العطايا والمواهب والتصرفات وأنواع الموبقات: علم أنهم من أجهل الخلق وأضلهم، وأنهم في غاية من الكفر والشرك، ما وصل إليها من قبلهم ممن ينتسب إلى الإسلام. والله المسئول أن ينصر دينه ويعلي كلمته بمحو هذه الأوثان، حتى يعبد وحده، فتسلم الوجوه له، وتعود البيضاء كانت ليلها كنهارها.
ومن ذلك - وإن كان يعلم مما تقدم: اتخاذها أعيادًا ومواسم، مضاهاة لما شرعه الله ورسوله من الأعياد المكانية والزمانية.
ومنها ما يقع ويجري في هذه الاجتماعات من الفجور والفواحش، وترك الصلوات وفعل الخلاعات التي هي في الحقيقة خلع لربقة الدين والتكليف؛ ومشابهة لما يقع في أعياد النصارى والصابئة والإفرنج ببلاد فرنسا وغيرها من الفجور والطبول والزمور والخمور.
وبالجملة فما أحدثه عباد القبور يعز حصره واستيفاؤه.
فصل
ونقص عليك من سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونذكر طرفًا من أخباره وأحواله، ليعلم الناظر فيه حقيقة أمره، فلا يروج عليه تشنيع من استحوذ عليه الشيطان وأغراه، وبالغ في كفره واستهواه.
فنقول: قد عرف واشتهر واستفاض من تقارير الشيخ ومراسلاته ومصنفاته المسموعة المقروءة عليه وما ثبت بخطه وعرف واشتهر من أمره ودعوته وما عليه الفضلاء والنبلاء من أصحابه وتلاميذه: أنه كان على ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الدين أهل الفقه والفتوى في باب معرفة الله وإثبات صفات كماله ونعوت جلاله، التي نطق بها الكتاب العزيز، وصحت بها الأخبار النبوية، وتلقاها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبول والتسليم، يثبتونها ويؤمنون بها، ويمرونها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. وقد درج على هذا من بعدهم من التابعين وتابعيهم من أهل العلم والإيمان، وسلف الأمة وأئمتها كسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وطلحة بن عبيد الله وسليمان بن يسار، وأمثالهم. ومن الطبقة الثانية: كمجاهد بن جبر وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري وابن سيرين وعامر الشعبي وجنادة بن أبي أمية وحسان بن عطية، وأمثالهم، ومن الطبقة الثالثة: علي بن الحسين وعمر بن عبد العزيز ومحمد بن شهاب الزهري ومالك بن أنس وابن أبي ذئب وابن الماجشون، وكحماد بن سلمة وحماد بن زيد والفضيل بن عياض وعبد الله بن المبارك وأبي حنيفة النعمان بن ثابت ومحمد بن إدريس الشافعي وإسحاق بن إبراهيم وأحمد بن حنبل ومحمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج القشيري، وإخوانهم وأمثالهم ونظرائهم من أهل الفقه والأثر في كل مصر وعصر.
وأما توحيد العبادة والإلهية فلا خلاف بين أهل الإسلام فيما قاله الشيخ وثبت عنه من المعتقد الذي دعا إليه.
يوضح ذلك: أن أصل الإسلام وقاعدته: شهادة أن لا إله إلا الله، وهي أصل الإيمان بالله وحده وهي أفضل شعب الإيمان. وهذا الأصل لا بد فيه من العلم والعمل والإقرار بإجماع المسلمين. ومدلوله: وجوب عبادة الله وحده لا شريك له والبراءة من عبادة ما سواه كائنا من كان، وهذا هو الحكمة التي خلقت لها الإنس والجن وأرسلت لها الرسل وأنزلت بها الكتب، وهي تتضمن كمال الذل والحب، وتتضمّن كمال الطاعة والتعظيم.
وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينًا غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين. فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام، وهو يتضمن الاستسلام لله وحده. فمن استسلم لله ولغيره كان مشركًا. ومن لم يستسلم له كان مستكبرًا عن عبادته، قال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَاغُوتَ }، وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ }، وقال تعالى عن الخليل: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، لَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ، جَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }، وقال تعالى عنه: { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } وقال: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ }، وقال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وذكر عن رسله نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم أنهم قالوا لقومهم: { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } وقال عن أهل الكهف: { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا، هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا }، وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ }، في موضعين من كتابه، وقال تعالى: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَارُ }.
قال رحمه الله: والشرك المراد بهذه الآيات ونحوها يدخل في شرك عباد الأنبياء والملائكة والصالحين. فإن هذا شرك العرب الذين بعث الله فيهم عبد الله وسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم. فإنهم كانوا يدعونها ويلتجئون إليها ويسألونها على وجه التوسل بجاهها وشفاعتها، لتقربهم إلى الله. كما حكى الله عنهم في مواضع من كتابه. كقوله تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } الآية، وكقوله تعالى: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }، وكقوله تعالى: { فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ }.
قال رحمه الله: ومعلوم أنّ المشركين لم يزعموا أن الأنبياء والأولياء والصالحين والملائكة شاركوا الله في خلق السموات والأرض. واستقلوا بشيء من التدبير والتأثير والإيجاد، ولو في خلق ذرة من الذرات، قال تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } فهم معترفون بهذا مقرون به، لا ينازعون فيه. ولذلك حسن موقع الاستفهام، وقامت الحجة عليهم واضحة قوية مفحمة بما أقروا به من هذه الجمل، وبطلت عبادة من لا يكشف الضر ولا يمسك الرحمة. ولا يخفى ما في التنكير من العموم والشمول المتناول لأقل شيء وأدناه، من ضر أو رحمة. وقال تعالى: { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ }، وقال تعالى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } ذكر فيه السلف كابن عباس وغيره: إيمانهم هنا بما أقروا به من ربوبيته وملكه، وفسر شركهم بعبادة غيره.
قال رحمه الله: وقد بين القرآن في غير موضع أن من المشركين من أشرك بالملائكة، ومنهم من أشرك بالأنبياء والصالحين، ومنهم من أشرك بالكواكب. ومنهم من أشرك بالأصنام. وقد رد الله عليهم جميعهم وكفر كل أصنافهم. كما قال تعالى: { وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }، وقال تعالى: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } الآية، وقال: { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ }، ونحو ذلك في القرآن كثير. وبه يعلم المؤمن أن عبادة الأنبياء والصالحين كعبادة الكواكب والأصنام سواء. من حيث الشرك والكفر بعبادة غير الله.
قال رحمه الله: وهذه العبادات التي صرفها المشركون للآلهتهم هي أفعال العباد الصادرة منهم كالحب والخضوع والإنابة والتوكل والدعاء والاستعانة والاستغاثة والخوف والرجاء والنسك والتقوى والطواف ببيته رغبة ورجاء وتعلق القلوب والآمال بفيضه ومدده وإحسانه وكرمه. فهذه الأنواع وكل عمل يخلو منها فهو خداج مردود على صاحبه، وإنما أشرك من أشرك وكفر من كفر من المشركين بقصد غير الله بهذا وتأليهه غير الله بذلك. قال تعالى: { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } وقال تعالى: { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ }، وقال تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } الآية، وحكي عن أهل النار أنهم يقولون لآلهتهم التي عبدوها مع الله { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } ومعلوم أنهم ما سووهم به في الخلق والتدبير والتأثير، وإنما كانت التسوية في الحب والخضوع والتعظيم والدعاء ونحو ذلك من العبادات.
قال رحمه الله: فجنس هؤلاء المشركين وأمثالهم ممن يعبد الأولياء والصالحين نحكم بأنهم مشركون، ونرى كفرهم إذا قامت عليهم الحجة الرسالية. أما ما عدا هذا من الذنوب التي دونه في الرتبة والمفسدة فإنا لا نكفر بها ولا نحكم على أحد من أهل القبلة الذين باينوا عباد الأوثان والأصنام والقبور بكفر بمجرد ذنب ارتكبوه وعظيم جرم اجترحوه. وغلاة الجهمية والقدرية والرافضة ونحوهم ممن كفرهم السلف لا نخرج فيهم عن أقوال أئمة الهدى والفتوى من سلف هذه الأمة. ونبرأ إلى الله مما أتت به الخوارج، وقالته في أهل الذنوب من المسلمين.
قال رحمه الله: ومجرد الإتيان بلفظ الشهادة من غير علم بمعناها ولا عمل بمقتضاها لا يكون به المكلف مسلمًا بل هو حجة على ابن آدم، خلافًا لمن زعم أن الإيمان مجرد الإقرار كالكرامية. أو مجرد التصديق كالجهمية. وقد أكذب الله المنافقين فيما أتوا به وزعموه من الشهادة وسجل على كذبهم، مع أنهم أتوا بألفاظ مؤكدة بأنواع من التأكيدات. قال تعالى: { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } فأكدوا بلفظ الشهادة، و"إن" المؤكدة، واللام، والجملة الاسمية، فأكذبهم وأكد تكذيبهم، بمثل ما أكدوا به شهادتهم سواء بسواء، وزاد التصريح باللقب الشنيع والعلم البشيع الفظيع، ومن شهد أن لا إله إلا الله وعبد غيره معه فلا شهادة له، وإن صلى وزكى وصام وأتى بشيء من أعمال الإسلام. قال تعالى لمن آمن ببعض الكتاب ورد بعضًا { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } الآية، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } الآية، وقال تعالى: { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ } الآية.
والكفر نوعان: مطلق ومقيد، فالمطلق أن يكفر بجميع ما جاء به الرسول، والمقيد أن يكفر ببعض ما جاء به الرسول، حتى إن بعض العلماء كفّر من أنكر فرعًا مجمعًا عليه، كتوريث الجد والأخت وإن صلّى وصام، فكيف بمن يدعو الصالحين ويصرف لهم خالص العبادة ولبها؟ وهذا مذكور في المختصرات من كتب المذاهب الأربعة بل كفروا ببعض الألفاظ التي تجري على ألسن بعض الجهال وإن صلى وصام من جرت على لسانه.
قال رحمه الله: والصحابة كفّروا من منع الزكاة وقاتلوهم مع إقرارهم بالشهادتين والإتيان بالصلاة والصوم والحجّ.
قال رحمه الله: واجتمعت الأمة على كفر بني عبيد الله القداح مع أنهم كانوا يتكلمون بالشهادتين ويصلون ويبنون المساجد في قاهرة مصر وغيرها. وذكر ابن الجوزي صنف كتابًا في وجوب غزوهم وقتالهم سماه (النصر على مصر) قال: وهذا يعرفه من له أدنى إلمام بشيء من العلم والدين.
فشبه عباد القبور بأنهم يصلون ويصومون ويؤمنون بالبعث مجرد تعمية على العوام، وتلبيس لينفق شركهم، ويقال بإسلامهم وإيمانهم، ويأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون.
وأما مسائل القدر والجبر والإرجاء والإمامة والتشيع ونحو ذلك من المقالات والنحل، فالشيخ أيضًا فيها على ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الهدى والدين يبرأ مما قالته القدرية النفاة، والقدرية المجبرة، وما قالته المرجئة والرافضة، وما عليه غلاة الشيعة والناصبة. ويوالي جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكف عما شجر بينهم، ويرى أنهم أحق الناس بالعفو عما صدر منهم؛ وأقرب الخلق إلى مغفرة الله وإحسانه لفضائلهم وسوابقهم وجهادهم، وما جرى على أيديهم من فتح القلوب بالعلم النافع. والعمل الصالح. وفتح البلاد ومحو آثار الشرك، وعبادة الأوثان والنيران والأصنام والكواكب، ونحو ذلك مما عبده جهال الأنام.
ويرى البراءة مما عليه الرافضة وأنهم سفهاء لئام، ويرى أن أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر فعمر فعثمان فعلي رضي الله عنهم أجمعين، ويعتقد أن القرآن الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين وخاتم النبيين كلام الله غير مخلوق، منه بدا وإليه يعود. ويبرأ من رأي الجهمية القائلين بخلق القرآن، ويحكي تكفيرهم عن جمهور السلف أهل العلم والإيمان، ويبرأ من رأي الكلابية أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب القائلين بأن كلام الله هو المعني القائم بنفس الباري وأن ما أنزل به جبريل حكاية أو عبارة عن المعنى النفسي، ويقول: هذا من قول الجهمية، وأول من قسم هذا التقسيم هو ابن كلاب، وأخذ عنه الأشعريّ وغيره كالقلانسي، ويخالف الجهمية في كل ما قالوه وابتدعوه في دين الله. ولا يرى ما ابتدعه الصوفية من البدع والطرائق المخالفة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته في طقوسهم في العبادات والخلوات والأذكار المخالفة للمشروع ولا يرى ترك السنن والأخبار النبوية لرأي فقيه ومذهب عالم خالف ذلك باجتهاده، بل السنة أجل في صدره وأعظم عنده من أن تترك لقول أحد كائنا من كان. قال عمر بن عبد العزيز: "لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم" نعم عند الضرورة وعدم الأهلية والمعرفة بالسنن والأخبار وقواعد الاستنباط والاستظهار يصار إلى التقليد لا مطلقًا، بل فيما ينعسر ويخفى، ولا يرى إيجاب ما قاله المجتهد إلا بدليل تقوم به الحجة من الكتاب والسنة، خلافًا لغلاة المقلدين.
