فهرس المواضيع ◄ |
الحمد لله الذي بعث في الأميين رسولًا منهم يتلو عليه آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. ويسر لهم من معالم الدين ومواهب اليقين ما فضلهم به واصطفاهم على العالمين. وفتح لهم من حقائق المعارف ومعارف الحقائق ما امتازوا به على من قبلهم من سائر الأمم الماضين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله الصادق الأمين. صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإنّ الله قد بعث محمّدًا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وكان الناس قبل مبعثه على أديان متفرقة ونحل متباينة، وطرائق مختلفة، وضلال مستبين، كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار عن النبي : "إنّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلّا بقايا من أهل الكتاب" فقام بأعباء النبوة والرسالة، وصدع بالإنكار على كافة أهل الجهالة والضلال، ودعا الناس إلى معرفة الله وتوحيده، وأمرهم بإخلاص الدين لله وتجريده. ولم يزل إلى الله داعيًا وإلى سبيله هاديًا، حتى أظهره الله على سائر فرق المشركين الأميين منهم والكتابيين، واستعلن الدين واستنار، وقهر الإسلام كل مشرك جبار فأكمل الله للأمة الدين، وأتمّ النعمة بما جاء به رسوله الأمين؛ فدخل الناس في دين الله أفواجًا، وأشرقت الأرض بنور النبوة واهتزت طربًا وابتهاجًا، ومحا الله آثار الأصنام والأوثان، وخمدت معابد الصلبان والنيران، ورفعت أعلام السنة والقرآن حتى تركهم على البيضاء ليلها كنهارها لا يضل سالكها، ولا تلتبس عليه مناهجها ومسالكها. ولم يزل خلفاؤه الراشدون ومن بعدهم من أهل تلك الأعصار الفاضلة والقرون، على هذا المنهج المنير متفقون، وبعروته مستمسكون، فاستمر الأمر على ذلك، ومضى الصالحون على تلك المناهج الواضحة والمسالك؛ ثم نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، ولم يميز بين شعب الشرك والأصول الإسلامية، فانتقضت من الدين عراه، وعزّ خلاصه وعظمت بالجهل محنته وبلواه، وآلت الرياسة إلى الجهال والأغمار، وجاءت دولة غربة الدين واشتد الإدبار، فوقع الشرك بالصالحين وغيرهم صرفا لم يشب؛ هرم عليه الكبير ونشأ الصغير وشبَّ، واستحكم الأمر استحكاما لا مزيد عليه. حتى جزم الأكثر بكفر من أنكر ذلك وأشير به إليه. وهذا من أعلام نبوة نبينا المصطفى زاده الله صلاة وسلامًا وشرفًا، فقد روى الشيخان وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله قال: "لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟". وجاء نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما وفيه زيادة: "وباعًا بباع" وفيه: "حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه، وحتى لو أن أحدهم جامع أمه في الطريق لفعلتموه" وفي الباب عن أبي هريرة وشداد بن أوس وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم. فصار الأمر طبق ما أخبر به هذه الأمة نبيها، وظهر وجه الشبه بينهم وبينها، وانتهى الحال إلى أن قبل بالاتحاد والحلول، وكثرت في ذلك إشارات القوم والنقول، وصار هو مذهب الخاصة والخلاصة عند الأكثرين. ومن أنكره فهو عندهم ليس على شيء من العلم والدين.
