sunnuntai 23. elokuuta 2015
ثم تكلم الشيخ على ردّ الاستدلال به، وأطال الكلام، ثم ذكر كلام ربيعة من رواية محمد بن الحسن بن زبالة، وهو مضعف عند أهل الحديث، ثم منع الاستدلال به، وتكلم بكلام حسن، وذكر أنه روى عن أنس ما يخالف روايته عن ربيعة، ثم ذكر حديث عطاء بن يسار الذي في الموطأ أن رسول الله قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". فهذه الآثار إذا ضمت إلى ما قدمناه من الآثار علم كيف كان حال السلف في هذا الباب وإن ما عليه كثير من الخلف مما حدث كان من المنكرات عندهم.
ولا يدخل في هذا الباب ما يروى: أن قومًا سمعوا ردّ السلام من قبر النبي أو قبور غيره، وأن سعيد بن المسيب كان يسمع الأذان من القبر ليالي الحرة، ونحو ذلك؛ فهذا كله حق ليس مما نحن فيه. والأمر أجل من ذلك وأعظم. وكذلك أيضا ما يروى: "أن رجلًا جاء إلى قبر النبي فشكى إليه الجدب عام الرمادة فرآه في النوم وهو يأمره أن يأتي عمر فيأمره أن يخرج ويستسقي بالناس" فإن هذا ليس من هذا الباب، ومثل هذا يقع كثيرًا لمن هو دون النبي ، وأعرف من هذا وقائع. وكذلك سؤال بعضهم للنبي أو لغيره من أمته حاجته فتقضى لهم؛ فإن هذا قد وقع كثيرًا وليس هو مما نحن فيه.
وعليك أن تعلم أن إجابة النبي وغيره لهؤلاء السائلين ليس مما يدل على استحباب السؤال، فإنه هو القائل : "إن أحدكم ليسألني المسألة فأعطيه إياها فيخرج بها يتأبطها نارًا، فقالوا: يا رسول الله فلم تعطهم؟ قال: يأبون إلا أن يسألوني، ويأبى الله لي البخل". وأكثر هؤلاء السائلين الملحين لما هم فيه من الحال لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم، كما أن السائلين له في الحياة كانوا كذلك، وفيهم من أجيب وأمر بالخروج من المدينة. فهذا القدر إذا وقع يكون كرامة لصاحب القبر، أما أنه يدل على حسن حال السائل فلا فرق بين هذا وهذا. فإن الخلق لم ينهوا عن الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد استهانة بأهلها، بل لما يخاف عليهم من الفتنة، وإنما تكون الفتنة إذا انعقد سببها فلولا أنه قد يحصل عند القبور ما يخاف الافتتان به لما نهي الناس عن ذلك، وكذلك ما يذكر من الكرامات وخوارق العادات التي توجد عند قبور الأنبياء والصالحين، مثل: نزول الأنوار والملائكة عندها وتوقي الشياطين والبهائم لها واندفاع النار عنها وعمن جاءها وشفاعة بعضهم في جيرانه من الموتى واستحباب الاندفان عند بعضهم وحصول الأنس والسكينة عندها، ونزول العذاب بمن استهان بها؛ فجنس هذا حق ليس مما نحن فيه. وما في قبور الأنبياء والصالحين من كرامة الله عز وجل ورحمته وما لها عند الله من الحرمة والكرامة فوق ما يتوهمه أكثر الخلق، [7] لكن ليس هذا موضع تفصيل ذلك.
وكل هذا لا يقتضي استحباب الصلاة أو قصد الدعاء والنسك عندها لما في قصد العبادات عندها من المفاسد التي علمها الشارع كما تقدم. فذكرت هذه الأمور لأنها مما يتوهم معارضته لما قدمنا وليس كذلك.
ثم أطال الكلام في مسألة تحري الدعاء عند القبور - والغرض هنا بيان وجه سياقه وإيراده لما نقله العراقي.
فأما نقله الأول عن هذا الكتاب فإنه أسقط منه قول الشيخ: "فإن هذا ليس من هذا الباب" فترك هذه الجملة التي فيها إخراج هذا ونحوه عن باب الاحتجاج به، على فضل الدعاء واستجابته عند القبور، ولذلك قال: "مثل ذلك يقع كثيرًا لمن هو دون النبي يعني فلا يحتج به". وقد قدم الشيخ قبل هذا أن استجابة الدعاء قد تقع عند الأوثان وفي الكنائس. وتكلم في تعدد أسباب ذلك وأسباب الكائنات.
وقول الشيخ: "وكذلك سؤال بعضهم للنبي حاجة أو غيره من الله، فتقضى ولكن عليك أن تعلم أن إجابة النبي أو غيره من أمته لهؤلاء السائلين الملحين" إلى آخر العبارة، ليس فيه ما زعمه العراقي من استحباب دعائها والاستغاثة بأربابها، والسياق في منع دعاء الله عندها فكيف بدعائها. ولذلك قال الشيخ: "فإن ذلك ليس من هذا الباب" ولا قال أحد ممن يعتد به هذا القول الذي زعمه هذا المفتري إلا عباد القبور وأمثالهم من أهل الجهالة بدين الله، ولم يثبت الشيخ قضاء الحوائج من أهل القبور كما زعمه هذا الملحد؛ فإن إضافة الإجابة للنبي أو غيره لا تقتضي الفاعلية، وأنه هو الذي أجاب دعاءهم وأعطاهم. والإضافة تقع ولو لأدنى ملابسة، كيف وقد قال تعالى: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } وليس هذا من جنس الأسباب العادية بل هو من خوارق العادات، وقد مرّ أن الله هو الفاعل لذلك، وأنه تعالى يخرق العادة لأسباب متعددة ومصالح متنوعة، وقد تقدم قوله: وأما اعتقاد تأثير الأدعية المحرمة، فعامته إنما تجد اعتقاده عند أهل الجهل الذين لا يميزون بين الدليل وغيره ولا يفهمون ما يشترط للدليل من الاطراد. وإنما تنفق في أهل الظلمات من الكفار والمنافقين أو ذوي الكبائر الذين أظلمت قلوبهم بالمعاصي، حتى لا يميزون بين الحق والباطل - فعمي العراقي عن هذا كله، وانتزع هذا الكلام المسوق لرده وبطلان الاستدلال به، وجعله دليلًا.
وقول العراقي: إن الشيخ أثبت لهم الإيمان، ولم بخرجهم بذلك عن الإسلام ولم يؤثمهم، فهذا جهل منه بمسمى الإيمان، فإن المراد ما معهم من الإيمان بالرسالة ونحوها. لا أن هذا ليس بشرك وأن الإيمان لم ينقض بذلك، ولم يؤثمهم؛ هذا الكلام يرده قوله: "وعليك أن تعلم أن إجابة النبي ليس مما يدل على استحباب السؤال، فإنه هو القائل: "إن أحدهم يسألني المسألة فأعطيه إياها فيخرج يتأبطها نارًا" الحديث، وأما تكفيرهم بمثل هذا فلم يقل به أحد قبل قيام الحجة، وقد نقدم كلام الشيخ محمد في ذلك. وأما بعد قيام الحجة فيختلف الحكم ويجري موجبها ويعمل بمقتضاها. والعراقي جاهل مدلس، وقد عمي عن نحو مائة عبارة أو أكثر في هذا الكتاب بعينه ترد مفهمومه من أن المجيب هو المدعو من دون الله.
وكذلك استدل له في نقله الثاني بما حكى أن بعض المجاورين بالمدينة أتى إلى قبر النبي فاشتهى نوعًا من الأطعمة - إلى آخر الحكاية. فليس في هذا ما يستدل به على دعائه أصلًا، وكونه أعطي ما يطلب لا يدل على دعائه غير الله والاستغاثة بسواه، فإن هذا جهل عظيم بأسباب الكائنات وموجباتها، كما مر عن الشيخ، وقد علم أن هذا ليس من أدلة الجواز والاستحباب، وقد تقدم كلام الشيخ في أنه قد يستجاب لمن سأل المسيح وغيره حتى الأوثان، واطراد الدليل كفر متناقض. وإذا كان يطرد فالاستدلال به باطل لأن الدليل يلزم اطراده، وليس مع هؤلاء إلا التمسك بالمتشابه من غير فقه ونظر في المعنى المراد.
وأما نقله الثالث وهو قوله: "وقد يعمل الرجل العمل الذي يعتقده صالحًا ولا يكون عالمًا أنه منهي عنه" إلى آخر العبارة. فليس في كلام الشيخ ما يتمسك به المبطل؛ لأن قوله: "قد يعمل الرجل" ليس من صيغ العموم، ونحن لا نمنع وقوع ذلك، وأنه يغفر لبعض الناس ما لا يغفر لغيره لعدم علمه، ولكن لا يفيد هذا العموم كما تقدم تقريره.
وأما قول العراقي: وذكر الشيخ هذا بعد حكاية العتبي أنه استغاث بالنبي وقضيت حاجته، فهذا كذب، ما قال الشيخ: إنه استغاث بالنبي ولا قال: قضيت حاجته، وإنما قرّر جهل فاعل ذلك، وأنه مخالف لهدي أصحاب النبي والتابعين لهم بإحسان.
وأما نقله الرابع لقول الشيخ: وقد علمت جماعة ممن سأل المقبورين من الأنبياء والصالحين وقضيت حوائجهم، وهو لا يخرج عما ذكرته: وهذا من جنس ما قبله ظن العراقي أن إثبات الشيخ قضاء الحوائج دليل على جواز الدعاء والسؤال. والشيخ وكثير من أهل العلم يعلمون أن الحوائج قد تقضى لمن يسأل الأنبياء والصالحين والأوثان والنجوم، ولكن لقضائها أسباب لا يحيط بها ويعلم تفاصيلها إلا الله تعالى.
وقد مر قول الشيخ: بل المشركون الذين بعث إليهم رسول الله كانوا يدعون أوثانهم فيستجاب لهم أحيانًا، كما قد يستجاب لهؤلاء أحيانًا، وقال فيما تقدم: وجميع الأمور التي يظن أن لها تأثيرًا في العالم وهي محرمة في الشرع كالتمريخات الفلكية والتوجيهات النفسانية أو الدعاء المحرم والرقى المحرمة والتمريخات الطبيعية ونحو ذلك فإن مضرتها أكثر من منفعتها. والشيخ لم ينف تأثيرها، وعلى طرد دليل هذا العراقي: يباح كل أثر مباح كلما أثر فتباح هذه الأشياء.
وتأمل قول الشيخ فيما مر: "فليس علينا من سبب التأثير أحيانًا، فإن الأسباب التي يخلق الله بها الحوادث في الأرض والسماء لا يحصيها على الحقيقة إلا هو"، وقوله: "والكلام في بيان تأثير بعض هذه الأسباب قد يكون فتنة لمن ضعف عقله ودينه بحيث يختطف عقله بحيث يتألهه، إذا لم يرزق من العلم والإيمان ما يوجب له الهدى واليقين" وقف على قول الشيخ فيما مر: "بل أشد من ذلك، ألست ترى السحر والطلسمات والعين وغير ذلك من المؤثرات في العالم بإذن الله قد يقضى بها كثير من أغراض النفوس، ومع هذا فقد قال سبحانه وتعالى: { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } الآية"، وتأمّل ما مرّ من قوله: "وأما التحريم من جهة الطلب فيكون تارة دعاء لغير الله، مثل ما يفعله السحرة من مخاطبة الكواكب وعبادتها ونحو ذلك، فإنه قد يقضي عقب ذلك أنواع من القضاء إذا لم يعارضه معارض من دعاء أهل الإيمان وعبادتهم وغير ذلك، ولهذا تنفذ هذه الأمور في أزمان فترة الرسل وفي بلاد الكفر والنفاق، ما لا تنفذ في دار الإيمان وزمانه، ومن هذا أني أعرف رجالًا يستغيثون ببعض الأحياء".
فإن هذا الكلام صريح في أن المدعو والمستغاث لا شعور لهم ولا علم عندهم بدعاء من يدعوهم مع الله تعالى، وأن الله هو الفاعل لذلك من غير واسطة. وهذا يشهد له قوله تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ، وَإِذَا حُشِرَ النَاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ }.
والشيخ رحمه الله قصد هذا المعنى، وأن إجابة الله دعاء من يدعو الملائكة والأنبياء والصالحين مع الله لا يستدل به على مشروعية أنه دين قد أذن فيه تعالى، فإن أسباب الحوادث القدرية والقضايا الكونية لا تصلح دليلا على الأحكام الشرعية العملية، قال تعالى: { كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا }، وقال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا } الآية، فأنكر تعالى عليهم الاحتجاج بالمشيئة والقدر على أنه يرضى ما جاءوا به من الشرك واتخاذ الأنداد من دونه.
ولو تتبعنا كلامه في هذا الكتاب في هذه المسائل التي تبطل ما أبداه طاغية العراق لطال حجم الكتاب. وقد ذكر في آخره مباحث مهمة في إسلام الوجه لله وإخلاص الدين له، نحيل طالب العلم عليه.
وله رحمه الله رسالة في هذا المبحث، جواب سؤال ورد عليه، أحببت إيرادها هنا لعظم فائدتها، ولأنّها تأتي على كل ما زعمه الملحد العراقي بالهدم والقلع.
قال السائل: ما يقول السادة العلماء أئمة الدين وعلماء المسلمين رضي الله تعالى عنهم أجمعين: فيمن يزور القبور ويستنجد بالمقبور في مريضٍ له أو في فرسه أو بعيره: يطلب إزالة الألم الذي بهم، ويقول: يا سيدي، أنا في جيرتك، أنا في حسبك، فلان ظلمني، فلان قصد أذيتي، ويقول: إن المقبورين يكونون واسطة بينه وبين الله تعالى؟
وفيمن ينذر للمساجد والزوايا والمشائخ حيهم وميتهم بالدراهم والإبل والغنم والشمع والزيت وغير ذلك، يقول: إن سلم ولدي للشيخ عليّ كذا وكذا، وأمثال ذلك؟
وفيمن يستغيث بشيخه إذا أصابته نائبة أو عثر، أو سمع حسًا خلفه أزعجه، استغاث بشيخه يطلب تثبيت قلبه؟
وفيمن يجىء إلى شيخه ويستلم القبر ويمرغ وجهه عليه، ويمسح القبر بيديه، ويمسح بهما وجهه وجسمه وأمثال ذلك؟
وفيمن يقصد حاجة، فيقول: يا شيخ فلان، ببركتك، ثم يقول: قضيت حاجتى ببركة الله وبركة الشيخ؟ وفيمن يعمل السماع فيجىء إلى القبر ويكتنفه وينحط بين يدى شيخه ساجدًا على الأرض؟
وفيمن قال: إن ثم قطبًا غوثًا جامعًا في الوجود؟ أفتونا مأجورين، وابسطوا القول في ذلك.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، الدين الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه هو عبادة الله وحده لا شريك له، واستعانته، والتوكل عليه، ودعاؤه لجلب المنافع، ودفع المضار، كما قال تعالى: { تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِينَ أَلَا لِلَّهِ الدِينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفي إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ }، وقال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وقال تعالى: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِينَ }، وقال تعالى: { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا - إلى قوله -: مَحْذُورًا }. قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرًا والملائكة، فقال الله تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم عبادي كما أنتم عبادي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، ويتقربون إلي كما تتقربون إلي. فإذا كان هذا حال من يدعو الأنبياء والملائكة فكيف بمن دونهم؟
وقال تعالى: { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا }، وقال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ }. فبين سبحانه أن من دُعى من دون الله من جميع المخلوقات من الملائكة والبشر وغيرهم لا يملك مثقال ذرة في ملكه، وأنه سبحانه ليس له شريك في ملكه، بل هو سبحانه له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير، وأنه ليس له معين يعاونه كما يكون للملك أعوان ولا ظهراء، وأن الشفعاء عنده لا يشفعون إلا لمن ارتضى، فنفي بذلك وجوه الشرك.
وذلك أن من يدعي من دونه، إما أن يكون مالكا، وإما أن يكون شريكا، وإذا لم يكن مالكًا ولا شيركًا فإما أن يكون معاونًا، وإما أن يكون سائلا طالبًا. - والله سبحانه وتعالى أعلم - فالأقسام الأول الثلاثة منتفية، وأما الرابع فلا يكون إلا من بعد إذنه، كما قال تعالى: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ }، وكما قال تعالى: { وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرضي }.
وكما قال تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }، وكما قال تعالى: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ }، وقال تعالى: { وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }، وقال تعالى: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَائِكَةَ وَالنِبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ }. فبين سبحانه أن من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا كان كافرًا، فكيف من اتخذ من دونهم من المشايخ وغيرهم أربابا؟
وتفصيل القول: أن مطلوب العبد إن كان من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله سبحانه؛ مثل أن يطلب شفاء مريضه من الآدميين أو البهائم، أو وفاء دينه من غير جهة معينة، أو عافية أهله، وما به من بلاء الدنيا والآخرة، وانتصاره على عدوه، وهداية قلبه، وغفران ذنبه، أو دخوله الجنة أو نجاته من النار، أو أن يتعلم القرآن والعلم، وأن يصلح قلبه ويحسن خلقه وتزكو نفسه، وأمثال ذلك فهذه الأمور كلها لا يجوز أن تطلب إلا من الله تعالى، ولا يجوز أن يقول لملك ولا نبي ولا شيخ سواء كان حيًا أو ميتًا: اغفر ذنبي، ولا انصرنى على عدوى، ولا اشف مريضي، ولا عافني أو عاف أهلي أو دوابي، وما أشبه ذلك. ومن سأل ذلك مخلوقا كائنًا من كان، فهو مشرك بربه، من جنس المشركين الذين يعبدون الملائكة والأنبياء والتماثيل التي يصورونها على صورهم، ومن جنس دعاء النصارى للمسيح وأمه، قال الله تعالى: { وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ } الآية، وقال تعالى: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }.
وأما ما يقدر عليه العبد فيجوز أن يطلب منه في بعض الأحوال دون بعض؛ فإن مسألة المخلوق قد تكون جائزة، وقد تكون منهيا عنها، قال تعالى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ }، وأوصى النبي طائفة من أصحابه ألا يسألوا الناس شيئا. فكان أحدهم يسقط سوطه من يده فلا يقول لأحد: ناولني إياه. وثبت في الصحيحين أنه قال: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب، وهم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون". والاسترقاء طلب الرقية، وهو من أنواع الدعاء، ومع هذا فقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: "ما من رجل يدعو له أخوه بظهر الغيب دعوة، إلا وكل الله بها ملكا كلما دعا لأخيه دعوة قال الملك: ولك بمثل ذلك".
ومن أسرع الدعاء إجابة دعاء غائب لغائب؛ ولهذا أمر النبي بالصلاة عليه، وطلب الوسيلة له، وأخبرنا بما لنا في ذلك من الأجر إذا دعونا بذلك، فقال في الحديث الصحيح: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإن من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه عشرًا، ثم سلو الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا ينبغى أن تكون إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد. فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة".
ويشرع للمسلم أن يطلب الدعاء ممن هو فوقه وممن هو دونه، فقد روي طلب الدعاء من الأعلى والأدنى؛ لأن النبي ودّع عمر رضي الله عنه إلى العمرة، فقال له: "لا تنسنا من دعائك يا أخي"، لكن النبي لما أمرنا بالصلاة عليه وطلب الوسيلة، وأخبرنا أنا إن فعلنا ذلك حلَّت لنا شفاعته يوم القيامة، وكان طلبه منا لمنفعتنا في ذلك، وفرق بين من يطلب لغيره شيئا لمنفعة المطلوب منه، ومن سأل غيره لحاجته إليه فقط. وثبت عنه في الصحيح أنه ذكر أُوَيْسًا القَرَني وقال لعمر: "إن استطعت أن يستغفر لك فافعل".
وفي الصحيحين: "أنه كان بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما شىء، فقال أبو بكر: استغفر لي"، لكن في الحديث: "أن أبا بكر حنق على عمر". وثبت أن أقوامًا كانوا يسترقون، وكان النبي يرقيهم. وثبت في الصحيحين: "أن الناس لما أجدبوا سألوا النبي أن يستسقي لهم فدعا الله سبحانه حتى سقوا". وفي الصحيح أيضًا: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون". وفي السنن: "أن أعرابيا قال للنبي : جهدت الأنفس وجاع العيال وهلك المال، فادع الله لنا، فإنا نستشفع بالله عليك، وبك على الله. فسبح رسول الله حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، وقال: "ويحك! إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك". فأقره على قوله: "إنا نستشفع بك على الله"، وأنكر عليه: "نستشفع بالله عليك "؛ لأن الشافع يسأل المشفوع إليه، والعبد يسأل ربه ويستشفع إليه، والرب تعالى لا يسأل العبد ولا يستشفع عليه.
وأما زيارة القبور المشروعة، فهي أن يسلم على الميت ويدعو له بمنزلة الصلاة على جنازته، كما كان النبي يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم: "سلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم". وروى أنه قال: "ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام". والله تعالى يثيب الحى إذا دعا للميت المؤمن، كما يثيبه إذا صلى على جنازته؛ ولهذا نهى نبيه أن يفعل ذلك بالمنافقين، بقوله تعالى: { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ }. فليس في الزيارة الشرعية حاجة الحى إلى الميت، ولا مسألته ولا توسله به، بل فيها منفعة الحى للميت، كالصلاة عليه، والله يرحم هذا ويثيبه على عمله، ويرحم هذا بدعاء هذا وإحسانه إليه، فإنه ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: "إذا مات ابن ادم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له".
فصل
وأما من يأتي إلى قبر نبي أو رجل صالح، أو من يعتقد فيه أنه قبر نبي أو رجل صالح وليس كذلك، يسأله ويستنجد به فهذا على ثلاث درجات:
إحداها: أن يسأله حاجته، مثل أن يسأله أن يزيل مرضه، أو مرض دوابه، أو يقضى دينه، أو ينتقم له من عدوه، أو يعافي نفسه وأهله ودوابه، ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فهذا شرك صريح، يجب أن يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل.
وإن قال: أنا أسأله لأنه أقرب إلى الله منى ليشفع لي في هذه الأمور؛ لأنى أتوسل إلى الله به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه، فهذا من أفعال المشركين والنصارى، فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء يستشفعون بهم في مطالبهم، ولذلك أخبر الله عن المشركين أنهم قالوا: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفي }، وقد قال سبحانه: { أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء - إلى قوله - تُرْجَعُونَ }، وقال تعالى: { مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ }، وقال تعالى: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ }. فبين الفرق بينه وبين خلقه. فإن من عادة الناس أن يستشفعوا إلى الكبير من كبرائهم بمن يكرم عليه، فيسأله ذلك الشفيع، فيقضى حاجته؛ إما رغبة، وإما رهبة، وإما حبًا وإما مودة، وإما غير ذلك، والله سبحانه لا يشفع عنده أحد حتى يأذن هو للشافع، فلا يفعل إلا ما شاء، وشفاعة الشافع من إذنه، والأمر كله له.
ولهذا قال النبي في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: "لا يقول أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له". فبين أن الرب لا يفعل إلا ما يشاء، ولا يكرهه أحد على ما يختاره، كما قد يكره الشافع المشفوع إليه، وكما يكره السائل المسؤول إذا ألح عليه وآذاه. فالرغبة يجب أن تكون إليه، كما قال تعالى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ }. والرهبة يجب أن تكون منه قال: { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ }، وقال تعالى: { فَلَا تَخْشَوُاْ النَاسَ وَاخْشَوْنِ }. وقد أمرنا أن نصلى على النبي في الدعاء، وجعل ذلك من أسباب إجابة دعائنا.
وقول كثير من الضلال: هذا أقرب إلى الله مني، وأنا بعيد من الله لا يمكن أن أدعوه إلا بهذه الواسطة، ونحو ذلك هو من قول المشركين، فإن الله تعالى يقول: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَاعِ إِذَا دَعَانِ }. وقد روي أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا: "يا رسول الله، ربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله هذه الآية". وفي الصحيح: "أنهم كانوا في سفر، وكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال النبي : "يا أيها الناس، ارْبَعُوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا قريبًا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته" وقد أمر الله العباد كلهم بالصلاة له ومناجاته وأمر كلا منهم أن يقول: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }. وقد أخبر عن المشركين أنهم قالوا: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفى }.
ثم يقال لهذا المشرك: أنت إذا دعوت هذا، فإن كنت تظن أنه أعلم بحالك وأقدر على إجابة سؤالك أو أرحم بك من ربّك، فهذا جهل وضلال وكفر. وإن كنت تعلم أن الله أعلم وأقدر وأرحم، فلماذا عدلت عن سؤاله إلى سؤال غيره؟ ألا تسمع إلى ما خرجه البخاري وغيره عن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله يعلمنا الاستخارة في الأمور، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: "إذا هَمَّ أحدكم بأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقْدُرْه لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه، واقْدُرْ لي الخير حيث كان ثم رضني به".
وإن كنت تعلم أنه أقرب إلى الله منك وأعلى منزلة عند الله منك فهذا حق؛ لكن كلمة حق أريد بها باطل؛ فإنه إذا كان أقرب منك وأعلى درجة منك فإنما معناه: أن يثيبه ويعطيه، ليس معناه: أنك إذا دعوته كان الله يقضى حاجتك أعظم مما يقضيها إذا دعوت أنت، فإنك إن كنت مستحقا للعقاب ورد الدعاء مثلا لما فيه من العدوان فالنبي أو الصالح لا يعين على ما يكرهه الله، ولا يسعى فيما يبغضه الله، وإن لم يكن كذلك، فالله أولى بالرحمة والقبول منه.
وإن قلت: هذا إذا دعا الله أجاب دعاءه أعظم مما يجيب لي إذا دعوته أنا، فهذا هو:
القسم الثاني وهو: ألا يطلب منه الفعل ولا يدعوه، ولكن يطلب أن يدعو له. كما يقول للحي: ادع لي، وكما كان الصحابة يطلبون من النبي ، الدعاء، فهذا مشروع في الحي كما تقدم، وأما الميت من الأنبياء والصالحين وغيرهم فلم يشرع لنا أن نقول: ادع لنا، ولا اسأل لنا ربك، ولا نحو ذلك، ولم يفعل هذا أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر به أحد من الأئمة، ولا ورد فيه حديث، بل الذي ثبت في الصحيح أنهم لما أجدبوا زمن عمر استسقى عمر بالعباس رضي الله عنهما، وقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون". ولم يجيئوا إلى قبر النبي قائلين: يا رسول الله، ادع لنا واستسق لنا، ونحن نشكوا إليك ما أصابنا، ونحو هذا. لم يقله أحد من الصحابة قط، بل هو بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، بل كانوا إذا جاؤوا عند قبر النبي يسلمون عليه، ثم إذا أرادوا الدعاء له لم يدعوا الله مستقبلي القبر الشريف، بل ينحرفون ويستقبلون القبلة، ويدعون الله وحده لا شريك له كما يدعونه في سائر البقاع.
وذلك أن في الموطأ وغيره عن أنه قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وفي السنن أيضًا أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلُّوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني". وفي الصحيح أنه قال في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يحذر ما فعلوا، قالت عائشة رضي الله عنها: "ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا". وفي صحيح مسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك". وفي سنن أبي داود أنه قال: "لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج".
ولهذا قال علماؤنا: لا يجوز بناء المساجد على القبور، وقالوا: إنه لا يجوز أن ينذر لقبر ولا للمجاورين عند القبر شيئًا من الأشياء، لا من درهم ولا زيت ولا شمع ولا حيوان، ولا غير ذلك، كله نذر معصية. وقد ثبت في الصحيح عن أنه قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه". واختلف العلماء: هل على الناذر كفارة يمين، على قولين؛ ولهذا لم يقل أحد من أئمة المسلمين إن الصلاة عند القبور وفي مشاهد القبور مستحبة أو فيها فضيلة، ولا أن الصلاة هناك والدعاء أفضل من الصلاة في تلك البقعة؛ بل اتفقوا كلهم على أن الصلاة في المساجد والبيوت أفضل من الصلاة عند قبر، كان قبر نبي أو صالح سواء سميت أو لم تسم.
وقد شرع الله ورسوله في المساجد دون المشاهد أشياء؛ فقال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا }، ولم يقل: في المشاهد. وقال تعالى: { وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } ولم يقل: في المشاهد، وقال تعالى: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ }، وقال تعالى: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَلَاةَ وَآتَى الزَكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ }، وقال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وقال النبي : "صلاة الرجل في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين ضعفا"، وقال : "من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة". وأما القبور فقد ورد نهيه عن اتخاذها مساجد، ولعن من يفعل ذلك، وقد ذكره غير واحد من الصحابة والتابعين، وما ذكره البخاري في صحيحه والطبري وغيره في تفاسيرهم، وذكره وَثِيمَة وغيره في قصص الأنبياء في قوله تعالى: { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا }، قالوا: "هذه أسماء قوم صالحين كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم طال عليهم الأمد فاتخذوا تماثليهم أصنامًا". والعكوف على القبور والتمسح بها وتقبيلها والدعاء عندها وفيها ونحو ذلك هو أصل الشرك وعبادة الأوثان؛ ولهذا قال : "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد".
ولهذا اتفق العلماء على أن من زار قبر النبي أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين الصحابة وأهل البيت وغيرهم على ألا يتمسح به ولا يقبله، بل ليس في الدين ما شرع تقبيله إلا الحجر الأسود. وقد ثبت في الصحيحين: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "والله إني لأعلم أنك حَجَر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت الرسول يُقَبِّلك ما قَبَّلتك".
ولهذا لا يسن باتفاق الأئمة أن يقبل الرجل أو يستلم ركني البيت اللذين يليان الحجر ولا جدران البيت، ولا مقام إبراهيم، ولا صخرة بيت المقدس، ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين؛ حتى تنازع الفقهاء في وضع اليد على منبر النبي لما كان موجودًا، فكرهه مالك رحمه الله وغيره، لأنه بدعة؛ وذكر أن مالكا لما رأى عطاء فعل ذلك لم يأخذ عنه العلم. ورخص فيه أحمد وغيره، لأن ابن عمر فعله. وأما التمسح بقبر النبي وتقبيله فكلهم كره ذلك ونهى عنه؛ وذلك أنهم علموا ما قصده النبي من حسم مادة الشرك، وتحقيق التوحيد وإخلاص الدين لله رب العالمين.
وهذا مما يظهر منه الفرق بين سؤال النبي والرجل الصالح في حياته، وبين سؤاله بعد موته وفي مغيبه؛ وذلك أنه في حياته لا يعبده أحد إذا كان في حضوره، فإن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم والصالحين لا يتركون أحدًا يتبرك بهم بحضورهم، بل ينهونهم عن ذلك ويعاقبونهم عليه، ولهذا قال المسيح عليه السلام: { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }. وقال النبي لمن قال "ما شاء الله وشئت": "أجعلتني لله ندًا؟ ما شاء الله وحده"، وقال: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد". ولما قالت الجويرية: "وفينا رسول الله يعلم ما في غَدٍ. قال: "دعي هذا، وقولي ما كنت تقولين". وقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله"، ولما صفوا خلفه قياما، قال: "لا تعظموني كما تعظم الأعاجم بعضهم بعضا". قال أنس: "لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله ، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك. ولما سجد له معاذ نهاه، وقال: "إنه لا يصلح السجود إلا لله، ولو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، من عظم حقه عليها". ولما أتي عليٌّ بالزنادقة الذين غلوا فيه واعتقدوا فيه الإلهية أمر بتحريقهم بالنار.
فهذا شأن أنبياء الله تعالى وأوليائه، وإنما يقر على الغلو فيه وتعظيمه بغير حق من يريد علوًا في الأرض وفسادًا، كفرعون ونحوه ومشائخ الضلالة الذين غرضهم العلو في الأرض والفساد؛ والفتنة بالأنبياء والصالحين واتخاذهم أربابًا والإشراك بهم إنما يحصل في مغيبهم ومماتهم، كما أشرك النصارى واليهود بالمسيح وعزير.
فهذا مما يبين الفرق بين السؤال للنبي والصالح في حياته وبحضوره، وبين سؤاله في مماته ومغيبه. ولهذا لم يكن أحد من سلف الأمة في عصر الصحابة ولا التابعين ولا تابعي التابعين يتحرون الصلاة والدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين ويسألونهم ولا يستغيثون بهم، لا في مغيبهم ولا عند قبورهم؛ وكذلك العكوف.
ومن أعظم الشرك أن يستغيث الرجل برجل ميت أو غائب، كما ذكره السائل، ويستغيث به عند المصائب يقول: يا سيدي فلان، كأنه يطلب منه إزالة ضره أو جلب نفعه، وهذا حال النصارى في المسيح وأمه وأحبارهم ورهبانهم. ومعلوم أن خير الخلق وأكرمهم على الله محمد ، وأعلم الناس بقدره وحقه هم أصحابه، ولم يكونوا يفعلون شيئًا من ذلك، لا في مغيبه ولا بعد مماته. وهؤلاء المشركون يضمون إلى الشرك الكذب، فإن الكذب مقرون بالشرك، قال تعالى: { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ }. وقال النبي : "عَدَلت شهادة الزور الإشراك بالله" مرتين أو ثلاثًا. وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ }، وقال الخليل عليه السلام: { أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ }.
فمن كذبهم أن أحدهم يقول عن شيخه: إن المريد إذا كان بالمغرب وشيخه بالمشرق وإن كشف غطاؤه رده عليه، وإن أي شيخ إن لم يكن كذلك لم يكن شيخًا. وقد تغويهم الشياطين، كما تغوى عبّاد الأصنام كما كان جرى للعرب في أصنامها ولعباد الكواكب وطلاسمها من الشرك والسحر، كما يجري للترك والهند والسودان وغيرهم من أصناف المشركين من إغواء الشياطين لهم ومخاطبتهم ونحو ذلك. فكثير من هؤلاء من يجري له نوع من ذلك، سيما عند سماع المكاء والتصدية، فإن الشياطين تتنزل عليهم فتصيب أحدهم بمثل ما يصيب المصروع من الإرعاد والإزباد والصياح المنكر، ويكلمه بما لا يعقله هو والحاضرون، وأمثال ذلك مما يمكن وقوعه في هؤلاء الضالين.
وأما القسم الثالث: وهو أن يقول: اللهم بجاه فلان عبدك، أو ببركة فلان عبدك، أو لحرمة فلان عبدك، افعل كذا وكذا. فهذا يفعله كثير من الناس، لكن لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين وسلف الأمة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء، ولم يبلغني عن أحد من العلماء في ذلك ما أحكيه، إلا ما رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد العز بن عبد السلام. فإنه أفتى بأنه لا يجوز لأحد أن يفعل ذلك إلا بالنبي إن صح الحديث في النبي . ومعنى هذا الاستثناء أنه قد روى النسائي والترمذي وغيرهما أن النبي : "علم بعض أصحابه أن يدعو فيقول: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا رسول الله، إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها لي. اللهم فشفعه في". فإن هذا الحديث قد استدل به طائفة على جواز التوسل بالنبي في حياته وبعد مماته. قالوا: وليس في التوسل به دعاء للمخلوقين ولا استغاثة بالمخلوق، وإنما هو دعاء واستغاثة بالله، لكن فيه بجاهه، كما في سنن ابن ماجه عن النبي أنه ذكر في دعاء الخارج للصلاة أنه يقول: "اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا رياءً ولا سمعةً. خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".
قالوا: ففي هذا الحديث أنه سأل بحق السائلين عليه وبحق ممشاه إلى الصلاة؛ والله تعالى قد جعل على نفسه حقًا، قال تعالى: { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ }، ونحو قوله: { كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُولًا }. وفي الصحيحين عن معاذ أن النبي قال: "أتدري ما حق الله على العباد؟". قال: الله ورسوله أعلم، قال: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ فإن حقهم عليه أن لا يعذبهم". وقد جاء في غير حديث: "كان حقًا على الله كذا وكذا" كقوله: "من شرب الخمر لم يقبل له صلاة أربعين يومًا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد وشربها في الثالثة أو الرابعة كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخَبَال" قيل: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: "عصارة أهل النار"، وأمثال ذلك كثير.
وقالت طائفة: ليس في هذا جواز التوسل به بعد مماته وبعد مغيبه، بل إنما فيه التوسل في حياته بحضوره، كما في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس، فقال: "اللهم إنا كنا إذا أجْدَبْنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعَمِّ نبينا فاسقنا، فيسقون". وقد بين عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يتوسلون به في حياته فيسقون.