ويوالي الأئمة الأربعة ويرى فضلهم وإمامتهم، وأنهم من الفضل والفضائل في غاية ورتبة يقصر عنها المتطاول، ويوالي كافة أهل الإسلام وعلمائهم من أهل الحديث والفقه والتفسير، وأهل الزهد والعبادة ويرى المنع من الانفراد عن أئمة الدين من السلف الماضين برأي مبتدع أو قول مخترع، فلا يحدث في الدين ما ليس له أصل يتبع، وما ليس من أقوال أهل العلم والأثر.
ويؤمن بما نطق به الكتاب وصحت به الأخبار وجاء الوعيد عليه من تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، ولا يبيح من ذلك إلّا ما أباحه الشرع وأهدره الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن نسب إليه خلاف هذا فقد كذب وافترى وقال ما ليس له به علم وسيجزيه الله ما وعد به أمثاله من المفترين.
وأبدى رحمه الله من التقارير المفيدة والأبحاث الفريدة على كلمة الإخلاص والتوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله، ما دل عليه الكتاب المصدق والإجماع المستبين المحقق من نفي استحقاق العبادة والإلهية عما سوى الله، وإثبات ذلك لله سبحانه على وجه الكمال المنافي لكليات الشرك وجزئياته، وأن هو معناها وضعًا ومطابقة خلافًا لمن زعم غير ذلك من المتكلمين، كمن يفسر ذلك بالقدرة على الاختراع أو بأنه تعالى غني عما سواه مفتقر إليه ما عداه. فإنّ هذا لازم المعنى، إذ الإله الحق لا يكون إلا قادرًا غنيًا عمّا سواه؛ وأما كون هذا هو المعنى المقصود بالوضع فليس كذلك.
والمتكلمون خفي عليهم هذا، وظنوا أن تحقيق توحيد الربوبية والقدرة هو الغاية المقصودة، والفناء فيه هو تحقيق التوحيد وليس الأمر كذلك.
بل هذا لا يكفي في الإيمان، وأصل الإسلام إلّا إذا أضيف إليه واقترن به توحيد الإلهية، وإفراد الله بالعبادة والحب، والخضوع والتعظيم، والإنابة والتوكل، والخوف والرجاء، وطاعة الله وطاعة رسوله، هذا أصل الإسلام وقاعدته، والتوحيد الأول توحيد الربوبية والقدرة والخلق والإيجاد، هو الذي بني عليه توحيد العمل والإرادة، وهو دليله الأكبر وأصله الأعظم، كما قال تعالى: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَحْمَنُ الرَحِيمُ } - إلى آخر الآيات.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله:
إن كان ربك واحدًا سبحانه ** فاخصصه بالتوحيد مع إحسان
أو كان ربك واحدًا أنشأك لم ** يشركه إذ أنشأك رب ثان
فكذلك أيضًا وحده فاعبده لا ** تعبد سواه يا أخا العرفان
وهذه الجمل منقولة عن السلف والأئمة من المفسرين وغيرهم من أهل اللغة إجمالًا وتفصيلًا.
وقد قرر رحمه الله على شهادة أن محمدًا رسول الله من بيان ما تستلزمه هذه الشهادة وتستدعيه وتقتضيه من تجريد المتابعة والقيام بالحقوق النبوية من الحب والتوقير والنصرة والمتابعة والطاعة، وتقديم سنته صلى الله عليه وسلم على كل سنة وقول، والوقوف معها حيث وقفت، والانتهاء حيث انتهت في أصول الدين وفروعه باطنه وظاهره خفيه وجليه كليه وجزئيه ما ظهر به فضله، وتأكّد علمه ونبله، وأنه سباق غايات، وصاحب آيات، لا يشق غباره، ولا تدرك في البحث والإفادة آثاره، وأن أعداءه ومنازعيه وخصومه في الفضل وشانئيه يصدق عليهم المثل السائر بين أهل المحابر والدفاتر:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ** فالكل أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ** حسدًا وبغيًا إنه لدميم
وله رحمه الله من المناقب والمآثر ما لا يخفى على أهل الفضائل والبصائر.
ومما اختصه الله به من الكرامة تسلط أعداء الدين وخصوم عباد الله المؤمنين على مسبته، والتعرض لبهته وعيبه. قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ما أرى الناس ابتلوا بشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا ليزيدهم الله بذلك ثوابًا عند انقطاع أعمالهم" وأفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر، وقد ابتلينا من طعن أهل الجهالة والسفاهة بما لا يخفى.
وما حكيناه عن الشيخ حكاه أهل المقالات عن أهل السنة والجماعة مجملًا ومفصّلًا.
وهذه عبارة أبي الحسن الأشعريّ في كتابه مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين.
قال أبو الحسن الأشعري: جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئًا. والله تعالى إله واحد فرد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، وأنّ محمدًا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله تعالى على عرشه كما قال: { الرَحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }، وأن له يدين بلا كيف كما قال: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }، وكما قال: { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ }، وأن له عينين بلا كيف، وأن له وجهًا جلّ ذكره كما قال تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ }، وأن أسماء الله تعالى لا يقال إنها غير الله، كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقروا أن لله علمًا كما قال: { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ }، وكما قال: { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ }، وأثبتوا السمع والبصر ولم ينفوا ذلك، كما نفته المعتزلة، وأثبتوا لله القوة، كما قال: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } وقالوا: إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله تعالى، كما قال: { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ }، وكما قال المسلمون: "ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن" وقالوا: إن أحدًا لا يستطيع أن يفعل شيئًا علم الله أنه لا يفعله، أو يكون أحد يقدر على أن يخرج عن علم الله، وأن يفعل شيئًا علم الله أنه لا يفعله، وأقروا: أنه لا خالق إلا الله، وأن أعمال العباد يخلقها الله، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئًا، وأن الله تعالى وفق المؤمنين لطاعته، وخذل الكافرين بمعصيته، ولطف للمؤمنين ونظر لهم وأصلحهم وهداهم، ولم يلطف بالكافرين ولا أصلحهم ولا هداهم، ولو أصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم الكانوا مهتدين. وأن الله تعالى يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وخذلهم وأضلهم وطبع على قلوبهم، وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره، ويؤمنون بقضاء الله وقدره، خيره وشره، حلوه ومره، ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله، كما قال ويلجئون أمرهم إلى الله، ويثبتون الحاجة إلى الله في كل وقت، والفقر إلى الله في كل حال، ويقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في الوقف واللفظ من قال باللفظ أو بالوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق، ويقولون: إن الله تعالى يرى بالأبصار يوم القيامة، كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون، لأنهم عن الله محجبون، قال الله تعالى: { كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ }، وإنّ موسى سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا وأن الله تعالى تجلى للجبل فجعله دكًّا، فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا، بل يراه في الآخرة، ولم يكفروا أحدًا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كنحو الزنا والسرقة وما أشبه ذلك من الكبائر. وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون وإن ارتكبوا الكبائر، والإيمان عندهم هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره وحلوه ومره، وإن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وأنّ ما أصابهم لم يكن ليخطئهم. والإسلام هو أن يشهد العبد أن لا إله إلا الله على ما جاء في الحديث، والإسلام عندهم غير الإيمان، ويقرون بأن الله مقلب القلوب، ويقرون بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها لأهل الكبائر من أمته، وبعذاب القبر، وإن الحوض حق، والمحاسبة من الله للعباد حق، والوقوف بين يدي الله حق، ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ولا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق، ويقولون أسماء الله هي الله، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار، ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين، حتى يكون الله تعالى أنزلهم حيث شاء، ويقولون أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، ويؤمنون بأن الله تعالى يخرج قومًا من الموحدين من النار على ما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة في القدر، والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم بالتسليم للروايات الصحيحة، ولما جاءت به الآثار التي رواها الثقات عدلًا عن عدل حتى تنتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقولون: كيف؟ ولِمَ؟ لأن ذلك بدعة، ويقولون: إن الله لم يأمر بالشر، بل نهى عنه، وأمر بالخير، ولم يرضَ بالشر وإن كان مريدًا له، ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ويأخذون بفضائلهم، ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم، ويقدمون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليًا رضي الله عنهم، ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون وأنهم أفضل الناس كلهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر؟" كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال الله تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَسُولِ } ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين وأن لا يبتدعوا في دينهم ما لم يأذن به الله، ويقرون أن الله تعالى يجيئ يوم القيامة كمال قال: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا }، وإن الله تعالى يقرب من خلقه كيف يشاء، كما قال تعالى: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كل إمام بر وفاجر، ويثبتون المسح على الخفين سنة، ويرونه في الحضر والسفر، ويثبتون فرض الجهاد للمشركين منذ بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى آخر عصابة تقاتل الدجال. وبعد ذلك يرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح وأن لا يخرج عليهم بالسيف، وأن لا يقاتلوا في الفتنة، ويصدقون بخروج الدجال، وإن عيسى ابن مريم يقتله، ويؤمنون بمنكر ونكير والمعراج والرؤيا في المنام، وإن الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عنهم بعد موتهم تصل إليهم، ويصدقون بأن في الدنيا سحرة وأن الساحر كافر، كما قال الله تعالى، وإن السحر كائن موجود في الدنيا، ويرون الصلاة على كل من مات بأجله وكذلك من قتل قتل بأجله، وأن الأرزاق من قبل الله تعالى يرزقها عباده، حلالًا كانت أو حرامًا وإن الشياطين يوسوس للإنسان ويشككه ويخبطه، وإن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله تعالى بآيات تظهر عليهم، وأن السنة لا تنسخ القرآن، وأن الأطفال أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم وإن شاء فعل بهم ما أراد، وأن الله عالم ما العباد عاملون وكتب أن ذلك يكون، وأن الأمور بيد الله تعالى، ويرون الصبر على حكم الله والأخذ بما أمر الله به، والانتهاء عما نهى الله عنه، وإخلاص العمل لله والنصيحة للمسلمين، ويدينون بعبادة الله في العابدين والنصيحة لجماعة المسلمين، واجتناب الكبائر والزنا قول الزور، والمعصية والفخر والكبر والإزدراء على الناس والعجب، ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار، والنظر في الفقه، مع التواضع والاستكانة وحسن الخلق، وبذل المعروف وكف الأذى، وترك الغيبة والنميمة والسعاية، وتفقد المأكل والمشرب.
فهذه جملة ما يأمرون به ويعتقدونه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم ونقول وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
فصل
قال العراقي:
فتبين أن علامة الخوارج تنزيلهم آيات القرآن النازلة في الكفار على المؤمنين من أهل القبلة.
جوابه أن يقال:
ليست هذه علامة على الخوارج والمروق من الدين، فإن جمهور الغلاة من أهل الأهواء يتأولون بعض الآيات التي أريد بها أهل الكفر والشرك في أهل السنة والجماعة، والعلامة تطرد وتنعكس، كما في حديث: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار" ولا يصح هنا طردها ولا عكسها.
وهب أنها علامة كما زعمت- فمن يثبت لك إيمان عباد القبور؟ بأي كتاب أم بأية سنة تحكم على أنهم من المؤمنين، ومن عباد الله الصالحين؟ بينك وبين إثبات هذا ما يدفع في صدرك؛ ويكبك على أمّ رأسك، من نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة "لو يعطى الناس بدعواهم لادّعى رجل دماء قوم وأموالهم، ولكن البينة على المدعي".
وإنما قيل: علامة أهل الشرك وعباد الأولياء والصالحين: تسمية الرسل وأتباعهم من أهل الإسلام صابئة، كما قاله أبو جهل وأبو لهب وغيرهما من كفار قريش؛ والصابئ بمعنى الخارجي والمعتزلي في عرفهم، فإن الصابئة في الأصل اسم لمن فارق ما عليه جمهور الناس في الديانة، وكان أهل الكفر وأصحاب المذاهب الضالة يرون أنهم أحق بالصواب، وأولى بالآثار والكتاب.
قال تعالى حاكيا عن اليهود والنصارى: { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } فهذه الآية كما وردت على اليهود والنصارى وأخرجتهم من الوعد والإثابة، فهي رد على عباد القبور والصالحين المستغيثين بغير الله، الداعين لسواه، لأن إسلام الوجه لله وإحسان العمل قد تخلف عنهم وفاتهم.
فما أحسن أحكام القرآن، ما ألطف خطابه وما أهناه وأشفاه في كل مقام وعند كل شبهة وخصام، قال تعالى: { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } وأي هدى وأي سلطان وأي حجة على دعاء الصالحين مع الله، والاستغاثة بهم في الشدائد والكربات؟ هذا لم تأتِ به شريعة، ولم يقل بجوازه صاحب عقل يميز أقواله وصنيعه.