وعبدت الكواكب والنجوم. وصنف في ذلك مثل أبي معشر وصاحب السر المكتوم، [1] وعظمت القبور، وبنيت عليها المساجد وعبدت تلك الضرائح والمشاهد، وجعلت لها الأعياد الزمانية والمكانية؛ وصرفت لها العبادات المالية والبدنية. ونحرت لها النحائر والقرابين؛ وطاف بها الفوج بعد الفوج من الزائرين والسائلين، وحلقت لأربابها رؤوس الوافدين؛ وهتف بدعائها ورجائها من حضر وغاب من المعتقدين والمحبين. واعتمدوا عليها في المهمات من دون الله رب العالمين وانتهكت بأعيادها وموالدها محظورات الشريعة والمحرمات، واستبيح فيها ما اتفقت على تحريمه جميع الشرائع والنبوات. وكثر المكاء والتصدية بتلك الفجاج والعرصات. وبارزوا بتلك القبائح والعظائم فاطر الأرض والسموات. وصنف في استحبابه بعض شيوخهم كابن المفيد وظنه الأكثر من دين الإسلام والتوحيد وأشير إلى من أنكره بالكفر الشديد، وقد ضمن الله تعالى لهذه الأمة أن لا تجتمع على ضلالة، وأن لا يزال فيها من يعبد الله قائما على أي وصف وحالة. وجاء الحديث عنه بأنه تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل قرن من يجدّد لها أمر الدين، ويقوم من الحجة بالواضح المستبين. فمنهم من قصّ علينا نبؤه ووصل، ومنهم من انقطع عنا خبره وما اتصل. وأحق أهل القرن الثاني عشر عند من خبر الأمور وسبر ووقف على ما قرره أهل العلم والأثر: من حصول الوصف الكاشف المعتبر شيخ الإسلام والمسلمين المجدد لما اندرس من أصول الملة والدين، السلفي الأول وإن تأخر زمانه عند من عقل وتأمل، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى وأجزل له الثواب.
وكان قيامه رحمه الله بعد الخمسين ومائة وألف؛ من سني الهجرة المحمدية. وايتداء التواريخ الإسلامية، فشمر رحمه الله عن ساعدي جده واجتهاده، وأعلن بالنصح لله ولكتابه ولرسوله، وسائر عباده، وصبر على ما ناله من أعباء تلك الرتبة والدعوة، وما قصد به من أنواع المحنة والجفوة.
وقرّر رحمه الله أن الواقع الذي حكينا والصنيع الذي رأينا وروينا، عن عباد القبور والصالحين، هو بعينه فعل الجاهلية الوثنيين. وهو الذي جاءت الرسل بمحوه وإبطاله وتكفير فاعله ورد باطله ومحاله: وقال: إن حقيقة دين الإسلام وزبدة ما جاءت به الرسل الكرام، هو إفراد الله بالقصد والعبادة، وإسلام الوجه له بالعمل والإرادة، وترك التعلق على الأولياء من دونه والأنداد. والبراءة من عبادة ما سواه من سائر المخلوقات والعباد. وهذا معنى كلمة الإخلاص والتوحيد. وهو الحكمة المقصودة بخلق جميع الكائنات والعبيد، وقرر رحمه الله أن مجرد الإتيان بلفظ الشهادة مع مخالفة ما دلت عليه من الأصول المقررة؛ ومع الشرك الأكبر في العبادة لا يدخل المكلف في الإسلام. إذ المقصود من الشهادتين حقيقة الأعمال التي لا يقوم الإيمان بدونها. كمحبة الله وحده، والخضوع له والإنابة إليه، والتوكل عليه، وإفراده بالإستعانة والاستعانة فيما لا يقدر عليه سواه، وعدم الإشراك به فيما يستحقه من العبادات، كالذبح والنذر والتقوى والخشية، ونحو ذلك من الطاعات.
واستدل لذلك بنصوص قاطعة وبراهين واضحة ساطعة، وحكي الإجماع على ذلك عن الأئمة الفضلاء والسادة النبلاء، من سائر أهل الفقه والفتوى، وذكر عبارة من حكى الإجماع من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، وألف في ذلك التآليف، وقرر الحجة وصنف التصانيف، وقد عارضه من الغلاة المارقين ومن الدعاة إلى عبادة الأولياء والصالحين، أناس من أهل وقته، فباءوا بغضب الله ومقته. وأظهره الله عليهم بعد الامتحان. وحقت كلمة ربك على أهل الكفر والطغيان. وهذه سنة الله التي قد خلت من قبل، وحكمته التي يظهر بها ميزان الفضل والعدل.