وذلك التوسل: أنهم كانوا يسألونه أن يدعو الله لهم، فيدعو لهم، ويدعون معه، فيتوسلون بشفاعته ودعائه، كما في الصحيح عن أنس بن مالك: "أن رجلًا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحوًا من دار القضاء، والرسول قائم يخطب، فاستقبل النبي قائما، ثم قال: "يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السُبُل، فادع الله سبحانه أن يغيثنا. قال: فرفع الرسول يديه ثم قال: اللهم أغثنا. قال أنس: فلا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزع وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار إلا طلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، فلا والله ما رأينا الشمس سبتًا. قال: ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة، والنبي قائم يخطب، فاستقبله، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله أن يمسكها عنا، قال: فرفع النبي يديه ثم قال: "اللهم، حوالينا ولا علينا اللهم على الآكَام والظِرَاب وبُطُون الأودية ومَنَابِت الشجر". قال: وأقلعت فخرجنا نمشي في الشمس". ففي هذا الحديث أنه قال: "ادع الله لنا يمسكها عنا". وفي الصحيح: أن عبد الله بن عمر قال: "إني لأذكر قول أبي طالب في النبي حيث يقول:
وأبيض يُسْتَسقى الغَمام بوجهه ** ثِمَال اليتامى عِصمة للأرامل
فهذا كان توسلهم به في الاستسقاء ونحوه. ولما مات توسلوا بالعباس رضي الله عنه كما كانوا يتوسلون به، ولم يتوسلوا به ويستسقوا به بعد موته ولا في مغيبه ولا عند قبره، وكذلك معاوية بن أبي سفيان استسقى بيزيد بن الأسود الجُرَشي، وقال: "اللهم إنا نستشفع إليك بخيارنا. يا يزيد، ارفع يديك إلى الله، فرفع يديه، ودعا، ودَعْوا، فسقوا". ولذلك قال العلماء: يستحب أن يستسقي بأهل الصلاح والخير، فإذا كان من أهل بيت الرسول كان أحسن. ولم يذكر أحد من العلماء أنه يشرع التوسل والاستسقاء بالنبي والصالح بعد موته ولا في مغيبه، ولا استحبوا ذلك في الاستسقاء، ولا في غيره من الأدعية. والدعاء مُخُّ العبادة، والعبادة مبناها على النية والاتباع، وإنما يعبد الله بما شرع، لا يعبد بالأهواء والبدع، قال الله تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ }، وقال تعالى: { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }، وقال النبي : "إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء والطهور".
وأما الرجل إذا أصابته نائبة أو خاف شيئا فاستغاث بشيخه، يطلب تثبيت قلبه من ذلك الواقع، فهذا من الشرك الأكبر، وهو من جنس دين النصارى؛ فإن الله هو الذي يصيب بالرحمة ويكشف الضر، قال تعالى: { وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَآدَّ لِفَضْلِهِ }، وقال تعالى: { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } الآية، وقال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ }، وقال تعالى: { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا }. فبين أن كل ما يدعى من دون الله من الملائكة والأنبياء وغيرهم لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا.
وإذا قال القائل: أدعو الشيخ ليكون لي شفيعا، فهو من جنس دعاء النصارى لمريم والأحبار والرهبان. والمؤمن يرجو ربه ويدعوه مخلصا له الدين، وحق شيخه أن يدعو له ويترحم عليه؛ فإن أعظم الخلق قدرًا النبي ، وأصحابه أعلم الناس بأمره وقدره وأطوع الناس له، ولم يكن يأمر أحدا منهم عند الخوف أو الفزع أن يقول: يا سيدي، يا رسول الله، ولم يكونوا يفعلون ذلك في محياه ولا في مماته، بل كان يأمرهم بذكر الله ودعائه والصلاة والسلام عليه. قال تعالى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَاسُ إِنَّ النَاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا - إلى قوله - عَظِيمٍ }، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس: "أن هذه الكلمة قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد وأصحابه حين قيل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم". وفي الصحيح عن النبي : أنه كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش الكريم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض ورب العرش العظيم". وقد روي أنه علم نحو هذا الدعاء بعض أهل بيته. وفي السنن: أن النبي كان إذا حزبَه أمر قال: "يا حي، يا قيوم، برحمتك أستغيث". وروي أنه علم ابنته فاطمة عليها السلام أن تقول: "يا حي يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تِكَلْني إلى نفسي طَرْفَة عين ولا إلى أحد من خلقك". وفي مسند أحمد وصحيح أبي حاتم بن حبان عن ابن مسعود عن النبي أنه قال: "ما أصاب عبدًا قط هَمٌّ ولا حَزَن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عَدْل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سَمَّيتَ به نفسك أو أنزلته في كتابك أو عَلَّمته أحدًا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم رَبِيع قلبي ونور بصري وجلاء حُزني وذهاب هَمِّي وغمي؛ إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحا". قال: يا رسول الله، أفلا نتعلمهن؟ قال: "ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن". وقال لأمته: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يُخَوِّف الله بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة وذِكْر الله والاستغفار". فأمرهم عند الكسوف بالصلاة والدعاء والذكر والعتق والصدقة، ولم يأمرهم أن يدعوا مخلوقا ولا ملكا ولا نبيا ولا غيرهم.
ومثل هذا كثير في سنته؛ لم يشرع للمسلمين عند الخوف إلا ما أمر الله به، من دعاء الله وذكر الله والاستغفار والصلاة والصدقة، ونحو ذلك. فكيف يعدل المؤمن بالله ورسوله عما شرع الله ورسوله إلى بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، تضاهي دين المشركين والنصارى؟
وإن زَعَم أحدٌ أن حاجته قضيت بمثل ذلك وأنه مثل له شيخه ونحو ذلك، فعباد الكواكب ونحوهم من أهل الشرك يجري لهم نحو هذا، كما تقدم، وقد تواتر عمن مضى من المشركين وعن المشركين في هذا الزمان. ولولا ذلك ما عبدت الأصنام ونحوها. قال الخليل عليه السلام: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَاسِ }.
ويقال: إن أول ما ظهر الشرك في أرض مكة بعد إبراهيم الخليل من جهة عمرو بن لُحِيِّ الخزاعي، الذي رآه النبي يجر أمعاءه في النار. وهو أول من سَيَّب السوائب وغَيَّر دين إبراهيم. قالوا: إنه ورد الشام، فوجد فيها أصناما يزعمون أنهم ينتفعون بها في جَلْب منافعهم ودفع مضارهم، فنقلها إلى مكة، وسَنَّ للعرب الشرك وعبادة الأصنام.
والأمور التي حرمها الله ورسوله، من الشرك والسحر والقتل والزنا وشهادة الزور وشرب الخمر وغير ذلك من المحرمات، قد يكون للنفس فيها حظ مما تعده منفعة أو دفع مَضَرَّة، ولولا ذلك ما أقدمت نفس على المحرمات التي لا خير فيها بحال، وإنما يوقع النفوس في المحرمات الجهل أو الحاجة. فأما العالم بقبح الشيء والنهي عنه فكيف يفعله؟ والذين يفعلون هذه الأمور جميعها قد يكون عندهم جهل بما فيها من الفساد، وقد تكون بهم حاجة إليها، مثل الشهوة إليها، وقد يكون فيها من الضرر أعظم مما فيها من اللذة ولا يعلمون ذلك لجهلهم أو لغلبة أهوائهم حتى يفعلوها، والهوى الغالب يجعل صاحبه كأنه لا يعلم من الحق شيئًا، فإن حبك للشيء يُعْمي ويُصِمُّ.
ولهذا كان العالم من يخشى الله. قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد عن قوله تعالى: { إِنَّمَا التَوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُوَءَ بِجَهَالَةٍ }. فقالوا: "كل من عصى الله فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب". وليس هذا من مواضع البسط لبيان ما في المنهيات من المفاسد الغالبة وما في المأمورات من المصالح الغالبة، بل على المؤمن أن يعلم أن ما أمر الله به فهو لمصلحة محضة أو غالبة، وما نهى الله عنه فهو مفسدة محضة أو غالبة، وأن الله لا يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته منه إليهم، ولا نهاهم عمّا نهاهم بُخْلًا به عليهم، بل أمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم؛ ولهذا وصف نبيه بأنه { يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ }.
وأما التمسح بالقبر أي قبر كان وتقبيله، وتمريغ الخد عليه، فمنهي عنه باتفاق المسلمين، ولو كان ذلك من قبور الأنبياء؛ ولم يفعله أحد من السلف والأئمة، بل هذا من الشرك. قال الله تعالى: { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا } الآية، وقد تقدم أنها أسماء قوم صالحين كانوا في قوم نوح وأنهم عَكَفوا على قبورهم مدة، ثم طال عليهم الأمد فصَوَّروا تماثيلهم؛ لا سيما إذا اقترن بذلك دعاء الميت والاستغاثة به. وقد تقدم ذكره، وما فيه من الشرك، وبينا الفرق بين الزيارة البدعية التي يشبه أهلها بالنصارى والمشركين والزيارة الشرعية.
وأما وضع الرأس عند الكبراء من الشيوخ وغيرهم، أو تقبيل الأرض ونحو ذلك، فهذا مما لا نزاع بين الأئمة في النهي عن ذلك، وفي المسند وغيره عن معاذ بن جبل: "أنه لما رجع من الشام سجد للنبي فقال: "ما هذا يا معاذ؟". فقال: يا رسول الله، رأيتهم يسجدون لأساقفتهم، ويذكرون ذلك عن أنبيائهم، فقال: "كذبوا يا معاذ، لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عِظَم حقه عليها، يا معاذ، أرأيت إذا مررت بقبري أكنت ساجدًا؟". قال: لا. قال: "فلا تفعل"، أو كما قال الرسول .
بل قد ثبت في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه أنه صلى بأصحابه قاعدًا لمرض كان به، فصلوا قيامًا، فأمرهم بالجلوس، وقال: "لا تعظموني كما تعظم الأعاجم بعضها بعضًا"، وقال: "من سره أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار". فإذا كان قد نهاهم مع قعوده وإن كانوا قاموا في الصلاة حتى لا يتشبهوا بمن يقومون لعظمائهم، وبين أن من سره القيام له كان من أهل النار فكيف بما هو شر من ذلك السجود له؟ ومن وضع الرأس، وتقبيل الأيدي ونحو ذلك؟ وقد كان عمر بن عبد العزيز وهو خليفة على الأرض كلها قد وكل عمالًا يمنعون الداخلين من تقبيل الأرض، ويؤدبهم إذا قبّل أحد الأرض.
وبالجملة، فالقيام والركوع والسجود حق للواحد المعبود، خالق السموات والأرض؛ وما كان حقًا خالصًا لله لم يكن لغيره فيه نصيب، مثل الحلف بغير الله. قال الرسول : "من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت". متفق عليه. وقال أيضًا: "من حلف بغير الله فقد أشرك".
فالعبادة كلها لله وحده لا شريك له: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِينَ } الآية. وفي الصحيحين عن النبي أنه قال: "إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم". وإخلاص الدين لله هو أصل العبادة.
ونبينا نهى عن الشرك دقِّه وجلِّه، وجليه وخفيه، وكبيره وصغيره، حتى إنه قد تواتر عنه النهي عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها بألفاظ متنوعة؛ تارة يقول: "لا تَحَرُّوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها". وتارة ينهى عن الصلاة بعد طلوع الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس. وتارة يذكر أن الشمس إذا طلعت طلعت بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار؛ ونهى عن الصلاة حينئذ لما فيه من مشابهة المشركين في كونهم يسجدون للشمس في هذا الوقت، وأن الشيطان يقارن الشمس حينئذ ليكون السجود له، فكيف بما هو أظهر شركًا ومشابهة للمشركين من هذا؟ وقد قال فيما أمره الله أن يخاطب به أهل الكتاب: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } إلى قوله: { مُسْلِمُونَ }، وذلك لما في ذلك من مشابهة أهل الكتاب من اتخاذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، ونحن منهيون عن مثل هذا، ومن عدل عن هدي نبيه وهدي أصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى ما هو من جنس هدي النصارى، فقد ترك ما أمر الله به ورسوله.
وأما قول القائل: فقضيت حاجتي ببركة الله وبركتك. فمنكر من القول؛ فإنه لا يقرن بالله في مثل ذلك غيره، حتى إن قائلا قال للنبي : ما شاء الله وشئت، فقال: "أجعلتني لله نِدّا؟ بل ما شاء الله وحده"، وقال لأصحابه: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد". وفي الحديث: "أن بعض المسلمين رأى قائلا يقول: نعم القوم أنتم لولا أنكم تنددون. أي: تجعلون لله ندًا. يعني تقولون ما شاء الله وشاء محمد. فنهاهم النبي عن ذلك". وفي الصحيحين عن زيد بن خالد، قال: "صلى بنا رسول الله صلاة الفجر بالحديبية في إثر سَمَاء من الليل، فقال: "أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟". قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب". والأسباب التي جعلها الله أسبابًا لا تجعل مع الله شركاء وأندادًا وأعوانًا.
وأما قول القائل: ببركة الشيخ، وإنه قد يعني بها دعاءه، فأسرعُ الدعاءِ إجابة دعوة غائب لغائب. وقد يعني بها بركة ما أمره به وعلمه من الخير، وقد يعني بركة اتباعه له على الحق، وقد يعني بركة معاونته له على الحق، وموالاته في الدين، ونحو ذلك. وهذه كلها معان صحيحة.
وقد يعني بها دعاء الميت والغائب؛ واستقلال الشيخ بذلك التأثير، أو فعله لما هو عاجز عنه أو غير قادر عليه أو غير قاصد له، فمتابعته أو مطاوعته على ذلك من البدع المنكرات، ونحو هذه المعاني الباطلة. والذي لا ريب فيه أن العمل بطاعة الله تعالى، ودعاء المؤمنين بعضهم لبعض ونحو ذلك، هو نافع في الدنيا والآخرة، وذلك بفضل الله ورحمته.
وأما سؤال السائل عن القطب الغوث الفرد الجامع، فهذا قد يقوله طوائف من الناس ويفسرونه بأمور باطلة في دين الإسلام؛ مثل تفسير بعضهم أن الغوث هو الذي يكون مدد الخلائق بواسطته في نصرهم ورزقهم، حتى قد يقولوا: إن مدد الملائكة وحيتان البحر بواسطته. فهذا من جنس قول النصارى في المسيح عليه السلام والغالية في علي رضي الله عنه. وهذا كفر صريح يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل؛ فإنه ليس من المخلوقات لا ملك ولا بشر يكون إمداد الخلائق بواسطته؛ ولهذا كان ما يقوله الفلاسفة في العشرة الذين قد يزعمون أنها الملائكة وما يقوله النصارى في المسيح ونحو ذلك كفرًا صريحًا باتفاق المسلمين.
وكذلك إن عنى بالغوث ما يقوله بعضهم: إنّ في الأرض ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا، وقد يسميهم النجباء، منهم سبعون هم النقباء، ومنهم أربعون هم الأبدال، ومنهم سبعة هم الأقطاب، ومنهم أربعة هم الأوتاد، ومنهم واحد هو الغوث، وأنه مقيم بمكة، وأن أهل الأرض إذا نابتهم نائبة في رزقهم ونصرهم فزعوا إلى الثلاثمائة والبضع عشر رجلًا، وأولئك يفزعون إلى السبعين، والسبعون إلى الأربعين، والأربعون إلى السبعة، والسبعة إلى الأربعة، والأربعة إلى الواحد. وبعضهم قد يزيد في هذا وينقص في الأعداد والأسماء والمراتب؛ فإن لهم فيها مقالات متعددة حتى يقول بعضهم: إنه ينزل من السماء على الكعبة خضر باسم غوث الوقت، واسم مصره على قول من يقول منهم: إن الخضر هو مرتبة، وإن لكل زمان خضرًا، فإن لهم في ذلك قولين؛ وهذا كله باطل لا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا قاله أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، ولا من المشايخ الكبار المتقدمين الذين يصلحون للاقتداء بهم. ومعلوم أن رسول الله وأبا بكر وعمر وعثمان وعليًا كانوا خير الخلق في زمنهم، وكانوا بالمدينة، ولم يكونوا بمكة.
وقد روى بعضهم حديثًا في هلال غلام المغيرة بن شعبة، وأنه أحد السبعين. والحديث كذب باتفاق أهل المعرفة، وإن كان قد روى بعض هذه الأحاديث أبو نعيم في حلية الأولياء، والشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في بعض مصنفاته، فلا تغتر بذلك؛ فإنهما يرويان الصحيح والحسن والضعيف والموضوع والكذب، ولا خلاف بين العلماء في أنه كذب موضوع. وتارة يروونه على عادة أهل الحديث الذين يروون ما سمعوه ولا يميزون بين صحيحه وباطله. وكان أهل الحديث لا يروون مثل هذه الأحاديث؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: "من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين".
وبالجملة، فقد علم المسلمون كلهم أن ما ينزل بالمسلمين من النوازل الرغبة والرهبة؛ مثل دعائهم عند الكسوف والاستسقاء لنزول الرزق، ودعائهم عند الكسوف، والاعتداد لدفع البلاء، وأمثال ذلك، إنما يدعون في ذلك الله وحده لا يشركون به شيئًا، لم يكن للمسلمين أن يرجعوا بحوائجهم إلى غير الله، بل كان المشركون به في جاهليتهم إذا اشتد بهم الكرب يدعونه بلا واسطة فيجيبهم الله؛ أفَتَرَاهم بعد التوحيد والإسلام لا يجيب دعاءهم إلا بهذه الواسطة التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ قال تعالى: { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ } الآية، وقال: { وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ } الآية، وقال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ } الآية، وقال تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ } إلى قوله: { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
والنبي استسقى لأصحابه بصلاة الاستسقاء وبغير صلاة، وصلاتهم للاستسقاء كصلاة الكسوف؛ وكان يقنت في صلاته فيستنصر على المشركين. وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده، وكذلك أئمة الدين ومشايخ المسلمين مازالوا على هذه الطريقة. ولهذا قال العلماء المحققون: ثلاثة أشياء مالها من أصل: باب النصارى، ومنتظر الرافضة، وغوث الصوفية؛ فإن النصارى تدعي في الباب [8] الذي لهم ما هو من هذا الجنس؛ وأنه الذي يقيم العالم، فذاك شخصه موجود. ولكن دعوى النصارى فيه باطلة. وأما محمد بن الحسن العسكري منتظر الرافضة في سرداب سامرا، والغوث المقيم بمكة عند الصوفية، ونحو هذا، فإنه باطل ليس له أصل في الوجود ولا وجود له.
وكذلك ما يزعمه بعضهم من أن القطب الغوث الجامع يمد أولياء الله ويعرفهم كلهم، ونحو هذا، فهذا باطل. فأبو بكر وعمر رضي الله عنهما لم يكونا يعرفان جميع أولياء الله وعددهم، فكيف هؤلاء الضالين المفترين الكذابين؟ والرسول سيد ولد آدم إنما يعرف في الآخرة الذين لم يكن يراهم في الدنيا بسيما الوضوء، وهو الغُرَّة والتحجيل؛ ومن هؤلاء أولياء الله من لا يحصيه إلا الله. وأنبياء الله الذين هو إمامهم وخطيبهم لم يكن يعرف أكثرهم، بل قال الله له: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ }، وموسى لم يكن يعرف الخضر، والخضر لم يكن يعرف موسى؛ بل لما سلم عليه موسى قال له الخضر: "وأنى بأرضك السلام؟ فقال له: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم". فكان قد بلغه اسمه وخبره، ولم يكن يعرف عينه. ومن قال: إن الخضر نقيب الأولياء، وأنه يعلمهم كلهم، فقد قال الباطل. والصواب الذي عليه المحققون أنه ميت، وأنه لم يدرك الإسلام، ولو كان موجودًا في زمن النبي لوجب عليه أن يؤمن به، ويجاهد معه، كما أوجب الله ذلك عليه وعلى غيره، ولكان يكون بمكة والمدينة، وكان يكون حضوره مع الصحابة رضي الله عنهم للجهاد معهم وإعانتهم على الدين أولى به من حضوره عند قوم كفار ليرقع سفينتهم، ولم يكن أحد من خير أمة أخرجت للناس مختفيًا، وهو قد كان بين المشركين ولم يحتجب عنهم.
ثم ليس للمسلمين به وبأمثاله حاجة لا في دينهم ولا دنياهم، فإن دينهم أخذوه عن الرسول النبي الأمي الذي علمهم الكتاب والحكمة، وقال لهم نبيهم: "لو كان موسى حيًا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم". وعيسى ابن مريم إذا نزل من السماء إنما يحكم فيها بكتاب ربهم وسنة نبيهم. فأي حاجة لهم مع هذا إلى الخضر وغيره؟ والنبي قد أخبرهم بنزول عيسى من السماء، وحضوره مع المسلمين، وقال: "كيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسى في آخرها". فإذا كان هذان النبيان الكريمان اللذان هما مع إبراهيم وموسى ونوح أفضل الرسل، ومحمد سيد ولد آدم، ولم يحتجبوا عن هذه الأمة، لا عَوَامِّهم ولا خَوَاصِّهم، فكيف يحتجب عنهم من ليس مثلهم؟ وإذا كان الخضر حيًا دائمًا فكيف لم يذكر النبي ذلك قط ولا أخبر به أمته، ولا خلفاؤه الراشدون؟
وقول القائل: إنه نقيب الأولياء. فيقال له: من ولاه النقابة، وأفضل الأولياء أصحاب محمد وليس فيهم الخضر؟ وعامة ما يحكى في هذا الباب من الحكايات أكثرها كذب، وبعضها مبني على وهم رجال؛ مثل شخص رأى رجلا توهم أنه الخضر، وقال: إنه الخضر، كما أن الرافضة ترى شخصًا تتوهم أنه الإمام المنتظر المعصوم، أو تدعي ذلك. وروي عن الإمام أحمد أنه قال: - وقد ذُكر له الخضر -: "من أحالك على غائب فما أنصفك، وما ألقى هذا على ألسن الناس إلا الشيطان". وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
وأما إذا قصد القائل بقوله: القطب الغوث الفرد الجامع أنه رجل يكون أفضل أهل زمانه فهذا ممكن، لكن من الممكن أن يكون في الزمان اثنان متساويان في الفضل، بل وثلاثة وأربعة، وأكثر، ولا يجزم بألا يكون في كل زمان أفضل الناس إلا واحدًا، وقد يكون جماعة بعضهم أفضل من بعض بوجه من وجوه، وبعضهم أفضل من بعض، وتلك الوجوه إما متقاربة وإما متساوية.
ثم إذا كان في الزمان رجل هو أفضل أهل الزمان فتسميته الغوث الفرد الجامع بدعة ما أنزل الله بها من سلطان ولا تكلم بهذا أحد من سلف الأمة وأئمتها، وما زال السلف يظنون في بعضهم أنه أفضل أو من أفضل زمانه ولا يطلقون عليه هذه الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان، لا سيما أن من المنتحلين لهذا الاسم من يدعي أن أول هؤلاء الأقطاب هو: الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ثم يتسلل الأمر إلى من دونه إلى بعض مشايخ المتأخرين، وهذا لا على مذهب أهل السنة، ولا على مذهب الرافضة. فأين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والسابقون من المهاجرين والأنصار؟ والحسن عند وفاة النبي كان قد قارب سن الاحتلام.
وقد حكي عن بعض الأكابر من الشيوخ المنتحلين لهذا الاسم: إن القطب الفرد الغوث الجامع ينطبق علمه على علم الله وقدرته على قدرة الله، فيعلم ما يعلمه الله ويقدر على ما يقدر عليه الله. وزعم أن النبي كان كذلك، وأن هذا انتقل عنه إلى الحسن، فيتسلسل إلى شيخه. فبينت له أن هذا كفر صريح وجهل قبيح، وأن دعوى هذا في الرسول كفر، دع ما سواه، وقد قال تعالى: { قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ }، وقال تعالى: { قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاء اللهُ } الآية، وقال تعالى: { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا }، وقال تعالى: { يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ }، وقال تعالى: { لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ } والآية بعدها، وقال تعالى: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء }. والله تعالى قد أمرنا أن نطيع رسوله وقد قال تعالى: { مَّنْ يُطِعِ الرَسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ }، وأمرنا أن نتبعه قال تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فاتَبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ }، وأمرنا أن نعزره ونوقره وننصره، وجعل له من الحقوق ما بينه في كتابه وسنة رسوله، حتى أوجب علينا أن يكون أحب إلينا من أنفسنا وأهلنا، فقال تعالى: { النَبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ }، وقال تعالى: { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ } إلى قوله: { الفَاسِقِينَ }، وقال : "والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين". وقال له عمر رضي الله عنه: "يا رسول الله، واللهِ لأنت أحبَّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي". فقال: "لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك". قال: فأنت أحبّ إليَّ من نفسي، قال: "الآن يا عمر". وقال: "ثلاث من كن فيه وَجَدَ حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار".
وقد بين في كتابه الحقوق التي لا تصلح إلا له، وحقوق رسوله ، وحقوق المؤمنين بعضهم على بعض، كما بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وذلك مثل قوله تعالى: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }، فالطاعة لله وللرسول، والخشية لله، والتقوى لله وحده، وقوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ }، فالإيتاء لله وللرسول، كقوله: { وَمَا آتَاكُمُ الرَسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا }، لأن الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، وأما الحسب فهو لله وحده، كما قالوا: { حَسْبُنَا اللهُ }، ولم يقل: حسبنا الله ورسوله، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي: يكفيكك الله ويكفي من اتبعك من المؤمنين، وهذا هو المقطوع به في هذه الآية؛ ولهذا كانت كلمة إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام: { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }.
فصل
قال العراقي:- النقل السادس: قال ابن عبد الهادي الحنبلي تلميذ الشيخ ابن تيمية في كتابه الصارم المنكي في الرد على السبكي ناقلا عن شيخه ابن تيمية، ما نصه: وإنما يعرف هذا في حكاية ذكرها الفقهاء عن أعرابي أتى القبر وتلا هذه الآية: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } الآية، وأنشد:
- يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ** فطاب من طيبهن القاع والأكم
- روحي الفداء لقبر أنت ساكنه ** فيه العفاف وفيه الجود والكرم
- وقد استحب طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد مثل ذلك، واحتجوا بهذه الحكاية التي لا يبت بها حكم شرعي، بل لقضاء حاجة هذا الأعرابي وأمثالها أسباب بسطت في غير هذا الموضع، وليس كل من قضيت له حاجة بسبب يقتضي أن يكون السبب مشروعًا، وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحًا ولا يكون عالمًا أنه منهي عنه، فيثاب على حسن قصده، ويعفى عنه لعدم علمه وهذا باب واسع، ثم الفاعل قد يكون متأولا أو مخطئًا أو مجتهدًا أو مقلدًا، فيغفر له خطؤه، ويثاب على ما يفعله من الخير المشروع، كالمجتهد المخطئ وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.
- والحكاية التي ذكرها الفقهاء من كافة أهل المذاهب: مارواه العتبي التابعي الجليل عن الأعرابي: أنه أتى قبر النبي وتلا الآية ثم قال: قد جئتك مستغفرًا من ذنبي، مستشفعًا بك إلى ربي، وأنشد البيتين، وقد استحسن ذلك كافة أهل العلم، وذكروه في المناسك في بحث الزيارة، واستحبوا ذلك، وكيف لا يثبت الاستحباب بهذه الحكاية، وهي واقعة في خير القرون ولم تنكر، وارتضاها الفقهاء؟ فهي دليل على الاستحباب، ثم إن الشيخ رحمه الله فسّؤ أن سؤال الحاجة من النبي وغيره واقع، وأن المجتهد المخطئ والمقلد المتأول مثابون على حسن قصدهم، فلا يكفرون في مثل هذا، ولا يشركون ولا يؤثمون. انتهى كلام العراقي.
إن هذا النقل قد اعتراه ما اعترى أمثاله، وأجرى التحريف عليه قلم إفكه وضلاله، فإن الحافظ محمد بن عبد الهادي لما تكلم على الحكاية التي احتج بها السبكي عزاها إلى مالك في جوابه لأبي جعفر المنصور وقرر أنها من الموضوعات وأن إسنادها إسناد مظلم منقطع، مشتمل على من يتهم بالكذب، وساق كلام الحفاظ في جرح رواتها وإطراح حديثهم ثم قال بعد ذلك: وقد قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم: "ولم يكن أحد من السلف يأتي قبر نبي أو غير نبي لأجل الدعاء عنده، ولا كان الصحابة يقصدون الدعاء عند قبر النبي ولا عند قبر غيره من الأنبياء، وإنما كانوا يصلون ويسلمون على النبي وعلى صاحبيه. واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي لا يستقبل قبره وتنازعوا عند السلام عليه".
وذكر كلامهم في استقباله عند السلام، وقرّر رد الحكاية المذكورة عن مالك، وذكر نصوصه التي يخالفها، وأطال الكلام، ثم قال بعدها:
وأما الحكاية في تلاوة مالك هذه الآية: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَسُولُ } الآية فهو - والله أعلم - باطل؛ فإن هذا لم يذكره أحد من الأئمة فيما أعلم، ولم يذكر أحد منهم أنه استحب أن يسأل بعد الموت لا استغفارا ولا غيره وكلامه المنصوص عنه وعن أمثاله ينافي هذا.
ثم قال: "وإنما يعرف مثل هذا في حكاية ذكرها طائفة من متأخري الفقهاء عن أعرابي أنه أتى قبر النبي وتلا هذه الآية وأنشد بيتين - وذكرهما الشيخ، ثم قال -: ولهذا استحب طائفة من متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد مثل ذلك، واحتجوا بهذه الحكاية التي لا يثبت بها حكم شرعي، لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعًا مندوبًا لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأعمل من غيرهم، بل قضاء الله حاجة مثل هذا الأعرابي وأمثاله لها أسباب وقد بسطت في غير هذا الموضع. وليس كل من قضيت حاجته بسبب يقتضي أن يكون السبب مشروعًا مأمورًا به، فقد كان الرسول يسأل في حياته المسألة فيعطيها لا يرد سائلا وتكون المسألة محرمة في حق السائل حتى قال: "إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارا قالوا يا رسول الله فلم تعطيهم؟ قال: يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل". وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحا ولا يكون عالما أنه منهي عنه فيثاب على حسن قصده ويعفى عنه، لعدم علمه وهذا باب واسع. وعامة العبادات المبتدعة المنهي عنها قد يفعلها بعض الناس ويحصل له بها نوع من الفائدة، وذلك لا يدل على أنها مشروعة بل لو لم تكن مفسدتها أغلب من مصلحتها لما نهي عنها، ثم الفاعل قد يكون متأولا أو مخطئا أو مقلدا فيغفر له خطؤه ويثاب على ما فعله من الخير المشروع المقرون بغير المشروع كالمجتهد المخطئ" انتهى.
فانظر إلى هذا التحريف والتبديل الذي لم يسبقه إلى مثله من الأمة سابق ولا يستحله إلا زنديق منافق. فقد حذف أول الكلام وما سيق لأجله، وحذف قول الشيخ: "فإن هذا لم يذكره أحد من الأئمة فيما أعلم ولم يذكر أحد منهم استحب أن يسأل النبي بعد الموت لا استغفارًا ولا غيره، وكلام مالك المنصوص عنه وعن أمثاله ينافي هذا.
وبدل أيضًا كلام الشيخ فإن الشيخ قال: في حكاية ذكرها طائفة من متأخري الفقهاء، والعراقي نسبها عن الشيخ إلى كل الفقهاء. فقال: "في حكاية ذكرها الفقهاء". فاعرف إلحاده. وحذف وسط العبارة وهي قوله: "لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعًا مندوبًا لكان الصحابة والتابعون أعلم وأعمل به من غيرهم"، وحذف من وسطها أيضًا قوله: فقد كان رسول الله يسأل في حياته المسألة فيعطيها لا يرد سائلا وتكون المسألة محرمة في حق السائل حتى قال: "إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارا قالوا يا رسول الله فلم تعطيهم؟ قال: يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل". وحذف أيضًا قوله: "وعامة العبادات المبتدعة المنهي عنها قد يفعلها بعض الناس ويحصل له بها نوع من الفائدة، وذلك لا يدل على أنها مشروعة بل لو لم تكن مفسدتها أغلب من مصلحتها لما نهي عنها" كل هذا حذفه.
فهل ترى يا ذا العقل السليم أكذب من هذا على الله وعلى أولي العلم من خلقه وأشد جرأة على تبديل دينه وتغييره؟
وكلام الشيخ من أوله إلى آخره صريح في المعنى من دعاء الله عند قبر النبي وحكاه عن الأئمة وذكر اتفاقهم عليه، وأنّه لم يذكر أحد منهم استحباب سؤال النبي بعد موته لا استغفارًا ولا غيره. { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } وحرفوا نصوص أهل العلم وألحدوا فيها، وأحالوها عن صرائح نصوصها وظواهر كلماتها. وهل بدلت أديان الأنبياء إلا بمثل هذا؟ والموعد قريب: { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ }. ومن كان هذا غاية رده ونهاية ما عنده، فلا يمتنع عليه تبديل ما اطلع عليه ورآه من كتب الشريعة ودواوين الإسلام، ولو سلك هذا المسلك في كتاب الله وفي أحاديث الرسول لهدم قواعدها واجتث أصلها وطمس أعلامها وغير حقائقها، وقد قرأ بعض الجهمية قوله تعالى: { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } بنصب الاسم الشريف على أنه معمول، ولم يتجاسر إلى هذه الغاية التي انتهى إليها العراقي، فالحمد لله الذي كشف عن سوأته وأبدى خزيه لعباده المؤمنين.
فصل
قال العراقي:- النقل الثالث عشر: قال رحمه الله في كتاب الفرقان: "ونجد كثيرًا من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه وليًا لله أنه صدر منه مكاشفة أو بعض التصرفات الخارقة للعادة، أو أن بعضهم استغاث به وهو غائب أو ميت، فرآه قد جاء فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سرق لهم أو بحال غائب لهم، أو مريض. وليس شيء من هذه الأمور يدل على أن صاحبها ولي لله، بل اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء ومشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته للرسول وموافقته لأمره ونهيه. وكرامات أولياء الله أعظم من هذه الأمور. انتهى نقله.
- فانظر إلى كلامه، ولا سيما قوله: "وأن بعضهم استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاء فقضى حاجته"، فإنه تسليم منه بأن هذا الأمر يقع على وجه الكرامة. ويستدل به على ولاية صاحبه، لكن بشرط أن يكون المستغاث به متابعًا لأمر الرسول وموافقًا له ولنهيه".
- فحينئذ تبين أن النبي وأصحابه والتابعين ومن بعدهم من الأولياء العاملين، يجوز أن يعتقد فيهم الولاية، بسبب الاستغاثة بهم، سواء كانوا غائبين أو ميتين، وأن هذا يقع على وجه الكرامة، وأن كرامات الأولياء أعظم من هذه الأمور بل قد تقرر في كتب العقائد باتفاق أهل السنة أن كرامات أولياء الله يجب اعتقادها كما ذكره الشيخ في التحفة العراقية، بل قال: إن منكرها من الخوارج والرافضة، ومعلوم أن الكرامة لا تنشأ عن فعل محرم، فلو كانت الاستغاثة محرمة لما عدّها الشيخ وغيره كرامة، بل حينئذ تكون استدراجًا، على أن الشيخ ذكر أن المجتهد والمقلد والمؤول الذي له حسن قصد لا يكون ذلك بالنسبة إليه محرمًا، بل يكون جائزًا أو مستحبًا لنسبته لاعتقادهم، وهذا ظاهر لا غبار عليه إلا على من طمس الله بصيرته. انتهى.
سياق الكلام ومقتضى التقرير في كلام الشيخ الذي نقله العراقي نفي الولاية بهذه المذكورات، ونفي الاستدلال عليها بالمكاشفة وخوارق العادة، ورؤية المستغاث به من الغائبين والأموات، والإخبار بما سرق وبحال الغائب والمريض. وقرر أن هذا ونحوه لا يدل على الولاية أصلًا. وأن أولياء الله متفقون على أن الرجل لو طار في الهواء ومشى على الماء لم يغتر به، حتى يتقيد بمتابعة الرسول موافقته لأمره ونهيه، وهذا تصريح من الشيخ بنفي الاستدلال بهذا على الولاية وإبطاله. وليس فيه تسليم مجئ المستغاث به الميت أو الغائب إلى المستغيث وأنه يقضي حاجته وأنه يستدل به على الولاية، كما زعم العراقي. بل هو قد ذكر قوله: "فرآه" فأسند الرؤية إلى المستغيث، وقرر في هذا الكتاب وفي غيره أن الإنسان قد يرى بواسطة الشياطين أشخاصًا وأشباحًا يتراءون لمن يدعو غير الله، ويستغيث به، ويظهرون لهم في صورة من يعتقدونه من المشايخ والصالحين، وأن المستغاث به لا شعور له ولا دراية له بذلك أصلًا. وقد مرّ هذا فيما نقلناه من كلامه في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم، ونزيده إيضاحًا هنا.