وما سيمر بك من الشبه العراقية من جنس شبه القرامطة والباطنية، على ما يزعمونه من الطريقة الخبيثة الكفرية، وسيأتيك رده مفصّلًا إن شاء الله تعالى.
وقوله:
إن قول الشيخ وأتباعه "لا يعبد إلا الله" من جنس قول الخوارج "لا حكم إلا لله" وأنه يقال لهم ما قيل لأولئك: هذه كلمة حق، ولكن أين من يعبد غير الله إذا كان مسلمًا ناطقًا بالشهادتين يصلي ويزكي ويحج؟
والجواب أن يقال:
الخوارج مخطئون ظالمون فيما نقموا به على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الصحابة ما حكموا سوى القرآن، وإنما الرجال يحكمون بالقرآن، فالتبس الأمر على الخوارج، ولم يفهموا أن جميع الأحكام الشرعية إذا صدرت عما في الكتاب والسنة فهما الحاكمان، ولا ينسب الحكم إلى الرجال إلا بقيد، وجاءت السنة بأن الطاعة في المعروف، وهو ما أمر الله به ورضيه من الواجبات والمستحبات. وإنما يحرم التحكيم إذا كان المستند إلى شريعة باطلة تخالف الكتاب والسنة، كأحكام اليونان والإفرنج والتتر وقوانينهم التي مصدرها آراؤهم وأهواؤهم، وكذلك سوالف البادية وعاداتهم الجارية. فمن استحل الحكم بهذا في الدماء أو غيرها فهو كافر. قال تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }، وهذه الآية ذكر فيها بعض المفسرين: أن الكفر المراد هنا كفر دون الكفر الأكبر، لأنهم فهموا أنها تتناول من حكم بغير ما أنزل الله، وهو غير مستحل لذلك، لكنهم يتنازعون في عمومها للمستحل، وأن كفره مخرج عن الملة.
إذا عرفت هذا عرفت وجه قول أمير المؤمنين في مقالة الخوارج: لا حكم إلا الله "إنها كلمة حق أريد بها الباطل" وأما قول المسلم الحنيفي: لا يعبد إلا الله، فهي كلمة حق أريد بها حق؛ لأنّ دعاء الأولياء والصالحين والاستغاثة بهم وتعلق القلوب بهم محبة ورجاء وخوفًا وطمعًا، هو العبادة بالإجماع. وقد مرّ لك أنهم صرفوا من العبادات لمعبوداتهم جميع ما يستحقه ذو العرش المجيد تقدس اسمه جل ذكره.
فإذا قال الجاهلون عباد القبور: فأين من يعبد غير الله؟
قيل لهم: أنتم وأمثالكم من عباد القبور والصالحين جمهور من سكن الغبراء وأظلته الخضراء، لا سيما أهل العراق عباد علي والحسين والكاظم وعبد القادر والحسن والزبير وأمثالهم من الأولياء والصالحين. ولست أعني خصوص الرافضة، بل عبادة القبور والصالحين ليس من خصوص الرافضة في هذه الأزمان، وفي بلاد الفرس ومصر والشام من عبادة القبور ودعائها وجعلها أندادًا لله ربّ العالمين ما لا يخفى على من عرف الإسلام، ولكن قد تقدم غير مرة التنبيه على جهل هذا الرجل وأمثاله بالمسميات والحدود، وعندهم أن العبادة مجرد السجود، مع أنه قد وقع منهم أيضًا لأهل القبور، ولكنهم يكابرون في الحسيات، وقد صار من يدعي العلم وينتسب إليه في كثير من البلدان دعاة إلى الشرك والتوسل بدعاء الصالحين وتعظيمهم برفع القبور وتشييدها واتخذاها مساجد، والتوجه إلى من فيها والطواف بقبره، وبعض علمائهم يحتج على تركها مرفوعة أو على رفعها وبنائها بحديث: "سدوا عني كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر" فانظر هذا الجهل المتناهي، جعلوا القباب التي هي من وسائل الشرك وأفعال الجاهلية من جنس ما يخص به العبد الصالح من ترك خوخة أو نحوها في جدار المسجد. والذي هو نص في المسألة لا يقبل التأويل حديث أبي الهياج: أن عليًا قال له: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا إلا سوّيته" والحديث أشهر من أيذكر وقد عمل به الإمام المفضل الأكبر. ومع هذا فلا يعرجون عليه في الاستدلال، ولا يبالون بما فيه من الأمر الواضح بهدم أماكن الجهل والضلال. وما ذاك إلا لأنّهم نشأوا في حجر عباد القبور وحزبهم؛ وغذوا بلبان جهلهم وكفرهم، وألفته طباعهم وأنست به أوضاعهم، ولولا ذلك لما قيس رفع القباب وإبقاؤها على المقابر على إبقاء خوخة الصديق، وترك سدّها، مع عدم الاشتراك في العلة والمناط، وبعد ما بينهما وتباينه.
وأما قوله: إذا كان مسلمًا ناطقًا بالشهادتين.. إلى آخره.
فقد تقدم لك أنه لا يشترط في التكفير أن يكفر المكلف بجميع ما جاء به الرسول، بل يكفي في الكفر والردة - والعياذ بالله - أن يأتي بما يوجب ذلك، ولو في بعض الأصول، وهذا ذكره الفقهاء من أهل كل مذهب، وهو من عجيب جهل العراقي وأمثاله؛ لأنه يعرفه المبتدئون في الفقه والعلم، ومن أراد الوقوف على جزئيات وفروع في الكفر والردة فعليه بما صنف في ذلك، كالإعلام لابن حجر الهيتمي، وما عقده الفقهاء من أهل كل مذهب في باب حكم المرتد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة السنية لما ذكر حديث الخوارج ومروقهم من الدين وأمره صلى الله عليه وسلم بقتالهم - قال: فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه، مع عباداته العظيمة، حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضًا من الإسلام، وذلك بأسباب: منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه، حيث قال: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } الآية، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حرق الغالية من الرافضة، فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، فقذغوا فيها واتفق الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق وهو قول أكثر الصحابة. وقصتهم معروفة عند العلماء. وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه. فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعًا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال فكلّ هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه. فإن تاب وإلّا قتل، فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده، ولا يجعل معه إله آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق وتنزل المطر وتنبت النبات، إنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم، أو صورهم ويقولون: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }، ويقولون: { هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ }، فبعث الله رسوله ينهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة. وقال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ }. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرًا والملائكة فأنزل الله هذه الآية. ثم ذكر آيات في المعنى. انتهى.
والمقصود منه: أنه جعل عباد القبور من شر الخوارج المارقين، فهم شر أصناف الخوارج، وقد توقف بعض السلف في تكفير الخوارج، قيل لعلي: أكفار هم؟ قال: من الكفر فرّوا.
وعباد القبور ما رأيت أحدًا من أهل العلم الذين يرجع إليهم توقف في كفرهم، غاية ما قالوا: لا يقتل حتى يستتاب، أو لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة أو نحو هذا الكلام.
فصل
واستدل العراقي على دعواه أن عباد القبور لا يكفرون بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا }، وزعم أن سبب نزول هذه الآية قتل رجل كافر كان قصده الإسلام، ولم يتلفظ بالشهادة. قال: فكيف بمن يتجاسر على خيار الأمة المحمدية وعلمائها ويكفرهم بالتوسل بالأنبياء والصالحين بشبهة هي أوهى من بيت العنكبوت، ولم يكن نية فاعلها إلا خيرًا، وهذه الأشياء التي يكفرون بها ما أجمعت الأمة على تحريمها، فضلًا عن التكفير بها.
والجواب أن يقال:
زعمه أن سبب النزول قتل رجل كافر كان قصده الإسلام ولم يتلفظ بالشهادة فهو كذب بحت، وقول على الله وعلى كتابه بغير علم. وفي الحديث: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار" وفي رواية: "برأيه" وهذا الرجل لا يتحاشى الكذب والترويج على الجهال. قال البيضاوي: " { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَلامَ } لمن حياكم بتحية الإسلام. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة: { السلم } " وفسّره البيضاوي بالاستسلام والانقياد، وفسر به السلام أيضًا، وجزم بأنه استسلم وانقاد للإسلام على القراءتين. وقال في قوله: { لَسْتَ مُؤْمِنًا }: "أي إنما فعلت ذلك متعوّذًا، فظهر أنه أظهر لهم الإسلام، وإنما أتوه من جهة ظنهم عدم صدقه". وقال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا يحيى بن بكير وحسين بن محمد وخلف بن الوليد حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: "مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسوق غنمًا، فسلم عليهم. فقالوا: ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه، وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية". وقال أحمد: حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق حدثنا يزيد بن عبد الله بن قسيط عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد قال: "بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أضم مرَّ بنا عامر بن الأضبط على قعود له، معه متيع له ووطب من لبن، فسلم علينا، فأمسكنا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله، لشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره ومتيعه، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرناه نزل فينا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد: "كان رجلًا مؤمنًا يخفي إيمانه مع قوم كفار فقتله كذلك كنت تخفي إيمانك بمكة" وهذه الجملة الأخيرة من الحديث رواها البخاري في صحيحه تعليقًا.
وبهذا يتبين جهل العراقي وكذبه، وجميع كلامه من أول كتابه إلى آخره من هذا القبيل ظلمات بعضها فوق بعض.
وأما قوله: فكيف بمن يتجاسر على خيار الأمة وعلمائها ويكفرهم بالتوسل بالأنبياء والصالحين بشبهة أوهن من بيت العنكبوت؟
فجوابه: أن خيار الأمة وعلماءها لم يكفرهم أحد من أهل الإسلام، لا من أهل نجد ولا غيرهم، حتى إن المخالف في أصل الملة كاليهودي والنصراني والمجوسي والوثني لا يكفرهم، بل غايته أن يعتقد أنه على حق وأنهم أخطأوا في إنكار دينه وتكفيره، والخوارج كفّروا بعض خيار الأمة، وبعض العلماء لم يطلقوا تكفير الخيار والعلماء. هذا لا يُعرف عن أحد ولا ادّعاه أحدٌ قبل العراقي. لكنه جاهل يخفى عليه ما في عبارته من العموم المستفاد من الإضافة، وأظنه يريد بعض من ينتسب إلى الدين والعلم من عباد القبور. ولذلك قال: بتوسلهم ودعاء الصالحين، وعبادتهم عنده توسل لا يكفر فاعله. وقد تقدم الكلام على ردّ هذا. ويأتي له مزيد بحث وأن التوسل صار مشتركًا، وهو في عرف عباد القبور يستعمل في دعاء الصالحين وعبادتهم، وبيان التكفير بذلك وما يستدل به عليه قد مرّ بعضه ويأتيك عند كلام العراقي عكس القضية فسمى عباد القبور خيار الأمة وعلماءها، وسمّى أهل الإسلام والتوحيد الذين لا يدعون مع الله آلهة أخرى خوارج، يكفرون خيار الأمة!. ومن وصل به الجهل إلى هذه الغاية والحد فقد استحكم عليه الضلال، وفقد إدراكه وإحساسه، ولا علاج له غير الاطراح والتضرع بين يدي الله في أوقات الإجابة وتحري الأدعية الواردة النبوية أن يرده الله إلى الرشد. ولا سبيل إلى ذلك مع اعتقاد أنه من أهل العلم والفضل والدين، وأنه يصلح معلما ومربيا وداعيًا.
وقوله: بشبهة هي أوهن من بيت العنكبوت:
إن كان يريد ما استدل به المسلمون أهل التوحيد من الأدلة القرآنية والأحاديث النبوية في المنع من دعاء الأولياء والصالحين، وتحريم عبادتهم بالحب والخضوع والتوكل والدعاء والنسك والرجاء، ونحو ذلك من العادات، فتسميته أدلة ذلك وأدلة تكفير فاعله: شبهة أوهن من بيت العنكبوت: صريح في كفره؛ لمسبته لآيات الله وحججه وبياته، ولا يخفى كفر فاعل ذلك على أحد من المسلمين، قال تعالى فيمن قال ما دون ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من القرّاء: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } الآية، فكفرهم بما لا نسبة بينه وبين كلمة العراقي، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والمسلمون يحتجون على مثل هذه المسائل بمثل قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } الآية، وقوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، وقوله: { وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ } الآية، وقوله: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا } الآية، وقوله: { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ }، وقوله: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا }، ونحو ذلك كثير. وبقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" والقول المراد هنا الصادر عن علم بمعناها وانقياد لأصول مقتضاها، لا كما ظنّه عباد القبور من أن مجرد اللفظ يكفي مع المخالفة الظاهرة، وعباد الأولياء والصالحين، فإن شهادتهم والحالة هذه وقولهم شبيه بشهادة المنافقين برسالة سيد المرسلين، وقد مرّ لك ما فيها.