وقد جمع أعداؤه شبهات في رد ما أبداه، وجحد ما قرره وأملاه، واستعانوا بملئهم من العجم والعرب، ونسبوه إلى ما يستحي من ذكره أهل العقل والأدب فضلًا عن ذوي العلم والرتب، وزعموا أنه خارجي مخالف للسنة والجماعة، كمقالة أسلافهم لرسول الله أنه صابئ صاحب إفك وصناعة.
ومن سنة أربع وخمسين ومائتين يبلغنا ويرفع إلينا عن رجل من أهل العراق أنه تصدّى لجمع تلك الشبه من أماكنها وتتبعها من مظانها فصار يبدي من الشبهات ما يمج سماعه، ويكفي الناقد في رده نظره واطلاعه؛ ويظهر بطلانه ببدائه العقول ولا يتوقف الحكم بفساده على نظر في المعقول والمنقول. وقد رفع إليَّ رسالة سماها "صلح الإخوان" فيها من تحريف الكلم عن مواضعه والكذب على أهل العلم وعدم الفقه فيما ينقله ويحكيه من كلامهم ما يحصيه إلا الله. ورأيته قد زاد على من قبله من المعارضين بزيادات وضلالات تليق بتلك الفهوم والقلوب والمقفلات { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } والمؤمن إذا وقف على كلام هذا الرجل عرف قدر ما هو فيه من نعمة الإسلام، وما اختص به من حلل الإيمان والإكرام. فازداد تعظيمًا لربه وتمجيدًا، وإخلاصًا في معاملته وتوحيدًا.
لو شاء ربك كنت أيضًا مثلهم ** فالقلب بين أصابع الرحمن
وقد عنّ لي أولًا أن أطرح هذر كلامه وأن لا أعرج على رد إفكه وآثامه، لظهور هجنته في نفسه، وأنه مما يتنزه العاقل عن إفكه وحدسه. ثم بدا لي أن لكل ساقطة لاقطة. وقد قال رسول الله لأصحابه لما قال أبو سفيان يوم أحد: أفيكم محمد، أفيكم أبو بكر، أفيكم ابن الخطاب؟ "لا تجيبوه" تهاونا به وتحقيرًا لشأنه. فلما قال: اعلُ هُبل، قال لهم رسول الله : "قولوا: الله أعلى وأجل" ولما قال: لنا العزّى ولا عُزى لكم قال لهم: "قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم" والبلاغة كما قيل: مطابقة الكلام لمقتضى الحال.
فصل
اعلم أن من تصور حقيقة أي شيء على ما هو عليه في الخارج وعرف ماهيته بأوصافها الخاصة عرف ضرورة ما يناقضه ويضاده. وإنما يقع الخفاء بلبس إحدى الحقيقتين، أو بجهل كلا الماهيتين. ومع انتفاء ذلك وحصول التصور التام لهما لا يخفى ولا يلتبس أحدهما بالآخر. وكم هلك بسبب قصور العلم وعدم معرفة الحدود والحقائق من أمة، وكم وقع بذلك من غلط وريب وغمة. مثال ذلك: أن الإسلام والشرك نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان. والجهل بالحقيقتين أو إحداهما أوقع كثيرًا من الناس في الشرك وعبادة الصالحين، لعدم معرفة الحقائق وتصورها، وأن لساعد الجهل وقصور العلم