فكلام الشيخ في نفي الاستدلال بهذا على الكرامة، وأنه ليس منها. والعراقي صرف العبارة عن مدلولها، وصدف عنها، ونسب إلى الشيخ ما لا يحتمله كلامه بوجه من الوجوه { فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ }.
قال الشيخ رحمه الله: والطلب من النبي بعد موته وفي مغيبه ليس مشروعًا قط، ولكن كثير من الناس يدعو الموتى والغائبين من الشيوخ وغيرهم. فتمثل لهم الشياطين تقضي بعض مآربهم، لتضلهم عن سبيل الله، كما تفعل الشياطين بعبّاد الأصنام وعباد الشمس والقمر: تخاطبهم وتتراءى لهم، وهذا كثير يوجد في زماننا وغير زماننا.
وقال رحمه الله: واتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبي ولا يقبل، وهذا كله محافظة على التوحيد؛ فإن من أصول الشرك بالله، اتخاذ القبور مساجد. قال طائفة من السلف في قوله تعالى: { وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ } الآية: "هؤلاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد، فعبدوهم" وقد ذكر بعض هذا البخاري في صحيحه، لما ذكر قول ابن عباس، وذكره ابن جرير وغيره عن غير واحد من السلف، وذكره وثيمة وغيره في قصص الأنبياء من عدة طرق. انتهى.
وقال ابن القيم في كلامه عن قصة الطفيل بن عمرو الدوسي: "ومنها وقوع كرامات الأولياء، وأنها إنما تكون لحاجة في الدين أو منفعة في الإسلام والمسلمين، فهذه هي الأحوال الرحمانية التي سببها متابعة الرسول، ونتيجتها إظهار الحق، وكسر الباطل، والأحوال الشيطانية ضدها سببًا ونتيجة".
وقول العراقي: "فحينئذ تبين أن النبي وأصحابه والتابعين ومن بعدهم من الأولياء العاملين يجوز أن يعتقد فيهم الولاية بسبب الاستغاثة بهم، سواء كانوا غائبين أو ميتين":
فهذا كلام باطل لم يدل عليه كلام الشيخ، ولم يتبين منه، بل هو كلام جاهل لا يدري شرع الله، ولا يعرف دينه، وما جاءت به رسله، فإن ولاية الرسول لله أظهر من أن تحتاج إلى دليل، ورتبة النبوة فوق الولاية، فضلًا عن رتبة الرسالة، فضلًا عن رتبة أولي العزم. فهذه مراتب علية لا يدركها آحاد الأولياء والمؤمنين، فكيف يقال: يجوز أن يعتقد في النبي وأصحابه الولاية بسبب الاستغاثة؟ وقد يستجاب للمستغيث بالأصنام، فأثبت ولايتهم بأمر يكون للأصنام والأوثان مشاركة فيه، فتعسًا له، وويل أمه ما أجهله وأكثف حجابه وأفحش خطابه.
واعتقاد الولاية لا يسوغ ولا يجوز بسبب الاستغاثة ودعاء غير الله وصريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة، على أن الولاية لا تثبت بسبب من هذه الأسباب التي أنكرها الشيخ وألزمه إياها هذا العراقي جهلًا وظلمًا. وإنما تثبت بالإيمان بالله واليوم الآخر والكتب والنبيين، والقيام بالواجبات الدينية والأركان الإسلامية، قال تعالى: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } الآية إلى قوله: { الْمُتَّقُونَ }، وقال: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ }، وقال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } إلى قوله: { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا }. فهذا ونحوه هو الذي يستدل به على الولاية وتبثت به الولاية للعبد، وهذا معنى كلام الشيخ، وهذا الذي يفيده تقريره الذي مر، ولكن العراقي ألف الكذب والإلحاد، فصار له سجية يتهيأ لها بغير فكر ولا رؤية. ولو كانت الاستغاثة بغير الله سببًا للولاية ودليلًا عليها للزم القول بولاية كل معبود مع الله من الفاسقين والكهان والشياطين، بل والأصنام؛ لأن عابيدها قد تقضى حوائجهم ويخاطبون منها، كما ذكره الشيخ وغيره، وقرروا ما ورد في السير من سماع الخطاب من الأصنام والأوثان، فجعل الاستغاثة بهم سببًا للولاية جهل عظيم، ثم الأسباب لا توجب وجود المسبب بنفسها، وفرق بين الدليل والسبب، لو كان هذا ممن يعقل الخطاب، ويفرق بين الخطأ والصواب.
وأما قوله: "بل تقرر في كتب العقائد باتفاق أهل السنة أن كرامات الأولياء يجب اعتقادها كما ذكر الشيخ في التحفة العراقية" فكلام الشيخ في التحفة العراقية وغيرها وكلام أهل السنة في إثبات الكرامة حق لا ريب فيه، وإنما الذي ينكره المسلم ويرده بفطرته وضروريات دينه اعتقاد أمثال هذا العراقي من أن الكرامة تحصل بدعاء غير الله والاستغاثة به وأن ذلك دليل إثباتها. هذا لا يقوله مسلم ولا يقوله كتابي، ولا عاقل يعرف ما يخرج من بين شفتيه، وحقيقة هذا الكلام قرمطة لا تخفى على عقلاء الأنام، وليس في كلام الشيخ أن الاستغاثة بغير الله كرامة للمستغاث، فمن أين أخذ العراقي هذا البهت ونسبه إليه؟
فصل
قال العراقي:- النقل الرابع عشر، قال أيضًا في الفرقان: والناس في هذا الباب أصناف، منهم من اعتقد بشخص أنه ولي الله، وافقه في كل ما يظن أنه حدثه به قلبه عن ربه، وسلم له جميع ما يفعله، ومنهم إذا رآه فعل ما ليس بموافق للشرع أخرجه عن ولاية الله بالكلية، وإن كان مجتهدًا مخطئًا. وخيار الأمور أوسطها. وهو أنه لا يجعل معصومًا، ولا مأثومًا إذا كان مجتهدًا مخطئًا، فلا يتبع في كل ما يقول ولا يحكم عليه بالكفر والفسوق مع اجتهاده إذا خالف قول بعض الفقهاء، ووافق قول آخرين، لم يكن لأحد أن يلزمه قول المخالف، ويقول هو مخالف للشرع.
ليس في هذا الكلام ما يدل على محل النزاع أصلًا، وقد تقدم أنه لا يعذر المجتهد المخطئ إلا في المسائل الاجتهادية التي يقع فيها النزاع بين الفقهاء أو ما يخفى دليلها، وأما ما علم من الإسلام بالضرورة، فليس من هذا القبيل، ويدل على هذا قول الشيخ هنا: "إذا خالف قول بعض الفقهاء، ووافق قول آخرين" وبهذا تعرف مراد الشيخ، وأن هذا العراقي تراكمت عليه ظلمات الجهل والطبع والهوى ظلمات بعضها فوق بعض.
فصل
قال العراقي:- النقل الخامس عشر: قال في كتاب ذكر فيه الانتصار للإمام أحمد: إن الشيخ يحيى الصرصري صاحب الشعر المشهور ذكر عن علي بن إدريس أنه سأل الشيخ عبد القادر الجيلي: هل كان لله ولي على غير اعتقاد أحمد؟ وذكر جواب الشيخ عبد القادر ثم قال: "والصرصري الذي أشار إلى شعره ما ذكره في قصيدته اللامية المعروفة، حيث قال:
- وأخبرني من كان أصل طريقتي
ثم قال العراقي:
- فانظر إلى مدح ابن تيمية رحمه الله للصرصري، وقوله فيه: الفقيه الصالح صاحب الشعر المشهور، مع أن هذا الشعر الذي يعنيه شيخ الإسلام قد ذكر فيه أشياء تقتضي تكفيره على قول هؤلاء المبتدعة، فإنه استغاث بالرسول بقوله:
- لأنت إلى الرحمن أقوى وسيلة ** إليه بها في الحادثات تنصل
- وقوله:
- وتسأل رب العالمين بميته ** على السنة البيضاء غير مبدل
- وهذا دعاء على قولهم، وقوله:
- وأنت على كل الحوادث لي ولي
- وقوله:
- على تربها خديك عفر
- وكلّ هذا يقتضي الإشراك على قواعد مذهبهم الجديد، والشيخ ابن تيمية أثنى عليه بأنه فقيه صالح، ولم يعترض عليه، فانظر إلى هذه القصيدة وما فيها، وقابلها مع قول البوصيريّ: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به.. البيتين.
- وقد صرّح في البيت الثاني إن مقصوده الشفاعة يوم القيامة بجاهه مع أنه صادق، كما في البخاري وغيره، وفي تفسير قوله تعالى: { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } إنّه الشفاعة العظمى.
شيخ الإسلام رحمه الله لم يتعرض شعر الصرصري في هذا النقل لا بمدح ولا بذم، وإنما أثنى على نفس الصرصري، وحكى عنه هذه المقالة، ولا يلزم من مدح شخص وحمده من جهة أن يكون ممدوحًا محمودًا من كل جهة، بل لا يلزم من الحكم عليه بالإسلام أو الإيمان أن لا يحكم عليه بما يوجب نقص إيمانه وخلل إسلامه، ويقتضي تأثيمه ببعض السيئات، وعقابه عليها.
وقد ذكر الشيخ أن شعر يحيى الصرصري وقع فيه من الغلو والإطراء ما لا ينبغي أن يصدر مثله في حق مخلوق، وأنكر على من استغاث بغير الله أو دعاه.
قال الشيخ رحمه الله في رده على ابن البكري في مسألة الاستغاثة: "وأنه حرف الكلم عن مواضعه، وتمسك بمتشابهه، وترك المحكم، كما يفعله النصارى، وكما فعل هذا الضال - يعني ابن البكري- أخذ لفظ الاستغاثة، وهي تنقسم إلى الاستغاثة بالحي وإلى الاستغاثة بالميت. والاستغاثة بالحي تكون فيما يقدر عليه، فجعل حكم ذلك كله واحدًا، ولم يكفه حتى جعل السؤال بالشخص من مسمى الاستغاثة، ولم يكفه ذلك حتى جعل الطالب منه إنما طلب من الله لا منه، فالمستغيث به مستغيث بالله، ثم جعل الاستغاثة بكل ميت من نبي وصالح جائزة، فدخل عليه الخطأ من وجوه:
منها أنه جعل المتوسل به بعد موته في دعاء الله مستغاثًا به. وهذا لا يعرف في لغة أحد من الأمم، لا حقيقة ولا مجازًا، مع دعواه الإجماع على ذلك؛ فإن المستغاث به هو المسؤول المطلوب منه لا المسؤول به.
الثاني: ظنه أن توسل الصحابة في حياته كان توسلا بذاته لا بدعائه وشفاعته فيكون التوسل به بعد موته كذلك وهذا غلط.
الثالث: أنه أدرج السؤال أيضا في الاستغاثة به وهذا صحيح جائز في حياته وقد سوى في ذلك بين محياه ومماته وهنا أصاب في لفظ الاستغاثة لكن أخطأ في التسوية بين المحيا والممات وهذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء، لكنه موجود في كلام بعض الناس مثل الشيخ يحيى الصرصري ففي شعره قطعة منه والشيخ محمد بن النعمان كان له كتاب المستغاث بالنبي في اليقظة والمنام، وهؤلاء ليسوا من العلماء العالمين بمدارك الأحكام الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام ومعرفة الحلال والحرام، وليس لهم دليل شرعي ولا نقل عن عالم مرضي، بل عادة جروا عليها. وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم وله فضل وعلم وزهد إذا نزل به أمر خطا إلى الشيخ عبد القادر خطوات معدودة واستغاث به وهذا يفعله كثير من الناس؛ ولهذا لما نُبّه من نُبه من فضلائهم تنبهوا وعلموا أن ما كانوا عليه ليس من دين الإسلام بل هو مشابهة لعباد الأصنام." انتهى.
وقال رحمه الله في أثناء كلام له: "ونحن نعلم أن الرسول لم يشرع بالضرورة لأمته أن يدعو أحدًا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا يغيرها. كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله، ولكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يكن تكفيره بذلك حتى يبن لهم ما جاء به الرسول؛ ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن لها، وقال: هذا أصل دين الإسلام، وكان بعض أكابر الشيوخ من أصحابنا يقول: هذه أعظم ما بينت لنا، لعلمه أن هذه أصل دين الإسلام، وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات، ويسألونهم ويستجيرون بهم ويتضرعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه أعظم لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم فيدعونه دعاء المضطر، راجين قضاء حاجتهم بدعائه والدعاء به أو الدعاء عند قبره بخلاف عبادتهم لله، فإنهم يفعلونها في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف، حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام - التتار - لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف الضر، وقال بعض شعرائهم:
يا خائفين من التتر ** لوذوا بقبر أبي عمر
أو قال:
عوذوا بقبر أبي عمر ** ينجيكموا من الضرر
فقلت لهم: إنّ هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لانهزموا كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد؛ ولهذا كان أهل المعرفة والدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله، فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين والاستغاثة بالله، وإنهم لا يستغيثون بملك مقرب ولا نبي مرسل، فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الاستغاثة بربهم نصرهم على عدوهم نصرًا عزيزًا لم يتقدم لهم نظيره، ولم تهزم التتار مثل هذه الهزيمة قبل ذلك، لما صح من تحقيق التوحيد لله وطاعة رسوله، مما لم يكن قبل ذلك، فإن الله ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد". انتهى ما نقلته من كلامه.
ولم يقتصر فيه على مجرد الإنكار، بل جعله شركًا وكفرًا بعد قيام الحجة والعلم بكفر فاعله، وجعله من ضرورات الدين، بل جعله أصل الدين؛ وجعل وجود هذا الشرك مانعًا من القتال الشرعي وسببًا للهزيمة وعدم النصر، فأي إنكار أبلغ من هذا؟
وقد أنكر الشيخ ابن تيمية شعر الصرصري، ونص على أنه يقع فيه ما لا يسوغ ولا يجوز.
وقوله: "لأنت إلى الرحمن أقوى وسيلة" ليس فيه استغاثة كما زعم العراقي، بل المقصود إنه هو الواسطة بين العباد وبين الله في إبلاغ شرعه ودينه، وبيان ما يحب ويرضى، وما يكرهه عنه وينهى؛ فهو وسيلة لمن سار إلى الله على سبيله، وتمسك بهديه. وقبله قوله:
سل الله رب العالمين يميتني ** على السنة البيضاء غير مبدل
ليس صريحًا في أن السائل لله هو النبي إذ يحتمل أنه أراد: سل أيها المذنب وأيها العبد، ولكنه التفت عن التكلم إلى الخطاب، وإحسان الظن بمثله أولى.
وأما قوله:
وأنت على كل الحوادث لي ولي
فالمراد أنه يوالي الرسول ويتولاه على كل الحوادث، في اليسر والعسر، والرخاء والشدة، والضيق والسعة. لا يوالي غير أولياء الله. قال تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ }، فليس المراد بالولي المستغاث المعبود؛ فإن هذا فهم جاهلي شركي، وأهل الإسلام يفهمون من موالاة الرسول محبته وتوقيره وتعزيره وطاعته والتسليم لأمره، والوقوف عند نهيه، وتقديم قوله على قول كل أحد، هذه هي موالاة أهل الإسلام، وما قال العراقي موالاة عبادة الأصنام.
إذا عرفت هذا عرفت جهل هذا العراقي بمعاني الخطاب، وموضوع الكلام وأنه أجنبي عن مدارك الأحكام، والعلم بشرائع الإسلام، وأن قول البوصيري أشنع وأبشع من قول الصرصري، لما تضمنه من الحصر، ولما فيه من اللياذ بغير الله في الخطب الجليل، والحادث العمم، وهو قيام الساعة، وقد قال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }، فدعء غير الله في الأمور العامة الكلية أبشع من دعاء غيره في الأمور الجزئية، ولذلك أخبر أن عباد الأصنام لا يدعون غيره عند إتيان العذاب أو إتيان الساعة الهي الحادث العمم.
وأما قول العراقي: إن مقصوده الشفاعة والجاه، فهذا لا يفيده شيئًا؛ لأن عامة المشركين إنما يقصدون هذا، ولم يقصد الاستقلال إلا معطلة الصانع، وعامة المشركين إنما قصدوا الجاه والشفاعة، كما حكاه القرآن في غير موضع.
وأما تشبيه العراقي بأنه أعطى الشفاعة يوم القيامة، وأنزل عليه { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا }، فهذا تلبيس منه، وتشبيه على من لا يدري الحقائق ولم يتفطن لمسألة النزاع، فإن الخصومة والنزاع في طلب الشفاعة أو غيرها من الشفعاء في حال مماتهم، وقصدهم لذلك ونحوه من المطالب المهمة، وأما حصول الشفاعة بسؤاله إياهم يوم القيامة، فهذا لا ينكر. وهو من جنس ما كان يطلب منه في حياته . وأما بعد موته فلم يعرف عن أحد من أصحابه ولا عن أحد من أئمة الإسلام بعدهم أنه دعاه وطلب منه شفاعة أو غيرها، وإنما فعله بعض الخلوف الذين لا يرجع إليهم في مسائل الأحكام، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
فصل
قال العراقي:- النقل السادس عشر: قال في الفتاوى في جواب سؤال ورد من كيلان، في مسألة خلق القرآن ما نصه: "فمسألة تكفير أهل الأهواء والبدع متفرعة على هذا الأصل، وفي الأدلة الشرعية ما يوجب أن الله لا يعذب أحدًا من هذه الأمة على خطأ، وإن عذب المخطئ في غيرها - ثم ساق حديث أبي هريرة في الرجل الذي أمر أولاده بتحريقه، وأن يذروه في البحر وأنه شك في قدرة الله، ومع ذلك غفر الله له لما معه من خوف الله والإيمان به، ثم ذكر كلام الشيخ في الخطأ في الفروع العملية، وأنه قد وقع في بعض السلف، وساق قصة داود وسليمان وحكمهما في الغنم - ثم قال: انظر إلى كلامه وتأمله فإنه أنذر وأعذر، وتحاشى عن تكفير أهل البدع العظام القائلين بنفي قدرة الله أو عدم البعث".
والجواب أن يقال:
قد أكثر هذا العراقي من التشبيه بعدم تكفير المخطئ وعدم تأثيمه، وقد مرّ من الجواب عن هذه الشبه ما فيه كفاية. وأكثر كلامه تكرير وإسهاب، يوهم الجهال به أنه قد قرر الصواب، وأوضح الخطاب، ولا يروج هذا إلا على العوام ومن لا بصيرة له بحقيقة دين الإسلام. وقد قدمنا أن طرد قول العراقي واستدلاله يفيد عدم التأثيم والتكفير في الخطأ في جميع أصول الدين، كالإيمان بوجود الله وربوبيته وإلهيته وقدره وقضائه، والإيمان بصفات كماله الذاتية والفعلية، ومسألة علمه بالحوادث والكائنات قبل كونها، والمنع من التكفير والتأثيم بالخطأ في هذا كله رد على من كفر معطلة الذات، ومعطلة الربوبية، ومعطلة الأسماء والصفات، ومعطلة إفراده تعالى بالإلهية والقائلين بأنه لا يعلم الكائنات قبل كونها كغلاة القدرية، ومن قال بإسناد الحوادث إلى الكواكب العلوية، ومن قال بالأصلين النور والظلمة؛ فإن التزم العراقي هذا كله فهو أكفر وأضل من اليهود والنصارى، وإن زعم أن ثمَّ فرقًا بين هذا وبين مسألة النزاع التي هي دعاء الأمواب الغائبين فيما لا يقدر عليه إلا ربّ العالمين فيوجدنا هذا الفرق، وليوجدنا دليلًا على صحته، فإن لم يفعل - ولن يفعل - بطل تقريره وتأصيله، وعلم أهل العلم والإيمان أنه دلس مشبه، ليس من أهل الفقه والدين، ولا ممن يعرف الإسلام والمسلمين، ويفرق بين الموحدين والمشركين، بل هو في ظلمات الطبع والجهل والشرك المبين.
وكلام شيخ الإسلام إنما يعرفه ويدريه من مارس كلامه وعرف أصوله، فإنه قد صرّح في غير موضع أن الخطأ قد يغفر لمن لم يبلغه الشرع، ولم تقم عليه الحجة في مسائل مخصوصة، إذا اتقى الله ما استطاع، واجتهد بحسب طاقته، وأين التقوى والاجتهاد الذي يدعيه عباد القبور والداعون للموتى وللغائبين؟ كيف والقرآن يتلى في المساجد والمدارس والبيوت؟ ونصوص السنة النبوية مجموعة مدونة معلومة الصحة والثبوت؟
والحديث الذي ذكره الشيخ في رجل من أهل الفترات قام به من خشية الله وخوفه والإيمان بثوابه وعقابه ما أوجب له أن أمر أهله بتحريقه، فأين هذا من هؤلاء الضلال الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتبعوا ما تتلوا الشياطين على دعاء غير الله، والشرك برب العالمين، فسحقًا لهذا الجاهل المفتري، وبعدًا لكل ضال غوي.
ومن تأمل كلام الشيخ وسياقه عرف مقصوده، وأن الكلام فيمن كفر العصاة وأهل الكبائر، وذكر نزاع الناس في ذلك ثم قال: وأما السلف والأئمة فاتفقوا على أن الإيمان قول وعمل، فيدخل في القول: قول القلب واللسان، وفي العمل: عمل القلب والأركان.
قال: وقال المنتصرون لمذهبهم: إن للإيمان أصولا وفروعا، وهو مشتمل على أركان وواجبات ومستحبات، بمنزلة اسم الحج والصلاة؛ فإن اسم الحج يتناول كل ما يشرع فيه من فعل وترك، مثل الإحرام وترك محظوراته، والوقوف بعرفة ومزدلفة ومنى، والطواف والسعي. ثم الحج مع هذا مشتمل على أركان، متى تركت لم يصح الحج، كالوقوف بعرفة، وعلى ترك محظور متى فعله فسد حجه، وهو الوطء. ومشتمل على واجبات، من فعل وترك، يأثم بتركها عمدًا، ويجب لتركها لعذر أوغيره الجبران بدم، كالإحرام من المواقيت، والجمع بين الليل والنهار بعرفة، وكرمي الجمار ونحو ذلك. ومشتمل على مستحبات من فعل وترك يكمل الحج بها، ولا يأثم بتركها، ولا توجب دمًا، مثل رفع الصوت بالإهلال والإكثار منه، وسوق الهدى، وذكر الله في تلك المواضع، وقلة الكلام إلا في أمر ونهي. فمن فعل ذلك الواجب، وترك المحظور، فقد تم حجه وعمرته، وهو مقتصد من أصحاب اليمين في هذا العمل. لكن من أتى بالمستحب فهو أكمل وأتم حجًا وعملًا، وهو سابق مقرب، ومن ترك المأمور، وفعل المحظور، لكنه أتى بأركانه، وترك مفسداته فجه ناقص، يثاب على ما فعله من الحج، ويعاقب على ما تركه، وقد سقط عنه أصل الفرض. - إلى أن قال -: فمسألة تكفير أهل والأهواء والبدع متفرعة على هذا الأصل. - ثم ذكر مذاهب الأئمة في ذلك وذكر تكفير الإمام أحمد للجهمية، وذكر كلام السلف في تكفيرهم وإخراجهم من الثلاث والسبعين فرقة، وغلظ القول فيهم، وذكر الروايتين في تكفير من لم يكفرهم، وذكر أصول هذه الفرق، هم: الخوارج، والشيعة، والمرجئة، والقدرية - ثم أطال الكلام في عدم تكفير هذه الأصناف. واحتج بحديث أبي هريرة - ثم قال: وإذا كان كذلك فالمخطئ في بعض المسائل إما أن يلحق بالكفار من المشركين وأهل الكتاب، مع مباينته لهم في عامة أصول الإيمان، فإن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وتحريم المحرمات الظاهرة، هو من أعظم أصول الإيمان، وقواعد الدين، وإذا كان لا بد من إلحاقه - أي المخطئ - بأحد الصنفين، فإلحاقه بالمؤمنين المخطئين أشد شبهًا من إلحاقه بالمشركين وأهل الكتاب، مع العلم بأن كثيرًا من أهل البدع منافقون النفاق الأكبر، فما أكثر ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم من زنادقة منافقين، وأولئك في الدرك الأسفل من النار.
فتبين بهذا مراد الشيخ، وأنه في طوائف مخصوصة، وأن الجهمية غير داخلين، وكذلك المشركين، وأهل الكتاب لم يدخلوا في هذه القاعدة. فإنه منع إلحاق المخطئ بهذه الأصناف، مع مباينته لهم في عامة أصول الإيمان، وهذا هو قولنا بعينه. فإنه إذا بقيت معه أصول الإيمان، ولم يقع منه شرك أكبر، وإنما وقع في نوع من البدع فهذا لا نكفره ولا نخرجه من الملة.
وهذا البيان ينفعك فيما يأتي من التشبيه بأن الشيخ لا يكفر المخطئ والمجتهد، وأنه في مسائل مخصوصة، وبين أن الإيمان يزول بزوال أركانه وقواعده الكبار، كالحجّ يفسد بترك ركن من أركانه، وهذا عين قولنا، بلغ هو أبلغ من مسألة النزاع.
ومن تأمل كلام الشيخ في هذا الباب عرف المراد، ومن أزاغ الله قلبه فلا حيلة فيه.
وحديث الرجل الذي أمر أهله بتحريقه كان موحّدًا ليس من أهل الشرك فقد ثبت من طريق أبي كامل عن حماد عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة: "لم يعمل خيرًا إلا التوحيد" فبطل الاحتجاج به عن مسألة النزاع.
وأما الخطأ في الفروع والمسائل الاجتهادية إذا اتقى المجتهد ما استطاع فلم نقل بتكفير أحد بذلك ولا بتأثيمه. والمسألة ليست في محل النزاع. فإيراد العراقي لها هنا تكثر بما ليس له وتكبير لحجم الكتاب بما لا يغني عنه فتيلًا.
وهل أوقع الاتحادية والحلولية فيما هم عليه من الكفر البواح والشرك العظيم والتعطيل لحقيقة وجود رب العالمين إلا خطؤهم في هذا الباب الذي اجتهدوا فيه، فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل؟ وهل قُتل الحلّاج باتفاق أهل الفتوى على قتله إلا ضلال اجتهاده؟ وهل كفر القرامطة وانتحلوا ما انتحلوه من الفضائح الشنيعة، وخلعوا ربقة الشريعة إلا باجتهادهم فيما زعموا؟ وهل قالت الرافضة ما قالت، واستباحت ما استباحت من الكفر والشرك وعبادة الأئمة الاثني عشر وغيرهم، ومسبة أصحاب الرسول وأم المؤمنين الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، إلا باجتهادهم فيما زعموا؟ وهؤلاء سلف العراقي في قوله: "إن كل خطأ مغفور". وهذا لازم له لا محيص عنه هنا، واستصحب ما ذكر هنا في رد ما يأتي، ويمر عليك من نحو هذه الشبهة، وقد تقدم في أول الجواب ما فيه كفاية، وإنما كررنا الجواب لتكرير الشبهة وإن عادت العقرب فالنعل لها حاضرة.
فصل
قال العراقي:- النقل السابع عشر: "قال في الفتاوى أيضًا، وفي جوابه له: "وأما هؤلاء القلندرية المحلقين اللحى فمن أهل الضلالة، وأكثرهم كافر بالله ورسوله، لا يرون وجوب الصلاة ولا الصيام، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، بل كثير منهم أكفر من اليهود والنصارى، لويسوا من أهل الملة، ولا من أهل السنة. وقد يكون فيهم من هو مسلم، ولكنه مبتدع ضال، أو فاجر فاسق. - إلى أن قال - ويجب عقوبتهم جميعهم، ومنعهم من هذا الشعار الملعون، كما يجب ذلك في كل معلن ببدعة وفجور. وليس ذلك مختصًا بهم، بل كل من كان من المتفقهة، والمتعبدة، والمتفلسفة، ومن وافقهم من أهل الديوان والملوك، والأغنياء، والكتاب، والأطباء، والعامة خارجا عن الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسوله، لا يقر بجميع ما أخبر الله به على لسان رسوله، ولا يوجب ما أوجب الله ورسوله، ولا يحرم ما حرم الله ورسوله، أو يدين بدين يخالف الدين الذي بعث الله به رسوله ظاهرًا وباطنًا؛ مثل أن يعتقد أن شيخه يرزقه، أو ينصره أو يهديه، أو يغيثه، أو كان يعبد شيخه أو يدعوه ويسجد له، أو يفضله على النبي تفضيلا مطلقا، أو مقيدا في شيء من الفضل الذي يقرب إلى الله تعالى، وكان يرى نفسه هو أو شيخه مستغنيا عن متابعة الرسول ، فكل هؤلاء كفار إن أظهروا، ومنافقون إن لم أبطنوا. وهؤلاء الأجناس، وإن كانوا قد كثروا في هذا الزمان، فلقلة دعاة العلم والإيمان، وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك. وفي أوقات الفترات، وأمكنة الفترات: يثاب الرجل على ما معه من العلم، ويغفر له لم تقم الحجة عليه ما لا يغفر لمن قامت عليه الحجة، كما في الحديث المعروف: "يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة، ولا صيامًا، ولا حجًا، ولا عمرة، إلا الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة. ويقولون: أدركنا آباءنا يقولون: لا إله إلا الله فقيل لحذيفة بن اليمان: ما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ فقال: تنجيهم من النار، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار".
- وأصل ذلك: أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع، يقال: هي كفر قولا مطلقًا، كما دل على ذلك الدليل الشرعي؛ فإن الإيمان والتكفير من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم. ولا يجب أن يحكى في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير، وتنتفى موانعه، مثل من قال: شرب الخمر أو الربا حلال؛ لقرب عهده بالإسلام، والنشأة ببلاد بعيدة، أو سمع كلاما أنكره ولا يعتقد أنه من القرآن ولا من أحاديث الرسول ، كما كان بعض السلف ينكر أشياء حيث لم يثبت عنده أن النبي قالها، وكان الصحابة يشكون في أشياء مثل رؤية الله وغير ذلك، ومثل الذي قال لأهله: "إذا أنا مِتُّ فاسحقوني، ثم ذروني في اليم؛ فلعلي أضل الله" ونحو ذلك؛ فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة الرسالية، وقد عفى الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان. وقد أشبعنا الكلام عليها في أماكنها، والفتوى لا تحتمل البسط أكثر من هذا. والله أعلم". انتهى.
- فتأمل كلام شيخ الإسلام في هذه الطائفة القلندرية وأشباههم، مع قوله: "إن أكثرهم لا يؤمن بالله ورسوله، وقوله: لا يرون وجوب الصلاة والصيام، ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله، وكثير منهم أكفر من اليهود والنصارى، وأنهم يخالفون الدين الذي بعث الله به رسوله باطنا وظاهرًا، وأنهم يعتقدون أن شيخهم يرزقهم وينصرهم ويهديهم ويغيثهم، ويعبدون شيوخهم ويسجدون لهم، ويفضلون شيوخهم على النبي وكل واحدة من هذه الخصال مكفرة إذا اعتقدوا أن الرزق والنصرة والإغاثة من شيوخهم استقلالا من دون الله من غير تأويل أنها بشفاعتهم، وهذا كله عندهم لفتور آثار الرسالة، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك وأنهم مثابون مغفور لهم على ما معهم من الإيمان. وإن كلمة لا إله إلا الله تنجيهم من النار حتى كررها الصحابي الجليل صاحب رسول الله مع عدم إيجابهم الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة وأن حال هؤلاء كحال بعض الصحابة وبعض السلف الشاكين في ثبوت بعض الآيات، أو بعض الأحاديث، ولم تبلغهم أو بلغتهم أولوها ومثل الذي أمر أهله بإحراقه وذره في الهواء واعتقد أن الله لا يقدر عليه وعلى بعثه وصرّح رحمه الله أن الكفر لا يثبت على معين، إن أطلق عليه الكفر بالكتاب والسنة والإجماع، حتى تبثت شروط التكفير، وتنتفي موانعه. ومن جملة موانعه كما صرّح به غير مرّة: الاجتهاد في مسألة، ولو مخطئًا والتقليد لمجتهد في هذه المسألة أو تأويلًا يعذره الله فيه، أو شبهة أو جهلًا وحسن قصد، وانظر إلى قوله: فإن الإيمان والتكفير من الأمور المتلقاة عن الله ورسوله وليس ذلك مما يحكم الناس فيه بظنونهم وأهوائهم، فأنصف يا أخي ولا تتجاسر على من يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ومع ذلك يوجب ما أوجبه الله ورسوله ويصلي ويصوم ويزكي ويحج ويحب الله ورسوله، ويؤمن بكتبه وملائكته ورسله، والله يصلنا وإياك.
هذا العراقي يتكثر بما ليس له، ويخرج عن محل النزاع، ويوهم الجهال أنه قد أفاد وأجاد، وهو في ظلمات لا تنقشع ولا تكاد. وهذا الكلام الذي حكاه عن الشيخ صريح في تكفير من خرج عن الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسوله ولا يقر بجميع ما أخبر الله به على لسان رسوله، أو لا يوجب ما أوجب الله ورسوله أو لا يحرم ما حرم الله ورسوله، أو كان يدين بدين يخالف ما بعث الله به رسوله ظاهرًا وباطنًا، مثل أن يعتقد أن شيخه يرزقه أو ينصره أو يهديه أو يغيثه، أو كان يعبد شيخه أو يسجد له أو يفضله على النبي تفضيلًا مطلقًا أو مقيدًا، أو كان يرى أنه هو أو شيخه مستغنيًا عن متابعة الرسول ، قال: "فكل هؤلاء كفار إن أظهروا ومنافقون إن أبطنوا" فجزم بكفرهم وقرره، وهذا عين كلامنا، ولم نزد على الشيخ حرفًا واحدًا، بل كلامه أبلغ، ويدخل تحته من التكفير بالجزئيات ما دون مسألة النزاع بكثير.
وأما قوله: "وإن كانوا قد كثروا في هذه الأزمنة فلقلة دعاة العلم وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك، وفي أوقات الفترات وأمكنة الفترات يثاب الرجل على ما معه من العلم، ويغفر له ما لم تقم الحجة عليه، ما لا يغفر لمن قامت عليه الحجة" إلى آخر كلامه:
فهذا هو الذي تمسك به العراقي، أعني على هذا الكلام الأخير، وظن أنه له لا عليه، وهذا غلط ظاهر وجهل مستبين؛ فإن النزاع فيمن قامت عليه الحجة، وعرف التوحيد، ثم تبين في عداوته ومسبته ورده، كما فعل هذا العراقي، أو أعرض عنه فلم يرفع به رأسًا، كحال جمهور عباد القبور، ولم يعلم، ولكن تمكن من العلم ومعرفة الهدى، فأخلد إلى الأرض واتبع هواه، ولم يلتفت إلى ما جاءت به الرسل ولا اهتم به. وكان شيخنا محمد بن عبد الوهاب يقرر في مجالسه ورسائله أنه لا يكفر إلا من قامت عليه الحجة الرسالية، وإلا من عرف دين الرسول وبعد معرفته تبين في عداوته ومسبته، وتارة يقول: وإذا كنا لا نكفر من يعبد الكواز ونحوه ونقاتلهم حتى نبين لهم وندعوهم، فكيف نكفر من لم يهاجر إلينا؟ ويقول في بعضها: وأما من أخلد إلى الأرض واتبع هواه، فلا أدري ما حاله؟ وإذا كان هذا كلام شيخنا وهذه طريقته فكيف يلزمه العراقي وينسب إليه التكفير بالعموم، ويحتج عليه بقول الشيخ: إن أهل الفترات ومن لم تبلغهم الدعوة يغفر لهم ما لا يغفر لغيرهم؟
والعراقي لبس الحق بالباطل وافترى على الشيخ ونسب إليه ما ليس من مذهبه وما لم يقل وألزمه ما هو بريء منه، ثم أخذ في رد ما افتراه وبهت الشيخ به، وبهذا تعرف أنه مخلط ملبس.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب طبقات المكلفين - بعد أن ذكر الطبقة السادسة عشرة -: "رؤوس الكفر وأئمته ودعاته الذين كفروا وصدوا عباد الله عن الإيمان وعن الدخول في دين الله رغبة ورهبة، فهؤلاء عذابهم مضاعف، ولهم عذابان: عذاب بالكفر، وعذاب بصد الناس عن الدخول في الإيمان؛ قال تعالى: { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ } - وأطال الكلام في تغليظ كفر هذه الطبقة، ومضاعفة عذابهم، ثم ذكر الطبقة السابعة عشرة فقال -: "الطبقة السابعة عشرة: طبقة المقلدين وجهال الكفار وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبع يقولون: { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } ولنا أسوة بهم، ومع هذا فإنهم مسالمون لأهل الإسلام غير محاربين لهم كنساء المحاربين وخدمهم وأتباعهم الذين لم ينصبوا أنفسهم لما نصب له أولئك أنفسهم من السعي في إطفاء نور الله وهدم دينه وإخماد كلماته، بل هم بمنزلة الدواب، وقد اتفقت الأمة على أن هذه الطبقة كفار وإن كانوا جهالا مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم، إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لم يحكم لهؤلاء بالنار وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة. وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين لا الصحابة ولا التابعين ولا من بعدهم، وإنما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدث في الإسلام، وقد صح عن النبي أنه قال: "ما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" فأخبر أن أبويه ينقلانه عن الفطرة إلى اليهودية والنصرانية والمجوسية ولم يعتقد في ذلك غير المربي والمنشأ على ما عليه الأبوان، وصح عنه أنه قال: "إنّ الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة". وهذا المقلد ليس بمسلم وهو عاقل مكلف، والعاقل لا يخرج عن الإسلام أو الكفر. وأما من لم تبلغه الدعوة فليس بمكلف في تلك الحال، وهو بمنزلة الأطفال والمجانين وقد تقدم الكلام عليهم.