وبالجملة: فأدلة تحريم دعاء الصالحين من دون الله لا يمكن حصرها ولا تستقصى، وقد قال هذا الملحد: إنّها شبهة أوهن من بيت العنكبوت، { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا }.
وأما قوله: هذه الأشياء وما أجمعت الأمة على تحريمها، فضلًا عن التكفير بها:
فهذا مبلغ علمه ومنتهى إيمانه وفهمه، وكلّ إناء بالذي فيه ينضح.
فيا منكرًا هذا تأخر، فإنه حرام على الخفاش أن يبصرالشمسا
ونقول: اجتمعت الأمة على تحريم هذا وعلى كفر فاعله إجماعًا ضروريًا، يعرف بالضرورة من دين الإسلام، وبتصور ما جاء به الرسل، واتفاق دعوتهم، فإن كل رسول أول ما يقرع أسماع قومه بقوله: { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ }، كما تقدمت أدلة ذلك.
قال شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني رحمه الله ورضي عنه: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم كفر إجماعًا.
قال شارح الإقناع من كتب الحنابلة منصور بن يونس البهوتي المصريّ: لأنه فعل عابدي الأصنام، قائلين { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } الآية؛ نعم عباد القبور يخالفون في هذا، كما يخالف الخارجيّ فيما اجتمعت عليه الأمة من عدم التكفير بالذنوب التي دون الشرك، وكما يخالف القدري أهل السنة في تكفير غلاتهم، وكما يخالف الجهمي معطل الصفات في تكفيره وتبديعه، وكما ينازع الحلولي والاتحادي في التكفير بمذهبه الخبيث، ومن نسب إلى الشيخ رحمه الله تكفير أحد من أهل الإسلام والتوحيد فهو من أعظم الناس كذبًا وبهتانًا وافتراءً وسيجزيه الله ما وعد به أمثاله من المفترين، بقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَبذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ }.
فصل
قال العراقي:
ويستدلون بأقوال ابن تيمية وابن القيم، وهما لا يلزمان بقولهما ولا بقول أحد من أهل المذاهب الأربعة.
والجواب أن يقال:
قد تقدم أن العمدة عندهم في مسائل أصول الدين وفروعه على كتاب الله وسنة رسوله وإجماع أهل العلم من هذه الأمة، ولا تذكر أقوال أهل العلم إلا تبعًا وبيانًا. لا إنّها المقصودة بالذات والأصالة؛ ثم المسائل التي لا يلزم بها المجتهد غيره ما كان للاجتهاد فيها مساغ، ولم تخالف كتابًا ولا سنة صريحة ولا إجماعًا، وما خالف ذلك فهو مردود على قائله. ويلزمه أهل العلم بصريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى: "ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر" يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأحسن منه قول الله تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَسُولِ } الآية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه".
فإذا كان ردّ السنة محرمًا لا يجوز، ولو ردّها ظانًا أن القرآن لا يدل عليها، فكيف رد الكتاب والسنة، وعدم التزامهما لخلاف أحد من الناس كائنًا من كان؟ ومسائل معرفة الله ووجوب توحيده، وإسلام الوجه له وحده لا شريك له، ومسائل ربوبيته واختصاصه بالخلق والإيجاد والتدبير، ونحو ذلك، مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام كصمديته تعالى، ونفي الكفء والصاحبة والولد، وغناه بذاته ومباينته لمخلوقات، وعموم قدرته وإحاطة سمعه وبصره وعلمه بجميع المعلومات والمبصرات والمسموعات، ونحو ذلك من أصول الدين.
فكلّ الرسل متفقون عليه، وجميع الكتب داعية إليه والعقول الصحيحة حاكمة به، فكل اجتهاد خالفه فباطل مردود لا يسوغ العمل به في شريعة من الشرائع، ولا عند عالم من العلماء ولا فقيه من الفقهاء. والعراقي أجنبي عن هذه المباحث والعلوم، ولا يدري الفرق بين مسائل الاجتهاد وغيرها، وكأن الرجل من أهل الفترات لم يأنس بشيء مما جاءت به النبوات.
قال شمس الدين في هدايته:
بل جميع النبوات من أولها إلى آخرها متفقة على أصول:
أحدها: أن الله تعالى قديم واحد لا شريك له في ملكه، ولا ند ولا ضد ولا وزير ولا مشير ولا ظهير ولا شافع إلا من بعد إذنه.
الثاني: أنه لا والد له ولا ولد، ولا كفء ولا نظير، ولا نسب بوجه من الوجوه ولا زوجة.
الثالث: أنه غني بذاته، فلا يأكل ولا يشرب، ولا يحتاج إلى شيء مما يحتاج إليه خلقه بوجه من الوجوه.
الرابع: أنه لا يتغير ولا تعرض له الآفات، من الهرم والمرض والسنة والنوم والنسيان والندم، والخوف والهم والحزن، وتحو ذلك.
الخامس: أنه لا يماثله شيء من مخلوقاته، بل ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
السادس: أنه لا يحل بشيء من مخلوقاته، ولا يحل في ذاته شيء منها. بل هو بائن عن خلقه بذاته، والخلق بائنون عنه.
السابع: أنه أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء، وفوق كل شيء، وعال على كلّ شيء، وليس فوقه شيء البتة.
الثامن: أنه قادر على كل شيء ولا يعجزه شيء يريده، بل هو فعّال لما يريد.
التاسع: أنه عالم بكلّ شيء، يعلم السر وأخفى، ويعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس، ولا متحرك ولا ساكن إلا وهو يعلمه على حقيقته.
العاشر: أنه سميع بصير، يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، قد أحاط سمعه بجميع المسموعات، وبصره بجميع المبصرات، وعلمه بجميع المعلومات، وقدرته بجميع المقدورات، ونفذت مشيئته في جميع البريات، وعمت رحمته جميع المخلوقات ووسع كرسيه الأرض والسموات.
الحادي عشر: أنه الشاهد الذي لا يغيب، ولا يستخلف أحدًا على ملكه، ولا يحتاج إلى من يرفع إليه حوائج عباده أو يعاونه أو يستعطفه عليهم ويسترحمه لهم.
الثاني عشر: أنه الأبدي الباقي الذي لا يضمحل ولا يتلاشى ولا يعدم ولا يموت.
الثالث عشر: أنه المتكلم المكلم الآمر الناهي، قائل الحق، وهادي السبيل مرسل الرسل، ومنزل الكتب، قائم على كل نفس بما كسبت من الخير والشر، ومجازي المحسن بإحسانه والمسئ بإساءته.
الرابع عشر: أنه الصادق في وعده وخبره، فلا أصدق منه قيلا، ولا أصدق منه حديثًا، وهو لا يخلف الميعاد.
الخامس عشر: أنه تعالى صمد بجميع معاني الصمدية، يستحيل عليه ما يناقض صمديته.
السادس عشر: أنه قدوس سلام، فهو المبرأ من كل عيب وآفة ونقص.
السابع عشر: أنه الكامل الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه.
الثامن عشر: أنه العدل الذي لا يجور ولا يظلم، ولا يخاف عباده منه ظلمًا.
وهذا مما اتفقت عليه جميع الكتب والرسل وهو من المحكم الذي لا يجوز أن تأتي شريعة بخلافه، ولا يخبر بشيء بخلافه، فتركت المثلثة عباد الصليب هذا كله وتمسكوا بالمتشابه من المعاني والمجمل من الألفاظ، وأقوال من قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا وضلوا عن سبيل السواء. وأصول المثلثة ومقالاتهم في ربّ العالمين تخالف هذا كله وتباينه أشد المخالفة والمباينة. انتهى.
فقف وتأمل هذه الأصول وأولها، وهو أنه تعالى لا شريك ولا ند ولا شافع إلا من بعد إذنه، ووازن بينه وبين قول العراقي: إنّ هذه المسائل التي لا تعلم يعذر العلماء في جهلها أحدًا، وهل يقول من يعقل إنّ هذه المسائل من المسائل الاجتهادية، فإن كان هذا القول صحيحًا فليهن النصارى عباد الصليب اجتهادهم المنجي عند هذا العراقي، وكذا عباد الأوثان، والجهمية والمعطلة، والقدرية النفاة والقدرية المجبرة، والرافضة المارقة. فإنّهم قالوا بتلك الأقوال الضالة واعتقدوها عن رأي لهم واجتهاد وشبهة تصوروها. كما قال هذا الشيخ: فترك المثلثة عباد الصليب هذا كله وتمسكوا بالمتشابه. قال تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا } الآية، وقال: { بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ }، وقال: { وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ } الآية، وقال: { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ }، والتزيين يتناول ما تمسكوا به من الشبه والمتشابه واعتقاد حسنه، وأنه لا ينكر ولا يلزم بسواه.
ثم هذا مخالف للإجماع، ولو في فروع الدين، فإنّ الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على إنكار على المخطئ المخالف للنص في مسائل كثيرة.
منها ما وقع من قدامة بن مظعون وأصحابه لما استحلوا الخمر باجتهاد تأويل وفهم انفردوا به، في قوله تعالى: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الآية، والصحابة أنكروا على من رأى أن دفع الزكاة لا يجب لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلوا على ذلك واستباحوا الدماء عليه، وإن لم ينكر من قاتلوه غير ذلك من الدين. وقد بعث صلى الله عليه وسلم سرية إلى رجل تزوج امرأة أبيه فقتلوه وغنموا ماله، وسار فيه بسيرته في المرتدين، فكيف يقال: إن من دعا الأولياء والصالحين واستغاث بهم وذبح لقبورهم وخافهم ورجاهم مع الله لا ينكر عليه؟ لأن الإنكار محل الاجتهاد؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
فصل
قال العراقي:
قال العلماء: لو أفتى مائة عالم إلا واحدًا بكلمة كفر صريحة مجمع عليها، وقال عالم واحد بخلاف أولئك يحكم بقول الواحد ويترك قول التسعة والتسعين، حقنًا للدماء.
أقول في جوابه:
ها هنا والله يعرف ذوو الألباب مقدار ما هم فيه من النعمة بالعقول التي فارقوا بها الحيوانات، ويعرف ذوو الفضل والعلم نعمة العلم التي فارقوا بها أهل الجهالات والضلالات، ويعرفون حاصل هؤلاء الحيارى وما هم عليه من العقل والدين، لا سيما من عرف ما في الدعوى من العموم والإجماع على خرق الإجماع، ثم هذا العدد المخصوص أهو غاية وحد لا يجوز أن يتجاوزه أحد؟ أو هو مبالغة وتهور لا يبالي به عند التحقيق والتصور؟ قوم هذا حاصل بحثهم ونهاية إقدامهم، لم يمتازوا على سائمة الأنعام إلا بمجرد الصورة والهيولى. قال تعالى: { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ } الآية.
وأما قوله: لقوله صلى الله عليه وسلم: "ادرأوا الحدود بالشبهات ما استطعتم" فهو من نمط ما قبله في الجهالة. والخلاف ليس من الشبهة، ولا يلتفت إليه إذا خالف الكتاب والسنة أو الإجماع. هذا باتفاق المسلمين، لا يشكل إلّا على الأغبياء، وإطلاق القول بأن الخلاف شبهة يعود على الإسلام بالنقض والهدم، والتسجيل على عامة العلماء بالعيب والذم. فقلّ حكم من الأحكام الاجتهادية إلّا وفيه خلاف. ومن المعلوم أنه جاء الخبر النبوي: أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وتختلف في دينها. والعلماء مجمعون على القول بهذا، وإنه لا يلتفت إلى كل خلاف، لا سيما ما خالف النصوص والإجماع. وأفتوا بهذا في مسائل لا تحصى في أصول الدين وفروعه. فلو كان وجود الخلاف من الشبه لحكمنا بضلالهم في ذلك كله. وهم مجمعون على عكس ما قال العراقي. ولو أفتى ألوف ما يخالف النصوص فهم في جانب والنص في جانب ولو كان النص والحجة مع واحد من هؤلاء الألوف، قال الفضيل بن عياض: لا تستوحش من الطريق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين. وأحسن منه وأدل قوله تعالى: { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ }، فبطل الاحتجاج بالأكثر في الأصول والفروع. وما أحسن ما قيل:
وليس كل خلاف جاء معتبرًا ** إلّا خلاف له حظ من النظر
وقوله: المكفر بهذه الأشياء واحد، ليس في العير ولا في النفير، القائلون بخلافه ألوف:
يريد أن المكفر بعبادة القبور واحد، وهو الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
والوقوف على هذه القولة الضالة الحمقاء التي تنادي بجهل قائلها يكفي في الجواب.
وقوله: إنهم يسيئون الظن بجميع علماء المسلمين، ما عدا جماعتهم - إلى آخر كلامه:
تقدم جوابه، وأنه لا يعرف الحدود فلا يعرف العلماء في عرف الشرع ولا المسلمين في اصطلاح الرسول. والذي في وهمه أن العلماء من يجيز دعاء أهل القبور وأن المسلمين عنده من يدعو الموتى ويستغيث بهم. هذا حاصل كلام العراقي، فسبحان من أضله.