عوائد مألوفة استحكمت بها البلية وتمكنت الرزية. وصار الانتقال عن العوائد والمشتهيات أعز شيء في الوجود وأصعب شيء على النفوس، مالم يعارض ذلك معارض قوي في نفسه، عظيم الصولة والقوة، سواء كان أمرًا خارجيًا كالقهر والغلبة والقتال والأسر "عجبت لقوم يدخلون الجنة بالسلاسل" أو أمرًا باطنيًا أو وازعًا إلهيًا كالتوفيق وقذف النور في القلب، وتصريف كصرف القلوب. وهذا النوع أقل مما قبله، كما في حديث ابن عباس في عرض الأمم وأنه "رأى النبي وليس معه أحد، والنبي معه الرجل والرجلان، والنبي ومعه الرهط" الحديث بطوله.فصل
اعلم أن العبد به فقر ذاتي وضرورة ذاتية لا تنفكان بحال إلى معرفة فاطره وبارئه وعبادته وحده لا شريك له. وهذا الفقر والضرورة لا مثل له فيقاس عليه فإن فقد معرفة باريه وعبادته وحده لا شريك له هلاك كلي أبدي، لا خير ولا سرور معه البتة بوجه من الوجوه. لكنه يشبه من بعض الوجوه فقر العبد إلى ما يقوم بدنه وتسلم به صحته من الطعام والشراب، والأمر أجل من ذلك وأعظم، فينبغي لكل عبد أن يهتم بذلك غاية الاهتمام. ولا يرضى لنفسه أن يعيش كسائمة الأنعام. قال تعالى: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا } إلى قوله: { أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } والكلام في هذا المبحث ليس كغيره، فربما خرج الإنسان من الإسلام بشبهة تحول بينه وبين ما يحب لله من التوحيد والإخلاص والبراءة من عبادة ما عبد معه من الأوثان والأصنام.فصل
قال العراقي في أول رسالته:- يقول داود بن العالم المتضلع في سائر العلوم سليمان بن جرجيس..
ودعوة المرء تطفئ نور بهجته ** هذا بحق فكيف المدعي زللا؟
وانظر لتسمية جده بجرجيس! ومعلوم أن جرجس وبطرس ليسا من أسماء المسلمين، فما وجه التسمية بذلك؟
فصل
قال العراقي:- قد اشتهر أن الشيخ ابن تيمية وابن القيم يحكمان على أهل السنة والجماعة ممن يتوسل بالأنبياء والصالحين من أهل القبور، ويناديهم ويستغيث بهم إلى الله، ويحلف بغير الله أو ينذر لأنبياء الله وأوليائه وما أشبه ذلك بالكفر والشرك المخرجين من الملة، وأنهما يحكمان بالتأثيم لفاعل ذلك، أخذًا من ظاهر كلامهما، حتى حصل بذلك فتن وتفريق بين المسلمين. ثم إني أمعنت النظر فوجدتهما قد تبرآ من ذلك، بل رأيتهما عذرا فاعل ذلك، إذا كان مجتهدًا أو مقلدًا وله حسن قصد. وربما قالا: مأجور في فعله. قال: وهما وإن أطلقا في كتبهما وشددا لكنهما خصصا في بعضها وقيدا. فالذي لا يمعن النظر في كلامهما يحكم بأنهما قائلان بالتكفير.. وأطال الهذيان.