قلت: وهذا الصنف - أعني من لم تبلغهم الدعوة - الذين استثناهم شيخ الإسلام ابن تيمية فيما نقل عنه العراقي، واستثناهم شيخنا الشيخ محمد رحمه الله تعالى، وصنف شيخ الإسلام رسالة في أن الشرائع لا تلزمه إلا بعد البلاغ وقيام الحجة.
ثم قال ابن القيم رحمه الله: "والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له والإيمان بالله وبرسوله واتباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم وإن لم يكن كافرًا معاندًا فهو كافر جاهل، فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفارا، فإن الكافر من جحد توحيد الله تعالى وكذب رسوله، إما عنادا وإما جهلا وتقليدا لأهل العناد. فهذا وإن كان غايته أنه غير معاند فهو متبع لأهل العناد؛ وقد أخبر الله في القرآن في غير موضع بعذاب المقلدين لأسلافهم من الكفار، وأن الأتباع مع متبوعهم وأنهم يتحاجون في النار، وأن الأتباع يقولون: { رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ }، وقال تعالى: { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَارِ فَيَقُولُ الضُعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَارِ، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ }، وقال تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ، وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَيْلِ وَالنَهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا }. فهذا إخبار من الله وتحذير بأن المتبوعين والتابعين اشتركوا في العذاب ولم يغن عنهم تقليدهم شيئا. وأصرح من هذا قوله تعالى: { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا }، وصح عن النبي أنه قال: "من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه، لا ينقص من أوزارهم شيئًا". وهذا يدل على أن كفر من اتبعهم إنما مجرد اتباعهم وتقليدهم، نعم لا بد في هذا المقام من تفصيل به يزول الإشكال، وهو الفرق بين مقلد تمكن من العلم ومعرفة الحق فأعرض عنه، ومقلد لم يتمكن من ذلك بوجه؛ والقسمان واقعان في الوجود، فالمتمكن المعرض مفرط تارك للواجب عليه لا عذر له عند الله. وأما العاجز عن السؤال والعلم الذي لا يتمكن من العلم بوجه، فهم قسمان: أحدهما: مريد للهدى مؤثر له محب له غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم المرشد، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات، ومن لم تبلغه الدعوة. الثاني: معرض لا إرادة له ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه. فالأول: يقول يا رب، لو أعلم لك دينا خيرًا مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه، ولا أقدر على غيره فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي. والثاني راض بما هو عليه لا يؤثر غيره ولا تطلب نفسه سواه، ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته وكلاهما عاجز؛ وهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما بينهما من الفرق. فالأول كمن طلب الدين في الفترة فلم يظفر به فعدل عنه بعد استفراغ الوسع في طلبه عجزا وجهلا، والثاني كمن لم يطلبه بل مات على شركه وإن كان لو طلبه لعجز عنه، ففرق بين عجز الطالب وعجز المعرض.
فتأمل هذا الموضع والله يقضي بين عباده يوم القيامة بعدله وحكمته، ولا يعذب إلا من قامت عليه الحجة بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق. وأما كون زيد بعينه وعمرو قامت عليه الحجة أم لا فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وعباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول هذا في الجملة. والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه. هذا في أحكام الثواب والعقاب وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر، فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا، لهم حكم أوليائهم. وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة وهو مبني على أربعة أصول:
أحدها: أن الله سبحانه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه. كما قال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا }، وقال: { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُسُلِ }، وقال تعالى: { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ }، وقال: { فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَعِيرِ }، وقال: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ }، وهذا كثير في القرآن يخبر أنه إنما يعذبهم لأنه قد جاءهم الرسول وقامت عليه الحجة، وهم المذنبون المفترون بذنوبهم، وقال تعالى: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَالِمِينَ }، والظالم: من عرف ماجاء به الرسول وتمكن من معرفته ثم خالفه وأعرض عنه؛ وأما من لم لم يكن عنده من الرسول خبر أصلًا ولا تمكن من معرفته بوجه وعجز عن ذلك فكيف يقال: إنه ظالم؟
الأصل الثاني: أن العذاب يستحق بشيئين: أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادته بها وبموجبها. الثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها. فالأول كفر إعراض والثاني كفر عناد. وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا هو الذي نفى الله التعذيب عليه حتى تقوم حجته بالرسل.
والأصل الثالث: أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه لكونه كالذي لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له، فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئا ويتمكن من التفهم، وهو أحد الأربعة الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة كما تقدم في حديث الأسود وأبي هريرة وغيرهما.
الأصل الرابع: أن أفعال الله سبحانه وتعالى تابعة لحكمته التي لا يخل بها وأنها مقصودة لذاتها المحمودة وعواقبها الحميدة.
وهذا الأصل هو أساس الكلام في هذه الطبقات الذي عليه ينبني، مع تلقي أحكامها من نصوص الكتاب والسنة لا من آراء الرجال وعقولهم. ولا يدري قدر الكلام في هذه الطبقة إلا من عرف ما في كتب الناس ووقف على أقوال الطوائف في هذا الباب وانتهى إلى غاية مرامهم ونهاية إقدامهم. والله الموفق للسداد الهادي إلى الرشاد.
وأما من لم يثبت حكمة ولا تعليلا ورد الأمر إلى محض المشيئة التي ترجح أحد المثلين على الآخر بلا مرجح، فقد أراح نفسه من هذا المقام الضنك واقتحام عقبات هذه المسائل العظيمة، وأدخلها كلها تحت قوله تعالى: { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } لكمال حكمته وعلمه ووضعه الأشياء مواضعها وأنه ليس في أفعاله خلل ولا عبث ولا فساد يسأل عنه كما يسأل المخلوق، وهو الفعال لما يريد، ولكن لا يريد أن يفعل إلا ما هو خير ومصلحة ورحمة وحكمة، فلا يفعل الشر ولا الفساد ولا الجور، ولا خلاف مقتضى حكمته لكمال أسمائه وصفاته وهو الغني الحميد العليم الحكيم". انتهى.
فقف هنا وتأمل هذا التفصيل البديع، فإنه رحمه الله لم يستثن إلا من عجز عن إدراك الحق مع شدة طلبه وإرادته له، فهذا الصنف هو المراد في كلام شيخ الإسلام وابن القيم وأمثالهما من المحققين رحمهم الله.
وأما العراقي وإخوانه المبطلون، فشبهوا بأن الشيخ لا يكفر الجاهل، وأنه يقول: هو معذور، وأجملوا القول ولم يفصلوا، وجعلوا هذه الشبهة ترسًا يدفعون به الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وصاحوا على عباد الله الموحدين، كما جرى لأسلافهم من عباد القبور والمشركين. وإلى الله المصير، وهو الحاكم بعلمه وعدله بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.
وأما من أعرض عن الهدى ودين الحق ولم يرفع به رأسًا بعد معرفته أو مع تمكنه من معرفته، فالأدلة القرآنية والأحاديث النبوية دالة على دخول هؤلاء في الوعيد. قال تعالى: { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } الآية.
وقول المعترض: "إن الشيخ قال لا يثبت الكفر على معين": فهذا تحريف ظاهر، وإنما قال الشيخ: لايحكم على معين. والفرق ظاهر، والشيخ شيخ الإسلام يقول - فيما ذكر في الجواب -: "إنه كفر قولا مطلقًا" وإنما توقف الحكم على المعين؛ لاحتمال عدم قيام الحكم. والعراقي يرى أن دعاء المشائخ والاستغاثة بهم وعبادتهم قربة مستحبة. فكيف يحتج بكلام الشيخ وهو صريح في الحكم بأن هذه الأمور من المكفرات؟ فسبحان من طبع على قلبه وأعمى عين بصيرته.
قال العراقي:
- النقل الثامن عشر: قال في كتاب الانتصار للإمام أحمد: ثم قد يوجد لأهل المعرفة من أولياء الله من خفيت عليه بعض السنة الاعتقادية أو غيرها، ويوجد منهم من قد أخطأ في بعض ذلك، كما يخطئ العلماء في بعض اجتهادهم فإن منها ما يكون دقيقًا ولم يبلغه فيها أثر، ومنها ما سبقه إليه قوم فتبعهم إما اجتهادًا أو تقليدًا يعذر فيه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. وليس كل من أنكر شيئًا لم يبلغه يصير فاسقًا، بل قد يكون مجتهدًا مخطئًا، فيثاب على اجتهاده، ويغفر له خطؤه. فقد أنكرت عائشة وطائفة معها رؤية محمد ربه، وأثبت ذلك ابن عباس وجمهور أهل السنة، ولم يقل أحدهما في صاحبه إلا خيرًا. وكذلك أنكرت عائشة سماع أهل القليب الموتى نداء النبي لهم يوم بدر، وثبتت النصوص أن الموتى يسمعون خفق النعال، وأنهم يسمعون كلام الأحياء، وأن عائشة لم تثبت عندها النصوص بذلك، وتأولت ظاهر قوله: { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } ولو أنكر اليوم من بلغته السنة الصحيحة لم يكن معذورًا كعذر عائشة.
قد تقدم في جواب النقل السابع عشر: أن الشيخ لا يكفر إلا من قامت عليه الحجة وبلغته النصوص، ويقرر لأصحابه أن الشرائع لا تلزم إلا بعد البلاغ، ولو توقف أحد في بلوغ الرسالة وقيام الحجة على بعض الناس في بعض المسائل، كمسألة توحيد الله ووجوب عبادته وحده لا شريك له التي هي مدلول "لا إله إلا الله" وهي من ضروريات الإسلام التي لا تخفى على الآحاد. ثم أمثال هذا العراقي ممن بلغته الآيات والأحاديث فألحد وحرف وبدل، لا يشك في قيام الحجة عليه وبلوغ الرسالة في هذه المسائل المخصوصة، وهو ممن بدل نعمة الله من بعد ما جاءته كفرًا، ولا شك في كفره وكفر أمثاله، وإن لم تقم الحجة عليه لم تقم على أحد من عباد القبور.
فكلام الشيخ الذي نقل في هذا الكتاب من أوله إلى آخره: أن من بلغته الحجة في أصول الدين وأصر وعاند يكفر بالإجماع، وإنما يتوقف فيمن لم تقم عليه الحجة ولم يبلغه الدليل.
فظهر أن كلام الشيخ نص في تكفير هؤلاء المعاندين المحرفين للنصوص الصادين عن سبيل الله.
ثم أين مسألة الرؤية ومسألة سماع الموتى من مسألة النزاع؟ وقد تقدم لك أن الرجل يتكثر بما ليس له، كالأقرع يفتخر بجمّة ابن عمّه.
قال العراقي:
- النقل التاسع عشر: قال الشيخ شمس الدين ابن القيم في كتابه الكبائر وفي كتاب السنة والبدعة له في بيان بدعة الرفض من هذين الكتابين: قال الشيخ الحافظ السلفي - نزيل الإسكندرية - بسنده إلى يحيى بن عطاف المعدل -: إنه حكى عن شيخ من دمشق - ثم ساق حكاية منامية من جنس ما يتكثر به من الأوهام التي يتعلق بها أمثاله من الخرافيين.
ليس في الحكاية جواز الاستغاثة برسول الله ، وفاعل ذلك لا يحتج بفعله بإجماع المسلمين. وإنما سيقت العبارة لتقرير نصر الله لأوليائه وإثابة من نصرهم ووالاهم، لا لأجل الاستغاثة وأنها تجوز بغير الله وأن ذلك صواب. والاستدلال بالحكاية خروج عن موضوعها وموضوع الكتاب الذي سيقت فيه. وابن القيم قرر في غير موضع أن دعاء الموتى هو أصل شرك العالم وأنه من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه بالكفر بالطاغوت وإخلاص الدين والعبادة لله وحده؛ وقرر ذلك في كتاب الإغاثة وشرح المنازل والدواء الشافي وكتاب الهدي، وغير ذلك من مصنفاته. وسياق الحكاية صريح في أنها كرامة لأبي بكر وعمر، وأن الله هو الفاعل للكرامة. [؟] ودخول في دين عباد الكواكب والأصنام. وإنما ساق كلامهما دليلًا لو قالا إن الرسول قد فعل ذلك وأنه يستغاث به بعد موته. على أنه لا يسلم لهما، وإن قالاه، وقد حماهما الله عن ذلك وصان قدرهما عنه.
وقد مرّ في جواب الوجه السابع وما بعده من النقول عن اقتضاء الصراط المستقيم: أن الكائنات لا يحاط بأسبابها، وأنها ليست من الأدلة على الأمر والنهي والوجوب والاستحباب والجواز والإباحة، وقد يكون السبب رحمة الله ونصره لأوليائه وحاجة المضطر وفاقته. فالمضطر قد يستجاب له ولو دعا الله في الحانات والأسواق. قال تعالى: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } الآية، فالجزم بأن الرسول هو الذي أجابه والقول بذلك قول بلا علم وتحكم بلا دليل ولا فهم، والعراقي ليس له عناية ولا معرفة بصناعة العلم والاستدلال، فهو كحاطب ليل أو حاطم سيل، ما وجده أخذه، وما اشتهاه قاله، من غير أصل يرجع إليه، ولا دليل يعول عليه. والله المستعان.
وقد مرّ أنه قد يستجاب لعباد الأصنام ونحوهم، وأن ذلك ليس بدليل، وأن طرده كفر متناه - كل هذا تقدم مستوفى، ويأتيك تمام الجواب بعد الحكاية التي تلي هذا.
قال العراقي:
- الوجه العشرون: وقال ابن القيم: قال الشيخ كمال الدين بن العديم في تاريخ حلب: قال أخبرني أبو العباس أحمد بن عبد الواحد عن شيخ من الصالحين يعرف بعمر بن الرعيني - وساق حكاية مثل السابقة وقعت لرافضي خبيث انتقم الله منه لتنقصه أبا بكر الصديق رضي الله عنه.
هذه الحكاية من جنس ما قبلها لا تدل على ما زعمه العراقي من الاستغاثة بالنبي أو غيره، وليس في فعل هذا الرجل المستغيث ما يستأنس به ويستريح إليه المبطلون. ونقل ابن القيم لها وإيراده لمثل هذا يقصد به بيان فضل الصديق وشناعة الرفض وقبحه، وأن الله أكرم صاحب نبيه وصديق الأمة بتعجيل العقوبة لأعدائه الرافضة ومسخهم قردة وخنازير، أو أن من والى صديق الأمة وسلك ما عليه أهل السنة والجماعة من موالاة جميع الصحابة، فإن الله ينصره ويؤيده ويستجيب دعاءه. وقد تقدم قول الشيخ في المستغيثين بالنبي ومنعه من ذلك ونهيه عنه. والاستغاثة بالأنبياء والصالحين بعد مماتهم وفي مغيبهم مسألة معروفة مشهورة تكلم فيها أهل العلم، ومنعوا منها أشد المنع وذكروا أنها من شعب الشرك وأنها أصله الذي نشأ منه وتفرع عليه سائر الشركيات. وصنف الشيخ رحمه الله مجلدًا في منع الاستغاثة بالنبي والتحذير منها ومن الاستغاثة بغيره من الأنبياء والصالحين. وقرر أدلة المنع من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار، وأكثر الكلام في المنع من هذا.
قال رحمه الله: "و مما يبين حكمة الشريعة وعظم قدرها وأنها كسفينة نوح أن الذين خرجوا عن المشروع خرجوا إلى الشرك. وطائفة منهم يصلون ويدعو أحدهم الميت فيقول: اغفر لي وارحمني. ومنهم من يستقبل القبر ويصلي إليه مستدبرا الكعبة ويقول: القبر قبلة الخاصة، والكعبة قبلة العامة. وهذا يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهدًا، وهو شيخ متبوع ولعله أمثل أصحاب شيخه، وهو يقوله عن شيخه. وآخر من أعيان الشيوخ المتبوعين أصحاب الاجتهاد في العبادة والزهد، كان يأمر المريد أول ما يتوب أن يذهب إلى قبر الشيخ فيعكف عليه عكوف أهل التماثيل. وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع والدعاء وحضور القلب ما لا يجدونه في المساجد، وآخرون يحجون إلى القبور. وطائفة صنّفوا كتبا وسموها مناسك حج المشاهد، وآخرون يسافرون إلى قبور المشايخ وإن لم يسموا ذلك منسكا وحجا، فالمعنى واحد. وبعض الشيوخ المشهورين بالزهد والتصوف صنّف كتاب الاستغاثة بالنبي في اليقظة والمنام، وذكر من مناقب هذا الشيخ أنه حج مرة وكان قبر النبي منتهى قصده، ثم رجع ولم يذهب إلى الكعبة وجعل هذا من مناقبه. وبسبب الخروج عن الشريعة صار بعض الشيوخ ممن يقصده من العلماء والقضاة اشتهر عنه أنه كان يقول: البيوت المحجوجة ثلاثة: مكة، وبيت المقدس، والبُدّة الذي في الهند الذي للمشركين، لأنه يعتقد أن دين اليهود والنصارى حق.
وجاءه بعض إخواننا العارفين قبل أن يعرف حقيقته فقال: أريد أن أسلك على يديك، فقال: على دين اليهود أو النصارى أو المسلمين؟ فقال له: واليهود والنصارى ليسوا كفارًا؟ قال: لا تشدد عليهم ولكن الإسلام أفضل. ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ كعرفات، يسافرون إليها وقت الموسم، فيعرفون بها كما يفعل بالمغرب والمشرق.
وهؤلاء وأمثالهم صلاتهم ونسكهم لغير الله، فليسوا على ملة إبراهيم. والاستغاثة بالنبي بعد موته موجودة في كلام بعض الناس مثل يحيى الصرصري ومحمد بن النعمان. وهؤلاء لهم ظاهر صلاح، ولكن ليسوا من أهل العلم، بل جروا على عادة كعادة من يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه. وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم ولهم ظاهر فضل وعلم وزهد إذا نزل به أمر خطا إلى جهة الشيخ عبد القادر خطوات واستغاث به، وهذا يفعله كثير من الناس.
وهؤلاء مستندهم مع العادة قول طائفة: قبر معروف أو غيره ترياق مجرب. ومعهم الأدلة الباطلة: أن طائفة استغاثوا بحي أو ميت فرأوه قد أتى في الهواء وقضى بعض تلك الحوائج. وهذا كثير واقع في المشركين الذين يدعون الملائكة والأنبياء أو الكواكب أو الأوثان؛ فإن الشياطين تتمثل لهم. ولو ذكرت ما أعلم من الوقائع الموجودة في زماننا من هذا لطال هذا المقام".
ثم قال - حاكيًا عن ابن البكري الذي صنف في جواز الاستغاثة بالنبي ورد عليه - وقد طاف بجوابه على علماء مصر ليوافقه واحد منهم، فما وافقوه، وطلب أن يخالفوا الجواب الذي كتبته - أي شيخ الإسلام - فما خالفوه. مع أن قوما كان لهم غرض وفيهم جهل بالشرع قاموا في ذلك قياما عظيما واستعانوا بمن كان له غرض من ذوي السلطان مع فرط عصبيتهم وكثرة جمعهم، وقوة سلطانهم ومكايدة شيطانهم". انتهى.
فتأمل هذا الكلام فإنه يستبين لك به ضلال العراقي وأنه لم يفهم المراد من الحكاية، وقد صرح شيخ الإسلام أن السنة كسفينة نوح، ومعلوم أن دعاء الأنبياء ليس من السنة، بل هو من البدع الشركية، ومنها أن بعضهم أفضى به ذلك إلى أن يصلي للميت ويقول: اغفر لي وارحمني؛ وهذا جائز عند العراقي وإخوانه من عبّاد القبور، سائغ لا ينكر. ومنها أن بعض المستغيثين يعكف على القبر عكوف أهل التماثيل، وهذا واقع منهم أيضًا، وهذا من لوازم قولهم بجواز الاستغاثة. ومنها أن جمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادتها من الرقة والخشوع وحضور القلب ما لا يجدونه في المساجد. ومنها أن بعضهم يحج إلى القبور، وهذا عند العراقي وشيعته من الفضائل التي لا تنكر. ومنها إنكار الشيخ على من صنّف كتاب الاستغاثة بالنبي في اليقظة والمنام، وأن هذا المصنف حجّ مرة وكان قبر النبي منتهى قصده، ثم رجع ولم يذهب إلى الكعبة. وفاعل ذلك عند العراقي وشيعته أفضل من الحاج إلى بيت الله. ومنها أن ذلك أفضى ببعضهم إلى أن قال: البيوت المحجوجة ثلاثة: مكة، وبيت المقدس، والبدّة الذي بالهند، وبعضهم لا يرى ذلك للبدّة الذي بالهند ويراه لمن يعتقده وما يؤلهه من المشايخ، ومنها أن بعضهم يعرّف عند مقابر الشيوخ كما يفعل بعرفة، وأن هذا وقع بالمغرب والمشرق، ومنها أن الشيخ نفى العلم عمن يستغيث بالنبي كالصرصري وابن النعمان، وأنهم جروا على عادة العامة الذين يستغيثون بالمشايخ في الشدائد، ويدعونهم، ومنها أن من له ظاهر فضل وعلم وزهد قد يقع منه الشرك والاستغاثة بغير الله، وأن مستندهم مع العادة قول طائفة: قبر معروف أو غيره ترياق مجرب، ومن المعلوم أن هذا القول صدر عن غير معصوم، وجمهور أهل العلم والإيمان قد ردوه وأنكروا على فاعله، وقد مضى فيما مرّ من عبارات شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم أن هذا لا يعرف في عهد القرون المفضلة، وكفى بهذا ذمًا. ومنها قوله: أن طائفة استغاثوا بحي أو ميت فرأوه قد أتى في الهواء وقضى بعض الحوائج؛ وهذا كثير واقع في المشركين الذين يدعون الملائكة أو الأنبياء أو الأوثان. فجزم بأن قضاء الحوائج قد يحصل لعباد الملائكة أو الأنبياء أو الكواكب أو الأوثان، وأنه لو حكى الوقائع الموجودة في زمانه لطال المقام.
قف هنا وتأمل كلام الشيخ تعرف أن العراقي ما زال في جاهليته وعوائده الشركية، لم يخرج منها إلى الملة الحنفية والسنة النبوية.
ومنها قول الشيخ وهو ثقة فيما يحكيه بالإجماع أن علماء مصر لم يوافقوا من صنف في جواز الاستغاثة بالنبي فيما لا يقدر عليه إلا الله وأبوا أن يخالفوا ما كتبه شيخ الإسلام من المنع، فالحمد لله الذي لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني به عليه عباده الصالحون.
فصل
قال العراقي:- وأما النذر فللشيخين فيه عبارات النقل الحادي والعشرين، قال في اقتضاء الصراط المستقيم: ومن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها ولم يستحب في الشريعة قصدها فهو من المنكرات وبعضه أشد من بعض، سواء كانت البقعة شجرة أو عين ماء أو جبلًا أو مغارة، وأقبح من ذلك أن ينذر لتلك البقعة دهنا لتنويرها ويقول إنها تقبل النذر. فهذا النذر نذر معصية باتفاق العلماء، بل عليه كفارة عند أكثر أهل العلم؛ منهم أحمد في المشهور عنه، وعنه رواية كقول أبي حنيفة والشافعي وغيرهما: يستغفر الله من هذا النذر ولا شيء عليه" انتهى.
- فانظر إلى كلامه في من نذر لبقعة أو جبل أو مغارة كيف قال: يلزمه كفارة يمين عند أحمد ويستغفر الله، ولا شيء عليه عند أبي حنيفة والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد، ولم يقل: هذا النذر كفر مخرج عن الملة، مع أنه لشجرة أو بقعة من أرض، فكيف يكفر من نذر لأحد الأنبياء والصالحين وقصده لوجه الله، وثوابه لذلك المنذور له، فإنه لا يضر بهذه الصورة بالاتفاق، كما سيأتي في كلام الشيخين. فإنهما قالا: إنه يصرف إلى الفقراء، وكذلك في مذهب الشافعي وأبي حنيفة.
- قال الشيخ مرعي في الغاية، وصاحب الإقناع فيه، ومنصور البهوتي في شرحه وحاشيته، والثعلبي في شرح الدليل وغيرهم من سائر غالب كتب الحنابلة قالوا: قال الشيخ تقي الدين: النذر للقبور أو لأهل القبور، كالنذر لإبراهيم الخليل أو الشيخ فلان: نذر معصية لا يجوز الوفاء به، وإن تصدق بما نذر من ذلك على من يستحقه من الفقراء والصالحين، كان خيرًا له عند الله وأنفع" انتهى.
- فلو كان الناذر كافرًا عنده لم يأمره بالصدقة فإن الصدقة لا تقبل من الكافر، بل كان يأمره بتجديد إسلامه.
- النقل الثاني والعشرون: قال ابن القيم في كتاب السنة والبدعة ما نصه:
- فصل
- ومن البدع ما زينه الشيطان لكثير من الجهلة من الرجال والنساء من تعظيم مكان لم يأذن الشارع بتعظيمه من زاوية أو طاقة أو حجر أو قبة أو شجرة أو عامود أو حرز حمام، وينذرون لذلك النذور، ويوقدون عنده الضوء ويخلقونه بالزعفران ويطيبونه بماء الورد وغيره، ويطلبون عنده الشفاء لهم ولأولادهم. وكل ذلك بدعة وإشراك بالله عز وجل، وكذلك النذر لقبور المشايخ والصالحين وطلب الشفاء من قبلهم نذر معصية وإشراك بالله تعالى. والنبي قد نهى عن النذر لله وقال: "إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به مال البخيل".
- والنذر للقبور أي قبر كان نذر معصية، لا يحل الوفاء به، بل صرفه إلى الفقراء والمساكين والأرامل واليتامى أفضل عند الله، وأنجح لقضاء الحاجة.
- ولوكان هذا شركًا مخرجًا عن الملة لما جاز صرفه للفقراء، ولم يكن أفضل، بل لا فضيلة، لأعمال الخارج عن ملة الإسلام.
ليس في كلام الشيخ ولا كلام ابن القيم ما يدل على أن النذر الواقع من عباد القبور لمن يدعونه ويقصدونه لحوائجهم وإغاثتهم في الشدائد أنه ليس بشرك، بل كلام الشيخ ابن القيم صريح في أنه نذر معصية وإشراك بالله تعالى، فكيف يسوقه وقد عده ابن القيم من أنواع الشرك الأكبر وقرنه بالتوكل على غير الله والعمل لغيره والإنابة والخضوع والذل لغير الله وابتغاء الرزق من عند غيره؟ وقد تقدم ذلك، فراجع كلامه في موضعه تعرف كذب العراقي على الله وعلى رسوله وعلى أولي العلم من خلقه. فرحم الله امرءًا نظر لنفسه قبل أن تزل به قدم ويحال بينه وبين العمل، وتعظم الحسرة منه والندم. وكذلك الشيخ صرح بأنه معصية، والمعصية تصدق بالشرك وغيره من الكبائر إذا أطلقت.
واستدلال المعترض بأنه لم يقل: هذا النذر كفر مخرج عن الملة - فإطلاق المعصية كان هو المقصود، وأيضًا فالكفر إنما يطلق بعد قيام الحجة وبلوغ الدليل، وقد تقدم أن الشيخ محمدًا رحمه الله لا يكفر إلا بعد قيام الحجة.
وقول العراقي: "فكيف يكفر من نذر لأحد الأنبياء وقصده لوجه الله؟"
ففي هذه العبارة شيئان:
الأول: استبعاده تكفير من نذر للأنبياء وجعله ذلك دون النذر للشجرة والبقعة، مع أن الفتنة بقبور المعظمين أشد محنة من الشجر والبقاع. وقد قال النبي : "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". فالشرك بالأنبياء والصالحين أخوف وأعظم فتنة، كما هو معروف.
والثاني: إضافته النذر لأحد الأنبياء، وقوله بعده: وقصده لوجه الله، فإذا كان النذر نفسه للأنبياء والصالحين بطل قوله: وقصده لوجه الله. وإنما يكون ذلك نذرًا لله وحده، وجعل الثواب لمن شاء من عباده. ومسألة إهداء ثواب القرب إلى الأنبياء لا يخفى ما فيها من القول بالمنع على من له أدنى ممارسة للعلم.
والقصد هنا بيان تناقض العراقي، وأن كلامه يدفع بعضه بعضًا.
وقوله: فإن ذلك لا يضر بالاتفاق - كذب ظاهر، فإن قول الشيخين: إنه يصرف إلى الفقراء: دليل على أنه يضر إذا صدر منه لغير الله، وأنه مأمور بالتوبة وصرف ذلك إلى الجهة المشروعة، وقد صرف النبي مال اللات في الجهاد والمصارف الشرعية التي يستعان بها على عبادة الله وحده لا شريك له. والاستدلال بصرفها في ذلك المصرف الشرعي على أنها شرك وضلال أوجبه الاستدلال بذلك على أن النذر للأصنام ونحوها ليس بشرك.
وأما ما ذكره عن بعض الحنابلة إنهم نقلوا عبارة الشيخ في أن النذر للقبور ولأهلها نذر معصية؛ فأي دليل في هذا؟ والمعصية إذا أطلقت دخل فيها الشرك كما تقدم. قال الله تعالى: { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا } وقال عن فرعون: { فَكَذَّبَ وَعَصَى }.
وأما قوله: "فلو كان الناذر كافرًا عنده لم يأمره بالصدقة، فإن الصدقة لا تقبل من الكافر".
فالجواب من وجوه:
الأول: أنه إذا أقلع عن الذنب وصرف المال في مصرفه الشرعي فهذا رجوع منه عما كان عليه وتوبة منه.
الثاني: أنه لا يقال بالكفر مطلقًا لكل ناذر لغير الله حتى تقوم الحجة الرسالية عليه.
وأما ما نقله عن ابن القيم، فقد صرّح فيه بأنه نذر ومعصية وإشراك. وشبهة هذا العراقي: أنه لو كان شركًا مخرجًا عن الملة لما جاز صرفه للفقراء، فالعراقي لم يفرق بين النذر والمنذور، فكون النذر شركًا لا يمنع الانتفاع بالمنذور في الجهة الشرعية، كما تقدم من فعله بمال اللات.
الوجه الثالث: أن الذي يصرفه في المصارف الشرعية هم ولاة الأمر وأهل العلم، وليس المقصود: أن يصرفه الناذر نفسه، فإن هذا لا يعتبر، بل يرد إلى المشروع قسرًا، ويعامل بنقيض قصده. وكلام الشيخ وأمثاله من أهل العلم ليس حجة مستقلة، بل الحجة فيما يساق من الأدلة، وقد تقدم أن القصد هنا بيان جهله بكلام الشيخ والكشف عن تحريف هذا العراقي لما نقله عن الشيخين؛ وإلّا فالمرجع إلى أدلة الكتاب والسنة. قال الله تعالى: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ }، وقال تعالى: { يُوفُونَ بِالنَذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا }، فوصف خواص عباده بالوفاء بالنذر وأثنى عليهم بذلك، وفي الآية الأخرى الوعد بالإثابة والجزاء. فثبت أنه عبادة يحبها الرب ويرضاها، أي الوفاء به، وما كان كذلك فيجب إخلاصه لله، لأن صرف العبادة لغير الله شرك. وفي حديث علي: "لعن الله من ذبح لغير الله". وهذا العراقي وأمثاله من القبوريين دفعوا في صدر النصوص وردوها بشبهات وهذيان لا يصدر عمن يعقل ما يقول، وفي آخر العبارة التي نقلها العراقي عن شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا الحكم عام في قبر نفيسة ومن هو أكبر من نفسية من الصحابة مثل قبر طلحة والزبير وغيرهما بالبصرة، وفي سلمان وغيره بالعراق.
قلت: وفيها بيان تدليس العراقي وأنه أسقطها ليروج قوله: فكيف يكفر من نذر لأحد الأنبياء والصالحين - إلى أن قال الشيخ: فيعتقدون أنها باب الحوائج إلى الله، وأنها تكشف الضر، وتفتح أبواب الرزق، أو تحفظ مصر؛ فإن من يعتقد هذا كافر مشرك يجب قتله، وكذلك من اعتقد في غيرها كائنًا من كان { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا } { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ }، والقرآن من أوله إلى آخره، بل وجميع الكتب والرسل، إنما بعثوا بأن يعبد الله وحده لا شريك له، وأن لا يجعل مع الله إله آخر. والإله من يألهه القلب عبادة واستعانة وإجلالًا وإكرامًا وخوفًا ورجاءً، كما هو حال المشركين في آلهتهم، وإن اعتقد المشرك منهم أن ما يألهه مخلوق ومصنوع، كما كان المشركون يقولون في تلبيتهم "لبيك لا شريك لك، إلّا شريكًا هو لك، تملكه وما ما ملك". وقال النبي لحصين الخزاعي: "يا حصين كم تعبد؟ قال: أعبد سبعة آلهة، ستة في الأرض وواحد في السماء، قال: فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء. قال: يا حصين، فأسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بهن، فلما أسلم قال قل: اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي". والله أعلم. انتهى.
قلت: فانظر إلى تصريح الشيخ أن من اعتقد في مخلوق أنه باب الحوائج إلى الله، يعني واسطة في الحوائج، أو أنه يكشف الضر أو يفتح باب الزرق أو يحفظ المصر أنه كافر مشرك يجب قتله. وهذا بعينه هو معتقد عباد القبور الناذرين للموتى المستغيثين بهم، وهو طريقة العراقي ومذهبه الذي نصره وقرره واستظهره، وزعم أنه لا يضر إلا إذا اعتقد الاستقلال لغير الله، كما مر عنه في غير موضع، وسيأتيك هذا القيد فيما يأتي من كلامه في مواضع متعددة. والشيخ قد رد عليه في هذا وأبطل هذا الشرط بقوله: وإن اعتقد المشرك أن ما يؤلهه مخلوق مصنوع؛ وساق ما يقوله المشركون في تلبيتهم، وساق حديث حصين، وهذا لأن الآيات القرآنية دالة على تكفير هذا النوع، أعني من اتخذ الشفعاء، والوسائط وقصدهم في حاجاته وملماته، كما كان يفعله المشركون مع آلهتهم، فكل هذا أعمى الله بصر العراقي عنه { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ }.
قال الشيخ صنع الله الحلبي نزيل مكة: وأما كونهم جوزوا الذبائح والنذور وأثبتوا لهم فيهما الأجور، فيقال: هذا الذبح والنذر، إن كان على اسم فلان وفلان، فهو لغير الله فيكون باطلًا. وفي التنزيل: { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } الآية. أي إن صلاتي وذبحي لله كما به، نظير قوله تعالى: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ }، وفي الحديث: "لا نذر في معصية الله" رواه أبو داود وغيره. والنذر لغير الله إشراك مع الله، فلا أكبر منه معصية. وفي التنزيل: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ }، فالنذر لغير الله كالذبح لغيره، وقال الفقهاء: خمسة لغير الله شرك: الركوع، والسجود، والذبح، والنذر، واليمين. ومن ذكر غير اسم الله على ذبيحته فهي ميتة يحرم أكلها ولو أشرك مع اسمه تعالى أحدًا، كقوله: بسم الله ومحمد ، بواو العطف. فكذا تحرم ذبيحته، وكذا لو ترك اسم الله عمدًا على الذبيحة، لا تؤكل عندنا، فهي ميتة لصريح قوله عز وجل: { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } الآية. فترك المؤمن ذكر الله تعالى عمدًا كذكر غيره. نعم لو قال: هذا النذر لله يذبح في مكان كذا ويصرف على جماعة فلان أو على رباط فلان، فلا بأس به، كما في الوقف على فلان وفلان، فإن قوله: "لله" مالك له، وتصرف غلته على من عينه الواقف، وكذا هنا.