وسوء الظن بمن جالس وداهن وهذا الضرب من الناس مما يثاب عليه المؤمن، ويحمد عليه؛ لأنه من باب الاحتياط والبراء، بل ويدخل فيه ما أمر الله به من الجهاد، وعدم الانبساط والبشاشة لمن يوالي عباد القبور ويعاشرهم. فكيف من يجيز ذلك ويفعله؟ وقد قال مجاهد بن جبر لابن حميد لما رآه مع غيلان القدري في الطواف وهجره على ذلك فجاءه ابن حميد، فحلف له أنه تبعه يسأله عن حرف في قراءة مجاهد - قال له مجاهد: لولا أنك عندي صدوق ما بششت في وجهك الدهر، ذكره ابن وضاح.
tiistai 23. joulukuuta 2014
lauantai 20. joulukuuta 2014
الـقـرآن والعـلم
الـقـرآن والعـلم
سورة
العلق(96)
قال
الله تعالى: {اقرأ باسمِ
ربِّكَ الَّذي خلَق(1)
خلَقَ الإنسانَ من علَق(2)
اقرأ وربُّكَ الأكرم(3)
الَّذي علَّمَ بالقلَم(4)
علَّم الإنسانَ ما لم يعلم(5)}ومضات:
ـ هذه الآيات هي أوَّل ما نزل من القرآن الكريم على رسول الله محمَّد صلى الله عليه وسلم ، والملفت للانتباه أنها تأمره أوَّل ما تأمره بالقراءة. فماذا يعني أن تضمَّ الآيات الخمس الأولى ستَّ عبارات تتعلق بالقراءة والكتابة، والعلم والتعليم؟ إن هذه الآيات تشكِّل افتتاحيَّة وحي السماء، وهذا يعني أن أهمَّ ما جاء الإسلام لتحقيقه هو نشر العلم بكلِّ فروعه.
ـ ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ كتاباً ليقرأ سطوره لأنه كان أُميّاً، بل كان المطلوب قراءة ربَّانيَّة باسم الله الخالق العظيم، الَّذي خلق الإنسان من حوين صغير، يعلق في الرحم، بعد اتِّحاده بالبويضة.
ـ هذا الخالق العظيم، جعل من القلم أساساً للعلم، وبهذا القلم تعلَّم الإنسان كثيراً من المعارف، ومازال أمامه الكثير ليتعلَّمه.
في رحاب الآيات:
أوَّل أمر إلهي للإنسان الغارق في بحار الجهل والجاهلية، حمله إليه النبيُّ الأميُّ الكريم؛ {اقرأ} بكلِّ ما في هذه الكلمة من إيحاء إلى طَرْقِ أبواب العلم والمعرفة، ثمَّ أُتبعت هذه الدعوة إلى القراءة، بدعوة إلى أختها، وهي الكتابة بالقلم {الَّذي علَّمَ بالقلم} تنبيهاً وإشارة إلى أن حضارة الإسلام لن تُبنى إلا بالعلم، وعماد العلم البشري القراءة والكتابة.
والقراءة يجب أن تبدأ باسم الله، وكذلك كلُّ أمر، وكلُّ حركة، وكلُّ خطوة، وكلُّ عمل؛ فباسم الله نبدأ، وباسم الله نسير، وإلى الله نتَّجه وإليه تصير الأمور. فالقراءة عن الله وبالله هي العلم الحقيقي، وهي مفتاح ازدهار الحضارة الإيمانية، الحضارة الَّتي أثَّرت في الحضارات كلِّها، وأمدَّتها بجوهر العلوم ومفاتيح السعادة.
والله هو الَّذي خلق، وهو الَّذي علَّم، فمنه البدء والنشأة، ومنه التعليم والمعرفة. ونبدأ من صفات الله بالصفة الَّتي بها الخلق والبدء، فهو خالق الإنسان من تلك النطفة العالقة بالرحم، من ذلك المنشأ الصغير المهين التكوين، فتدلُّ على كرم الخالق فوق ما تدلُّ على قدرته، فمن كرمه رفع هذا العلق، إلى درجة الإنسان، الَّذي يُعلَّم فيتعلَّم. وهنا تبرز حقيقة التعليم، تعليم الربِّ للإنسان بالقلم، لأن القلم كان ومايزال أوسع وأعمق أدوات التعليم أثراً في حياة الإنسان، ولم تكن هذه الحقيقة إذ ذاك بهذا الوضوح الَّذي نلمسه الآن، ونعرفه في حياتنا المعاصرة، ولكنَّ الله سبحانه يعلم أهميَّة القلم، فيتَّخذ منه رمزاً في أوَّل سورة من سور القرآن الكريم نزولاً، هذا مع أن الرسول الَّذي حمل هذه الرسالة، لم يكن كاتباً بالقلم، وما كان محمَّد صلى الله عليه وسلم ليبرز هذه الحقيقة منذ اللحظة الأولى، لوكان هو الَّذي يبتدع هذا القرآن، إلا أن الأمر كان وحياً جاءه برسالة سماوية صادرة من عند الله، فمنه يستمدُّ الإنسان كلَّ ما علم، وكلَّ ما يعلم من أسرار هذا الوجود، وأسرار نفسه، فالوحي من هناك، من ذلك المصدر العلوي المقدَّس الفريد.
فتبارك الله الأكرم، الَّذي علَّم الإنسان ما لم يعلم، فشرَّفه بالعلم على كثير ممَّن خلق، ورفعه به مقاماً عليّاً حين قال: {..يرفعِ الله الَّذين آمنوا منكم والَّذين أوتوا العِلمَ درجاتٍ..} (58 المجادلة آية 11). ومن الجدير بالذكر هنا أنه ليس المقصود بالعلم مجرَّدَ تحصيل العلوم الشرعية، وما يتصل بها، كما يفهم بعض الناس خطأً، بل هو مطلق العلم النافع في الدنيا والآخرة، والَّذي يهدي أهله لمعرفة قوانين الله تعالى فيما خلق وأوجد في هذا الكون، وتسخير ذلك لخدمة الإنسان ورفاهيَّته، ومن ثمَّ لتحضير المجتمع والسعي لرقيِّه وتمدُّنه. وهنالك أدلَّة كثيرة في كتاب الله تؤيِّد هذه الحقيقة وتدعمها، منها قوله تعالى: {إنَّ في خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ واختلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ لآياتٍ لأولي الألباب * الَّذين يَذْكُرونَ الله قياماً وقعوداً وعلى جُنوبهم ويتفَكَّرونَ في خلْقِ السَّـمواتِ والأرضِ ربَّـنـا مـا خـلَقْت هذا باطلاً سـبحانَك فَقِنَا عذابَ النَّار} (3 آل عمران آية 190ـ191)، وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله بعد أن تلا هذه الآية: «ويلٌ لمن لاكها بين لَحْيَيْهِ فلم يتفكَّر فيها» (أخرجه عبد بن حميد وابن حاتم وابن حبان في صحيحه عن عطاء رضي الله عنه ).
ففي هذه الآية إيحاءٌ من الله تعالى، لكي ينمِّي المسلم قواه العقلية، بدراسة علم الفلك وطبقات الأرض، والجبال والأنهار، ومن ثمَّ تسخير هذه القوى الكبيرة لخدمة الإنسان، فكلُّ ما نراه من حضارة راقية، ومدنيَّة زاهرة، هي من نتاج العقل المفكِّر. والإسلام حين دعا إلى التفكُّر وحثَّ عليه، إنما أراد ذلك لتنمية نطاق العقل وتوسيع مداركه، فدعا إلى النظر فيما خلق الله، في السموات والأرض، وفي الإنسان نفسه، وفي الجماعات البشرية، لأن وظيفة العقل هي التأمُّل والتفكير ومن ثمَّ الإبداع، فإذا بطل عمل العقل توقَّف تطوُّر الحياة وتجمَّد. وقد أراد الإسلام للإنسان أن ينهض من سُباته، فعدَّ التفكير والتعلُّم من جوهر العبادة، وحارب التقليد الأعمى، الَّذي يمنع العقل من الانطلاق والبحث، ويقف به عند حدود القديم المألوف، قال تعالى: {..إنَّا وَجَدْنا آباءَنا على أُمَّةٍ وإنَّا على آثارِهم مُقتَدون * قال أَوَلو جِئْتُكُم بأهدى مِمَّا وَجَدْتُم عليه آباءكُم قالوا إنَّا بما أُرسِـلْتم بـه كـافرون * فـانتقمنا مِنْهُم فانْـظُر كيـف كـان عـاقِبةُ المكـذِّبـين} (43 الزخرف آية 23-25). ولولا يقظة العقل وتوجيه الله تعالى له، لما اهتدت البشرية إلى قوانين الحياة، وعِلل الوجود وسنن الله في الكون، ولبقيت كما خُلقت دون تطوُّر، ولكن العقل المستنير بنور العلم استطاع أن يستخرج من الأرض كنوزها، وأن يستنبت خيراتها، ويقرِّب المسافات البعيدة، ويكتشف القوانين في البرِّ والبحر والجو، لينفِّذ بذلك المهمَّة الَّتي كلَّفه الله بها، واستخلفه في الأرض من أجلها.
إن هذه الآيات في أوَّل سورة العلق، وفي غيرها من سور القرآن، تعكس موقف الإسلام من العلم، وإن الباحث يرى أن هذا الموقف مع دلالته الَّتي لا حدود لها، على موقف الإسلام من العلم والمعرفة، والتعليم ومحو الأميَّة بكلِّ أشكالها، فإنه قد دُعِّمَ في القرآن الكريم بمواقف أخرى وآيات تتلى؛ تَقْرَع سمع البشريَّة ليل نهار، كي تهجر الجهل والجهلاء والجاهليَّة، وتُقبل على العلم والعلماء والتعلم والتعليم، فهناك سورة من سور القرآن تدعى بسورة القلم، حيث أقسم الله تعالى في هذه السورة، بالدَّواة والقلم، وما يُسَطِّرُ العلماء بالقلم والحبر من العلوم والمعارف، فقال تعالى: {ن والقلمِ وما يَسْطُرون} (68 القلم آية 1). لقد أقسم الله تعالى بِنُون، والنون هي الدَّواة وعاء الحبر، وأقسم بالقلم وأقسم بما يسطرون، كلُّ ذلك من أجل لفت الأنظار إلى أهميَّة ما أقسم به، وحثِّ المسلمين على العناية بالقراءة والكتابة، وأدوات العلم والمعرفة، لتحصيل المعارف، والتخلِّي عن الجهل والجاهليَّة وجعلها من مخلَّفات الماضي.
كما أن كتاب الله صرَّح في آيات كثيرة، بلزوم العناية بالعلم، وعلى رأسها أَمْرُ الرسـول صلى الله عليه وسلم ، ومن ورائه أُمَّتُه، بأن يدعو ربَّه طالباً منه أن يزيده من العلم، فقال تعالى: {..وقل ربِّ زدني علماً} (20 طه آية 114).
كما نوَّه بقدر العلم والعلماء، فقال سبحانه: {أَمَّنْ هو قانتٌ آناءَ اللَّيلِ ساجداً وقائماً يَحذَرُ الآخرةَ ويَرجو رحمةَ ربِّهِ قلْ هل يستوي الَّذين يعلمونَ والَّذين لا يعلمونَ إنَّما يَتَذكَّرُ أولوا الألباب} (39 الزمر آية 9).
وجَعَلَ العلم وزيادة المعرفة سبباً من أسباب زرع مخافة الله وخشيته في النفوس، فقال تعالى: {ألم تَرَ أنَّ الله أنزلَ من السَّماء ماءً فأخرجنا به ثمراتٍ مُخْتلفاً ألوانُها ومن الجبالِ جُدَدٌ بيضٌ وحمرٌ مختلفٌ ألوانُها وغرابيبُ سُودٌ * ومن النَّاسِ والدَّوابِّ والأنعامِ مُختلفٌ ألوانُهُ كذلك إنَّما يَخشى الله من عبادهِ العلماءُ إنَّ الله عزيزٌ غفور} (35 فاطر آية 27ـ28). (الجُدَدُ: هي الطرق المختلفة الألوان، والغرابيب: هي صخور متناهية السَّواد كالغربان)؛ فقد لفت الله الأنظار إلى عظمته في إنزال المطر من السماء، وكيف جعله سبباً لنموِّ النباتات والأشجار، وما تجود به من ثمار، وكيف خلق من الجبال صخوراً بيضاءَ وحمراءَ مختلفة الألوان، وسوداءَ قاتمة السَّواد، وخلق من الناس أجناساً، ومن الدوابِّ والأنعام أصنافاً، ثمَّ أَتْبع ذلك بقوله: إنما يخشـى الله مِنْ عِبـَادِهِ العلمـاءُ، أي الَّذين اطَّلعـوا ـ دراســة وتمحيصاً ـ على بديع خلقه ودقيق صنعه، أحقُّ وأحرى من غيرهم، بأن تنغرس في نفوسهم خشيةُ الله، وتملأ قلوبهم محبَّة الله ومهابته سبحانه.