(أولا) تسمية عباد القبور أهل سنة وجماعة جهل عظيم بحدود ما أنزل الله على رسوله وقلب للمسميات الشرعية، وما يراد من الإسلام والإيمان. والشرك والكفر. قال تعالى: { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } وهذا وأمثاله أجدر من أولئك بالجهل وعدم العلم بالحدود، لغربة الإسلام وبعد العهد بآثار النبوة. وأهل السنة والجماعة هم أهل الإسلام والتوحيد، المتمسكون بالسنن الثابتة عن رسول الله في العقائد والنحل، والعبادات الباطنة والظاهرة الذين لم يشوبوها ببدع أهل الأهواء ولا بزيغ أهل الكلام: في أبواب العلم والاعتقادات. ولم يخرجوا عنها في باب العمل والإرادات، كما عليه جهال أهل الطرق في مبتدع العبادات فإن السنة في الأصل تقع على ما كان عليه رسول الله وما سنه أو أمر به من أصول الدين وفروعه. حتى الهدي والسمت، ثم خصّت في بعض الإطلاقات بما كان عليه أهل السنة من إثبات الأسماء والصفات خلافًا للجهمية المعطلة النفاة. وخصت بإثبات القدر ونفي الجبر خلافًا للقدرية النفاة وللقدرية الجبرية العصاة. وتطلق أيضًا على ما كان عليه السلف الصالح في مسائل الإمامة والتفضيل، والكف عما شجر بين أصحاب رسول الله وهذا من إطلاق الاسم على بعض مسمياته، لأنهم يريدون بمثل هذا الإطلاق التنبيه على أن المسمى ركن أعظم، وشرط أكبر كقوله : "الحج عرفة" أو لأنه الوصف الفارق بينهم وبين غيرهم. لذلك سمى العلماء كتبهم في هذه الأصول: كتب السنة، ككتاب السنة للالكائي، والسنة لأبي بكر الأثرم، والسنة للخلال، والسنة لابن خزيمة، والسنة لعبد الله بن أحمد، ومنهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيرهم.
وإذا كان الحال كما ذكرنا فقوله اشتهر أن الشيخ ابن تيمية وابن القيم يحكمان على أهل السنة والجماعة بالتكفير والإشراك: كذب ظاهر وبهت جلي، ما قيل ولا صدر، فضلا عن كونه عرف واشتهر. وآحاد العامة - فضلا عن الخاصة - لا يخفى عليهم أن هذين الشيخين من أكابر أهل السنة والجماعة، لا ممن يكفر أهل السنة والجماعة، وأنهما تصديا للرد على المبطلين والمشركين من اليهود والنصارى والصابئة والفلاسفة؛ وعباد القبور والمشايخ، ولم يكفرا غير هذه الطوائف ومن ضاهاهم، كغلاة الجهمية والقدرية والرافضة، هذا يعرفه كثير من العوان. وهذا العراقي بلغه ذلك، ولكن ظن أن عباد القبور أهل سنة وجماعة، فأخذ في تحريف كلام الشيخين. والإلحاد في ذلك، بل وألحد في نصوص الكتاب والسنة، كما سيأتيك عنه مفصلا إن شاء الله. قال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }.
وقوله: ممن يتوسل بالأنبياء والصالحين من أهل القبور ويناديهم ويستغيث بهم، إلى آخره؛ يريد به ما سيأتي في كلامه من أن دعاء الصالحين والاستغاثة بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله يسمى توسلًا عنده وتشفعًا. وهذا فرار منه أن يسميه شركًا وكفرًا وهذا من جنس جهله بالأسماء والمسميات. وسيأتيك رد كلامه هناك، وأن التوسل صار مشتركا في عرف كثيرين، وأن العبرة بالحقائق لا بالأسماء، وأن الله سمى هذا شركًا وعبادة لغيره في مواضع من كتابه. كل هذا يأتيك مفصلا، فإياك أن تغتر بالإلحاد وتغيير الأسماء؛ فقف مع الحدود الشرعية، واعتبر بالحقائق تعرف أن هؤلاء مشركون وثنيون، عباد قبور. لا يستريب في ذلك إلّا جاهل بأصل الإسلام لم يدر ما جاءت به الرسل الكرام.
وهذا الضرب من الناس - أعني عبّاد القبور - يحسنون الظن بأنفسهم ويرون أنهم أهل سنة وجماعة. وهكذا أهل كل ملة ونحلة وبدعة. وقد قال تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا }، وقال تعالى: { إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ }.
وما أحسن قوله تعالى في قضائه بين إبراهيم وقومه: { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ }.
ومن عادة هذا العراقي أنّه إذا رأى عبارة في مدح أهل السنة والجماعة وعدم تكفيرهم ادّعاها لنفسه وشيعته من عباد القبور والصالحين، والمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور.