والحاصل أن النذر لغير الله تعالى فجور، فمن أين لهم الأجور؟ وكذا الذبائح من قال: إن هذا النذر لفلان وهذه الذبيحة لفلان، فهو من العصيان. ومن نذر لله ذبحًا أو غيره، قال: يذبح بمكان كذا ويأكله قوم، جاز والله الهادي.
قلت: إذا نذر لله وجعل مصرفه على السدنة والمجاورين عند القبور فهو نذر معصية لا يجوز، ويجب صرفه في القرب الشرعية، كالحجاج والمعتكفين في المساجد. وقد ذكر هذا غير واحد، والمنع منه لما فيه من الإعانة على العكوف عند القبور الذي هو من أكبر الوسائل والذرائع إلى عبادتها ودعائها.
قال تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } وفي الحديث: "إن رجلًا نذر أن ينحر إبلًا ببوانة، قبل إسلامه، فلما أسلم سأل النبي عن نذره، فقال: هل كان بها وثن من أوثان الجاهلية؟ قال: لا، قال: هل كان بها عيد من أعياد الجاهلية؟ قال: لا، قال: فأوف بنذرك". ففيه المنع من عبادة الله في أماكن الشرك وعبادة غيره للمشابهة الصورية وإن لم نقصد، فكيف بالذرائع والوسائل القريبة المفضية إلى عين الشرك ونفس المحذور الأكبر؟
فقف وتأمل إن كان لك بصيرة تدرك بها أسرار الشريعة.
فصل
قال العراقي:- النقل الثالث والعشرون قال: ابن مفلح في كتاب الفروع عن شيخه تقي الدين: والنذر لغير الله، كنذره لشيخ معين للاستغاثة به، وقضاء الحاجة منه قال شيخنا: كحلفه بغيره، وقال غيره: نذر معصية. انتهى.
- فشبه النذر والاستغاثة بالشيوخ وطلب قضاء الحاجة بالحلف بغير الله، فهو على قولين للعلماء، كما ذكره ابن تيمية: قول بالحرمة، وقول بكراهة التنزيه، بل رواية عن أحمد أنه مباح، نقله صاحب الإنصاف في التنقيح.
- النقل الرابع والعشرون: ذكر الشيخ سليمان بن عبد الوهاب في ردّه على أخيه محمد بن عبد الوهاب، عن الشيخ ابن تيمية قال: كما يفعل الجاهلون بمكة شرفها الله وغيرها، من بلاد المسلمين من الذبح للجن، ولهذا نهى النبي عن ذبائح الجن. انتهى.
- وذكر ابن القيم في كتاب الكبائر الذبح لغير الله، وجعله من المحرم، وفسره بأن يقول: باسم سيدي الشيخ فلان، عوضًا عن قوله: بسم الله، حين الذبح، مع أن اللفظة لا أظن مسلمًا يقولها، والمستفاد من كلامهما أنه محرم، وليس بشرك مخرج عن الملة؛ لأنه قال: كما يفعله، وقال في الفنون: يكره إشعال القبور وتبخيرها، ثم قال: ونص أنه إن نذر ذبح ولده أو نفسه ذبح كبشًا، قيل مكانه، وهو الأصح، وقيل كهدي. ونقل حنبل يلزمانه. وعنه إن قال إن فعلته فعلي كذا أو نحوه، وقصده اليمين فيمين، وإلا فنذر معصية، فيذبح في مكة كبشًا اختاره شيخنا، وقال: عليه أكثر نصوصه. وقال: وهو مبني على الفرق بين النذر واليمين، ولو نذر طاعة حالفًا بها أجزأه كفارة يمين، بلا خلاف عن أحمد، فكيف لا يجزيه إذا نذر معصية حالفًا بها، فعلى هذا على رواية حنبل يلزم أن الناذر والحالف يجزيه كفارة فتصير ستة أقوال. وذكر الأزجي البغداديّ: نذر شرب الخمر لغو، فلا كفارة. ونذر ذبح ولده يكفر. وقدم ابن رزين نذر معصية لغو. قال: ونذره لغير الله كنذر لشيخ معين حي للاستعانة وقضاء الحاجة منه، كحلفه بغيره. وقال غيره: هو نذر معصية.
فللكثافة أقوام لها خلقوا ** وللمحبة أكباد وأجفان
ثم كلام الشيخ فيمن نذر للحي الحاضر للاستعانة وقضاء الحاجة. وهذه النقول كلها مجرد عدد لا حقيقة له، بل هي إما تحريف وإلحاد في كلام أهل العلم، وإما سوء فهم وكثافة حجاب، وإما كذب لا أصل له.
وأما ما نقله عن سليمان، فسليمان والعراقي أخذا بعض العبارة وتركا تمامها، وما ارتبط بها.
قال في اقتضاء الصراط المستقيم: "وأيضًا فإن قوله تعالى: { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ }، ظاهره ما ذبح لغير الله سواء لفظ فيه به، أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبح للحم، وقال فيه باسم المسيح ونحوه. كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله أزكى مما ذبحناه للحم وقلنا عليه باسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور. والعبادة لغير الله أعظم كفرًا من الاستعانة بغير الله. فلو ذبح لغير الله متقربًا إليه لحرم، ولو قال فيه بسم الله، كما يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن". انتهى كلام الشيخ.
فأخذ المعترض السطر الأخير من كلامه أو بعض السطر، وأخذ المشبه وترك المشبه به، لأن في الأول التصريح بردة من ذبح لغير الله. وأن في الذبح للجن مانعًا آخر لأنه مما أهل به لغير الله.
وقوله في العبارة: فإن عبادة الله بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه بفواتح الأمور، والعبادة لغير الله أعظم كفرًا من الاستعانة بغير الله - فترك هذا وسرق بعض العبارة واختلس منها كاختلاس الشيطان من صلاة العبد واختطافه بعضها. وفي العبارة التصريح بكفر من استعان بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، خلافًا للعراقي وشيعته من عباد القبور الصادين عن سبيل الله المحرفين للكلم عن مواضعه، الوارثين لليهود في تحريف كلمات الله وتبديل دينه.
وهذا الرد أمليت أكثره من ذهني، فلذلك اختصرت واكتفيت بالإشارة، وقد فتحت الباب لمن أراد الوقوف على النصوص والآثار وكلام أهل العلم.
وأما ما ذكره ابن القيم في كتاب الكبائر من الذبح لغير الله وجعله من المحرم فنعم هو محرم، قال تعالى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } إلى قوله { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } فجعل هذا كله محرمًا، هذا عرف القرآن والسنة والشرع. والعراقي لجهله وسوء قصده يحمل كلام أهل العلم على العرف النبطي الحادث واصطلاح العامة، فقاتل الله الجهل والهوى، فما أغلظهما من حجاب بين العبد والهدى.
وأما قوله: وفسره بأن يقول: باسم سيدي الشيخ فلان، عوضًا عن قوله: باسم الله:
قلت: قد تقدم كلام الشيخ وتقسيمه ما أهل به لغير الله إلى ما قصد به القربة والنسك لغير الله، وإلى ما ذكر عليه غير اسمه عند الذبح، فالقسمان واقعان، ومنع أحدهما مكابرة. وكلام ابن القيم ليس فيه حصر، بل كلامه في هذه المسألة موافق لكلام شيخه.
والقسم الثاني الذي هو أغلط وأفحش نص عليه في مواضع متعددة. وقال صاحب الروض من كتب الشافعية: إذا ذبح المسلم للنبي كفر، نقله شيخنا رحمه الله، وذكره غير واحد من المفسرين في الكلام على قوله: { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ } ونقل بعضهم عن فقهاء بخارى أنهم أفتوا بتحريم ما عقر بين يدي الملوك، تعظيمًا لهم. لأنه مما أهل لغير الله به.
قال العلامة الشوكاني: قال بعض أهل العلم: إنّ إراقة دماه الأنعام عبادة لأنها إما هدي أو ضحية أو نسك، وكذلك ما يذبح للبيع، لأنه مكسب حلال فإنه عبادة. ويتحصل من ذلك شكل وضعي، هو إراقة دم الأنعام عبادة. وكل عبادة لا تكون إلا لله، فإراقة دم الأنعام لا تكون إلا لله، ودليل الكبرى قوله تعالى: { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ }، { فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ }، { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }، { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ }، { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِينَ }. انتهى.
ويكفي المؤمن في هذا الباب قوله تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ }، وقوله تعالى: { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ }، وقوله تعالى: { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ }.
فإن الإحسان أعلى مراتب الإيمان دخول هذه العبادة فيه، لأنّ السياق لها ظاهر لا يخفى. وفي المسند عن طارق بن شهاب أن النبي قال: "دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: مرّ رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب إليه شيئًا، فقالوا لأحدهما: قرِّب، قال: ما عندي شيء أقربه، فقالوا له: قرِّب ولو ذبابًا، فقرَّب ذبابًا فخلوا سبيله فدخل النار. فقالوا للآخر: قرِّب، قال: ما كنتُ لأقرِّب لأحد من دون الله عز وجل فضربوا عنقه فدخل الجنة".
فقف عند هذا وتأمل حكمة الشريعة وسرها في إخلاص العبادة والتعظيم الذي لا ينبغي إلا لله، ولو بأحقر شيء كالذباب، فكيف بكرائم الأموال. والله المستعان.
والنبي حسم مادة الشرك وقطع وسائله، حتى نهى عن الصلاة في الأوقات التي يسجد فيها الكفار للشمس، ونهى عن الصلاة عند القبور خشية الفتنة بها وبأربابها وإن كان المصلي لا يقصد شيئًا من ذلك. ولعن من فعل ذلك وأبدى وأعاد فيه، وقال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وفي رواية لمسلم: "وصالحيهم". وقال ذلك عند مفارقة الدنيا إلى الرفيق الأعلى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام. ونهى عن الحلف بغير الله وقال: "من حلف بغير الله فقد أشرك". وقال لرجل قال له: "ما شاء الله وشئت": "أجعلتني لله ندًا؟ بل ما شاء الله وحده".
قال شيخ الإسلام: وأما من قصد التبرك بالصلاة عندها، فهذا عين المحادة لله ولرسوله. انتهى.
وعلى رأي هذا العراقي أنها تدعى ويستغاث بها وتقصد وترجى ويذبح لها؛ فهذا عين العبادة وعين الغاية التي قطع الرسول وسائلها وسد ذرائعها. فهذا وأمثاله هم الآمرون بالشرك الواضعون له الداعون إليه الرادون لما جاءت به الرسل من توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له. وإنما حدث الشرك برأي جنس هؤلاء، والله المستعان.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: عبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين، وهي التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب. قال تعالى وتقدّس: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَاغُوتَ }، وقال: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ }. وكان النبي يحقّق التوحيد ويعلمه أمته، حتى قال له رجل: "ما شاء الله وشئت فقال: "أجعلتني لله ندًا؟ بل ما شاء الله". ونهى عن الحلف بغير الله. وقال: "من حلف بغير الله فقد أشرك". وقال في مرض موته: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما فعلوا" وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد" وقال: "لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم. فإنّ صلاتكم تبلغني". ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور ولا الصلاة عندها، وذلك لأنّ من أكبر أسباب عبادة الأوثان تعظيم القبور. ولهذا اتفق العلماء على أنه من سلّم على النبي عند قبره أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها؛ لأنه إنما يكون التمسح بأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق. كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه الذي لا يقبل الله عملًا إلّا به، ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } إلى قوله { عَظِيمًا }؛ ولهذا كانت كلمة التوحيد أعظم الكلام وأفضله. فأفضل آية في القرآن آية الكرسي { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }، قال : "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة". والإله هو الذي يألهه القلب عبادة له واستغاثة له ورجاء له وخشية وإجلالًا". انتهى كلامه.
قال العراقي في النقل الخامس والعشرين:
- قال الشيخ تقي الدين بن تيمية في الفتاوى: "والكفر يكون من الوعيد، فإنه إن كان القول تكذيبًا بما قاله الرسول ، لكن قد يكون حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده أو عارضها عنده معارض أوجب تأويلها، وإن كان مجتهدًا مخطئًا. وكنت دائمًا أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال لأهله: "إذا أنا مت فاحرقوني ثم ذروني - الحديث" هذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن لما كان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه غفر له بذلك. والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول أولى بالمغفرة من مثل هذا" انتهى.
قد تكررت هذه الشبهة وكثر بها العدد، هكذا المفلس إذا رجع إلى ما في عيبته فوجدها صفرًا اشتغل بتقليب ما في يديه. وقد تقدم جوابها مرارًا، وذكرنا أن عباد القبور قد قامت عليهم الحجة أو على جمهورهم بالكتاب والسنة والإجماع؛ فإن هذ الباب - أعني باب عبادة الله وحده لا شريك له - هو خلاصة الكتب الإلهية وزبدة الدعوة النبوية، وتقدم في جواب ما نقله عن ابن القيم وعن الشيخ، ففيه كفاية.
قال الشيخ رحمه الله في الرد على المتكلمين، لما ذكر أن بعض أئمتهم توجد منهم الردة عن الإسلام كثيرًا، قال: وهذا وإن كان من المقالات الخفية فقد يقال فيها: إنه مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها، لكن هذا يصدر منهم في أمور يعلمها الخاصة والعامة من المسلمين: أن الرسول بعث بها وكفر من خالفها، مثل عبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه من الملائكة والنبيين وغيرهم. فإن هذا أظهر شعار الإسلام، ومثل إيجابه الصلوات الخمس وتعظيم شأنها؛ ومثل تحريم الفواحش والزنا والخمر والميسر. ثم تجد كثيرًا من رؤوسهم وقفوا فيها فكانوا مرتدين. وأبلغ من ذلك: أن منهم من صنف في دين المشركين كما فعل أبو عبد الله الرازي، قال: وهذه ردّة صريحة.
فتأمّل ما في هذا من التفصيل تزول الشبهة التي يدلي بها بعض المشركين. وتقدم كلام الشيخ في الرسالة السنية وقوله: فإذا كان على عهد النبي وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عباداته العظيمة حتى أمر بقتالهم فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضًا من الإسلام وذلك بأسبابها؛ ومنها الغلو الذي ذمه الله في كتابه - إلى أن قال: فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعًا من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني أو أغثني أو ارزقني أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكلّ هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل.
فانظر رحمك الله إلى تصريحه بكفر هذا الصنف الذين هم محل النزاع، وأن من فعل ذلك قتل بعد الاستتابة إن لن يتب. وهذا عين كلامنا.
فالتشبيه في هذه المسألة بخبر الذي أمر أهله أن يذروه أو بقول الشيخ إن المخطئ لا يكفر إذا اجتهد واتقى ونحو هذه العبارات تمويه وتشبيه.
والنزاع فيمن قامت عليه الحجة أو أمكنه الاستدلال، لا فيما يخفى من المسائل أو كان مما يختص أهل العلم بمعرفته. فهذا نحوه ليس مما نحن فيه، وإيراده والاحتجاج به على مسألة النزاع تمويه لا يروج على أهل البصائر.
قال العراقي:
- النقل السادس والعشرون: وقال أيضًا في بعض كتبه ونقله الشيخ سليمان بن عبد الوهاب في رده على أخيه قال: "إني دائمًا ومن جالسني يعلم أني من أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معين إلى تكفير أو تفسيق أو معصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرًا تارة وفاسقًا أخرى وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية والمسائل العملية. وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولا يشهد أحد منهم على معين لا بكفر ولا بفسق ولا بمعصية، كما أنكر شريح قراءة: { بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ } وقال: إن الله لا يعجب - إلى أن قال -: وقد آل النزاع بين السلف إلى الاقتتال مع اتفاق أهل السنة أن الطائفتين جميعًا مؤمنتان وأن الاقتتال لا يمنع العدالة الثابتة لهم، لأن المقاتل وإن كان باغيًا فهو متأول، والتأويل يمنع الفسوق. وكنت أبين لهم أن ما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا، ونحو هذا حق. لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين. وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار وهي مسألة الوعيد، فإن نصوص الوعيد في القرآن مطلقة عامة، كقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا }، وكذلك سائر ما ورد: من فعل كذا وكذا فهو كذا، فإن هذه النصوص مطلقة عامة. وهي بمنزلة من قال من السلف: من قال كذا فهو كذا. - إلى أن قال: والتكفير يكون من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيبًا لما قاله الرسول ، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده أو عارضها عنده معارض آخر يوجب تأويلها، وإن كان مخطئًا. وكنت دائمًا أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال لأهله: "إذا أنا مت فأحرقوني - الحديث" فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذُريَ، بل اعتقد أنه لا يعاد. وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك. والمتأول من أهل الأجتهاد الحريص على متابعة الرسول أولى بالمغفرة من مثل هذا". انتهى.
إن شيخنا رحمه الله قال في مثل هذه الشبه التي يوردها المبطلون من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية بمثل ما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية سواء. وإن من تأمل كلامه رحمه الله وجده يصله بما يفصل النزاع ويبين المراد. وقد بين في هذا النقل بيانًا يقطع النزاع بقوله: إلا إذا علم أنه قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرًا تارة وفاسقًا أخرى. وهذا البيان كافٍ. فإن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهّاب رحمه الله لا يكفّر أحدًا قبل قيام الحجّة. وهذا يأتي على جميع ما ساقه العراقي بالرد والدفع، فسياق هذه العبارات المتحدة المعاني والتشبيه بها وكثرة عددها مجرد تخييل وهوس، يكفي في ردها ما تقدم بيانه من اشتراط قيام الحجة، وإن فرض كلام الشيخ في كل ما نقل العراقي في غير ما يعلم من الدين بالضرورة، وفي غير المفرط في طلب العلم والهدى، كما تقدم فيما نقلناه من طبقات المكلفين، وتقدم نص الشيخ أن فرض كلامه في غير المسائل الخفية، وكل جملة من هذه الجمل تكفي المؤمن في ردّ جميع ما نقله ابن جرجيس عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وينبغي أن يعلم الفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة، فإن من بلغته دعوة الرسل فقد قامت عليه الحجة إذا كان على وجه يمكن معه العلم، ولا يشترط في قيام الحجة أن يفهم عن الله ورسوله ما يفهمه أهل الإيمان والقبول والانقياد لما جاء به الرسول . فافهم هذا يكشف عنك شبهات كثيرة في مسألة قيام الحجّة، قال تعالى: { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا }، وقال تعالى: { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ }، وتأمّل كلام الشيخ وقوله: وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل. وقوله: "ولكن قد يكون الرجل حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة، وقوله: وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر يوجب تأويلها". وكلّ هذا لا يمكن أن يقال في عبّاد القبور.
فتأمّل كلام الشيخ واعرف ضلال ابن جرجيس في حمله كلام الشيخ على عذر عباد القبور والأنبياء والصالحين، واعرف سوء فهمه وكثافة حجابه، وقد تقدم هذا مرارًا.
ويقال أيضًا: كلام الشيخ في عدم إطلاق الكفر على المعين إذا كان له عذر من جنس ما تقدم، لكن أثبتَ وقرر أن نفس العمل والفعل يكون كفرًا، وإن لم يكن فاعله لمانع، وهذا الملحد لا يقول ذلك فيمن عبد الصالحين وأهل القبور، بل يقول: هم مثابون مأجورون بدعائهم غير الله، ويسمى الدعاء توسلا، قد مرّ هذا عنه في غير موضع، ويأتيك أكثر مما مرّ، فاعرف جهله، وأنه لم يأنس بشيء مما جاءت به الرسل، ولم يتعقل ما يحكيه من كلام أهل العلم.
فقف هنا يا من أنعم الله عليه تعرف بعدما جاء به هذا الملحد عما جاءت به جميع الرسل، وأنه أضلّ من كثير من أعدائهم، والله المستعان.
النقل السابع والعشرون من نقول ابن جرجيس:
- وقال أيضًا في الفتاوى - حين سئل عن التكفير الواقع في هذه الأمة -: أول من أحدثه في الإسلام المعتزلة. وعنهم تلقاه من تلقاه، وكذلك الخوارج هم أول من أظهره. واضطرب الناس في ذلك، فمنهم من يحكي عن مالك فيه قولين، وعن الشافعي كذلك، وعن أحمد روايتين، وأبو الحسن الأشعريّ وأصحابه لهم فيه قولان. وحقيقة الأمر: إن القول قد يكون كفرًا، فيطلق القول بتكفير قائله، ويقال: من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها - ثم ساق كلام الشيخ في أن المقالات الكفرية لا يكفر قائلها إلا بعد قيام الحجّة.
قد تكرر هذا عن العراقي، ولكنه أراد أن يعظم حجم الكتاب ويظن العامة أن قد جدّد حجة من السنة أو الكتاب أو كلام ذوي الألباب، وهو لم يزل ولا يزال يتردد في ظلماته ويكرر ريبه وشبهاته. والجواب تقدم.
وفيما ساقه هنا رد لباطله وحجة عليه، من جهة أن الشيخ حكى في تكفير الخوارج ونحوهم عن مالك قولين، وعن الشافعي كذلك، وعن أحمد أيضًا روايتين؛ وأبو الحسن الأشعريّ وأصحابه لهم قولان، وحيث كان الحال هكذا في الخوارج فقد اختلف الناس في تكفيرهم. والغلاة في علي لم يختلف أحد في تكفيرهم. وكذلك من سجد لغير الله أو ذبح لغير الله أو دعاه مع الله، رغبًا أو رهبًا. كل هؤلاء اتفق الخلف والسلف على كفرهم لما ذكره أهل المذاهب الأربعة، ولا يمكن لأحد أن ينقل عنهم قولًا ثانيًا. وبهذا تعلم أن النزاع وكلام الشيخ ابن تيمية وأمثاله في غير عباد القبور والمشركين، وإنما فرضه وموضوعه في أهل البدع المخالفين للسنة والجماعة. وهذا يعرف من كلام الشيخ ولكن العراقي من جملة البقر والثيران، وإن كان ضخم العمامة واسع الأردان. وقد تقدم قول الشيخ من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعًا، فحكى الإجماع على كفر هذا الصنف، وحكى الخلاف في تكفير الخوارج ونحوهم؛ فاعرف الفرق، ولولا عموم الجهل وبعد العهد بآثار النبوة لما أطلنا الكلام في مثل هذه المباحث لأنها مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام.
قال ابن جرجيس:
- النقل الثامن والعشرون: قال الشيخ ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم ما نصه: فكما أن إثبات المخلوقات أسبابًا لا يقدح في توحيد الربوبية ولا يمنع أن يكون الله خالق كل شيء، فلا يجوز أن يدعى المخلوق لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة، كذلك إثبات بعض الأفعال المحرمة - من شرك أو غيره - أسبابًا لا يقدح في توحيد الإلهية، فإن أحسن أحواله أن يكون مجتهدًا في هذه المسألة أو مقلدًا.
قد تقدم لهذا العراقي، ويأتيك عنه في غير موضع، أنه استدل بإجابة الدعاء عند القبور وإجابة من سأل أهل القبور على استحباب ذلك، وأنه دين يحبه الله ويرضاه. وحكى هنا عن الشيخ أن ذلك لا يقدح في توحيد الربوبية، ولا يمنع أن يكون الله خالق كل شيء، فلا يجوز أن يدعي المخلوق لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة. فهذا يهدم قوله ويدفع صدره، ولكنه لا شعور له بما في كلام الشيخ من الحق والهدى، وكذلك بما في قوله: إثبات بعض الأفعال المحرمة من شرك أو غيره أسبابًا لا يقدح في توحيد الإلهية، والعراقي يجعل السبب دليلا على جواز دعاء غير الله والشرك في الإلهية. فاعجب لهذه الحكاية والقضية. وأكثر ما يدعو هؤلاء المشركين إلى دعاء القبور والصالحين ما يحكونه من أن فلانا دعا فاستجيب له، وفلانا استغاث فأغيث. وفلانا رد عليه بصره. وعند السدنة وعباد القبور من هذا شيء كثير قد أورد منه العراقي شيئًا كثيرًا، جعله من قواعد مذهبه وأدلة شركه. ومن العجب العجاب: أن الهوى يعمي الرجل حتى لا يفهم ما ينقل ولا ما يخرج من بين شفتيه.
وأما قوله: إن الشيخ قال: "فإن أحسن أحواله أن يكون مجتهدًا في هذه المسألة أو مقلدًا" فهذه الجملة ليس متصلة ولا مرتبطة بما ساق العراقي ولا مناسبة بينها وبينه. والشيخ قد ساقها في موضع آخر وبحث آخر، ولكن ابن جرجيس كذاب جاهل، وقد مر لك جنس تحريفه، قال تعالى: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَالِمِينَ }.
فصل
قال ابن جرجيس:- النقل الثلاثون: قال الشيخ في هذا الكتاب في موضع آخر: "وإذا اعتقد وجوب بما أنزل الله وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا عاص، ويسمى كافرًا كفرًا مجازيًا أو كفرًا أصغر، وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده، واستفراغ وسعه في معرفة الحق، فهذا مخطئ له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور له." انتهى.
كلام الشيخ في الحكم بين الناس والقضاء فيما بينهم من الخصومات، لا فيما يعم أصول الدين ودعاء الأموات. وسياق كلام الشيخ صريح في هذا، فإن هذه المسألة معروفة مشهورة، كما قال ابن عباس: "كفر دون كفر، وظلم دون ظلم" عند الكلام على قوله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }.
وقوله: وإن جهل حكم الله فيها - إلى آخر العبارة: دليل على أن الكلام في المسائل الاجتهادية، فأين هذا من دعاء الأموات والاستغاثة بغير الله؟ مع أن الشيخ قد قرّر على حديث القضاة ثلاثة: أن الجاهل الذي ليس له أهلية اجتهاد داخل في الوعيد، كما هو نص الحديث. فالعراقي ملبوس عليه لا يفهم كلام الشيخ، ومع ذلك فالهوى قد أعمى بصيرته وحال بينه وبين الفهم. فسبحان من طبع على قلبه: { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ }.
ثم قال العراقي:
- النقل الحادي والثلاثون - وساق كلام ابن القيم في أن الشخص الواحد يكون فيه ولاية لله وعدواة من وجهين مختلفين. ويكون فيه إيمان ونفاق، وإيمان وكفر، ويكون أحدهما أقرب منه إلى الآخر، فيكون من أهله؛ قال الله تعالى: { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ }، وقال تعالى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } أثبت لهم الإيمان مع مقارنة الشرك، فإن كان مع الشرك تكذيب لرسله لم ينفعهم ما معهم من الإيمان بالله، ولو كان معهم تصديق برسله وهم مرتكبون لأنواع من الشرك لا يخرجهم من الإيمان بالرسل، فهؤلاء مستحقون للوعيد أعظم من استحقاق أرباب الكبائر. وشركهم قسمان: جلي وخفي، فالخفي قد يغفر.
أي دليل في هذا على مسألة النزاع؟ فإن مراد الشيخ كما يعلم من تقريره وأول عبارته أن النفاق الأصغر وبعض شعبه قد يوجد في شخص مع وجود بعض شعب الإيمان، وكذلك الكفر العملي الذي لا يخرج عن الإسلام قد يوجد مع بعض شعب الإيمان ويكون أحدهما أقرب إليه وأولى به. وقوله تعالى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } تفيد أن الشرك قد يوجد مع الإيمان بالربوبية، كما فسرها بعض السلف، لكنه لا يكفي في النجاة، بل لا بدّ من عبادة الله وحده لا شريك له. ولذلك قال الشيخ: فإن كان مع الشرك تكذيب للرسل لم ينفعهم ما معهم من الإيمان بالله، ولو كان معهم تصديق للرسل، وهم مرتكبون لأنواع من الشرك لا يخرجهم من الإيمان، فهم مستحقون للوعيد أعظم من استحقاق أرباب الكبائر، فهذا الشرك الخفي، كما يدل عليه قوله، وأما الجلي فلا يغفر إلا بالتوبة؛ وهذا كله لنا، مبطل لما ذهب إليه العراقي، ولكنه لا يفرق بين الشرك الأكبر والأصغر، ولا يتعقل معاني ما يقول.
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ** ولا الصبابة إلا من يعانيها
قال العراقي:
- النقل الثاني والثلاثون، قال الشيخ ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم، وفيه - أي في حديث أبي ذر وقول النبي : "إن فيك لخصلة جاهلية" - أن الرجل قد يكون مع علمه وفضله ودينه فيه بعض هذه الخصال المسماة بجاهلية ويهودية ونصرانية، ولا يوجب ذلك كفره ولا فسقه.
والجواب أن يقال:
تبًّا لهذا العراقي وما أضله عن سواء الطريق، وما أجهله بكلام أهل الفضل والتحقيق، وما أكذبه على الله وعلى رسوله، وعلى أهل العلم والتصديق.
وأما قوله: وقول النبي : "إن فيك لخصلة جاهلية" فهذا كذب على الرسول ، فالرسول ما قال هذا. وإنما قال: "إنّك امرؤ فيك جاهلية" وهكذا رواه من خرّجه من أهل الدواوين الإسلامية. وشيخ الإسلام لم يقل هذا، بل أورده كما جاء من غير تحريف ولا تبديل. والعراقي ليس من أهل الصنعة، بل هو ضال غبي لا عناية له بهذا الشأن. والله المستعان.
وفرق بين النسبة إلى الجاهلية واليهودية والنصرانية وبين إطلاق الكفر والشرك على الفاعل. فإن شعب الجاهلية ونحوها ليست كلها مكفرات، ولا يقال إن تعيير الرجل بأمه كفر، ويقال هو جاهليّة. وكذلك أكل الرشاء هو من اليهودية، ولا يلزم أن يكون فاعله كافرًا. والكفر والشرك هما أكبر الذنوب على اختلاف أنواعهما، ولا كذلك التعيير بالأم ونحوه، مما ينسب إلى الجاهلية، مما دون الشرك والكفر.
وقوله: وأما مع بذل الوسع والاجتهاد والتقليد فهو عنده مأجور - فهذا القول مما يستبين به جهل العراقي وسوء فهمه، فإن النبي عاب هذا على أبي ذر، ولم يقل أحد من أهل العلم ولا قاله عن نفسه: إنه مأجور، ولا أدخل هذه المسألة في مسائل الاجتهاد، وأي اجتهاد في التعيير بالأم وقد قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }. وهذا ضرب من الناس هم أعداء النصوص والعقول والفطر، قد استهوتهم الشياطين وأزعجتهم إلى تبديل دين الله والكذب على أوليائه ومعاداة حزبه، و { لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }.
قال العراقي:
- النقل الثالث والثلاثون: قال الحافظ ابن رجب في شرح كلمة الإخلاص: "والإله هو الذي يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالًا، ومحبة وخوفًا ورجاءً، وتوكلًا وسؤالًا ودعاءً؛ ولا يصلح ذلك كله إلا لله. فمن أشرك مخلوقًا في شيء من هذه الأشياء التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحًا في إخلاصه وقدحًا في توحيده، وهذا كله من فروع الشرك. ولهذا ورد إطلاق الكفر والشرك على كثير من المعاصي التي منشؤها من غير طاعة الله أو خوفه أو رجائه أو التوكل عليه أو العمل لأجله، كما ورد إطلاق الشرك على الرياء وعلى الحلف بغير الله. ولهذا أطلق الشارع على أكثر الذنوب التي منشؤها من هوى النفس إنها كفر وشرك، كقتال المسلم، ومن أتى حائضًا أو امرأة في دبرها ومن شرب الخمر في المرة الرابعة، وإن كان ذلك لا يخرج من الملة بالكلية، ولهذا قال السلف: كفر دون كفر وشرك دون شرك". انتهى.
- قال العراقي: والمقصود من هذا النقل قوله: إن هذه الأشياء من خصائص الألوهية وأنه نقص في توحيده، وهذا كله من فروع الشرك، ويطلق عليه الكفر؛ ومع ذلك قال آخر العبارة: وإن كان ذلك لا يخرج عن الملة بالكلية، وإنه ليس بكفر وشرك مخرجين عنها، بل دون ذلك، وهذا على مذهبه اتباعًا للشيخين وأنه تلميذهما.
هذا النقل ليس فيه ما يتمسك به المبطل، فإن كلامه صريح في أن الإله هو الذي يقصد بهذه الأمور، مع أن النقل اعتراه ما اعترى أمثاله من التحريف وإسقاط بعض الكلام المتصل وترك ما فيه مما يرد على هذا العراقي ويبطل دعواه.
من ذلك: أنه حذف بعد قول المصنف: كان ذلك قدحًا في إخلاصه في قول لا إله إلا الله - فأسقط قوله: في قول لا إله إلا الله؛ لأن كلامه صريح في أن ما تقدم من العبادات صرفه لغير الله قدح في إسلام الفاعل وقوله لا إله إلا الله، وهذا قولنا بعينه، فأسقط حذرًا من قيام الحجّة، وكذلك أسقط بعد قول المصنف: وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك. وكذلك أسقط قوله: "وكذلك ما يقدح في التوحيد وتفرد الله بالنفع والضر، كالطيرة والرقى المكروهة وإتيان الكهان وتصديقهم بما يقولون. وكذلك اتباع هوى النفس فيما نهى الله عنه، قادح في تمام التوحيد. كلّ هذا أسقطه العراقي. وكذلك قوله: وقد أطلق الشارع على أكثر الذنوب، فهذا تحريف، والعبارة: على كثير من الذنوب. وأسقط: وقد ورد إطلاق الإله على الهوى المتبع. قال الله تعالى: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ }، وأسقط ما ساق الشيخ من الأحاديث وكلام السلف. وأسقط قول الشيخ: فدل على أن كل من أحب شيئًا أو أطاعه، وكان من غاية قصده ومطلوبه، ووالى لأجله وعادى لأجله فهو عبده، وذلك الشيء معبوده وإلهه. ويدل عليه أيضًا أن الله سمي طاعة الشيطان في معصيته عبادة للشيطان. كما قال تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَيْطَانَ }. وقال حاكيًا عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه قال لأبيه: { يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَيْطَانَ إِنَّ الشَيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا } إلى غير ذلك مما في الرسالة من الفوائد الرادة عليه المبطلة لإفكه وضلاله. ولم أر من بلغ هذه الغاية في الكذب والتحريف وتغيير العبارات بحذف بعضها ونقل بعضها وتبديل كلام أهل العلم - اللهم إلا ما حكى الله عن اليهود وما جاءت به السنة من أوصافهم، فهم سلف العراقي وأئمته الأولون.
ثم عبارة الشيخ ابن رجب تشهد لكلام شيخنا رحمه الله، فإن قوله: "وإن كان ذلك لا يخرج عن الملة بالكلية - ليس راجعًا إلى كلّ ما ذكر، بل هو راجع إلى قوله: ولهذا أطلق الشرع على كثير من الذنوب التي منشؤها من اتباع هوى النفس أنها كفر وشرك، كقتال المسلم ومن أتى حائضًا، إلى آخر عبارته، وهذا بين بحمد الله. وليس المقصود أن دعاء الموتى ومحبتهم مع الله وحوفهم ورجائهم ونحو ذلك يكون شركًا دون شرك، هذا لا يفهمه كلامه ولا يدل عليه بوجه، فإن ابن رجب أعلم بالله ودينه من أن يتكلم بهذه الفضيحة التي لا يقولها مسلم.
ورأيت على النسخة التي رفعت إليّ عن هذا العراقي على قول ابن رجب:
- والإله هو الذي يطاع فلا يعصى" إلى آخره، ما نصه: لا يلزم أن هذه الأشياء إذا استعملت في غير الله أن يكون غيره إلها، كما تتوهمه الخوارج المكفرون للأمة المحمدية، وهذا إذا كانت موجودة في غير أمر الشرع باستعمال هذه الأشياء معه، فإن الرسول قد أمر بطاعته كقوله: { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ }. وكذلك التعظيم والإجلال في قوله: { وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ } وكذا غير ذلك، كما في الكتاب والسنة مما بينته في غير هذا الكتاب، فلا يهولنّك ما في حنك العبارة، فإنه اصطلاح لابن تيمية وذويه. انتهى.