فانظر كيف يوازن كتاب الله تعالى بين من يعلمون ومن لا يعلمون، ويصرِّح بأنه لا وجه للمقارنة بينهم، فهم لا يستوون مع بعضهم لا في الدنيا ولا في الدار الآخرة، ففي الدنيا؛ هم أهل الحَلِّ والعقد، وهم أصحاب الرأي والمشورة والدعوة إلى الحقِّ، والوقوف في وجه الجهل والجاهلية والخرافات والأوهام، وفي الدار الآخرة؛ لهم الدرجات العالية في أعلى الجنان.
ولقد كثرت آيات القرآن الكريم الَّتي توقظ العقل وجميع الحواسِّ والمشاعر، كي تتفتَّح وتعمل، ومن ثمَّ تتوصَّل إلى معرفة الله سبحانه، فلا يكاد القرآن الكريم يذكر بديع صنع الله، ولا يسرد جانباً من عظمة الكون، ودِقَّة صنعه وشدَّة إحكامه، وخضوعه لنظام عامٍّ يحكمه، لا يذكر القرآن شيئاً من ذلك وما أشبهه، إلا وَيُتْبِعُ هذا الذكر بقوله تعالى: {أفلا تذكَّرون} {أفلا تعقلون} {أفلا تبصرون} {أفلا تتفكَّرون} وأمثال هذه التعابير، الَّتي تُعتَبر يداً رحيمة لطيفة ناعمة، تلامس أحاسيس الإنسان النائم أو السادر عنها، لأن يستيقظ ويرى آثار صنع الله وإبداعه، وكلُّ ذلك دعوة إلى العلم والتعلُّم والمعرفة، ونبذ للأوهام والأضاليل، ففي قوله تعالى: {وفي الأرضِ آياتٌ للموقنين * وفي أنفسِكم أفلا تُبْصرون} (51 الذاريات آية 20ـ21) دعوة صريحة إلى دراسةِ بديعِ صنعِ الله في الأرض، وفي جسم الإنسان ووظائف أعضائه، وفي قوله تعالى: {قلِ انظروا ماذا في السَّمواتِ والأرض..} (10 يونس آية 101) دعوةٌ إلى دراسة ماذا في السموات وماذا في الأرض، وهناك آيات وآيات في كتاب الله، منها ما يدعو إلى النظر إجمالاً كما في الآيات السابقة، ومنها ما يدعو إلى البحث والدراسة والتمحيص تفصيلاً، كما في قوله تعالى: {أفلا يَنظرونَ إلى الإبلِ كيف خُلقت * وإلى السَّماءِ كيف رُفعت * وإلى الجبالِ كيف نُصبت * وإلى الأرضِ كيف سُطحت * فَذَكِّر إنَّما أنت مُذَكِّر * لستَ عليهم بمُسَيْطر} (88 الغاشية آية 17ـ22). وقد أمرنا الله في هذه الآيات أن ننظر أوَّلا إلى الإبل، ثمَّ أتبعها بالسماء وهي مرتفعة كارتفاع هَامَةِ الإبل، ثمَّ أتبعها بالجبال الَّتي يشابه منظرها منظر سنام الإبل وتكوير ظهرها، ثمَّ ختمها بالأرض كيف سطحت، كما هي خفُّ الإبل مسطحة.
إنَّ ما ذُكِر ما هو إلا جزء يسير ممَّا حواه كتاب الله تعالى، من دعوة إلى العلم والمعرفة، ونبذٍ للجهل والتخلُّف، ولم يقف الأمر عند هذا الحدِّ، فلم تكن هذه الدَّعوة الإلهيَّة صرخةً في واد ولا نفخاً في الرماد، إنَّما أثمرت وآتت أُكُلَها في رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصَّةً، وفي المسلمين عامَّة؛ فها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغِّب في العلم، ويدعو إليه، ويعتبر طلب العلم فريضة على كلِّ مسلم، ويحذِّر من الجهل والجاهلية، ويَظهَر ذلك في أقواله وأفعاله:
أمَّا الأقوال: فسنسوق طائفة عطرة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع وهي قليل من كثير: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «طلب العلم فريضة على كلِّ مسلم» (رواه ابن ماجه وغيره) وكلمة مسلم اسم جنس تشمل الرجل والمرأة على السَّواء. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من جاءه أجلُه وهو يطلب العلم لقي الله ولم يكن بينه وبين النَّبيين إلا درجة النبوَّة» (رواه الطبراني في الأوسط). وعن واثِلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من طلب علماً فأدركه؛ كتب الله له كِفلين من الأجر، ومن طلب علماً فلم يدركه، كتب الله له كفلاً من الأجر» (رواه الطبراني في الكبير). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سبع يجري للعبد أجرهُنَّ وهو في قبره بعد موته: من علَّم علماً أو كرى نهراً (أي أزال ما به من موانع تمنع جري الماء وتعيقه) أو حفر بئراً أو غرس نخلاً أو بنى مسجداً أو ورَّث مصحفاً أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته» (رواه البزَّار وأبو نُعَيْم في الحُلْيَة).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصدقة أن يتعلَّم المرء المسلم علماً ثمَّ يعلِّمه أخاه المسلم» (رواه ابن ماجه). وعن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «العالم والمتعلِّم شريكان في الخير ولا خير في سائر الناس» (رواه ابن ماجه). وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من علَّم علماً فله أجر مَنْ عمل به لا ينقص من أجر العامل شيء» (رواه ابن ماجه). وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يبعث الله العباد يوم القيامة ثمَّ يميِّز العلماء فيقول: يامعشر العلماء إني لم أضع علمي فيكم لأعذِّبكم، اذهبوا فقد غفرت لكم» (رواه الطبراني في الكبير).
وقد رغَّب النبي صلى الله عليه وسلم بالرحلة إلى طلب العلم، وحضَّ الناس على ذلك، عندما يحتاج طلب العلم إلى الهجرة من الوطن، واللَّحاق بالعلماء، كي يَعُبَّ المسلم من العلوم عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : «منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال» (أخرجه ابن سعد في الطبقات والسيوطي في الدر المنثور). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنَّة» (رواه مسلم وغيره). وعن زِرِّ ابن حُبَيْش قال: أتيت صفوان بن عسَّال المُرَادي رضي الله عنه قال: ما جاء بك؟ قلت أنبُطُ العلم. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضاً بما يصنع» (رواه الترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم). وعن قَبِيصَةَ بن المخارق رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ياقبيصة ما جاء بك؟ قلت: كبرت سِنِّي ورقَّ عظمي، فأتيتك لتعلِّمني ما ينفعني الله تعالى به، فقال: ياقبيصة، ما مررتَ بحجرٍ ولا شجر ولا مدر إلا استغفر لكَ» (رواه الإمام أحمد).
وفي الترغيب في حضور مجالس العلم ومصاحبة العلماء يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا مررتم برياض الجنَّة فارتعوا، قالوا: يارسول الله وما رياض الجنَّة؟ قال: مجالس العلم» (رواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنه). وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن لقمان قال لابنه: يابني، عليك بمجالسة العلماء، واسمع كلام الحكماء؛ فإن الله ليحيي القلب الميِّت بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر» (رواه الطبراني في الكبير).
ولم يكتفِ النبي صلى الله عليه وسلم بجعل المدينة جامعة يأوي إليها طلاب العلم، بل وسَّع هذه الدائرة لتشمل الجبال والوديان والأعراب في باديتهم، فكان بحقٍّ الثائر الأوَّل ضدَّ الجهل والتخلُّف، وإمام النهضة العلمية، في تاريخ البشريَّة جمعاء، وها هو ذا يطلب إلى قبيلة متعلِّمة أن تعلِّم قبيلة جاهلة، ويطلب إلى القبيلة الجاهلة، أن تأوي إلى دور العلم كي تتعلَّم، أو يَلْحَقَ الطرفين عذاب شديد في الدنيا قبل الآخرة، فقد حمَّل العالم مسؤولية التعليم، وحمَّل الجاهل مسؤولية الهجرة إلى المعلِّم، والبحث عنه والأخذ من علومه، إذ أن العلم والتعلُّم والتعليم إجباري في ظلال دين الله الخالد، فعن علقمة بن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن جدِّه قال: «خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأثنى على طوائف من المسلمين خيراً، ثمَّ قال: ما بال أقوام لا يُفقِّهون جيرانهم ولا يُعلِّمونهم ولا يعظونهم، ولا يأمرونهم ولا ينهَوْنهم، وما بال أقوام لا يتعلَّمون من جيرانهم ولا يتفقَّهون ولا يتَّعظون؟ والله ليُعَلِّمَنَّ قوم جيرانهم ويُفقِّهونهم ويعظونهم ويأمرونهم وينهَوْنهم، ولَيَتَعَلَّمَنَّ قوم من جيرانهم ويتفقَّهون ويتَّعظون أو لأعاجلنَّهم العقوبة ثمَّ نزل. فقال قوم: من ترونه عنى بهؤلاء؟ قالوا: الأشعريِّين هم قوم فقهاء، ولهم جيران جفاة من أهل المياه والأعراب؛ فبلغ ذلك الأشعريِّين، فأَتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يارسول الله ذكرت قوماً بخير وذكرتنا بشرٍ فما بالنا؟ فقال: ليُعلِّمنَّ قوم جيرانهم وليعظُنَّهم وليأمُرُنَّهم، وليتعلَّمنَّ قوم من جيرانهم ويتَّعظون ويتفقَّهون، أو لأعاجلنَّهم العقوبة في الدنيا، فقالوا يارسول الله! أنُفَطِّنُ غيرنا؟ فأعاد قوله عليهم فأعادوا قولهم: أنفطِّن غيرنا؟ فقال ذلك أيضاً فقالوا أمهلنا سنة فأمهلهم سنة ليفقِّهوهم ويعلِّموهم ويعظوهم» (رواه الطبراني في الكبير). فأيّ نظام عالمي عاقب الجاهل - أو كاد - على كونه أمِّياً؛ تهاون في تعلُّم القراءة أو الكتابة بل جميع أنواع العلوم والحكمة، سوى الإسلام؟ وأيّ نظامٍ عالمي هدَّد العالِم بالعقوبة؛ إن كتم علمه، فلم ينفع به الناس سوى الإسلام؟
وأمَّا الأفعال: فقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته كلَّها معلِّماً، وداعياً إلى نشر العلم والمعرفة وتعميم ذلك، بعد أن كان العلم في تلك الحقبة من الزمن حِكْراً على أقلِّية محدودة من الأشراف، وكانت أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله أوَّل خطوة على طريق تعميم العلم، وكان شعاره في ذلك: «ليس منِّي إلا عالم أو متعلِّم» (أخرجه ابن النجار والديلمي في الفردوس عن ابن عمر رضي الله عنه ). لقد خطا الرسول صلى الله عليه وسلم بالأُمَّة الخطوة الأولى على هذه الطريق الطويلة، الَّتي اتَّخذت من شعار (العلم للجميع) مبدأً تسير عليه، وغاية تسعى للوصول إليها، فها هو ذا يأمر بتعليم الأطفال القراءة والكتابة، وها هو منذ الأيَّام الأولى لاستقراره في المدينة يأمر ببناء مساجد صغيرة في أحياء المدينة المختلفة، ويضع في كلٍّ منها قارئاً كاتباً، ويأمر الناس ـ كُلَّ الناس ـ أن يرسلوا أولادهم إلى تلك المدارس، الَّتي تعتبر بحقٍّ أوَّل مدارس ابتدائية رسمية عامَّة إلزاميَّة في التاريخ، فهو بحقٍّ صاحب السَّبْق في هذا الميدان، ولم يدع فرصة ولا مناسبة إلا واستغلَّها من أجل تحقيق هذا الهدف السامي والغاية النبيلة، فها هو ذا صلى الله عليه وسلم يأسر سبعين ممَّن عادَوْهُ بعد معركة بدر التي فرضوها عليه، ويفتدي الأسرى أنفُسَهم بدفع مبلغ من المال، لكن الَّذين يحسنون القراءة والكتابة، كان فداؤهم أن يعلِّم كلُّ واحد منهم، عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة، فقد آثر التعليم على إجبارهم على دفع المال، مع شدَّة الحاجة إلى المال في ذلك الوقت، لأن التعليم يحقِّق جزءاً من الغاية الَّتي أُرْسِلَ من أجلها.