وأعجب من هذا في الجهالة وأبعد في التيه والضلالة أنه زعم أن هذين الشيخين لا يقولان بتأثيم من دعا الأولياء والصالحين واستغاث بهم من دون الله في حاجاته وملماته، وأنهما عذراه وقالا: هو معذور مأجور. ويل أمه، ما أكذبه، وما أضله عن الفهم الصحيح وأبعده. جميع عباراتهما وكل مصنفاتهما ضريحة ظاهرة في تضليل فاعل ذلك والحكم عليه بالشرك الأكبر، وأنه ممن عدل بالله وسوى بربه غيره، وأنه يستتاب فإن تاب وإلّا قتل مرتدًا، وأن الله سبحانه بعث جميع رسله وأنزل سائر كتبه ليعبد وحده لا شريك له، ويكفر بما عبد معه من الأنداد والآلهة. وهذا أصرح شيء وأظهره في الكتاب والسنة، وكلام علماء الأمة وفقهائها، لا سيما شيخ الإسلام وتلميذه، فإنهما قد اهتما بهذا الأصل وقرراه ووضّحاه وأقاما عليه من الأدلة والبراهين ما يعز جمعه واستفاؤه.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن مستند المسلمين في العقائد ومرجعهم في أصول الدين وفروعه إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وإجماع من سلف من علماء الأمة. وأن التقليد في باب أصول الدين، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا رسول الله لا يفيد ولا يجدي عندهم، وإن كان المقلَّد - بفتح اللام - فاضلًا عالمًا في نفسه. وهذا العراقي يظن أن المسلمين يكفرون أهل الشرك وعباد الصالحين ويقاتلونهم على التوحيد، تقليدًا للشيخ وغيره. وهذا لأنه لا يحسن سوى حرفة التقليد والكتاب والسنة عنده عن الاستدلال والاحتجاج بمكان بعيد، والمسائل التي يسقط الذم عن المخطئ فيها إذا اجتهد واتقى الله ما استطاع هي المسائل الاجتهادية، أي التي يسوغ الاجتهاد فيها أو ما يخفى دليله في نفسهن، ولا يعرفه إلّا الآحاد؛ بخلاف ما علم بالضرورة من دين الإسلام، كمعرفة الله بصفاته وأسمائه وأفعاله وربوبيته ومعرفة ألوهيته وكتوحيده بأفعال العبد وعباداته؛ فأي اجتهاد يسوغ هنا وأي خفاء ولبس فيه؟
وليس يصح في الأذهان شيء ** إذا احتاج النهار إلى دليل
وجميع الكفار، إلا من عاند منهم، قد أخطأوا في هذا الباب واشتبه عليهم، أفيقال بعذرهم وعدم تأثيمهم أو أجرهم؟ سبحان الله! ما أقبح الجهل وما أبشعه.
هذه أربعة مواضع ضلّ فيها العراقي في أول بحثه في قدر ثلاثة أسطر من كلامه فسبحان مصرف القلوب.
قال ابن القيم رحمه الله في الكلام على أهل الفترة عند حديث المنتفق، وقوله : "إنّ أباك المنتفق في النار"؛ ولو لم يكن من الأدلة على توحيد الله ومعرفته إلا ما اعترفوا به من ربوبية الله واختصاصه بالخلق والإيجاد والإبداع لكفى بذلك دليلًا، أو نحو هذا الكلام.