وجواب هذا أن يقال:
التعريف للإله من حيث هو: المعبود. ولذلك أشرك من اتخذ مع الله آلهة أخرى، وسمى الشارع معبودهم إلها. قال الله تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ }، وقال: { أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ } ونحو ذلك كثير في القرآن وقال في القاموس: أله يأله إلهة وألوهية: عبد يعبد عبادة وعبودية. وكل من عبد شيئًا فقد اتخذ إلهًا. فإن كان قصد غير الله بالطاعة والهيبة والإجلال والمحبة والخوف والرجاء والتوكل والسؤال والدعاء لا يصيره إلها، وأن هذا وهم للخوارج المكفرين لهذه الأمة، فليهن قوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون ومشركي أهل الكتاب والعرب هذا الحكم الذي نفى به العراقي عنهم اتخاذ إله مع الله ولو صدر منهم ما صدر من العبادات لغير الله. الله أكبر. ما أغفل هذا العرقي وما أجهله. فإن عوام المشركين من أهل الكتاب والأميين يعلمون أن من عبد شيئًا فقد اتخذه إلها. قال قوم نوح: { لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ }، وقالت عاد: { أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ }، وقالت قريش: { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا }، فكل هؤلاء المشركين وأمثالهم يعلمون أن الإلهية تدور مع هذه العبادات حيث دارت. وهذا الثور الكبير يقول: لا يلزم أن هذه الأشياء إذا استعملت في غير الله أن يكون هذا الغير إلها. فعلى عقله التباب والعفاء. وسلام على عباده الذين اصطفى.
وأما قوله: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَسُولَ } فطاعة الرسول طاعة للمرسِل، فهي طاعة لله من أجلّ الطاعات. قال تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } وكذلك أولو الأمر من العلماء والأمراء إذا أمروا بالمعروف يطاعون تبعًا لطاعة الله ورسوله.
وأما التعزير والتوقير فالمقصود منه ما يليق بالمنصب الشريف النبوي، وليس المقصود ما يختص بمقام الربوبية ويدخل في تعريف العبادة. ولو قيل ذلك للزم جواز عبادته ، والله تعالى يقول: { وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَبِيِّينَ أَرْبَابًا } والأرباب هنا هم المعبدون.
وقوله: فإنه اصطلاح لابن تيمية وذويه - يطلعك على جهل العراقي وعدم معرفته بنصوص أهل العلم؛ فإنّ هذا التعريف مجمع عليه لا ينازع فيه مسلم فضلًا عن عالم.
ثم قال العراقي:
- النقل الرابع والثلاثون: قال ابن القيم في المدارج: "قلت: أما المستحل فذنبه دائر بين الكفر والتأويل، فإنه إن كان عالمًا بالتحريم فكافر، وإن لم يكن عالمًا فمتأول أو مقلد".
إن هذا تقدم، فذكره محض تكرير. وتقدم أن الكلام في الأحكام التي يحكم بها الحكام بين الناس، فالمستحل للحكم بغير ما أنزل الله كافر إن كان عالمًا بالتحريم، وإلا فمتؤول أو مقلد. وهذا القسم فيه تفصيل كما تقدم فيما نقلناه عن ابن القيم نفسه رحمه الله.
ثم قال العراقي:
- النقل الخامس والثلاثون في الكتاب المذكور: "وكفر الجحود كفران: كفر مطلق، ومقيد خاص. فالمطلق أن يجحد جملة ما أنزل الله ورسالة الرسول؛ والخاص المقيد أن يجحد فرضًا من فروض الإسلام أو محرمًا من محرماته أو صفة وصف الله بها نفسه أو خبرًا أخبر الله به، يجحد ذلك عمدًا، أو تقديمًا لقول متبوعه عليه لغرض من الأغراض؛ وإن كان جحد ذلك جهلًا أو تأويلًا يعذر صاحبه فلا يكفر، كحديث الذي جحد قدرة الله عليه وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح، مع هذا فقد غفر له الله ورحمه بأهله إذ كان الذي فعل هو مبلغ علمه. ولم يجحد قدرة الله على إعادته عنادًا وتكذيبًا.
هذا من جنس ما قبله، وقد تكرر الجواب عنه، وتقدم أن الجاهل والمتأول لا يعذر إلا مع العجز. ولذلك قيده الشيخ ابن القيم بقوله: تأويلًا يعذر صاحبه، فليس كل تأويل وكل جهل يعذر صاحبه. وليس كل ذنب يجري التأويل فيه ويعذر الجاهل به. وقد تقدم أن عامّة الكفار والمشركين من عهد نوح إلى وقتنا هذا جهلوا وتأولوا. وأهل الحلول والاتحاد كابن عربي وابن الفارض والتلمساني وغيرهم من الصوفية تأولوا، وعبّاد القبور والمشركون الذين هم محل النزاع تأولوا وقالوا لا يدخل على الملك العظيم إلا بواسطة، وقالوا إذا تعلقت روح الزائر بروح المزور فاض عليها مما ينزل على روح المزور، كما ينعكس شعاع الشمس على المرايا والصور. والنصارى تأولت فيما أتته من الإفك العظيم والشرك الوخيم. فقاتل الله العراقي ما أعظم جهله وما أشد عداوته لتوحيد الله وعباده المؤمنين.
وفي العبارة التي نقلها عن ابن القيم وتقسيمه الكفر إلى مطلق وخاص مقيد ما يرد على هذا العراقي في زعمه أن عباد القبور مسلمون، كما قال إخوانه من الضالين محتجين بأنهم يؤذنون ويصلون ويصومون، ولم ينظروا إلى ما معهم من الكفر الخاص والضلال البعيد. والعراقي كعنز السوء تبحث عن حتفها بظلفها.
فكان كعنز السوء قامت بظلفها ** إلى مدية تحت التراب تثيرها
قال العراقي:
- في النقل السادس والثلاثين، قال ابن القيم في المدارج: وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتصنع للخلق والحلف بغير الله - إلى أن قال - ومن أنواعه سجود المريد للشيخ. ومن أنواعه النذر لغير الله. ومن أنواعه الخوف من غير الله، والتوكل على غير الله، والعمل لغير الله، والخضوع والذل لغير الله، وابتغاء الرزق من عند غيره. ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم بنفسه. فهذا صريح كلامه أن الاستغاثة بالموتى وطلب الحوائج منهم والنذر لغير الله والسجود لغيره والحلف بغيره، كل هذا من نوع الشرك الأصغر عندهم، لا الأكبر المخرج من الملة. وهم شرطوا أنه إنما يكون محرمًا إذا يكن فاعله مجتهدًا ولا مقلدًا ولا مؤولا ولا له شبهات يعذره الله فيها ولا جاهلًا ولا له حسن قصد، كما تقدم عن الشيخين في عدة نقول.
من زعم أن هذا النوع الذي هو السجود للشيخ والنذر والتوكل والخضوع والذل لغير الله وابتغاء الرزق من عند غيره وطلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم من الشرك الأصغر فهو من أجهل الناس بدين الله وأضلهم عن سبيله. وكلام الشيخ لا يدل على هذا وليس فيه ما يتمسك به المبطل. فإنه لما عد الشرك الأصغر وفرغ من المقصود منه قال: من أنواع الشرك، وهذا رجوع إلى ما ذكر من الشرك الأكبر، ويدل عليه أول الكلام والسياق.
وقال رحمه الله: أما الشرك فهو نوعان أكبر وأصغر. فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندًا، يحبه كما يحب الله، بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويغضبون لمنتقص معبودهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين. وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة. وترى أحدهم قد اتخذ ذكر معبوده على لسانه إن قام وإن قعد وإن عثر وإن استوحش، لا ينكر ذلك ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده. وهكذا كان عباد الأصنام سواء. وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم. فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهما اتخذوها من البشر. [9] قال تعالى حاكيًا عن أسلاف هؤلاء: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ }، فهذه حال من اتخذ من دون الله أولياء، يزعم أنهم يقربونه إلى الله زلفى. وما أعزّ من تخلص من هذا، بل ما أعزّ من لا يعادي من أنكره.
والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع عند الله لهم، [10] وهذا عين الشرك. وقد أنكر الله ذلك عليهم في كتابه وأبطله وأخبر أن الشفاعة كلها له.
ثم ذكر الشيخ رحمه الله فصلًا طويلًا في تقرير هذا الشرك الأكبر. ولكن تأمل قوله: "وما أعزّ من تخلص من هذا، بل ما أعزّ من لا يعادي من أنكره" يتبين لك إن شاء الله بطلان الشبهة التي أدلى بها الملحد، إذ زعم أن كلام الشيخ في هذا الفصل - أعني الفصل الأول - في الشرك الأكبر، وذكر الآية التي في سورة سبأ: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ }، وتكلم عليها ثم قال: "والقرآن مملوء من أمثالها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته، ويظنون في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثًا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، كما قال عمر: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية"، وهذا لأنه إذا لم يعرف الشرك وما عابه القرآن وما ذمه وقع فيه وأقره، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، فتنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفّر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويبدّع بتجريد متابعة الرسول ومفارقة الأهواء والبدع. ومن له بصيرة يرى ذلك عيانًا، والله المستعان.
وهذا بعينه فعل عباد القبور، وهم المقصود بهذا الكلام، بل شركهم انتهى إلى توحيد الربوبية والأفعال، يعرف ذلك من عرف القوم وما هم عليه من الكفريات الشنيعة، إذ يزعمون أن لأوليائهم الرفع والخفض والقبض والبسط.
وقال ابن القيم في كلامه على هدم اللات في كتاب الهدي: "وكان يُفعل عندها ما يفعل عند هذه المشاهد، من النذر لها والتبرك بها والتمسح بها وتقبيلها واستلامها، هذا كان شرك القوم بها، ولم يكونوا يعتقدون أنها خلقت السموات والأرض، بل كان شركهم بها كشرك أهل الشرك من أرباب المشاهد بعينه".
فقف وتأمل هل يكون هذا في الشرك الأصغر؟
فصل
وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والحلف بغير الله، وقول: هذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، ومالي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولو لا أنت لم يكن كذا وكذا، وقد يكون هذا شركًا أكبر بحسب حال قائله ومقصده.
ثم قال الشيخ رحمه الله - بعدما ذكر الشرك الأكبر والأصغر -: ومن أنواع الشرك سجود المريد للشيخ، ومن أنواعه التوبة للشيخ فإنها شرك عظيم، ومن أنواعه النذر لغير الله، والتوكل على غير الله، والعمل لغير الله، والإنابة والخضوع والذل لغير الله، وابتغاء الرزق من عند غيره، وإضافة نعمه إلى غيره. ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى والاستغانة بهم والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا، فضلا عمن استغاث به أو سأله أن يشفع له عند الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عند الله. فإن الله تعالى لا يشفع له عنده أحد إلا بإذنه، والله تعالى لم يجعل سؤال غيره سببًا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد. فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، والميت محتاج إلى من يدعو له كما أوصانا النبي إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم ونسأل لهم العافية والمغفرة. فعكس المشركون هذا، وزاروهم زيارة العبادة وجعلوا قبورهم أوثانًا تعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود الحق وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبتهم إلى تنقص الأموات وهم تنقصوا الخالق بالشرك وأوليائه الموحدين بذمهم وعيبهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا وأنهم أمروهم به. وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل مكان وزمان، وما أكثر المستجيبين لهم. ولله خليله إبراهيم حيث يقول: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَاسِ }. وما نجا من شَرَك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله وعادى المشركين في الله وتقرب بمقتهم إلى الله" انتهى كلامه.
فانظر إلى هذا التقرير الواضح البين الذي لا يحتمل التأويل، وقوله: "طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم والتوجه إليهم، وأن هذا أصل شرك العالم"، وقوله: "فعكس المشركون هذا، وجعلوا قبورهم أوثانًا تعبد"، وقوله: "وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل مكان وزمان" واستدلاله بقول الخليل: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ }، وقوله: "وما نجا من شرِك هذا الشرك الأكبر إلا من جرّد توحيده لله".
فانظر وتأمل هذه النصوص الجليلة الواضحة في الشرك الأكبر، الذي هو دين العراقي وأمثاله. هل يمكن صرفها إلى الشرك الأصغر؟ وهل يقبل ذلك عقل من له أدنى ممارسة للعلم الديني النبوي؟ وهذا العراقي رأى سلفًا له قد شبه بها في زمن الشيخ فتبعه، ولم يبال بما تقدم من التقرير والتوضيح لغلبة الهوى، ومحبة ما هو عليه من عبادة الصالحين، ودعوة الناس إلى ذلك، قال تعالى: { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ }.
وبالجملة فمن وقف على كلام الشيخ ابن القيم في هذا الموضع تبين له الهدى وعرف سبيل من ضل وغوى.
وأيضًا فالعدول إلى الاسم الظاهر في المعطوفات، وهو قوله: "ومن أنواع الشرك سجود المريد للشيخ" يفيد أن هذا رجوع إلى الشرك من حيث هو لا إلى الأصغر، وكذلك سجود المريد للشيخ لا يختلف في أنه من الشرك الأكبر، كما نص فقهاء المذاهب في باب الردة. وقد أجاب شيخنا رحمه الله عن هذه الشبهة بنحو ما ذكرنا، والحق ظاهر بحمد الله لا تخفى أنواره، ولكن أهل الزيغ يتبعون المتشابه من كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم. قالت أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "إذا رأيتم الذين يتبعون المتشابه فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم". انتهى.
ثم قال العراقي:
- النقل السابع والثلاثون: قال ابن المقري الشافعي في مختصر الروضة: إن من كان من أهل الشهادة لا يكفر ببدعة على الإطلاق ما استند إلى تأويل يلتبس الأمر على مثله، وهو الذي رجحه شيخنا أبو العباس ابن تيمية.
إن هذه العبارة يحتج بها على العراقي وأمثاله من القائلين: إن عبادة الأولياء والصالحين شرك أصغر أو مستحبة، كما زعمه هذا الضال، وذلك من وجوه:
الأول: أن الكلام في البدعة، والبدعة في عرف الشرع دون الشرك الأكبر والكفر، فكلامه في أهل البدع، والعراقي تأويله في أهل الشرك. ولذلك فرق الفقهاء بين المبتدع ومن يدعو غير الله ويستغيث به ويتوكل عليه، كما ذكره ابن القيم وغيره من المصنفين في الكبائر كابن حجر الهيتمي.
الوجه الثاني: أن هذا مقيد بمن كان من أهل الشهادة، وهذا القيد يخرج عباد القبور، لأن المقصود بالشهادة التوحيد، كما في حديث وفد عبد القيس: "وآمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن تؤدوا من المغنم الخمس". وأهل الشهادة هم أهل الإيمان باتفاق المسلمين. ومن عداهم ليس من أهل الشهادة، وإن قالها من قالها بلسانه كاليهود والمنافقين.
الثالث: أن قوله: "على الإطلاق" لا ينافي أنه يكفر ببعض البدع المقيدة.
الرابع: أن قوله: "ما استند إلى تأويل يلتبس الأمر على مثله" مخرج لعباد القبور وأهل الردة، فإنه لا تأويل معهم يلتبس به الأمر، ولهذا لم يعذر أهل الفترة ونحوهم ممن اتخذ مع الله إلها آخر.
وقد سئل شيخ الإسلام عن رجل قال: قال النبي : "من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة"، قال آخر: إذا سلك الطريق الحميدة واتبع الشرع دخل ضمن هذا الحديث، فقال له ناقل الحديث: أنا لو فعلت كل ما لا يليق وقلت: لا إله إلا الله، دخلت الجنة ولم أدخل النار؟".
فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بقوله:
الحمد لله رب العالمين، من اعتقد أنه بمجرد تلفظ الإنسان بهذه الكلمة يدخل الجنة ولا يدخل النار بحال فهو ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع المؤمنين؛ فإنه قد تلفظ بها المنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النار، وهم كثير. بل المنافقون قد يصومون ويصلون ويصدقون، ولكن لا يقبل منهم. قال الله تعالى: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَلَاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا } وقال تعالى: { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } وقال تعالى: { إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا }، وقال تعالى: { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } إلى قوله: { فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا }.
وفي الصحيحين عن النبي أنه قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان " ولمسلم: "وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم". وفي الصحيحين عنه أنه قال: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر".
ولكن إذا قال: لا إله إلا الله خالصًا صادقًا من قلبه ومات على ذلك فإنه لا يخلد في النار، إذ لا يخلد في النار من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، كما صحت بذلك الأحاديث عن النبي ، لكن من دخلها من فساق أهل القبلة من أهل السرقة والزنا وشرب الخمر وشهادة الزور وأكل الربا وأكل مال اليتيم، وغير هؤلاء - فإنهم إذا عذبهم الله فيها عذبهم على قدر ذنوبهم، كما جاء في الأحاديث الصحيحة: "منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه،" ومكثوا فيها ما شاء الله أن يمكثوا، أخرجوا بعد ذلك كالحمم، "فيلقون في نهر يقال له الحياة، فينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل، فيدخلون الجنة مكتوب على رقابهم: هؤلاء الجهنميون عتقاء الله من النار". وتفصيل هذه الجملة لا يحتمله هذا الموضع، والله أعلم.
قال العراقي:
- النقل الثامن والثلاثون: قال الشيخ تقي الدين في الفرقان: "وليس من شرط ولي الله أن يكون معصومًا لا يغلط ولا يخطئ، بل يجوز أن يخفي عليه بعض علم الشريعة، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين، حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به ويكون مما نهى الله عنه، فيجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات الله لأوليائه وتكون من الشيطان لبسها عليه لينقص من درجته ولا يعرف أنها من الشيطان وإن لم يخرج بذلك عن ولاية الله؛ فإن الله تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ، فقال تعالى: { لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }. وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وعمرو بن العاص: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر". فلم يؤثم المجتهد المخطئ، بل جعل له أجرًا على اجتهاده، وخطأه مغفور.
- النقل التاسع والثلاثون: قال الشيخ تقي الدين في اقتضاء الصراط المستقيم: "ثم هذا التحريم والكراهية قد يعلمه الداعي وقد لا يعلمه على وجه يعذر فيه، بأن يكون مجتهدًا أو مقلدًا، والمجتهد والمقلد اللذين يعذران في سائر الأعمال، وغير المعذور قد يتجاوز عنه في ذلك الدعاء لكثرة حسناته، وحسن قصده أو لمحض رحمة الله به" انتهى.
- النقل الأربعون: قال الشيخ في هذا الكتاب أيضًا: "فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله وأوجبه بقوله أو فعله من غير أن يشرعه الله فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكا لله، نعم قد يكون متأولا في هذا الشرع، فيغفر له لأجل تأويله إذا كان مجتهدًا الاجتهاد الذي يعفى معه عن المخطئ ويثاب على اجتهاده. لكن لا يجوز اتباعه في ذلك وإن كان القائل أو الفاعل مأجورًا أو معذورًا - إلى أن قال بعد كلام قليل -: ثم قد يكون كل منهما معفوًا عنه الاجتهاده ومثابًا على الاجتهاد، فتخلف عنه الذنب لفوات شرطه ولوجود ماعه.
ولم يأت العراقي بمزيد حجة، بل هو من جنس ما قبله تحريف ظاهر ونقل لا حجة فيه.
فأما ما نقله عن الفرقان فحقّ، لكن ليس من مسألة النزاع في شيء، بل حاصله أنه لا تشترط العصمة في الولي ولا العلم بكل ما يحتاجه ويرِد عليه والفرق في جميع الجزئيات الواردة بين أمر الله ونهيه، وأنه ربما ظن في بعض الخوارق أنها كرامة وهي تلبيس من الشيطان، وأن هذا قد يغفر مع الخطأ والنسيان.
فأي دليل في هذا على أن الولي يدعو أهل القبور ويستغيث بهم ويتوكل عليهم ويجعلهم وسائط بينه وبين الله في حاجاته وملماته؟ ولا يقاس الخطأ في أصل الدين وشهادة أن لا إله إلا الله بالخطأ في غيره. فأي حجّة في هذا؟ ولا يلزم من المغفرة في هذا أن يغفر الشرك الأكبر، وقد قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } الآية. وهذا الأحمق من المحن [؟] على كلام أهل العلم، يضعه في غير موضعه فيزيل بهجته ويكدر صفوه.
وأما حديث أبي هريرة: "إذا اجتهد الحاكم - إلى آخره" فقد تقدم الجواب عنه.
وقوله في النقل التاسع والثلاثين: "ثم هذا التحريم والكراهة قد يعلمه الداعي، وقد لا يعلمه على وجه يعذر فيه، بأن يكون مجتهدًا أو مقلدًا"، فقد قيد هذا الكلام بأن المراد ما يعذر فيه. وليس كل الذنوب وكل الخطأ يعذر فيه. قد تقدم تقرير هذا.
وقوله: "والمعذور قد يتجاوز عنه"، فهو مما يدل على أن كلام الشيخ فيما دون الشرك الأكبر، فإن الشرك الأكبر لا يغفر بنص القرآن وإجماع الأمة. فلا يحمل كلام أهل العلم على ما يخالف الكتاب والسنة.
وأما قوله في النقل الأربعين من قوله: "فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله وأوجبه بقوله أو فعله من غير أن يشرعه الله فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكًا لله"، فهذا هو عين ما نقمه المسلمون على العراقي وأمثاله من الدين الذي دعا به إلى دعاء الصالحين والاستغاثة بهم وجعلهم وسائط بينهم وبين الله. فهؤلاء الضلّال ممن شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن أطاعهم في فعل الشرك الذي أجمعت الرسل والكتب السماوية على تحريمه فقد اتخذهم أربابًا من دون الله، فكيف ينقل هذا من افترى على الله الكذب وكتب خمسين دليلًا على جواز الاستغاثة بالأموات بزعمه وأنها مستحبة؟ فقاتله الله ما أعمى بصيرته وما أغلظ جهله.
وإن كان تمسكه بقول الشيخ: "نعم قد يكون متأولًا في هذا الشرع فيغفر له لأجل تأويله إذا كان مجتهدًا الاجتهاد الذي يعفى معه عن المخطئ" - فهذا الكلام ليس فيه يتمسك به العراقي؛ لأنّ التأويل والاجتهاد فيما قد يخفى، وأي خفاء فيما دلت عليه شهادة أن لا إله إلا الله من توحيد الله وترك الشرك به؟ ولذلك قال الشيخ: إذا كان مجتهدًا الاجتهاد الذي يعفى معه عن المخطئ، يعني وأما ما لا يعفى معه عن المخطئ فيعاقب ولا يعذر، بل يذم وتجري عليه الأحكام الشرعية. وقد تقدم تقرير هذا مرارًا، والعراقي يتشبع بما لم يعط ويتكثّر بما ليس له.
قال العراقي في النقل الحادي والأربعين:
- قال ابن القيم في الداء والدواء:
- فصل
- وأما الشرك في العبادة فهو أسهل من هذا الشرك - يعني شرك من تجعل مع الله إلها آخر - وأخف أمرًا، فإنه يصدر ممن يعتقد أن لا إله إلا الله، ولا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع إلا الله، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، ولكن لا يخلص لله في معاملته وعبوديته. بل يعمل لحظ نفسه تارة، ولطلب الدنيا تارة، ولطلب الرفعة تارة، والمنزلة والجاه عند الخلق تارة، فلله من عمله وسعيه نصيب، ولنفسه وحظه وهواه نصيب، وللشيطان نصيب، وللخلق نصيب. هذا حال أكثر الناس، وهو الشرك الذي قال فيه النبي فيما رواه ابن حبان في صحيحه: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل. قالوا: وكيف ننجوا منه يا رسول الله؟ قال: قل اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم". فالرياء كله شرك - إلى أن قال -:
- فصل
- ويتبع هذا الشرك: الشرك به سبحانه في الأقوال والأفعال والإرادات والنيات، فالشرك في الأفعال كالسجود لغيره والطواف بغير بيته وحلق الرأس عبودية وخضوعا لغيره وتقبيل الأحجار وتقبيل القبور واستلامها والسجود لها. وقد لعن النبي من اتخذ قبور الانبياء والصالحين مساجد يصلى لله فيها فكيف بمن اتخذ القبور أوثانا يعبدها من دون الله؟" إلى آخر ما قال.
- فانظر إلى إقراره أن الشرك في المعاملة والعبادة يصدر ممن يعتقد أن لا إله إلا الله وأنه لا ينفع ولا يضر ولا يعطي ولا يمنع إلا الله وأنه لا إله غيره ولا ربّ سواه، وأنه يعمل لحظ نفسه وللخلق وللشيطان ولطلب الدنيا. ثم قال: وهذا حال أكثر الخلق، وهذا الشرك يغفر بالاستغفار، كما ذكر النبي لأصحابه أنهم ينجون بقولهم: "اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم" حتى قال رحمه الله: ويتبع هذا الشرك - يعني شرك العبادة - السجود لغير الله والطواف بغير بيته وتقبيل الأحجار والقبور والسجود لها، فجعل كل هذه من جنس الشرك الأصغر الأول الذي أخبر أنه يصدر ممن يعتقد أن لا إله إلا الله، وأنه حال أكثر الناس، وأنه يغفر بالاستغفار وبالاجتهاد والتقليد والتأويل والجهد، كما مرّ عنهما في مواضع متعددة.
هذا النقل اعتراه تحريف وإلحاد، وصرف للكلام عن مدلوله، يتبين بسياق كلام الشيخ ابن القيم، فإنه لما تكلم على الكبائر رحمه الله، وتقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر، وأن الشرك أكبر الكبائر لمنافاته الحكمة المقصودة بإيجاد الخلق وتكلم على ذلك، فقال رحمه الله: ووقعت مسألة، وهي أن المشرك إنما قصد تعظيم جناب الربّ سبحانه وتعالى، وأنه لعظمته لا ينبغي لمثلي الدخول عليه إلا بالوسائط والشفعاء كحال الملوك، والمشرك لم يقصد الاستهانة بجناب الرب وإنما قصد تعظيمه، فلِمَ كان هذا القدر موجبًا لسخطته وغضبه تبارك وتعالى، ومخلدًا في النار وموجبًا لسفك دماء أصحابه واستباحة حريمهم وأموالهم؟ ويترتب على هذا سؤال آخر، وهو أنه هل يجوز أن يشرع الله سبحانه وتعالى لعباده التقرب إليه بالشفعاء والوسائل ليكون تحريم هذا إنما استفيد من الشرع أم ذلك قبيح في الفطر والعقول يمتنع أن تأتي به شريعة؟ بل جاءت الشريعة بتقرير ما في الفطر والعقول من قبحه الذي هو أقبح من كلّ قبيح. وأما الشرك في كونه لا يغفر من بين الذنوب.
فأجاب عن هذا كله بقوله: فنقول وبالله التوفيق والتأييد، ومنه نستمد العون والتسديد؛ فإنه من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له: ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع:
الشرك شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله، وشرك في عبادته ومعاملته وإن كان صاحبه يعتقد أنه سبحانه وتعالى لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
والشرك الأوّل نوعان أحدهما: شرك التعطيل وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون، إذ قال: { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ }، وقال: { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا }.
والشرك والتعطيل متلازمان، فكل مشرك معطل، وكل معطل مشرك. لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل، بل قد يكون المشرك مقرًا بالحقّ سبحانه وتعالى وصفاته، ولكنه عطل حقّ التوحيد.
وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها: هو التعطيل، وهو ثلاثة أقسام:
تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه، وتعطيل الصانع سبحانه وتعالى عن كماله بتعطيل أسمائه وأوصافه وأفعاله، وتعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد. ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود الذين يقولون ما ثمّ خالق ومخلوق، ولا ها هنا شيئان. بل الحقّ المنزه هو عين الخلق المشبه. ومنه شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته وإنه لم يكن معدومًا أصلًا، بل لم يزل ولا يزال، والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها، فسموها العقول والنفوس. ومن هذا شرك من عطل أسماء الرب تبارك وتعالى وأوصافه وأفعاله من غلاة الجهمية والقرامطة، فلم يثبتوا له اسمًا ولا صفة، بل جعلوا المخلوق أكمل منه، إذ كمال الذات بأسمائها وصفاتها.
فصل
النوع الثاني: شرك من جعل معه إلها آخر ولم يعطل أسماءه وصفاته وربوبيته، كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة فجعلوا المسيح إلها وأمه إلها.
ومن هذا شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور وحوادث الشر إلى الظلمة. ومن هذا شرك القدرية القائلين بأن الحيوان هو الذي يخلق أفعال نفسه وأنها تحدث بدون مشيئة الله؛ ولهذا كانوا أشباه المجوس. ومن هذا شرك الذي حاجّ إبراهيم في ربه { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ }، فهذا جعل نفسه ندا لله عز وجل يحيي ويميت بزعمه كما يحيي الله ويميت، فألزمه إبراهيم أن طرد قولك: أن تقدر على الإتيان بالشمس من غير الجهة التي يأتي الله بها منها، وليس هذا انتقالا كما زعم بعض الحذاق، بل إلزام على طرد الدليل إن كان حقًا. ومن هذا شرك كثير ممن يشرك بالكواكب العلويات ويجعلها أربابا مدبرة لأمر هذا العالم، كما هو مذهب مشركي الصائبة وغيرهم. ومن هذا شرك عبّاد الشمس وعبّاد النار وغيرهم. ومن هؤلاء من يزعم أن معبوده هو الإله على الحقيقة. ومنهم من يزعم أنه أكبر الآلهة. ومنهم من يزعم أنه إله من جملة الآلهة وأنه إذا خصه بعبادته والتبتل إليه والانقطاع إليه أقبل عليه واعتزّ به. ومنهم من يزعم أن معبوده الأدنى يقربه إلى المعبود الذي فوقه، والفوقاني يقربه إلى من هو فوقه حتي تقربه الآلهة إلى الله سبحانه وتعالى؛ فتارة تكثر الوسائط وتارة تقل.
فصل
وأما الشرك في العبادة فهو أسهل من هذا الشرك وأخف أمرًا، فإنه يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلا الله، وأنه لا يضر وينفع ويعطى ويمنع إلا الله عز وجل، وأنه لا إله غيره ولا ربّ سواه، ولكن لا يخلص لله معاملته وعبوديته، بل يعمل لحظ نفسه، ولطلب الدنيا تارة، ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارة، فلله تعالى من عمله وسعيه نصيب. هذا حال أكثر الناس وهو الشرك الذي قال فيه النبي فيما رواه ابن حبان في صحيحه: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل! قالوا: وكيف ننجوا منه يا رسول الله؟ قال: قل اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم". فالرياء كله شرك. قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } أي كما أنه إله واحد لا إله سواه، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده، فكما تفرد بالالهية يجب أن يفرد بالعبودية. فالعمل الصالح هو الخالي من الرياء المقيد بالسنة. وكان من دعاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا".
وهذا الشرك في العبادة يبطل ثواب العمل، وقد يعاقب عليه إذا كان العمل واجبًا، فإنه ينزله منزلة من لم يعمله فيعاقب على ترك الأمر. فإن الله سبحانه إنما أمر بعبادته خالصة، قال تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَلاةَ وَيُؤْتُوا الزَكَاةَ } فمن لم يخلص لله عبادته لم يفعل ما أمر به، بل يكون الذي أتى به شيء غير المأمور به فلا يصح ولا يقبل منه. ويقول سبحانه وتعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك معى فيه غيري فهو للذي أشرك معي وأنا منه برئ".
وهذا الشرك ينقسم إلى مغفور وغير مغفور، وأكبر وأصغر. والنوع الأول ينقسم إلى كبير وأكبر، وليس شيء منه مغفور؛ فمنه الشرك بالله في المحبة والتعظيم: أن يحب مخلوقًا كما يحب الله فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله، وهو الشرك في الدين. قال سبحانه وتعالى فيه: { وَمِنَ النَاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ }، وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم يوم القيامة وقد جمعتهم الجحيم: { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ }. ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه وتعالى في الخلق والرزق والإماتة والإحياء والملك والقدرة، وإنما سووهم به في الحب والتأله لهم والخضوع والذلة، وهذا غاية الظلم والجهل، فكيف يسوي التراب برب الأرباب؟ وكيف يسوي العبد بمالك الرقاب؟ وكيف يسوي الفقير بالذات الضعيف العاجز بالذات المحتاج بالذات الذي ليس له من ذاته إلا العدم بالغني بالذات القادر بالذات الذي غناه وقدرته وملكه وجوده وإحسانه وعلمه ورحمته وكماله المطلق التام من لوازم ذاته؟ فأي ظلم أقبح من هذا وأيّ حكم أشد جورًا منه حيث عدل من لا عدل له يخلقه كما قال تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُلُمَاتِ وَالنُورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } فعدل المشرك من خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور بمن لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض فيا له من عدل تضمن أكبر الظلم وأقبحه.
فصل
ويتبع هذا الشرك به سبحانه وتعالى في الأقوال والأفعال والإرادات والنيات، والشرك في الأفعال: كالسجود لغيره، والطواف بغير بيته، وحلق الرأس عبودية وخضوعًا لغيره، وتقبيل الأحجار غير الحجر الأسود الذي هو يمينه في الأرض، أو تقبيل القبور واستلامها والسجود لها. وقد لعن النبي من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلي لله تعالى فيها، فكيف بمن اتخذ القبور أوثانا يعبدها من دون الله؟ ففى الصحيح عنه أنه قال: "لعن الله اليهود والنصارى أتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وفى الصحيح عنه : "إن شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد"، وفي الصحيح أيضا عنه: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك"، وفى مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان عنه : "لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج"، وقال : "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وقال : "إن من كان قبلكم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصورة أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة".
فهذا حال من سجد لله في المسجد المتخذ على قبر، فكيف حال من سجد للقبر نفسه؟ وقد قال : "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد". وقد حمى النبي جانب التوحيد أعظم حماية حتى نهى عن صلاة التطوع لله سبحانه عند طلوع الشمس وعند غروبها لئلا يكون ذلك ذريعة إلى التشبه بعباد الشمس الذين يسجدون لها في هاتين الحالتين، وسد الذريعة فمنع الصلاة بعد العصر والصبح لاتصال هذين الوقتين بالوقتين اللذين يسجد المشركون فيهما للشمس. وأما السجود لغير الله فقال : "لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلا لله". ولا ينبغي في كلام الله عز وجل ورسوله للذي هو غاية الامتناع شرعًا، كقوله: { وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا }، وقوله: { وما علمناه الشعر وما ينبغي له }، وقوله: { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَيَاطِينُ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ }، وقوله عن الملائكة: { مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ }.
فصل
ومن الشرك به سبحانه وتعالى: الشرك في اللفظ كالحلف بغيره، كما روى أحمد وأبو داود عنه : "من حلف بغير الله فقد أشرك" صححه الحاكم وابن حبان. ومن ذلك قول القائل للمخلوق: ما شاء الله وشئت، كما ثبت عن النبي أنه قال له رجل: "ما شاء الله وشئت. قال: أجعلتني لله ندًا؟ قل ما شاء الله وحده". هذا مع أن الله قد أثبت للعبد مشيئة لقوله تعالى: { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } فكيف بمن يقول: أنا متوكل على الله وعليك، وأنا في حسب الله وحسبك، وما لي إلا الله وأنت، وهذا من الله ومنك، وهذا من بركات الله وبركاتك، والله لي في السماء وأنت لي في الأرض، أو يقول: والله وحياة فلان، أو يقول: نذر لله تعالى ولفلان، وأنا تائب لله ولفلان، وأرجو الله وفلانا ونحو ذلك! فوازن بين هذه الألفاظ وبين قول القائل: "ما شاء الله وشئت" ثم انظر أيها أفحش، يتبين لك أن قائلها أولى بجواب النبي لقائل تلك الكلمة، وأنه إذا كان قد جعله لله ندًا بها، فهذا قد جعل من لا يداني الرسول في شيء من الأشياء - بل لعله أن يكون من أعدائه - ندًا للرب تعالى رب العالمين، فالسجود والعبادة والتوكل والإنابة والتقوى والخشية والحسب والتوبة والنذر والحلف والتسبيح والتكبير والتهليل والتحميد والاستغفار وحلق الرأس خضوعًا وتعبدًا والطواف بالبيت والدعاء: كل ذلك محض حق الله عز وجل لا يصلح ولا ينبغي لسواه من ملك مقرب ولا نبي مرسل. وفى مسند الإمام أحمد رضي الله عنه: "أن رجلا أتي به إلى النبي وقد أذنب ذنبًا، فلما وقف بين يديه، قال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد، فقال: قد عرف الحق لأهله".
فصل
وأما الشرك في الإرادات والنيات فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقلّ من ينجو منه. فمن أراد بعمله غير وجه الله تعالى ونوى شيئًا غير التقرب إليه وطلب الجزاء منه فقد أشرك في نيته وإرادته. والإخلاص: أن يخلص لله في أقواله وأفعاله وإرادته ونيته. وهذه هى الحنيفية ملّة إبراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم ولا يقبل من أحد غيرها وهى حقيقة الإسلام { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وهى ملّة إبراهيم التي من رغب عنها فهو من أسفه السفهاء.