لقد كان من آثار هذا الموقف النبوي من العلم والمعرفة، أن نبغ أصحابه الكرام حتَّى وُصِفُوا بهذا الوصف؛ حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء. ولنأخذ نموذجاً من العلم النبوي الَّذي ظهر على لسان أحد صحابته الكرام، معاذ بن جبل رضي الله عنه ، قال: (تعلَّموا العلم، فإن تعلُّمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قُرْبَة؛ لأنه معالم الحلال والحرام، ومنارُ سُبُل أهل الجنَّة، وهو الأنيس في الوحشة، والصَّاحب في الغُربة، والمحدِّث في الخلوة، والدليل على السرَّاء والضرَّاء، والسلاح على الأعداء، والزَّيْن عند الأَخِلاَّء، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة تُقتَصُّ آثارهم، ويُقْتَدَى بفعالهم ويُنتهى إلى رأيهم، ترغب الملائكة في خَلَّتهم، وبأجنحتها تمسحهم، ويستغفر لهم كلُّ رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامُّهُ، وسباع البرِّ وأنعامه، لأن العلم حياة القلوب من الجهل ومصابيح الأبصار من الظُّلَم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار، والدَّرجات العُلى في الدنيا والآخرة، التفكُّرُ فيه يعدل الصِّيام، ومدارسته تعدل القيام، وهو إمام العمل والعمل تابعه، يُلهَمُهُ السُّعداء ويُحْرَمُهُ الأشقياء) (رواه ابن عبد البر النمري).
لقد قام صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنشر رسالة العلم في ربوع الأرض كلِّها، وتتلمذ على أيديهم طائفة من خيار الناس، وانطلاقاً من هذا الهدي القرآني النبوي، راح المسلمون الأُول يتسابقون في مجالات العلم وميادينه المختلفة، فترجموا كتب الحضارة الإنسانية الَّتي سبقتهم واستفادوا من علومها وملكوا زمام المبادرة فيها، فكانوا أمناء على الحضارة الإنسانية، فقد حفظوها من الضَّياع، ولم يقفوا عند هذا الحد، بل أضافوا حقائق جديدة وعلوماً جديدة إلى ما ورثوه عَمَّنْ سبقهم، ولقد لمع في تاريخ الحضارة الإنسانية مئات الأسماء، كلُّهم يُعَدُّ من أساطين العلم في تاريخ البشرية؛ من أمثال الغزالي، وابن رشد، والفارابي، والحسن بن الهيثم، وابن خلدون، والخوارزمي، وابن سينا، وابن نفيس وغيرهم من علماء الطِّب والعلوم والفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع والرياضيات والفلك وغيرها من العلوم.
إن آثار هؤلاء العظماء التاريخيين الَّذين لم يكونوا ليصلوا إلى ما وصلوا إليه، إلا بفضل الدافع الإسلامي القويِّ على العلم والبحث العلمي، الَّذي حملهم على بذل أعمارهم سعياً وراء الحقيقة العلمية، وبعد أن وصلوا إليها حفظوها في مخطوطاتهم النفيسة، الَّتي تُعَدُّ الآن من كنوز المكتبات العالمية من عربية وأجنبية. إن نظرة واحدة إلى ما تحويه مكتبات واشنطن ونيويورك ولندن وباريز وبرلين والقاهرة ودمشق وغيرها من عواصم العالم، ترينا الثروة العلميَّة العملاقة الَّتي حوتها هذه المؤلَّفات، كلُّ ذلك انطلاقاً من موقف القرآن الكريم، وموقف رسول الإنسانية محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام، من العلم والتعليم والمعرفة الإنسانية.
ولابدَّ من وقفة صريحة أمام الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الَّتي تتحدَّث عن العلم والعلماء.. فالمتحدِّث عن علوم الشريعة يستشهد بهذه الآيات والأحاديث.. والمتحدِّث عن العلوم الحياتيِّة يستشهد بهذه الآيات والأحاديث نفسها.. ومن هنا استطاع المغرضون أن ينسلُّوا إلى عقول بعض الناس، ليؤكِّدوا لهم بأن المقصود من جميع هذه الشواهد القرآنية والنبويَّة هو الدعوة إلى تحصيل العلوم الشرعيَّة فقط. ودليلهم على هذا الزعم هو تخلُّف المسلمين عن الحضارة الأوربية الَّتي ارتقت بسبب الثورة الصناعية الَّتي قام بها الأوربيون والمبنيَّة على العلوم التَّجريبيَّة، متَّهمين الاسـلام بأنه وقف حائلاً أمام مثل هذه الثورة، داعين المسلمين إلى اعتماد مبدأ العلمانيَّة الَّذي يعني تحييد دور الدِّين، أسوة بما فعله المسيحيون في البلدان الأوروبية، إبَّان ثورتهم على هيمنة الكنيسة وإعاقتها للتقدُّم العلمي في تلك البلدان، قبل عصر النهضة العلمية؛ وبالتالي على المسلمين التخلِّي عن الإسلام بدورهم، ليتمكَّنوا من اللحاق بركب الحضارة، دون الإشارة إلى أن الإسلام أو أيّاً من دعاته لم يقم بالدور السلبي نفسه الَّذي قامت به الكنيسة في أوربا، ضد التقدُّم العلمي للبشرية، بل كانت دعوة الإسلام إلى العلم دعوة واضحة وقويَّة، بلغت في بعض الأحاديث الشريفة مرتَّبة الفرض، كما يُستدلُّ من قوله صلى الله عليه وسلم «طلبُ العلم فريضةٌ على كلِّ مسلم» (رواه ابن ماجه وغيره)...
وواقع الأمر أن معظم مفكِّري الحضارة الأوربية، يخشـون على بلادهم من الإسلام، لأنهم يعرفون بأنه دين مفجِّر لجميع طاقات العقل والروح، وإلى أقصى الحدود.. بحيث سيعود بالمسلمين إلى دور الريادة كما كانوا، وبما كانوه سابقا، أي السبب في استيقاظ أوربة من سباتها العميق؛ الَّذي دفعتها الكنيسة إلى أحضانه.... وهذه بعض الشواهد الَّتي حفَّزت المسلمين الأوائل لسلوك المنهج العلمي، وتتبُّع طرائقه:
يقول سبحانه وتعالى في سورة فاطر: {أَلَمْ تَرَ أنَّ الله أَنزلَ منَ السماءِ ماءً }، إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِن عبادهِ العلماءُ} (آية 27ـ28)... نجد أن المقصود هم علماء الطبيعة والحياة، بشكل خاص...
وفي قوله سبحانه وتعالى في سورة الذاريات: {وفي الأرضِ آياتٌ للمُوقِنين} (آية 20) نجدها دعوة لتقصِّي علوم طبقات الأرض (الجيولوجيا).. ثمَّ يتبع تعالى ذلك بقوله: {وفي أنفسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُون} (آية 22) لتكون دعوة للاستزادة والتوسع في علوم الطبِّ والتشريح؛ بل وفي علم النفس أيضا.
وفي قوله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: {إنَّ في خَلْقِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الليلِ والنهار لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَاب} (آية 190)، وكذلك في قوله تعالى في سورة يونس: {هوَ الَّذي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِـنِينَ وَالحِسَاب مَا خَلَقَ الله ذلكَ إِلاَّ بِالحقِّ يُفصِّلُ الأياتِ لِقَومٍ يَعْلَمُون} (آية 5)، نجد في كلُّ ذلك نداء لعلماء الفلك؛ للمضيِّ قُدُماً في متابعة هذا العلم...
فإذا عُدْنا إلى قوله عزَّ وجل في سورة فاطر: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِن عبادهِ العلماءُ}، لتأكَّد لنا أن هؤلاء العلماء، هم علماء الشؤون الكونية والحياتية بالدرجة الأولى؛ لأنهم كلَّما بحثوا ودقَّقوا في خلق الله، تبيَّن لهم دقَّة صنعه وإعجازه عزَّ وجل... ممَّا يثير في قلوبهم نوازع الخوف والرهبة، من عظمة الخالق فيما خلق.
إن مفاتيح العلوم الحياتيَّة هي العقل والتفكُّر والبصر والتدبُّر، وهي الأدوات الَّتي على المسلم أن يستعلمها من المهد إلى اللحد، مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا أتى عليَّ يومٌ لا أزداد فيه علماً يُقرِّبني إلى الله تعالى فلا بُورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم» (رواه ابن عدي والطبراني وأبو نعيم عن عائشة رضي الله عنها). هذه العلوم الَّتي كلَّما اسـتزدت منها، كلَّما أعطتك المزيد عنها، وقد تنتهي أجيال دون أن ينتهوا من البحث فيها، حيث يأتي من بعدهم ورثة يتابعون البحث والاستقصاء ؛ وكأنِّي بهم وقد عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : «من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام، فبينه وبين النبيين درجة واحدة في الجنَّة» (رواه الدارمي عن الحسن رضي الله عنه ). فبالله عليك؛ أيُّ علم نحيي به الإسلام، ونعطي الحماية للإسلام، وبه نعطي القوَّة للمسلمين سوى علوم الحياة المادية... وقد أكَّد هذه المقولة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «لا فقر أشدَّ من الجهل، ولا غنى أعودَ من العقل، ولا عبادةَ كالتفكُّر» (ورد في كنز العمال برقم 44135، عن أبي بكر بن كامل في معجمه، وابن النجار، مرويا عن الحارث بن علي). والجهل بالعلوم الحياتية هو الَّذي يوصل إلى الفقر طبعا، لأنها ـ أي العلوم الحياتية ـ سبب تكسُّب الإنسان وغناه، ولأنَّ العلوم الفقهية والتعبُّديَّة، ما كانت يوماً سبباً أو وسيلة للغنى المادي. وهذا ما نستخلصه من قول الله عزَّ وجل: {يرفع الله الَّذين آمنوا منكم والَّذين أوتوا العلم درجات} (58 المجادلة آية 11)، فالَّذين آمنوا هم على درجات وهذا من المنظور الشرعي، والَّذين أوتوا العلم هم أيضاً على درجات، وهم المعنيُّون بعلوم الكائنات والحياة ومختلف العلوم الأخرى.. علماً بأن جميع العلماء الَّذين سبق وعدَّدنا أسماءهم، جمعوا المجد من طرفيه؛ حيث كانوا فقهاءَ في الشريعة، علماءَ في الحياة، وحُقَّ لهم وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم : «العلماءُ مصابيحُ الأرضِ وخلفاءُ الأنبياءِ وورثتي وورثةُ الأنبياء» (رواه أبو يعلى عن علي كرَّم الله وجهه).
سورة
الرحمن(55)
قال
الله تعالى: {يامعشرَ
الجنِّ والإنسِ إن استَطَعْتُم أن
تنْفُذوا من أقطارِ السَّمواتِ
والأرضِ فانْفُذوا لا تنفُذون إلاَّ
بسلطانٍ(33)}ومضات:
ـ القرآن الكريم، وهو خاتم الكتب السماوية، يترك آفاق العلم مفتوحة أمام العقل البشري، وكأنَّه يحثُّنا على التفكير بإمكانيَّة الصُّعود إلى أرجاء السَّماء، ولكن ضمن إمكانيَّات معيَّنة، لا بُدَّ من معرفتها للوصول إلى هذا الهدف.
في رحاب الآيات:
دأبَ بعض المفسِّرين في تفسير هذه الآية، على أنها أمر تعجيزي من الله عزَّ وجل، لمعشر الجنِّ والإنس على السَّواء، وإنذار لهم بأنهم لن يستطيعوا يوم القيامة، أن يخرجوا من جوانب السموات والأرض، هرباً من الحساب لأنه محيط بهم. إن تفسيرهم هذا مبني على ما توفَّر بين أيديهم من العلم والمعرفة آنذاك، إلا أن بعضهم الآخر ومنهم ابن عباس رضي الله عنه خرج عن قراءة السطور إلى تبيُّن ما وراءها فقال: معنى الآية هو: (إن استطعتم أن تعلموا ما في السَّموات وما في الأرض فاعلموه ولن تعلموه إلا بسلطان) ويتَّضح من هذا التفسير أن الإنسان يستطيع، إذا تسلَّح بسلطان العقل، والجهد المثمر والعمل الدؤوب، أن يصل إلى الذُّرى من العلم، ويحلَّ جزءاً من الرموز الَّتي أقام الله تعالى النُّظم الكونيَّة على أساسها، بإبداع وإعجاز بالغين. والحقيقة أن الله تعالى لم يقل بأننا لن نستطيع أن ننفذ بأي شكل من الأشكال، وما كان لأحد في عصرِ نزول القرآن، أن يتحدَّى مثل هذه المقولة، أو يتخيَّل إمكانيَّة حدوثها، إلا أنه جلَّ وعلا استعمل أسلوب الشرط {إنِ استَطَعْتُم} إيحاءً بأنه إذا تحقَّق الشرط، فإن هذا أمر جائز الحدوث، ولكن ضمن حدود طاقات الإنسان وقدراته.