وغلاة عباد القبور قد أثبتوا لآلهتهم وأوليائهم شركة مع الله في التدبير والتأثير كما قالته غلاة الرافضة. وعلى كلام هذا الضال هم معذرون مأجورون لأنهم اجتهدوا، فسبحان من طبع على قلبه، وحال بينه وبين رشده. وما أحسن قوله تعالى: { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ } بل إطلاق هذا يدخل فيه اجتهاد النصارى فيما أتوا به من القول الشنيع والكفر الفظيع ويدخل في عمومه قول أهل الحلول والاتحاد، كابن عربي وابن سبعين والعفيف والتلمساني وابن الفارض وأمثالهم، ويلزم من هذا العراقي تضليل من كفّر المشركين وعبّاد القبور من علماء الأمة. وتضليل الفقهاء فيما ذكروه في باب حكم المرتد، وأن يخص كلامهم بغير المجتهد والمقلد؛ ومن له حسن قصد. فيجب على هذا تقييد ما أطلقوه وتحرير ما ضيعوه، ولم يضبطوه. وأن يكتب هذا القيد على ذكره الحنفيون والمالكيون والشافعيون والحنبليون في باب حكم المرتد وما يكفر به المسلم؛ ليظهر الحق إن كان ما زعمه العراقي حقًا، أو يشهد كافة أولي الألباب من العلماء والخلق أن هؤلاء قوم لا يعقلون؛ وأنهم في ضلالة عمياء؛ وجهالة صمّاء؛ وأن لهم نصيبًا وافرًا من قوله تعالى: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا }.
وأما دعواه أنه أمعن النظر في كلام الشيخين فقد يكون ذلك، لكن إنما ينتفع بالبحث والنظر أهل البصائر والأثر، وهل ضل من ضل قديمًا وحديثًا إلّا من جهة فساد نظره، وضلال فكره، وغشاوة بصره، وطبع الله على قلبه؟ وعلى الشيخ وأمثاله بيان الحق؛ وكشفه وتقريره؛ وليس عليهم أن يفهم كلامهم كل ناظر فيه مطلع عليه.
عليك في البحث أن تبدي غوامضه ** وما عليك إذا لم تفهم البقر
قال ابن القيم رحمه الله تعالى - بعد أن ذكر كلام الزنادقة المكذبين للنصوص الواردة في عذاب القبر - قال: الأمر الثاني أن يفهم عن الرسول مراده من غير غلو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه إلا على ما يحتمله، ولا يقصر به عن مراده وما قصده من الهدى والتبيان.
قال رحمه الله: فقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب وما لا يعلمه إلا الله، بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد، فيتفق سوء الفهم في بعض الأشياء من المتبوع مع حسن قصده وسوء القصد من التابع، فيا محنة الدين وأهله. والله المستعان. وهل أوقع القدرية والمرجئة والخوارج والمعتزلة والجهمية والرافضة وسائر طوائف أهل البدع إلّا سوء الفهم عن الله ورسوله حتى صار الدين بأيدي أكثر الناس هو موجب هذه الأفهام، والذي فهمه الصحابة ومن تبعهم عن الله ورسوله فمهجور ولا يلتفت إليه، ولا يرفع به هؤلاء رأسًا، ولكثرة هذه القاعدة تركناها، فإنا لو ذكرناها لزدات على عشرات ألوف؛ حتى إنك لتمر على الكتاب من أوله إلى آخره فلا تجد صاحبه فهم عن الله ورسوله مرادًا كما ينبغي في موضع واحد، وهذا إنما يعرفه من عرف ما عند الناس، وعرضه على ما جاء به الرسول. وأما من عكس الأمر فيعرض ما جاء به الرسول على ما اعتقده وانتحله وقلّد فيه من أحسن الظن به؛ فليس يجدي الكلام معه شيئًا، فدعه وما اختار لنفسه وولّه ما تولى؛ واحمد إلهك الذي عافاك مما ابتلاه به. انتهى.