فصل
فإذا عرفت هذه المقدمة انفتح لك باب الجواب عن السؤال المذكور، فنقول ومن الله وحده نستمد الصواب:
حقيقة الشرك: هو تشبيه المخلوق بالخالق عز وجل. وهذا هو التشبيه في الحقيقة لا إثبات صفات الكمال التي وصف الله تعالى بها نفسه ووصفه بها رسول الله . فعكس من نكس الله قلبه وأعمى عين بصيرته فأركسه بلبسه الأمر وجعل التوحيد تشبيهًا والتشبيه تعظيمًا وطاعة. فالشرك تشبيه المخلوق بالخالق في خصائص الإلهية. فإن من خصائص الألهية: التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع؛ وذلك يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل به وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق تعالى وجعل من لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا - فضلا عن غيره - شبيها لمن الأمر كله له، فأزمة الأمور كلها بيديه ومرجعها إليه. فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع؛ بل إذ فتح لعبده باب رحمته لم يمسكها أحد وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد. فمن أقبح التشبيه تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات. ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والانابة والتوكل والاستعانة وغاية الذل مع غاية الحب، كل ذلك يجب عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لله وحده ويمتنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره. فمن جعل شيئًا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثل له وذلك أقبح التشبيه وأبطله؛ ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم أخبر سبحانه عباده أنه لايغفره مع أنه كتب على نفسه الرحمة.
ومن خصائص الإلهية العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما: غاية الحب مع غاية الذل، هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الاصلين. فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله فقد شبهه به في خالص حقه وهذا من المحال أن تجيء به شريعة من الشرائع وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل. ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم وأفسدتها عليهم واحتالتهم عنها. ومضى على الفطرة الأولى من سبقت له من الله الحسنى، فأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه بما يوافق فطرتهم وعقولهم فازدادوا بذلك نورًا على نورهم يهدي الله لنوره من يشاء.
إذا عرفت هذا عرفت أن من خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به. ومنها التوبة، فمن تاب لغيره فقد شبهه به. ومنها الحلف باسمه تعظيما وإجلالا، فمن حلف بغيره فقد شبهه به. هذا في جانب التشبيه. وأما في جانب التشبه به فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس الى إطرائه في المدح والتعظيم والخضوع والرجاء وتعليق القلب به خوفا ورجاء والتجاء واستعانة فقد شبه نفسه بالله ونازعه ربوبيته وإلهيته، وهو حقيق بأن يهنيه الله عز وجل غاية الهوان ويذله غاية الذل ويجعله تحت أقدام خلقه. وفى الصحيحين عنه قال: "يقول الله عز وجل: العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدة منهما عذبته". وإذا كان المصور الذي يصنع الصورة بيده من أشد الناس عذابا يوم القيامة لقول النبي : "أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون يقال لهم أحيوا ما خلقتم"، وفى الصحيحين عنه أنه قال: "قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي فليخلقوا ذرة فليخلقوا شعيرة". فنبه بالذرة الصغيرة والشعيرة على ما هو أعظم منها وأكبر.
والمقصود أن هذا حال من تشبه به في خواص ربوبيته وإلهيته. ولذلك يغضب الله على من يتشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا له وحده، كملك الأملاك وحاكم الحكام ونحوه. وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: "إن أخنع الأسماء عند الله تعالى شاهان شاه، ملك الملوك، لا ملك إلا الله تعالى". وفي لفظ: "أغيظ رجل علي الله تعالى رجل تسمى بملك الاملاك". فهذا مقت الله تعالى وغضبه على من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا له. وهو سبحانه وتعالى ملك الملوك وحده، وهو حاكم الحكام وحده، وهو الذي يحكم علي الحكام كلهم ويقضي عليهم كلهم لا غيره.
فصل
إذا تبين هذا فهنا أصل عظيم يكشف سر المسألة، وهو أن أعظم الذنوب عند الله تعالى إساءة الظن به، فإن المسيء به الظن قد ظن به خلاف كماله المقدس فظن به ما يناقض أسماءه وصفاته؛ ولهذا توعد سبحانه وتعالى الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به غيرهم، كما قال تعالى: { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا }، وقد قال تعالى لمن أنكر صفة من صفاته: { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ }، وقد قال تعالى عن خليله إبراهيم : { إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ، أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } أي فما ظنكم أن يجازيكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره، وما ظنكم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره؛ فلو ظننتم به ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه غني عن كلّ ما سواه وكل ما سواه فقير إليه وأنه قائم بالقسط على خلقه وأنه المنفرد بتدبير خلقه لا يشركه فيه غيره والعالم بتفاصيل الأمور فلا تخفى عليه خافية من خلقه والكافي لهم وحده لا يحتاج إلى معين والرحمن بذاته فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه ما اتخذتم من دونه أولياء تدعونهم وتتوسلون بهم إليه بزعمكم. وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء فإنهم محتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم ويعينهم على قضاء حوائجهم وإلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم وعجزهم وضعفهم وقصور علمهم. فأمّا القادر على كل شيء الغني بذاته عن كل شىء العالم بكل شيء، الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شىء، فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده وظن به ظن سوء؛ وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده ويمتنع في العقول والفطر، وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبح.
يوضح هذا أن العابد معظم لمعبوده متأله خاضع ذليل له، والرب تبارك وتعالى وحده هو الذي يستحق كمال التعظيم والإجلال والتأله والخضوع والذل، وهذا خالص حقه. فمن أقبح الظلم أن يعطى حقه لغيره ويشرك بينه وبينه فيه، ولا سيما إذا كان الذي جعل شريكه في حقه هو عبده ومملوكه كما قال تعالى: { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } أي إذا كان أحدكم يأنف أن يكون مملوكه شريك له في رزقه فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء فيما أنا منفرد به وهو الإلهية التي لا تنبغي لغيري ولا تصلح لسواي؟ فمن زعم ذلك فما قدرني حق قدري ولا عظمني حق تعظيمي ولا أفردني بما أنا منفرد به وحدي دون خلقي؛ فما قدر الله حق قدره من عبد معه غيره، كما قال تعالى: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } فما قدرَ من هذا شأنه وعظمته حق قدره من أشرك معه في عبادته من ليس له شأن من ذلك البتة، بل هو أعجز شيء وأضعفه. فما قدرَ القوي العزيز حق قدره من أشرك معه الضعيف الذليل. وكذلك ما قدره حق قدره من قال إنه لم يرسل إلى خلقه رسولا ولا أنزل كتابًا، بل نسبه إلى ما لا يليق به ولا يحسن منه من إهمال خلقه وتركهم سدى وخلقهم باطلًا وعبثًا. وما قدره حق قدره من نفى حقائق أسمائه الحسنى وصفاته العليا فنفى سمعه وبصره وإرادته واختياره وعلوه فوق خلقه وكلامه وتكليمه لمن شاء من خلقه بما يريد أو نفى عموم قدرته وتعلقها بأفعال عباده من طاعتهم ومعاصيهم فأخرجها عن قدرته ومشيئته خلقه وجعلهم يخلقون لأنفسهم ما يشاءون بدون مشيئة الرب تبارك وتعالى، فيكون في ملكه ما لا يشاء ويشاء ما لا يكون؛ تعالى الله عز وجل عن قوله أشباه المجوس علوًا كبيرًا. وكذلك ما قدره حق قدره من قال إنه يعاقب عبده على ما لا يفعله العبد ولا له عليه قدرة ولا تأثير له فيه البتة، بل هو نفس فعل الرب جل جلاله فيعاقب عبده على فعله هو، وهو سبحانه وتعالى الذي جبر العبد عليه، وجبره على الفعل أعظم من إكراه المخلوق المخلوق، فإنّ من المستقر في الفطر والعقول أن السيد لو أكره عبده على فعل أو الجأه إليه ثم عاقبه عليه لكان قبيحا؛ فأعدل العادلين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين كيف يجبر العبد على فعل لا يكون للعبد فيه صنع ولا تأثير ولا هو واقع بإرادته، بل ولا هو فعله البتة، ثم يعاقب عليه عقوبة الأبد؟ تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. وقول هؤلاء شر من أشباه المجوس. والطائفتان ما قدروا الله حق قدره. وكذلك ما قدره حق قدره من لم يصنه عن بئر ولا حش ولا مكان يُرغب عن ذكره، بل جعله في كل مكان وصانه عن عرشه أن يكون مستويًا عليه، يصعد إليه الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، وتعرج الملائكة والروح إليه وتنزل من عنده، ويدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه؛ فصانه عن استوائه على سرير الملك ثم جعله في كل مكان يأنف الإنسان بل غيره من الحيوان أن يكون فيه. وما قدر الله حق قدره من نفى حقيقة محبته ورحمته ورأفته ورضاه وغضبه ومقته، ولا من نفى حقيقة حكمته التي هي الغايات المحمودة المقصودة بفعله، ولا من نفى حقيقة فعله ولم يجعل له فعلا اختياريا يقوم به أفعال منقولات منفصلة عنه، فنفى حقيقة مجيئه وإتيانه واستوائه على عرشه وتكليمه موسى من جانب الطور، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده بنفسه، إلى غير ذلك من أفعاله وأوصاف كماله التي نفوها وزعموا أنهم بنفيها قدروه حق قدره.
وكذلك لم يقدره حق قدره من جعل له صاحبة وولدًا وجعله سبحانه يحل في مخلوقاته أو جعله عين هذا الوجود. وكذلك لم يقدره حق قدره من قال إنه رفع أعداء رسوله وأهل بيته وأعلى ذكرهم وجعل فيهم الملك والخلافة والعزة، ووضع أولياء رسوله وأهانهم وأذلهم وضرب عليهم الذلة أينما ثقفوا - وهذا يتضمن غاية القدح في جناب الرب تبارك وتعالى عن قول الرافضة علوًا كبيرًا. وهذا القول مشتق من قول اليهود والنصارى في ربّ العالمين: إنه أرسل ملكا ظالمًا فادعى النبوة لنفسه وكذب على الله تعالى ومكث زمانا طويلا يكذب عليه كل وقت ويقول: قال كذا، وأمر بكذا ونهى عن كذا وينسخ شرائع أنبيائه ورسله ويستبيح دماء أتباعهم وأموالهم وحريمهم، ويقول: الله تعالى أباح لي ذلك، والرب تبارك وتعالى يظهره ويؤيده ويعليه ويقويه ويجيب دعواته ويمكنه ممن يخالفه ويقيم الأدلة على صدقه ولا يعاديه أحد إلا ظفر به، فيصدقه بقوله وفعله وتقريره ويحدث أدلة تصديقه شيئا بعد شيء. ومعلوم أن هذا يتضمن أعظم القدح والطعن في الرب سبحانه وتعالى وعلمه وحكمته ورحمته وربوبيته تعالى ربنا عن قول الجاحدين علوًا كبيرًا.
فوازن بين قول هذا وقول إخوانهم من الرافضة تجد القولين:
رضيعي لبان ثدي أم تقاسما ** بأسحم داج عوض لا يتفرق
وكذلك لم يقدره حق قدره من قال: إنه يجوز أن يعذب أولياءه ومن لم يعصه طرفة عين، [ويدخلهم دار الجحيم، وينعم أعداءه ومن لم يؤمن به طرفة عين] [11] ويدخلهم دار النعيم، وأن كلا الأمرين بالنسبة إليه سواء، وإنما الخبر المحض جاء عنه بخلاف ذلك فمعناه للخبر لا لمخالفة حكمته وعدله. وقد أنكر سبحانه وتعالى في كتابه على من يجوز عليه ذلك غاية الإنكار وجعل الحكم به من أسوأ الأحكام. وكذلك لم يقدره حق قدره من زعم أنه لا يحيي الموتى ولا يبعث من في القبور، ولا يجمع خلقه ليوم يجازي فيه المحسن بإحسانه والمسيء فيه بإساءته، ويأخذ للمظلوم فيه حقه من ظالمه، ويكرم المتحملين المشاق في هذه الدار من أجله وفى مرضاته بأفضل كرامته، ويبين لخلقه الذي كانوا يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين.
وكذلك لم يقدره حق قدره من هان عليه أمره فعصاه ونهيه فارتكبه وحقه فضيعه وذكره فأهمله وغفل قلبه عنه، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه وطاعة المخلوق أهم عنده من طاعته. فلله الفضلة من قلبه وقوله وعمله، وسواه المقدم في ذلك لأنه المهم عنده؛ يستخف بنظر الله إليه وإطلاعه عليه بكل قلبه وجوارحه، ويستحي من الناس ولا يستحي من الله، ويخشى الناس ولا يخشى الله، ويعامل الخلق بأفضل ما ما يقدر عليه، وإن عامل الله عز وجل عامله بأهون ما عنده وأحقره، وإن قام في خدمة إلهه من البشر قام بالجد والاجتهاد وبذل النصيحة، وقد فرغ له قلبه وجوارحه وقدمه على كثير من مصالحه، حتى إذا قام في خدمة ربه إن ساعده القدر قام قياما لا يرضاه مثله لمخلوق من مخلوقاته وبدا له منه ما يستحي أن يواجه به مخلوقا مثله. فهل قدر الله حق قدره من هذا وصفه؟ وهل قدره حق قدره من شارك بينه وبين عدوه في محض حقه من الإجلال والتعظيم والطاعة والذل والخضوع والخوف والرجاء؟ فلو جعل من أقرب الخلق إليه شريكا في ذلك لكان ذلك جراءة وتوثبا على محض حقه واستهانة به وتشريكا بينه وبين غيره فيما لا ينبغي ولا يصلح إلا له سبحانه وتعالى، فكيف وإنما أشرك بينه وبين أبغض الخلق وأهونهم عليه وأمقتهم عنده، وهو عدوه على الحقيقة؛ فإنه ما عبد من دون الله إلا الشيطان كما قال تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ }، ولما عبد المشركون الملائكة بزعمهم وقعت عبادتهم في نفس الأمر للشيطان، وهم يظنون أنهم يعبدون الملائكة، كما قال تعالى: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ }. فالشيطان يدعو المشرك إلى عبادته ويوهمهم أنه ملك، وكذلك عبّاد الشمس والقمر والكواكب يزعمون أنهم يعبدون روحانيات هذه الكواكب وهي التي تخاطبهم وتقضي لهم الحوائج. ولهذا إذا طلعت الشمس قارنها الشيطان لعنه الله تعالى، فيسجد لها الكفار، فيقع سجودهم له، وكذلك عند غروبها. وكذلك من عبد المسيح وأمه لم يعبدهما وإنما عبد الشيطان فإنه يزعم أنه يعبد من أمره بعبادته وعبادة أمه ورضيها لهم وأمرهم بها، وهذا هو الشيطان الرجيم لعنه الله تعالى، لا عبد الله ورسوله عيسى عليه السلام. ونزل هذا كله على قوله تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } فما عبد أحدٌ من بني آدم غير الله كائنًا من كان إلا وقعت عبادته للشيطان، فيستمع العابد بالمعبود في حصول غراضه ويستمتع المعبود بالعابد في تعظيمه له وإشراكه مع الله الذي هو غاية رضا الشيطان. ولهذا قال تعالى: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ } من إغوائهم وإضلالهم { وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }.
فهذه إشارة لطيفة إلى السر الذي لأجله كان الشرك من أكبر الكبائر عند الله، وأنه لا يغفر بغير التوبة منه، وأنه يوجب الخلود في النار، وأنه ليس تحريمه وقبحه بمجرد النهي عنه، بل يستحيل على الله سبحانه وتعالى أن يشرع عبادة إله غيره، كما يستحيل عليه تناقض أوصاف كمال ونعوت جلاله. وكيف يظن بالمنفرد بالربوبية والإلهية والعظمة والجلال أن يأذن في مشاركته في ذلك أو يرضى به؟ تعالى الله عز وجل عن ذلك علوًا كبيرًا".
انتهى ما نقلته.
فقف وتأمل كلام الشيخ رحمه الله، فإنه فصّل وبيّن أن الشرك شركان: شرك تعطيل لذات الرب ولأسمائه وصفاته وأفعاله، وشرك في عبادته ومعاملته. وذكر أن هذا أيضًا تعطيل لمعاملته على العبد من حقيقة التوحيد. ثم ذكر شرك أهل الوحدة، وشرك الملاحدة القائلين بقدم العالم، وشرك الجهمية والقرامطة. ثم ذكر النوع الثاني، وهو شرك من أشرك في العبادة والمعاملة كشرك النصارى وشرك المجوس وشرك القدرية، وشرك الذي حاجّ إبراهيم في ربه، وشرك من يشرك بالكواكب العلويات ويجعلها أربابًا مدبرة، وشرك عبّاد الشمس وعبّاد النار وغيرهم.
قلت: ومنه شرك غلاة عباد القبور الذين يزعمون أن أرواح الموتى تدبر شيئًا من أمر هذا العالم كما صرّح به ابن جرجيس قاتله الله.
ثم قال الشيخ:
فصل
وأما الشرك في العبادة فهو أسهل من هذا الشرك وأخف أمرًا، فإنه يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلا الله، وأنه لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع إلا الله عز وجل، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه.
فذكر الشرك في العبادة والعمل لحظ النفس، وقرره واستدل عليه، ثم قال:
وهذا الشرك ينقسم إلي مغفور وغير مغفور، وأكبر وأصغر. والنوع الأول ينقسم إلى كبير وأكبر وليس شيء منه مغفورًا. فمنه - أي من الشرك الأكبر - الشرك بالله في المحبة والتعظيم: أن يحب مخلوقًا كما يحب الله وهذا من الشرك الذي لا يغفره الله، وهو الشرك في الدين. قال سبحانه وتعالى فيه: { وَمِنَ النَاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } الآية، وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم وقد جمعتهم الجحيم: { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ }. ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق والرزق والاماتة والإحياء والملك والقدرة، وإنما سووهم به في الحب والتأله لهم والخضوع والذلة، وهذا غاية الظلم والجهل، فكيف يسوي التراب برب الارباب؟ وكيف يسوي العبد بمالك الرقاب؟ وكيف يسوي الفقير بالذات الضعيف العاجز بالذات المحتاج بالذات الذي ليس له من ذاته إلا العدم بالغني بالذات القادر بالذات الذي غناه وقدرته وملكه وجوده وإحسانه وعلمه ورحمته وكماله المطلق التام من لوازم ذاته؟ فأي ظلم أقبح من هذا وأيّ حكم أشد جورًا منه حيث عدل من لا عدل له.
وترك العراقي هذا كله عنادًا وصدًا عن سبيل الله، واقتصر على أول الفصل، وهو الشرك في المعاملة لطلب الدنيا، والغالب أن فعله هذا وتركه لأنه عين فعل عبّاد القبور، وقد أصاب مقتله، وعدل عنه اختيارًا، مع أنه جاهل بحقيقة الشرك في المعاملة والعمل لطلب الدنيا، فهذا عمل صورته لله وقصده فيه فاسد.
وأما القسم الذي ذكر الشيخ أنه لا يغفر وهو الشرك في المحبة والتعظيم ونحوه، فهذا صورته وحقيقته وقصد فاعله لغير الله، وفرق بين الشرك في النيات والشرك في الأفعال. ولذلك مثل الثاني بالسجود لغير الله، والطواف بغير بيته، وحلق الرأس عبودية وخضوعًا لغيره، ثم قال:
فصل
ومن الشرك به سبحانه وتعالى: الشرك في اللفظ كالحلف بغيره - إلى آخر الفصل المتقدم - فهذا تركه العراقي عمدًا لما فيه من التصريح بأن الحلف بغير الله شرك، والنذر لغيره شرك، والله المستعان.
وذكر الفصل من شرك الإرادات والنيات، وترك الفصل الذي بعده مع أنه قرر فيه أن الشرك تشبيه المخلوق بالخالق، وأن من خصائص الإلهية: التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع. وذلك يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل به وحده؛ فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق. وقرر تقريرًا حسنًا مفيدًا من فرائد الدرر وعجائب الغرر، في الرد على عبّاد القبور الذين هم في محل النزاع، فراجعه في أول الجواب بعد خمسة فصول في المقدمة، تعرف به تحريف العراقي وأن الكلام في أول الفصل السادس في عباد القبور ومن شابههم من أهل الشرك وتشبيه المخلوق بالخالق. فقف عليه إلى آخر ما نقلناه من كلامه ترى العجب العجاب من توحيد رب الأرباب، وكشف زيغ كل جاهل مرتاب. ومن له فطنة ونفس ذكية يعرف هذا بأول نظرة ويستبين له بأدنى لحظة. ومن لم يجعل الله له نورًا فلا يزداد بكثرة النقل والكشف إلا شكًا وحيرة. والله المستعان.
وقول العراقي: فانظر إلى إقراره بأنه يصدر ممن يعتقد أن لا إله إلا الله، وأنه لاينفع ولا يضر، ولا يعطي ولا يمنع إلا الله، وأنه يعمل لحظ نفسه - ثم قال: وهذا حال أكثر الخلق، وهذا الشرك يغفر بالاستغفار - إلى آخر عبارته: فهذا تلبيس وخلط، تقدم أن الكلام في الشرك الخفي كما بينه المصنف، وأما الشرك الأكبر فهو المراد بما بعد ذلك، فالعراقي مخلط لا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم. ولا عرف المراد من كلام أهل العلم، فهو في ظلمة الجهل وأسر العادة التي نشأ عليها، لم يرتفع عن حضيضها الأسفل، ولا عرف ما كتب ونقل. والشرك في العبادة يطلق ويراد به الرياء والعمل لغير الله، وأما الشرك بالله فهو جعل إله آخر يسوي بينه وبين الله في العبادة، والكل شرك في عبادة الله، والمصنف أجمل أولا، ثم فصّل وقسم وبين أتم بيان، والمرتاب يتعلق بأدنى شبهة.
قال العراقي:
- النقل الثاني والأربعون في إغاثة اللهفان: "وأما نجاسة الشرك الأكبر الذي لا يغفر، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، والمخففة الشرك الأصغر كيسير الرياء والتصنع للمخلوق، والحلف به وخوفه ورجائه" انتهى.
والجواب أن يقال:
ليس النزاع معكم معاشر عبّاد القبور في خصوص الحلف وخوف المخلوق ورجائه فيما يقدر عليه، بل النزاع في الشرك الأكبر الذي لا يغفر. وقد قرره ابن القيم في هذا الكتاب تقريرًا حسنًا، ونذكر نص كلامه ليتبين إلحاد هذا الضال المفتري، فقد ذكر رحمه الله في الباب التاسع طهارة القلب، وأطال الكلام ثم قال:
فصل
وقد وسم سبحانه الشرك واللواط بالنجاسة والخبث في كتابه، دون سائر الذنوب، وإن كانت مشتملة على ذلك - ثم ساق الآيات في ذلك - ثم قال: فأما نجاسة الشرك فهي نوعان، نجاسة مغلظة ونجاسة مخففة. فالنجاسة المغلظة: الشرك الأكبر الذي لا يغفر، والمخففة الشرك الأصغر كيسير الرياء والتصنع للمخلوق والحلف به وخوفه ورجائه.
وهذا حق لا نزاع فيه، فأما الحلف فنطلق عليه ما أطلقه رسول الله من تسميته شركا وكفرا. ولا نقول: أشرك وكفر، ولا كفر أكبر، بل ننتهي حيث انتهى الشارع، صلوات الله وسلامه عليه.
وقد قال ابن القيم في المدارج في الكلام على الحلف: قد يكون هذا شرك أكبر بحسب ما قام بقلب فاعله. وقد ذكر القاضي عياض وغيره: لا شك أنه إذا قام بقلبه تعظيمه بالحلف كتعظيم الله فهو شرك أكبر. وأكثر عبّاد القبور يعظمونهم ويحبونهم أشد من تعظيم الله وحبّه. ولا ينكر هذا إلا مكابر. وبعضهم يحلف بالله كاذبًا مائة مرة ولا يحلف بشيخه ومن يعتقده كاذبًا ولا مرة واحدة. ومن قال: إن هذا شرك أصغر فهو من أضل الورى وأجهلهم بأصول الإيمان والهدى وما يجب لله على عباده من التعظيم والحب والخوف والرجاء.
واعلم أن الخوف والرجاء فيما يقدر عليه المخلوق لا يكون بمنزلة الخوف والرجاء فيما لا يقدر عليه إلا الله. والعراقي التبس عليه الأمر، فإنه أجنبي عن مسائل التوحيد والإيمان.
وقال ابن القيم في الإغاثة - لما تكلم على ما في الصلاة عند القبور واتخاذها أعيادًا من المفاسد -: "فمن مفاسد اتخاذها أعيادًا: الصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها واستلامها وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، والاستعانة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية وقضاء الديون وتفريج الكربات وإغاثة اللهفان، وغير ذلك من أنواع الطلبات - إلى أن قال -: وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجًا ووضعوا لها مناسك، حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابا وسماه "مناسك حج المشاهد" مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الاسلام ودخول في دين عبّاد الأصنام".
قلت: ولعمر الله إنّ هذا بعينه ما عليه العراقي وشيعته، ولكنه مشبه قد أعمى الله بصيرته، وسيأتي مزيد تقرير لهذا في موضعه.
قال العراقي:
- النقل الثالث والأربعون: قال ابن القيم في الداء والدواء:
- فصل: وأما الشرك به سبحانه في اللفظ كالحلف به، وقول القائل: ما شاء الله وشئت - إلى أن قال -: وأما الشرك في الإرادات والنيات فذلك البحر الذي لا ساحل له، قل من ينجو منه.
- فانظر إلى قوله: إن الشرك في الإرادات والنيات هو البحر الذي لا ساحل له، ومع ذلك لم يحكم على فاعله وقائله وناويه بالشرك المخرج من الملة. فلو كان مخرجًا لما كان المسلمون إلا قليلين، بل أقل من كل قليل، حتى من يدعي التوحيد، فإنّ النيات الفاسدة للمخلوق وابتغاء التقرب منه وطلب الجزاء منه، بل والتذلل له والسجود له كالتعظيم للحكام وأهل الدنيا من أهل الأموال، فإن هذا لا ينجو منه إلا المخلصون، وقليل ما هم.
قد تقدم هذا الفصل فيما نقلناه قريبًا فراجعه، تعرف ما اعتراه من تحريف العراقي، وتقدم جوابه مفصلًا فراجعه إن شئت.
قال العراقي:
- النقل الرابع والأربعون: قال ابن القيم في بدائع الفوائد في قوله تعالى: { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } ما نصه: كانوا يحاربون جيرانهم من العرب في الجاهلية ويستنصرون عليهم بالنبي قبل ظهوره، فيفتح لهم وينصرون، فلما ظهر النبي كفروا به وجحدوا نبوته، فاستفتاحهم به مع جحد نبوته مما لا يجتمعان؛ فإن كان استفتاحهم به لأنه نبي كان جحد نبوته محالا، وإن كان جحد نبوته كما يزعمون حقًا كان استفتاحهم باطلًا. وهذا مما لا جواب لأعدائه عنه البتة" انتهى.
- وذكر المفسرون أن استفتاحهم به - يعني اليهود - قبل ظهوره للوجود هو قولهم: اللهم بحرمة هذا النبي الذي يكون آخر الزمان انصرنا وافتح لنا، فينصرون ويفتح لهم. ورأيت في بعض حواشي البيضاوي نقلًا عن السعد التفتازاني قال: والأظهر أنهم كانوا يطلبون الفتح من الله عليهم متوسلين بذكره ويجعلون اسمه شفيعًا". انتهى.
ليس في كلام ابن القيم ما يدل على مسألة النزاع وليس في كلام المفسرين ما يدل على ذلك. هل قال أحد: إنهم يسألونه الفتح والنصر على أعدائهم من المشركين وأن الآية دلت على هذا بوجه من الوجوه؟ هذا لا يقوله عاقل فضلا عن المسلم فضلا عن العالم، سبحان الله وتعالى عما يشركون. وإنما كان استفتاحهم به طلب الفتح بخروج محمد النبي الذي بشرت به الأنبياء وذكرت صفته ونعته في التوراة الذي أظل زمان خروجه، هذا الذي ذكره المفسرون كابن جرير وابن كثير وأمثالهم من الأئمة الذين إليهم المرجع في علم التأويل، وما نقله العراقي لم يقله المفسرون، وإنما نقله بعضهم كالفرطبي، فكلام العراقي مجازفة.
قال ابن كثير: يقول تعالى: { وَلَمَّا جَاءَهُمْ } يعني اليهود { كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } وهو القرآن الذي أنزل على محمد { مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ } يعني من التوراة، وقوله: { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } وقد كانوا من قبل مجيء الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم، يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقاتلكم معه فنقتلكم قتل عاد وإرم. ثم ذكر حديث عاصم بن عمر، وذكر قول ابن عباس { يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } قال: "يستظهرون، يقولون: نحن نعين محمدًا عليهم" ثم قال: وقال العوفي عن ابن عباس: { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } يقول: "يستنصرون بخروج محمد على مشركي العرب"، قال: وقال أبو العالية: "كانت اليهود تستنصر بمحمد على مشركي العرب، يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبًا عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم".
وهكذا ذكر غيره من المفسرين كابن جرير وغيره من أهل العلم والأثر، فهذه الأقوال أظهر مما نقله القرطبي. ثم لو سلم تسليمًا صناعيًا فليس النزاع في سؤال الله بحرمة نبيه، هذه مسألة أخرى كما تقدم؛ إنما النزاع في مسألة دعاء غير الله والطلب من سواه. فإيراد هذا مغالطة وخروج عن محل النزاع دعاه إليه الإفلاس. وسيأتي الكلام على مسألة سؤال الله بحرمة عبد من عباده وقد تقدم بعض ذلك.
والاحتجاج بالآية على اليهود من جهة استفتاحهم قبل مبعثه وكفرهم بعد مبعثه وتقرير أنهم أهل تحكم وعناد وهوى، ليسوا بأهل إيمان وصدق ومتابعة، فإن كان صدر منهم ما حكاه القرطبي، فليس هو تشريع لنا وأمر بأن نفعل ما فعلت اليهود كما زعمه العراقي.
قال العراقي:
- النقل الخامس والأربعون: قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية: وقد اتفق العلماء على أنه لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى كالملائكة والكعبة وأحد الشيوخ بل ينهى عنه إما نهي تحريم أو تنزيه. ولم يقل أحد إنه ينعقد اليمين بأحد من الخلق إلا في نبينا ، وعن أحمد في ذلك روايتان، وقد طرد بعض أصحابه كابن عقيل الخلاف في سائر الأنبياء، والقول بانعقاد اليمين بالنبي شاذ لم يقل أحد به فيما نعلم" انتهى.
- فقد تبين أن الحلف بغير الله تعالى منهي عنه إما نهي تحريم أو تنزيه، بل رواية أحمد بن حنبل وغيره أنه مباح. وأما الحلف بالنبي فذهب إلى أنه ينتعقد اليمين به لأنه جزء الإيمان وعليه الفتوى، وطرد بعض أصحابه ذلك في جميع الأنبياء. وقول الشيخ رحمه الله إن القول بانعقاد اليمين به شاذ لا ينبغي في حق الإمام أحمد، كيف يكون شاذًا وقد قاله إمام السنة وقامع البدعة الصديق الثاني؛ فلو كان وحده لكفى به بقوله سندًا، فكيف وقد قال تعالى: { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } فلو استند بظاهر الآية لكفى بقول الله حجة.
إن شيخ الإسلام ابن تيمية أدى ما عليه، حكى أن اليمين لا تنعقد بغير الله، وأنه منهي عنه ولم يستثن إلا نبينا، قال عن أحمد رواية بانعقادها به وبين أن هذا شاذ لم يقل به أحد، وهذا ليس فيه ما يتمسك به مبطل؛ فإنه وإن حكى الخلاف فقد ضعفه واختار القول الراجح الذي دلت عليه السنة المستفيضة وجرى عليه العمل عند أهل العلم والحديث وفي القرون المفضلة. وقوله : "من حلف بغير الله فقد أشرك" دليل شرعي على العموم، والرواية عن الإمام أحمد ذكر الشيخ أنها شاذة لا توافق أصوله وقواعده وما تواتر عنه، وهذا معنى الشذوذ.
وكلام العراقي واعتراضه على الشيخ جهل عظيم، فإن الراوي الواحد إذا انفرد بقول أو رواية تخالف المعروف الثابت وصف القول والرواية بالشذوذ، وقد حكموا على ما خالف المصحف العثماني من القراءات بالشذوذ، كقراءة ابن مسعود مع العلم بأنها ثابتة، قرأ بها من هو من أجل الصحابة وأعلمهم.
واستدلال العراقي بقوله تعالى { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } جهل عظيم بمعنى الآية وما عليه أهل العلم. فإن الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه، وقسمه به تشريف له أو تنبيه على ما فيه من الآية والبرهان، ولا يقاس به غيره تعالى وتقدّس. [12] وقد أقسم بالصافات والمرسلات والنازعات؛ أفيقال بجواز الحلف بها مع أن الكلام فيما هو أعظم من الحلف والشرك الصراح كالمحبة والخضوع والاستغاثة والتوكل والإنابة والركوع والسجود وغير ذلك مما يختص بالملك الحق المعبود.
وأما الحلف فقد تقدم أن الشيخ محمدًا وأتباعه لا يقولون إنه كفر مخرج من الملة، بل هم أهل علم وسنة يطلقون ما أطلق الشارع ويتبعون ولا يبتدعون.
ثم قال العراقي:
- النقل السادس والأربعون: قال ابن قدامة تلميذ الشيخ ابن تيمية في كتابه مغني ذوي الأفهام: "ويكره الحلف بغير الله تعالى". انتهى.
النقل السابع والأربعون:
- قال الشيخ ابن قدامة في كتابه المتقدم: "ويباح التوسل بالصالحين أحياء وأمواتًا".
- النقل الثامن والأربعون: قال صاحب الإنصاف في التنقيح: "ويحرم حلفه بغير الله، وقيل: يكره، وعنه يباح" انتهى أي عن أحمد بن حنبل صاحب المذهب، ومذهبه أن الحنث بالنبي فيه الكفارة. وطرد ذلك ابن عقيل في جميع الأنبياء.
مسألة الحلف بغير الله قد تقدم الكلام فيها. ومما ينبغي أن يعلم أن القائلين بالتحريم من الأئمة وأهل العلم لا يشق غبارهم لا صاحب مغني ذوي الأفهام ولا من هو أجل منه، ونحن لا ننكر أن بعض الناس قال بالكراهة. وإنما النزاع في تصويب أحد القولين وأيهما تشهد له الأحاديث النبوية. وقال شيخ الإسلام: يحرم الحلف بغير اسمه تعالى، قال ابن مسعود: "لأن أحلف بالله كاذبًا أحبّ إليّ من أن أحلف بغيره صادقًا". قال شيخ الإسلام: "معنى قول ابن مسعود: أن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الشرك أعظم من سيئة الكذب".
قلت: والكذب محرم بالإجماع، ولا يعرف عن الشارع إطلاق الشرك والكفر على مكروه من المكروهات، ومن أطلق الكراهة من الأئمة فالأولى حمل كلامه على كراهة التحريم، إحسانًا للظن بالعلماء. وليت هؤلاء القبوريين اقتصروا على ما فيه الخلاف، بل قد تقدم لك أنهم أتوا من الشركيات ما لم تأت به جاهلية العرب.
وأما ما ذكره في النقل السابع والأربعين فالجواب عنه من وجوه:
الأول: أن الواجب في مسألة النزاع ردها إلى الكتاب والسنة، ولا حجة في قول آحاد العلماء. ولا يصح نسبة هذا القول إلى المذهب، كما يعرفه من عرف قواعد المذهب في لزوم السنة وسد الذرائع.
الثاني: أن التوسل في عرف أهل العلم ليس هو التوسل في عرف العراقي وشيعته من عباد القبور، بل التوسل عندهم يطلق على المتابعة والاقتداء، ويطلق على سؤال الله بحق الأنبياء والصالحين. وليس النزاع في هذا كله، وإنما النزاع في اتخاذ الأنداد والآلهة والتوسل بدعائهم والاستغاثة بهم والطواف بقبورهم.
الثالث: أن عمر بن الخطاب استسقى بالعباس، وتوسل بدعائه في الاستسقاء، ولم يأت القبر الشريف ولم يتوسل به، لعلمهم بالسنة وأحكام الشريعة. وتوسل معاوية بيزيد بن الأسود. وهكذا أئمة الدين في كل عصر ومصر يتوسلون بدعاء الصالحين والأخيار بالاستسقاء وغيره، ولم يقل أحد منهم إنه استسقى عند القبور ويتوسل بها عند الحوادث، هذا لا يقوله من شم رائحة الشريعة وسلم من سوء المعتقد وخبث السريرة.
الرابع: أن الاحتجاج بقول صاحب مغني ذوي الأفهام جهل بقواعد المذهب واصطلاح أهله. فإن الكتب المعتمدة في الفتوى عندهم معروفة محصورة، وهي كتب أئمة المذهب ورجاله الذين إليهم المرجع. وصاحب مغني ذوي الأفهام ليس هو الحافظ محمد بن أحمد بن عبد الهادي تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، كما زعمه هذا الجاهل الغبي. [13]
وأما النقل الثامن والأربعون: فقد تقدم أن العراقي ذكر هذا النقل في الثالث والعشرين، وكرره هنا لإيهام الجهال أنه كثير النقول.