وقد قدَّم الله تعالى الجِنَّ على الإنس في الخطاب، لأن الإنسان ظاهر العجز عن الطيران، بقواه الذاتية، فهو غير مهيَّأ للطيران، بينما الجنُّ يطيرون في الفضاء، ويتمتَّعون بقوى خارقة. وفي هذا التقديم تنبيه لهم أوَّلاً أنهم معنيُّون بالأمر قبل غيرهم، وثانياً أن قدراتهم وقواهم مقيَّدة بإرادة الله تعالى وقدرته، فهم لا يستطيعون عنها حِوَلاً، ولو أراد الله أن يمنعهم فإن أمره نافذ لا محالة. أمَّا الإنسان فإن له شأناً آخر، فهذه الآية تثير تساؤله وتفكيره في أمر لم يكن يخطر له على بال، بل وكان يُعَدُّ ضرباً من ضروب الخيال. ويفتح القرآن الكريم بذلك ـ وهو خاتم الكتب السماوية ـ آفاق المستقبل أمامه بحضِّه على الأخذ بالعلم، وهو يطرح إمكانيَّة الصعود إلى أرجاء السماء في قوله {فانفذوا}، لكنه يقيِّد ذلك بالحصول على إمكانات معيَّنة سمَّاها بالسُّلطان، ويترك للإنسان أمر البحث عنها ومعرفتها، من أجل تحقيق هذا الهدف. وبالفعل فإننا نرى الإنسان، وبِمَلكةِ العقل والتفكير الَّتي وهبه الله إيَّاها، وفضَّله بها على غيره، يبحث بِجِدِّيَّةٍ وتصميم عن السلطان، الَّذي يكون له أداة ووسيلة، يخترق بها حجب الفضاء، ويتعرَّف بواسطتها المزيدَ ممَّا خلق الله تعالى، ملبِّياً لندائه عزَّ وجل في قوله: {قلْ انظروا ماذا في السَّمواتِ والأرضِ..} (10 يونس آية 101). ولا تقتصر الدعوة في هذه الآية على استعمال العين، بل تتعدَّاها إلى البحث والتجربة والاكتشاف، لأنه لا يمكن للعين المجرَّدة أن تحيط ببصرها بسماء واحدة فما بالنا بسموات متعدِّدة. والغاية من هذه الدعوة الإلهيَّة، استثارة هِمَّة الإنسان واستنهاض عزيمته، ليرى ما خلق الله ويتفكَّر به تفكُّر التَّدبُّر والإمعان، ومن ثمَّ الإذعان عن رضا لمن بيده مقاليد السموات والأرض، بعد أن يرى بعينيه تناسق هذا الكون وروعته وكماله، ممَّا لا يدع مجالاً للشَّك في أنَّ لهذا الكون، المتناهي في الدِّقة، مبدعاً عظيم الخلق والإبداع، ومن ثمَّ ليستفيد من ذلك كلِّه في تقدُّمه ورقيِّه الحضاري.
إن أمَّة تؤمن بمثل هذا الكتاب وما فيه من توجيهات وتعاليم، جديرة بأن تملأ طباق الأرض علوماً، وهذا ما بدأه المسلمون الأُوَل، فقد أصبحوا بفضل هذا الدِّين وما يدعو إليه؛ غُرَّةً في جبين الدهر، ولكن ومع بالغ الأسف، مرَّ على المسلمين حينٌ من الدهر، اكتفَوْا فيه من القرآن الكريم بالتلاوة، من أجل الثواب والبركة، وغفلوا عما فيه من حثٍّ دائم على الأخذ بأسباب العلم والتصنيع والبناء. فأدركوا إسلام الآخرة وفاتهم إسلام الدنيا، مع أن المسلم مأمور أن يدعو ربَّه قائلاً: {..ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (2 البقرة آية 201) ونجده قدَّم إسلام الدنيا على إسلام الآخرة، حثّاً عليه وتنبيهاً إلى عدم تضييعه، وفي الوقت نفسه أدرك الأوربيون ذلك عندما جاؤوا إلى مدارس الحضارة الإسلامية، في العصور الوسطى متعلِّمين، وبدؤوا بتطبيق ما تعلَّموه فيها، بينما انصرف المسلمون إلى التَّناحُر والتَّباغُض، وانزلقوا في تُرَّهات الجهل والظلام، وراحوا في سبات عميق امتدَّ بهم عدَّة قرون. ولا يخفى أن استخلاف الله عزَّ وجل الإنسان على هذه الأرض، قائم على العلم، منذ أن علَّم آدم الأسماء كلَّها، وهذا أساس دعوة الإسلام الَّتي رعت عصارة الفكر البشري، وحضاراته المتعاقبة، منذ وُجد على هذه الأرض، وأعطته الفرصة لكي يتطوَّر بمرور الزمن. وهكذا فإن على الإنسان ألا يدَّخِر جهداً في مواصلة مسيرته العلمية، لمعرفة واستكشاف ما خلق الله له وسخَّره من أجله، لتتهيَّأ له فرص الاستفادة منه، وليُثبت جدارته بهذا العقل الَّذي من أولويَّات مهامِّه، التعلُّم والتعليم، ليُسهم في بناء الصرح الأخلاقي والحضاري، قال تعالى: {ألم تَرَوْا أنَّ الله سَخَّرَ لكم ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ وأسْبَغَ عليكم نِعَمَهُ ظاهِرَةً وباطنَةً ومن النَّاسِ من يُجادِلُ في الله بغيرِ علْمٍ ولا هدىً ولا كتابٍ مُنير} (31 لقمان آية 20).
سورة
السجدة(32)
قال
الله تعالى: {الله الَّذي
خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ وما
بينَهُما في ستَّةِ أيَّامٍ ثمَّ
استوى على العرشِ ما لكم من دونِه من
وليٍّ ولا شفيعٍ أفلا تَتَذكَّرون(4)
يُدبِّرُ الأمرَ من السَّماءِ إلى
الأرضِ ثمَّ يَعْرُجُ إليه في يومٍ
كان مقدارُهُ ألفَ سنةٍ ممَّا
تَعُدُّون(5)}
سورة
المعارج(70)
وقال
أيضاً: {تعْرُجُ
الملائكَةُ والرُّوحُ إليه في يومٍ
كان مقدارُهُ خمسينَ ألف سنة(4)}ومضات:
ـ من العبث بمكان أن نلجأ إلى قياس أبعاد هذا الكون بأرجائه الفسيحة بالوحدات القياسية المعهودة الَّتي تقاس بها أبعاد الكرة الأرضية، لذلك لجأ العلماء إلى ابتكار وحدة قياسية عملاقة هي السنة الضوئية، لحساب المسافات الكونية بشكل تقريبي، لمساعدة العقل البشري على إدراكها، ومع ذلك فإن مسألة إحصائها وحسابها بشكل دقيق لا تزال في حكم المستحيل لعِظَم هذا الخلق، فتبارك الله تعالى أعظم الخالقين. والسنة الضوئية هي المسافة الَّتي يقطعها الضوء بسرعته الَّتي تبلغ 300.000كم في الثانية، فإذا سار الضوء مدَّة سنة بهذه السرعة فالمسافة الَّتي يقطعها تُعَدُّ سنة ضوئية.
ـ إذا كان العقل البشري لا يزال قاصراً عن الإحاطة بالقياسات الكونية الَّتي تتعلق بالحياة الدنيا، فأنَّى له أن يتصوَّر حقيقة الزمان والمكان في عالم الآخرة، من هنا ينبغي على العقل أن يسلِّم بأن هناك فرقاً شاسعاً بين المقاييس الدنيويَّة والأخرويَّة، وأن هذا الأمر منطقي وطبيعي.
في رحاب الآيات:
إنه الله سبحانه وتعالى خلق كلَّ شيء فأبدع خلقه، وهذه هي بعض آثار أُلوهيَّته ودلائلها، نلمسها في صفحة الكون المنظور، وفي ضمير الغيب المترامي وراء إدراك البشر المحدود، وفي نشأة الإنسان وأطواره الَّتي ذكرها الله في كتابه المبين، والَّتي كشف العلم عن بعضها ومازال يبحث جادّاً للكشف عن المزيد منها!.
وهاهو ذا القرآن الكريم يلفت نظر الإنسان ليدقِّق في معالم الأرض أمامه، ويسعى جاهداً إلى كشف مجاهيل السماء ليتعرَّف من خلالها خالِقَهُ الَّذي أبدع كلَّ شيء، فالله وحده هو خالق السموات والأرض وما بينهما، وله وحده هذا الملكوت الهائل العظيم، الَّذي يقف الإنسان مبهوراً مدهوشاً أمام صنعته الجميلة، المنسَّقة الدقيقة التنظيم، والَّذي لا يرى فيه البصر ولا الحِسُّ ولا القلب موضعاً للنقص أو التناقض، ولا يذهب التكرار والأُلفة بجاذبيَّته المتجدِّدة العجيبة، ثمَّ هذه الخلائق المتعدِّدة الأنواع والأجناس، الخاضعة كلُّها لناموس واحد، المنسجمة كلُّها في نبض واحد، المتَّجهة كلُّها إلى مصدر واحد، تتلقَّى منه التوجيه والتدبير، وتتَّجه إليه بالطاعة والتسليم. لقد خلق الله هذه العوالم جميعها في ستة أيام، وهذه الأيام ليست من أيام الأرض الَّتي نعرفها، فأيام الأرض مقياس زمني ناشئ من دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس، وهو مقياس يصلح لنا نحن أبناء هذه الأرض الصغيرة الضئيلة. وقد كشف العلم النِّقاب عن نجوم تستغرق دورتها حول نفسها ما يعادل يومنا هذا آلاف المرات، وهذه الحقيقة تقرِّب إلى الذِّهن اختلاف المقاييس بين يوم الأرض ويوم السماء. وهكذا فإنه كلَّما تقدَّمت علوم الفضاء كلَّما ازدادت مصداقيَّة القرآن الكريم ظهوراً وتحقَّق إعجازه العلمي.
أمَّا حقيقة هذه الأيام الستة فعلمها عند الله، وهي من أيامه الَّتي يقول عنها: {..وإنَّ يوماً عند ربِّكَ كألفِ سنةٍ ممَّا تَعُدُّون} (22 الحج آية 47) فقد تكون ستة أطوار، مرَّت بها السموات والأرض وما بينهما، حتَّى انتهت إلى ما هي عليه، أو ستة مراحل في النشأة والتكوين، وهي على أيِّ حال شيء آخر غير الأيام الأرضية، والقصد من هذا التعبير الدلالة على التأنِّي في الأمور، تعليماً لنا وإرشاداً.
وبعد الخلق وتدبير الأمر استوى ربُّ العزَّة على عرشه استواءً يليق بجلاله من غير تشبيه ولا مُماثلة. والاستواء على العرش يؤكد استعلاءه على مخلوقاته كلِّهم، وتمكُّنه منهم، وقدرته عليهم، أمَّا العرش فلا سبيل إلى تصوُّره، ولا طائل من الوقوف عند لفظه، فهو من علم الله وحده ولا سبيل إلى معرفته، وفي ظلال هذا الاستعلاء المطلق، يستشعر الإنسان عظمة الخالق وضآلة المخلوق، وقوَّة الخالق وضعف المخلوق. وفي ظلِّ هذا الضعف البشري، والجلال الإلهي، لا يعقل أن يتَّخذ الإنسان العاقل وليّاً غير الله؛ يشمله برحمته وعنايته في أمور دنياه، ويغفر ذنوبه ويشفع له في مواقف الآخرة.
إن تذكُّر هذه الحقيقة من شأنه أن يَرُدَّ القلب إلى الإقرار بعظمة الله وقدرته على التدبير؛ وهل غير الخالق يستطيع أن يدَبِّر أمور خلقه؟ وتدبير الأمر هو النظر في عاقبته ليجيء محمود النتيجة، كاملاً، متوازناً. والله هو الَّذي يدبِّر الأمر من السماء إلى الأرض، ثمَّ يعرج إليه الرُّوح والملائكة في يومٍ يقول الله تعالى عنه: {تعْرُجُ الملائكَةُ والرُّوحُ إليه في يومٍ كان مقدارُهُ خمسينَ ألف سنة} حيث يصعد فيه الملائكة وجبريل عليهم السَّلام إلى مواضع لا يصل إليها الإنسان، إلا بقدرة الله سبحانه، والمراد من ذكر الخمسين ألف، شدُّ العقل والتفكير إلى قانون الأعداد الكبيرة، والإيحاء بعظمة المقام الإلهي الأقدس، والكناية عن شِدَّة سُمُوِّه ورفعته.
إن صعود الملائكة في هذا اليوم والمهامَّ الموكولة إليهم، لا ندري من أمرها شيئاً، وحسبنا أن نشعر من خلال هذا المشهد بأهميَّة يوم القيامة وغيره من أيام الله، فقد أخرج أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم كان مقداره خمسين ألف سنة: ما أطول هذا اليوم! فقال: والَّذي نفسي بيده إنه ليُخَفَّف على المؤمن حتَّى يكون أهون عليه من صلاة مكتوبة يصلِّيها في الدنيا».
Tilaa:
Blogitekstit (Atom)