النقل التاسع والأربعون:
- قال ابن عبد الوهاب في مختصر الشرح الكبير في باب الأيمان: ويكره الحلف بغير الله، ويحتمل أن يكون محرمًا، وقيل: يجوز لأن الله أقسم بمخلوقاته، فقال { والنَجْمِ }، و { الشَمْسِ }، و { الضُحَى }، و { اللَيْلِ } وغير ذلك لقوله : "أفلح وأبيه إن صدق"، وحديث أبي العشراء: "وأبيك لو طعنت في فخذها أجزأك"، ولنا قوله : "من حلف بغير الله فقد أشرك" هذا ملخص ما قاله. أمليته من حفظي حيث لم توجد النسخة عندي حال الكتابة فقوله: ويكره الحلف. وتقديمه الكراهة على التحريم دليل على أن المتقدمين كانوا مختارين كراهة التنزيه، حتى حكي قول التحريم بيحتمل، الدال على التضعيف. وذكر أن بعض أهل العلم قائل بالجواز وهي رواية عن الإمام أحمد، كما تقدم عن صاحب الإنصاف، وقوله: ولنا دليل على ما اختاره من الكراهة.
قد كتبنا فيما تقدم من الرد المختصر أن العراقي دلس ولبس، ولم يأت بالعبارة على وجهها بل حرفها تحريفًا أحال عن معناها؛ فإن الشيخ ذكر الكراهة، ثم ذكر التحريم في أول كلامه نقلًا عن أهل المذهب، وذكر كلام ابن عبد البر، وحكاية الإجماع على التحريم، ثم قال: "وقيل" حكاه بصيغة التمريض - وأن القائل استدل بأن الله أقسم بمخلوقاته، وبقوله: "أفلح وأبيه إن صدق"، وبقوله في حديث أبي العشراء: "أما وأبيك لو طعنت في فخذها أجزأك" ثم تعقب الشيخ هذا، وذكر أن أحمد لم يثبت حديث أبي العشراء. واستدل بحديث عمر وبحديث عبد الله بن عمر، وقرر أدلة التحريم، وذكر عن ابن عبد البر أن قوله: "أفلح وأبيه إن صدق" غير محفوظة من وجه صحيح، والحلف بغير الله تعظيم يشبه تعظيم الرب تبارك وتعالى.
وبهذا تعرف الراجح الذي اختاره الشيخ وغيره، والشيخ في كتاب التوحيد استدل على هذه المسألة وترجم عليها بقول الله تعالى: { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وساق حديث ابن عمر وقول ابن عباس في معنى الآية، ومنه: والله وحياتك.
قلت: ولأهل العلم عن حديث: "أفلح وأبيه" وحديث أبي العشراء أجوبة معروفة في محلها، منها: أن هذا مما لا يقصد به اليمين، بل هو مما جرى على ألسنتهم من غير قصد، مثل قوله: "تربت يداك"، "ثكلتك أمك"، "ويح عمار" ونحو هذا. وقيل: إن ذلك منسوخ، واستدل القائل بما لا يمكن دفعه. وبعضهم تكلم في السند كما تقدم عن أحمد في حديث أبي العشراء، وقال النووي في الكلام على قوله : "أفلح وأبيه إن صدق" هذا مما جرت به عادتهم يسألون عن الجواب عنه مع قوله : "من كان حالفًا فليحلف بالله"، وقوله : "إن الله يناهكم أن تحلفوا بأبائكم". وجوابه أن قوله : "أفلح وأبيه" ليس هو حلفًا، إنما هو كلمة جرت عادة العرب أن تدخلها في كلامها غير قاصدة بها الحلف، والنهي إنما ورد فيمن قصد حقيقة الحلف، لما فيه من إعظام المخلوق ومضاهاته به سبحانه وتعالى. فهذا هو الجواب المرضي، وقيل: يحتمل أن يكون هذا قبل النهي عن الحلف بغير الله، والله أعلم.
قال العراقي:
- النقل الخمسون: قال ابن عبد الوهاب في مختصره: لو قال: "لعمري" أو "لعمرك" فليس بيمين في قول الأكثر، وقال الحسن في قوله: "لعمري" كفارة. انتهى.
- ومعلوم أن لعمري أو لعمرك قسم بغير الله بلا نزاع ولكن الأكثر ما أوجب [؟]
- في ألفاظ كان يكره أن تقال. منها أن يقال: ما شاء الله وشئت، ومنها أن يحلف بغير الله؛ صح عنه أنه قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك". ومنها أن يقول السيد لغلامه وجاريته: عبدي وأمتي، وأن يقول الغلام لسيده: ربي وربتي، وليقل السيد: فتاي وجاريتي، ويقول الغلام: سيدي وسيدتي" انتهى.
- فانظر إلى تصريحه بالكراهة ولم يقل حرام ولا كفر قائلها كفرًا مخرجًا من الملة.
قد تقدم أن من نسب إلى الشيخ أو إلى أهل العلم من أتباعه أنهم كفروا بهذه الأشياء كفرًا مخرجًا من الملة، فهو من أكذب الخلق وأجرأهم على الفرية وقول الزور. وتقدم أن الشيخ ابن القيم قال: "من عظم مخلوقًا بالحلف تعظيمًا كتعظيم الله فقد أشرك شركًا أكبر". وقال لما عدّ هذه الألفاظ ونحوها في شرح المدارج: "وقد يكون ذلك شركًا أكبر بحسب ما قام بقلب فاعله". وحديث ابن عمر صريح في إطلاق الكفر والشرك بالحلف بغير الله، فمن منع هذا الإطلاق فهو مشاق لله ولرسوله. ولكن ساق البخاري في صحيحه قول ابن عباس: "كفر دون كفر، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم". وأما قول السيد لغلامه وجاريته: عبدي وأمتي، وقول الغلام والجارية: سيدي وسيدتي، فلم يكفر بهذا مسلم، كيف وقد أمر النبي أن يقال: سيدي ومولاي. واعتراض العراقي على عبارة كشف الشبهات مصدره سوء فهمه وغلظ طبعه وكثافة حجابه، وسيأتيك الكلام في هذا إن شاء الله مفصلا قريبًا:
وكم من عائب قولا صحيحًا ** وآفته من الفهم السقيم
نعم قول النبي للوفد الذين قالوا له: أنت سيدنا: "السيد الله" حديث ثابت خرجه الأئمة واحتج به أهل العلم. ولهم في الجمع بينه وبين أمره للغلام أن يقول لسيده سيدي وسيدتي طرق. منها ترجيح حديث الرخصة للعبد والأمة، ويحتمل أن الرخصة خاصة بالعبد والأمة، لما لسيدهما من السيادة الخاصة، وأما العامة في مقام المدح والثناء فتختص بالمنع. وهذا الجمع فيه إعمال النص في مورده، ولعله أولى الأقوال، وهذا جوابنا عن نقله الثاني والخمسين.
وأما نقله الثالث والخمسون فحاصله أن شيخنا رحمه الله ذكر في كتاب التوحيد حديث: "لا يقل أحدكم عبدي وأمتي، بل يقل: فتاي وفتاتي. ولا يقل العبد: ربي وربتي، وليقل: سيدي وسيدتي" وأنه ذكر في مختصر السيرة ومختصر الهدي النبوي: سيد بني فلان وسيد بني فلان مرات متعددة.
ثم قال العراقي:
- فانظر إلى نقله هذا، وقد قال في كشف الشبهات له: "ليس معنى السيد عندنا إلا الإله. فعلى هذا إذا قال أحد منا: يا سيدي أو يا مولاي، فكأنما قال: يا إلهي". فإذا كان لفظ السيد معناه الإله، كيف جاز له نقله في كتبه ولم يعترض على الرسول في الحديث الصحيح الذي نقله: "وليقل العبد سيدي ومولاي"؟ وكيف ساغ له أن يقول في السيرة: سيد بني فلان، وفي أشخاص كفار، فضلا عن مسلمين أخيار، فهل هذا إلا تناقض؟ بل رأيت في كتب متعددة لبعض المعاصرين له أنه أحرق دلائل الخيرات لأنّ فيها: اللهم صل على سيدنا ومولانا محمد، وأنه قال: من أكفر من صاحب الدلائل لتعبيره بهذ العبارة. والله أعلم بحقيقة الحال.
- فتأمل كلام الشيخين وانظر كيف لم يتفوها بالشرك المخرج عن الملة. ولو لم يقيد لكان قولها واجب التأويل، لأن كلام الله وكلام رسوله إذا أطلقا يجب تأويلهما كما في آيات الوعيد، كقوله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قال ابن القيم: "كفر دون كفر، وشرك دون شرك، وليس بالكفر المخرج عن الملة، كما ذهب إليه ابن عباس وأكابر السلف"، بل ورد إطلاق الشرك في حق سيدنا آدم عليه السلام الذي هو نبي معصوم، قال تعالى في حقه وحق حواء: { فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } فإن أكثر المفسرين على أنها مقولة بسبب تسمية آدم ابنه عبد الحارث، وهو إبليس والقصة معلومة. قال البغوي: كقول الرجل لضيفه: أنا عبدك، وليس الشرك الضار بالاتفاق، وكقوله : "ثنتان هما في الناس كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت" رواه مسلم. وقد ذكر مسلم في أول صحيحه جملة أحاديث فيها إطلاق الكفر على المحرم وعلى المكروه، أولها العلماء بكفر النعمة، والمراد المستحل لهذه المعصية وهي متفق على تحريمها، فإذا كان كلام المعصوم الذي لا يترك من قوله اتفق العلماء على تأويل إطلاقه ما يوهم الإخراج عن الملة، فكيف غير المعصوم ممن هو وسط طبقات العلماء إذا أطلق القول بذلك كيف لا يؤول كلامه؟ مع أنه ما قصر جزاه الله خيرًا بل بين أتم بيان. فقد تحقق عندك من نقل عبارتهما أنهما لا يحكمان على أحد بالشرك أو الكفر إلا ومرادهما الأصغر ممن يعتقد الشهادتين، وهذا الأصغر لا يتحقق عندهما إلا بشروط أن لا يكون الفاعل مجتهدًا ولا مقلدًا ولا مؤولًا وله له شبهات يعذره الله فيها ولا جاهلًا، ولا له حسنات تمحو هذه الخطيئة، ولم يبتل بمصائب مكفرة إلى غير ذلك، كما قدمناه لك من كلامهما، ومن اتصف بشيء من هذه الأمور فهو مغفور له ومثاب على فعله، فقاتل الله من ينقل عنهما خلاف مذهبهما.
سقنا كلام العراقي ليعلم الواقف عليه حاصل ما عند هذا المفتري وأنه في ظلمات الجهل والشرك والهوى، وفي كلامه من الهجنة واختلال النسق والنظام ما يستبين به أنه أجنبي عن هذه الصناعة، وأنه مزجي التجارة والبضاعة، فلله الحمد لا أحصي ثناء عليه، خذل هؤلاء الحيارى بعدله وحكمته، وأقام الحجة وأوجب الشكر على أهل فضله ونعمته.
أما اعتراضه على شيخنا في قوله: "إن السيد يطلق بمعى الإله، وإن العرب تقصد من لفظ الإله ما يقصده كثير من أهل هذا الوقت بلفظ السيد" فهذا اعتراض باطل نشأ من جهل المعترض باللغات والاصطلاحات والأوضاع العرفية. والعبرة بالمعنى والحقيقة وإن تغيرت اللغة ونقلت لاصطلاح أو عرف. والاسم الواحد قد يختلف معناه لاختلاف مسماه فيكون له معنى في أصل اللغة ثم لا يخصه إلا الاصطلاح بمعنى أخص، ثم ينقله العرف الحادث. والحكم يدور مع علته: من عبد شيئًا وتألهه وقال: هذا مولى أو ولي أو سيد لم يغير ذلك الاسم حقيقته وأنه إله معبود، وكلام الشيخ لايدل إلا على هذا، وليس فيه أن السيد في كل لسان وكل لغة يقصد بها الإله، هذا كذب وبهت على الشيخ لم يقله ولا دل عليه كلامه، وهذا العراقي أفاك أثيم قد خلع جلباب الحياء والدين. وإنما قال الشيخ: إن المشركين الأولين كانوا يقصدون من لفظ الإله ما يقصده أهل زماننا بلفظ السيد، وهذا صحيح، فإن السيد عند أكثر المشركين في هذه الأزمان هو الذي يدعى ويستغاث به في الشدائد ويرجى للنوازل ويحلف باسمه وينحر له على وجه التعظيم والقربة. وبعضهم يطلق على ذلك اسم الولي، كما هو اصطلاح أهل مصر. وبعضهم يسمي هذا المعنى السر، فيقول: فلان فيه سر، ومن أهل السر. وهذا مشهور معروف. والاصطلاحات تحدث واللغات تختلف. والفقهاء أطلقوا الأحكام المترتبة على المعاني والمقاصد وإن اختلفت الأسماء وتغيرت اللغات في باب البيع والنكاح والردة والقذف والشهادة والحكم بالإسلام فيمن قال: صبأت ونحوه، وإن لم يحسن أن يقول: أسلمت، كما حكم في بني جذيمة. والحكم أشهر من أن يذكر، وسياق كلام الفقهاء يطول.
والشيخ لم يقل ما حكى العراقي عنه، وإنما قال ما حكينا. وإذا استعمل السيد في معناه اللغوي فالشيخ أعقل وأعلم بالله وحدود ما أنزل على رسوله من أن يمنع ما تواتر نقلهواشتهر وضعه، وقاله الشارع المخبر عن الله، فقد ذكر في كتاب التوحيد جواز ذلك للعبد والأمة وإن منع مالك رحمه الله كما تقدم. والمقصود إبطال اعتراضه وبيان جهله وضلاله.
وأما قوله: "رأيت في كتب متعددة عن بعض المعاصرين أنه أحرق دلائل الخيرات.." إلى آخر عبارته؛ فيقال: لولا الجهل والهوى واختيار الضلال على الهدى لما نقلت كلام خصوم الشيخ المجاهرين له بالعداوة المصرحين له بالمسبة ولما أقدمت على حكايته لما فيه من الافتراء بغير هدى ولا برهان. وما زال أهل الشرك وأهل البدع وأهل الفجور، بل وأهل العداوات الدنيوية، يرمي بعضهم بعضًا ويفتري بعضهم على بعض. ومن عرف الناس تبين له حقيقة ذلك. ومن أعماه الهوى ضل عن سبيل الرشاد والهدى. وفي كلامه من الكذب نسبة التحريق للدلائل إلى الشيخ، وقد صرح رحمه الله في رسائله المعروفة أنه لم يحرقها، [14] وإنما أمر بالاشتغال بما ورد من الصيغ الشرعية والألفاظ النبوية في الصلاة والسلام على خير البرية، ونهى عن الغلو والإطراء الذي نهى عنه الشارع عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وفي كلام العراقي من الكذب قوله: إنه أحرق الدلائل لأن فيها اللهم صل على سيدنا ومولانا، وإنما نهى عنها لما فيها من الغلو كما يعرفه من وقف عليها، وما فيها من الأحاديث التي لا تجوز نسبتها إلى النبي ، فتبين أن العراقي مخلط لا يدري ما يقوله:
إذا أنت لم تفقه ولم تدر ماالهدى ** فأنت وعير في الفلاة سواء
ومن الأكاذيب الظاهرة نسبة قوله: "ومن أكفر من صاحب الدلائل لتعبيره بهذه العبارة"، فهذا من جنس ما قبله. وإذا اجتمع الضلال والهوى فقد استحكم البلاء والشقاء.
وأما قوله: فتأمل كلام الشيخين كيف لم يتفوها بالشرك المخرج عن الملة، فقد تقدم البيان والكشف عن شبهة هذا العراقي، وأن كلام الشيخين في كل موضع فيه البيان الشافي أن نفي التكفير بالمكفرات قولها وفعلها فيما يخفى دليله ولم تقم الحجة على فاعله. وأن النفي يراد به نفي تكفير الفاعل وعقابه قبل قيام الحجة، وأن نفي التكفير مخصوص بمسائل النزاع بين الأمة، وأما دعاء الصالحين والاستغاثة بهم وقصدهم في الملمات والشدائد فهذا لا ينازع مسلم في تحريمه أو الحكم بأنه من الشرك الأكبر، وتقدم عن الشيخ أن فاعله يستتاب فإن تاب وإلا قتل، كما في عبارة الرسالة السنية، وتقدم قوله: "من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعًا"، وتقدم قوله في الرد على المتكلمين: "وهذا إذا كان في المسائل الخفية، فقد يقال إنه خفي عليهم، ولكنه يقع منه في مسائل يعلم الخاصة والعامة أن الرسول قد جاء بها.. إلخ"، وهذا عين كلام شيخنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب ضاعف الله لنا وله الثواب، وأدخلنا وإياه الجنة بغير حساب، على رغم كل مبير وكذاب.
والعراقي لم يفقه هذا لغلط فهمه وعدم علمه، بل هو يعتقد أن كلام أهل العلم وتقييدهم بقيام الحجة وبلوغ الدعوة ينفي اسم الكفر والشرك والفجور ونحو ذلك من الأفعال والأقوال التي سمّاها الشارع بتلك الأسماء، بل ويعتقد أن من لم تقم عليه الحجة يثاب على خطأه مطلقًا. وهذه من الأعاجيب التي يضحك منها اللبيب، فعدم قيام الحجة لا يغير الأسماء الشرعية، بل يسمي ما سماه الشارع كفرًا أو شركًا أو فسقًا باسمه الشرعي ولا ينفيه عنه وإن لم يعاقب فاعله إذا لم تقم عليه الحجة ولم تبلغه الدعوة، وفرق بين كون الذنب كفرًا وبين تكفير فاعله.
فافهم هذا فإن العراقي خلط فيما مرّ، وخبط خبط عشواء، وسيأتيك في كلامه ما فيه عبرة لأولي الألباب.
وأما الثواب والأجر فنصوص الشارع وكلام أهل العلم وكلام الشيخين صريح في أن ذلك غير حاصل لكل مخطئ، بل هو مخصوص بمن اجتهد واتقى الله ما استطاع، وهذا في المسائل الاجتهادية، ومستنده قوله : "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" وقد دل الحديث على أن هذا للحاكم المجتهد، ونفي المؤاخذة بالخطأ والنسيان لا يلزم منه الإثابة بالاتفاق. فاستصحب هذا معك فيما مر وما يأتي من الأبحاث، فإن القوم زلت أقدامهم ولم يعقلوا عن الله ولا عن رسوله، ولا عن أهل العلم والإيمان ما يراد من الكلام في هذه المباحث، بل ولا في كل باب وشأن إلا أن يشاء ربي شيئًا.
وأما قوله: "بل ورد إطلاق الشرك في حق سيدنا آدم عليه السلام الذي هو نبي معصوم" فهذه العبارة من نوادر هؤلاء الضلال، ومن أعجب ما يحكى ويقال، جزم بإطلاق الشرك على آدم عليه السلام، ثم قال: هو نبي معصوم؛ ما زال هذا المعترض في مشيمة طبعه وجاهليته ولم يولد بعد، هذا جمع بين النقيضين وجهل لا يخفى على ذي سمع وعين. ومن قال بالعصمة مطلقًا فقد أول هذه الآية وحملها على غير آدم كما هو معروف ومقرر عند أهل العلم والفتوى، ومن قال بوقوع ذلك من آدم وحواء نفى القول بالعصمة مطلقًا { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا }.
ثم في عبارة العراقي من الهجنة وسوء التعبير ما يقضي بأنه أسوأ الذرية وأقلهم أدبًا مع الأب الأول الأكبر، كيف يقول: ورد إطلاق الشرك في حق آدم، والله تعالى يقول: { فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا }، والعراقي جاهلي اللسان أغلف الجنان، والله سبحانه لم يذكر آدم باسمه العلم رحمة منه وتشريفًا له ولبنيه من صالح الأمم، بل أتى بالضمير الدال على التثنية وفرق بين ذلك وبين الأفراد في مثل هذا المقام، ولم يطلق الشرك بل قيده بقوله: { فِيمَا آتَاهُمَا }، والعراقي يقول أطلق الشرك، فافهم ما في كلامه من الكذب على الله وبهت أبيه آدم وعقوقه.
وأما قوله قال البغوي: "كقول الرجل لضيفه: أنا عبدك، وليس الشرك الضار".
أقول في جوابه: قد جنى هذا العراقي على البغوي جناية لا تقال عثرتها ولا جبار لجرحها، أخذ كلامه وحرفه وأخرجه عن نسقه ونظامه، والبغوي أجل من أن يقول لشيء من الشرك: "ليس بضار بالاتفاق"، هذه لا تصدر عمن يعقل ما يقول فضلا عن الأكابر الفحول. وعبارة البغوي نصها: "أي جعلا له شريكًا إذ سمياه عبد الحارث ولم يكن هذا شركًا في العبادة ولا أن الحارث ربهما، فإن آدم كان نبيًا معصومًا من الشرك، ولكن قصد إلى أن الحارث ربهما. فإن آدم كان نبيًّا معصومًا من الشرك، ولكن قصد إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامة أمه، وقد يطلق اسم العبد على من لايراد به أنه مملوك، كما يطلق اسم الرب على من لا يراد به أنه معبود، كما أن الرجل إذا نزل به ضيف يسمي نفسه: عبد الضيف على وجه الخضوع لا على أن الضيف ربه، ويقول للغير: أنا عبدك، وقول يوسف عليه السلام لعزيز مصر: إنه ربي، لا يراد به أنه معبوده، وكذلك هذا" انتهى.
وحاصله أن الحقيقة لم تقصد، وإنما هو على سبيل التواضع، هذا حاصل كلامه. فالعراقي حرف العبارة وزاد فيها ونقص، كما فعل بنقوله عن شيخ الإسلام، فالعراقي لا تؤمن بوائقه؛ فلا تغتر بنقله ولا تأخذ عنه فإنه وضاع كذاب محرف لا يؤمن على شيء من العلم.
وأما قوله، وكقوله : "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض"، وقوله: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، و "من أتى حائضًا فقد كفر"، وقوله: "ثنتان هما في الناس كفر"، فإن كان هذا عند العراقي كفرًا ليس بضار لا يعاب على فاعله ولا يعار فقد أراح خصمه من التعب والجواب وأعلن بحقيقة ما عنده وما يذهب إليه في تلك المسائل الممتنعة الصعاب. من كان هذا حاصله فهو ممن لم يتميز عن سائمة الأنعام إلا بمجرد الصورة والهيولى، فإن هذه الألفاظ النبوية والصيغ الشرعية يجب الإيمان بها وتلقيها بالقبول والتسليم. وأهل العلم متفقون على أنها من كبائر الذنوب، بل من أفحش الكبائر؛ فإن إطلاق الكفر على الذنب أو على فاعله يدل على غلطه في نفسه وعظيم فحشه، ولم يقل أحد من أهل العلم: إنه كفر غير ضار، بل ولا يقوله جاهل ولا ذمي يؤمن بأحد الأنبياء؛ ولم تنته جهالتهم في هذا المبحث إلى ما انتهت إليه جهالة العراقي وضلالته. والذي حكاه الإمام أحمد وارتضاه تلقي هذه الأخبار بالإيمان والتسليم وترك التعرض لتفسيرها كما ذكره في رسالته إلى مسدد بن مسرهد وغيرها، ونقله شيخ الإسلام وغيره. وبعض الناس تعرض لتأويلها وأنها من الكفر العملي لا الاعتقادي مع اعترافه بأنها من أغلظ الذنوب وأكبرها. وأما تأويلها بكفر النعمة فهو ضعيف جدًا، إذ ما من معصية وذنب يفعله المكلف المختار إلا وفيه من كفر النعمة بحسبه، والشكر هو استعمال النعمة في طاعة معطيها ومسديها مع محبته والرضا عنه والثناء بها عليه، والشكر ضد الكفر، فمن أخل بشيء من الشكر ففيه من كفر النعمة بحسب ذلك. فتحصل أن كفر النعمة لا يختص بما أطلق عليه الشارع الكفر من الأفعال، فلا بدّ للنص من معنى يخصه وحكمة في تخصيص بعض الأفراد. وهذا معلوم بالشرع والفطرة، إذ تخصيص بعض أفراد الجنس بحكم من غير مخصص يقتضي ذلك تحكم محض وترجيح بلا مرجح.
وأما قوله: وذكر مسلم أحاديث فيها إطلاق الكفر على المحرم وعلى المكروه - فقد كذب على مسلم وكذب على الرسول في زعمه أنه أطلق الكفر على المكروه بالمعنى الاصطلاحي الذي يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، وإنما تطلق الكراهة في عرف القرآن والسنة على الكفر والشرك والكبائر وسائر المحرمات. كما في آية الإسراء وكما في الحديث: "ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال".
وأما قوله: "وإذا كان كلام المعصوم الذي لا يترك من قوله اتفق العلماء على تأويل إطلاق ما يوهم الإخراج من الملة، فكيف غير المعصوم؟".
فيقال: حكاية الاتفاق على ما ذكر تهور في الكذب على أهل العلم كافة واقتحام لجرائم الوعيد المنصوص عليه بقوله تعالى: { إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ } وقوله: { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا }، وقد حمى الله أهل العلم عن الاتفاق على تأويل الاطلاقات النبوية من غير نص يجب المصير إليه. وقد تقدم عن الإمام أحمد أنه حكى عن السلف إمرار هذه الأحاديث كما جاءت من غير تعرض لتأويلها. ومن قال: هي كفر عملي لم يتأول، ولكنه يرى أن إطلاق الكفر على مثل ذلك حقيقة شرعية، كما يعلم بالوقوف على كلامهم رحمهم الله، فطالعها في أماكنها تجد ما قلناه ويتضح لك ما قررناه.
وأما قوله في الشيخ وتلميذه: إنه من أوسط طبقات العلماء، فكأنه يريد أنهما ليسا من الطبقة العليا بل دون ذلك. وما أحس ما قال جرير:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته ** ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
وأما قوله: فقد تحقق عندك من نقل عباراتهما أنهما لا يحكمان على أحد بالشرك أو الكفر إلا ومرادهما: الأصغر ممن يعتقد الشهادتين - إلى أخره، فقد تقدم لك البيان إن هذا جهل وتخبيط وضلال، وأنه لم يفهم كلام الشيخ ولم يعرف موضوعه وما أريد به. وكيف لا يحكم الشيخان على أحد بالكفر أو الشرك وقد حكم به الله ورسوله وكافة أهل العلم؟ وهذان الشيخان يحكمان أن من ارتكب ما يوجب الكفر والردة والشرك يحكم عليه بمقتضى ذلك وبموجب ما اقترف كفرًا أو شركًا أو فسقًا إلا أن يقوم مانع شرعي يمنع من الاطلاق، وهذا له صور مخصوصة لا يدخل فيها من عبد صنمًا أو قبرًا أو بشرًا أو مدرًا لظهور البرهان وقيام الحجة بالرسل. والعراقي أجنبي عن هذا كله، لا يدري ما الناس فيه، وإن ظن أنه من ورثة العلم وحامليه.
جهد المغفل في الزمان مضيع ** وإن ارتضى أستاذه وزمانه
كالثور في الدولاب يسعى وهو لا ** يدري الطريق فلا يزال مكانه
وقال العراقي: فقاتل الله من ينقل عنهما خلاف مذهبهما.
وهذا استفتاح من العراقي على نفسه، إذ هو الفاعل لذلك المجتهد في تحريف كلامهما وإخراجه عن موضوعه ونقل ما لم ما لم يقولا ولم يذهب إليه ذاهب. قال تعالى: { وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك، ونسألك موجبات رحمتك وعزائم معفرتك.
وهذه النقول التي تقدمت عن العراقي أكثرها مكرر لا يحتاج لمزيد جواب، وإنما قصدنا بما أوردنا من الإطناب في محله تنبيه السامع وإيقاظ الغافل. والإطناب يحسن في محله لحاجة السامع وضرورة الطالب، وفيما يهتم به من الأمور التي تشتد حاجة العبد إليها، كما يستفاد من أسلوب الكتاب العزيز الذي { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ }.
ثم إن العراقي بعد فراغه من نقوله شرع يستدل على جواز دعاء الصالحين والاستغاثة بهم وطلب الحوائج منهم على أنهم واسطة بين العباد وبين الله في الحاجات والملمات والشدائد، وزعم أن هذا ليس بشرك وإنما هو توسل ونداء مستحب شرعًا، وذكر خمسين دليلا يزعم أنها تدل على دعواه وتنصر ما قاله وافتراه. { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } وتعالى الله عمّا يقول الظالمون، وسنتكلم عليها بما يسره الله لضرورة اقتضت ذلك، وإن كنت لست من رجال تلك المناهج والمسالك.
ولكن البلاد إذا اقشعرت ** وصوح نبتها رُعي الهشيم
قال العراقي:
- الباب الثاني: في أدلة المجوزين للاستغاثة والتوسل بالأنبياء والصالحين والنذر لهم على أن المراد لوجه الله والثواب لهم، والحلف بغير الله وما أشبه ذلك. وبيان أدلتهم من الكتاب والسنة وأفعال السلف الصالح وأقوالهم. وهذا الباب إنما نذكره ليتضح لك وجه استنادهم ويتبين لك كون الشيخين يعذران فاعل ذلك لأجل هذه الأدلة. وقد ذكر جملة منها شيخ الإسلام ابن تيمية في عبارته السابقة. وقد تقدم عنه في اعتذاره عمن يفعل ذلك أنه لعله لم تثبت عنده النصوص أو عارضها معارض عنده، وهذه الأدلة معارضة لأدلة المانعين فتكون لهم حججًا يعذرهم الله لأجلها.
- اعلم أن المجوزين مرادهم جواز الاستغاثة بالأنبياء والصالحين أنهم أسباب ووسائل بدعائهم، وأن الله يفعل لأجلهم، لا أنهم الفاعلون استقلالا من دون الله فإن هذا كفر بالاتفاق ولا يخطر ببال مسلم جاهل فضلًا عن عالم، بل ليس هذا خاصًّا بنوع الأموات، فإن الأحياء وغيرهم من الأسباب العادية كالقطع للسكين والشبع للأكل والري للماء والدفء للبس لو اعتقد أحد أنها فاعلة ذلك بنفسها من غير استنادها إلى الله يكفر إجماعًا.
- وبالجملة فإطلاق لفظ الاستغاثة لمن يحصل منه غوث ولو تسببًا وكسبًا أمر معلوم، لا شك فيه لغة ولا شرعًا، فلا فرق بينه وبين التوسل حينئذ، فتعين تأويل الحديث لا سيما مع ما نقل أن في حديث البخاري في الشفاعة يوم القيامة: فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم، ثم بموسى، ثم بمحمد . وقد يكون مع التوسل طلب الدعاء منه إذ هو يعلم بسؤال من سأله ويتسبب هو بشفاعته ودعائه. وذكر ابن تيمية فيما تقدم أن المصنفين في أسماء الله قالوا: يجب على المكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الحقيقة إلا الله، وأن الإغاثة وإن حصلت من غيره تعالى فهو مجاز، وحقيقة له تعالى، وقال أيضًا: "والاستغاثة بمعنى أن يطلب منه ما هو اللائق بمنصبه، لا ينازع فيها مسلم، ومن نازع فهو كافر أو ضال". وهذا كما ترى محافظة على التوحيد واتباعًا للوارد، فالإنكار ساقط بهذا الاعتبار. وقد ذكر المجوزون أن جعل النبي والصالح متسببًا لا مانع من ذلك شرعًا وعقلًا، لأن ذلك كله بإذن الله تعالى، ومن أقر بالكرامة من الصالحين كما هو مذهب أهل السنة والجماعة وأنها بإذن الله لم
هامش
- [هو المعروف بالفخر الرازي صاحب التفسير.]
- [كان ذلك يوم الأربعاء 13 صفر من سنة 37 من الهجرة، على أن يوافي الحكمان بدومة الجندل في رمضان من هذه السنة.]
- [في الجزء السادس من التاريخ في حوادث سنة 37هـ.]
- [بل زاد كفر الشعراني عن هذا، فقد زعم في كتاب العهود المحمدية: أنه إبريق شيخه الخواص كان يقضي الحاجات، ويجيب الدعاء.]
- [ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع، واستدركته من مجموع الفتاوى.]
- [ومن الذي يصدق مثل هذه المنامات التي يختلقها الصوفية الكذبة؟ وكل ما يحكونه عن شيوخهم من الأحوال والمواجيد فهو كذب كله وافتراء؛ يموهون به على العوام وبأي وجه يصدق المؤمن مثل ما يحكيه سمنون وأمثاله عن أنفسهم ومواجيدهم، والتهمة إليهم أقرب، فضلًا عن أن يدعي لهم ما يشبه العصمة التي تجعل كل ما يحكون عن مواجيدهم الرهبانية والقسيسية الشيطانية صدقًا، يستدل بها على ما يقره الكتاب والسنة ولا يعرفه الصحابة أئمة الهدى رضي الله عنهم.]
- [قال الشيخ حامد الفقي: "لا ندري من أين قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغفر له كل هذا في قبور الأنبياء والصالحين، فإن مثل ذلك لا يقال بالرأي والقياس، ولا نعرف في ذلك آية ولا حديثًا يصح عن النبي ، وما جرّ إلى عبادتها وتقديس العامة لها واتخاذها أوثانًا إلا مثل هذا، والمدفون في القبور جميعها إنما هو الأجسام البشرية التي ماتت، أما معنوية الرسل والصالحين فهي عند الله في نعيم مقيم، والله أعلم.]
- [وبقول النصارى قال البهائية الذين كفروا بكل دين واستباحوا كل المحرمات بوحي الشيطان بابهم وبهائهم لعنه الله ولعنهم.]
- [الذي لا شك فيه أن الأولين لم يتخذوا آلهتهم من الحجر إلا على أنها تمثل أولياءهم ومعتقديهم من البشر، ولذلك سماها الله أولياء، وقال { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ }، فالشرك في كل زمان واحد وإن اختلفت الأسماء، وقد صرّح بذلك الإمام ابن القيم في غير موضع من كتبه.]
- [وما قام هذا في نفوسهم إلا بما أوحى إليهم شياطينهم: أن أولياءهم من نور الله الذي فاض منه سبحانه وتعالى، وأنهم بهذا صاروا من جنسه ولهم صفاته وخصائصه من الحياة والسمع والبصر والقدرة وغيرها. وأن لهم بذلك دالة عليه، كأبناء الملوك وأقاربهم وهم لذلك يسمونهم أهل الله، ومن هنا كان دعاؤهم إياهم ولجوءهم وعبادتهم، وهو الشرك القديم والوثنية في كل عصورها تتلون بألوان مختلفة، وحقيقتها واحدة لأنها من وحي واحد هو وحي الشيطان. كما أن التوحيد واحد عند كل رسول لأنه من وحي الله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.]
- [ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع، فاستدرك من مدارج السالكين 1/98.]
- [ليس في الآية قسم بالنبي مطلقًا ولا بغيره، فهي أولًا خطاب للوط عليه السلام، فإن سياقها: { قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ، لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَيْحَةُ مُشْرِقِينَ } فمن أين تكون لها علاقة بمحمد ما هو إلا التقليد الأعمى وانسياق المتأخر وراء المتقدم بدون تفكير ولا تعقل، وليس معناها القسم، وإنما معناها العدة من الله بإطالة عمر لوط عليه السلام بعد إهلاك قومه، في الوقت الذي يخبر الله أنه سينقذ في قوم لوط العذاب والهلاك عاجلًا، وهذا هو المعنى اللائق بالقرآن وآياته ومقاصده، والله أعلم.]
- [بياض بالأصل بقدر سطرين وربع سطر.]
- [بل الواجب على كل مسلم يدين دين الحق الذي جاء به رسول الله من عند ربه أن يحرق هذه الدلائل شر تحريق، إنها من أعظم الطواغيت التي تدعو الناس للكفر بالله ورسوله بما فيها من الدعوة الصارخة الفاجرة إلى عقيدة الحلولية ووحدة الوجود التي هي أخبث شرك وأشنع وثنية، بل الواجب تحريق كل كتب الصوفية وأورادهم فإن لحمتها وسداها عقيدة الحلول ووحدة الوجود التي حقيقتها اعتقاد أن الأنبياء والأولياء أجزاء انفصلت عن الله بالفيض والانبثاق للنور الأول، وهي عقيدة الولدية والبنوة لله، وعليها تدور الصوفية في جميع أدوارها، وإن تبرقعت حينا فقد أسفرت أحيانًا، وسبحان الله تعالى عما يقول الصوفية علوا كبيرًا.]
Tilaa:
Blogitekstit (Atom)