وما أحسن ما قال في الكافية:
فلقد نجا أهل الحديث المحـ ** ض أتباع الرسول وتابعو القرآن
عرفوا الذي قد قال مع علم بما ** قال الرسول فهم أولو العرفان
مدوا يدًا نحو العلى بتكلف ** وتخلف وتكبر وتوان
أترى ينالوها؛ وهذا شأنهم؟ ** حاشا العلاء من الزبون الفاني
فصل
قال العراقي:- على أن ما أطلقاه وشددا فيه قد صرحا في مواضع متعددة أنه سد للذريعة، وأن المقصود الشرك أو الكفر الأصغر لا المخرج من الملة. كما سنقف على عبارتهما في جميع كتبهما. ثم إن هذا الشرك إنما يكون عندهما محرمًا إذا لم يكن فاعله مجتهدًا ولا مقلدًا ولا عرضت له شبهات يعذره الله فيها. ولا متأوّلًا، ولا ابتلى بمصائب مكفرة، ولا له حسنات تمحو ذنبه، ولا شفيع مطاع، ولا كان جاهلًا. فبعد انتفاء هذه الشروط يحكم على فاعل هذه الأشياء المتقدمة بالشرك الأصغر، ولما نقلت هذا لبعض أهل الدين حثني على جمع هذه العبارات.
كلامك هذا كله باطل، وجهل مركب، وبهت لهذين الشيخين. وليس فيه جملة واحدة توافق الحق أصلًا، فالحمد لله الذي خذل أعداء دينه وجعلهم عبرة لأوليائه، وعباده المؤمنين.
وحينئذ فالجواب من طريقين، مجمل ومفصل.
أما المجمل فنقول: قد تقدم أن الأصل المعتمد في هذا الباب وغيره من أصول الدين وفروعه هو ما دلّ عليه الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة. هذه هي الأدلة الشرعية بإجماع، والقياس مختلف فيه. والجمهور على قبوله بشروطه، وليس المعول على كلام الآحاد من أهل العلم والدين، وإن علت درجتهم، وارتفعت رتبتهم. ولا تصلح المعارضة بقول فلان وفلان من أهل العلم والدين، ولا ينتقض الدليل بمخالفة أحد كائنا من كان.
إذا عرفت هذا، فالجواب المفصّل أن نقول: قوله إن الشيخ وتلميذه صرّحا أن ما قالاه في دعاء الصالحين وعبادتهم مقصودهما سد الذرائع وأنه من الشرك الأصغر، وأنه لا يكون محرمًا إذا كان فاعله مجتهدًا أو مقلدًا أو مخطئًا: كلام كذب محض مردود على قائله. وهذه الدعوى من هذا العراقي يكفي في ردها وإبطالها المنع، لأنها عارية عن الدليل والبرهان. والدعوى المجردة يكتفي بمنعها. وما ذكره العراقي فيما سيأتي لم يفقه المراد منه ولم يدر ما قصد به. فوضع كلامه في غير موضعه. وعارض بعضه ببعض، وصادم ما ذكره الشيخ في الشرك الأكبر بما ذكره فيما دونه من الشرك الأصغر والسيئات، والبدع التي فشت في الأمة، وجعل هذا من باب التقييد للمطلق. لجهله بالصناعة. فإن حقيقته تعاؤض محض وتناقض ظاهر على زعم هذا العراقي. وهذا مما ينزه عنه آحاد المسلمين فضلا عن العلماء المحققين. وعلى زعم هذا العراقي أنه أيضًا لا يكون شركًا أصغر ولا محرمًا على المجتهد، بل هو مأجور في ذلك، وأنّ الشرك والكفر والفسوق لا يتحقق مسماها ولا يكون إثما إلا إذا عوقب صاحبه بالنار، فإن منع مانع من العقاب انتفى الاسم والحكم. فسبحان الله والله أكبر؛ ما أقل حياء هذا الرجل وما أغلظ فهمه وما أكثف حجابه، وسيأتيك ما سننقل من كلامهما صريحًا واضحًا لا يقبل تأويل هذا الملحد بوجه من الوجوه.
وهب أنه لا يعاقب، فما الذي منع تحريمه، وقلب مسماه، وأحاله أن يكون شركًا؟ وكلام الشيخ صريح في أن المراد بعباراته ما يقع من ذنوب أهل الإسلام مما دون الشرك وعبادة الصالحين. وعباراته ظاهرة في ذلك، ليست على ما نقله العراقي، بل فرضها في أهل الإسلام، وما حدث من البدع التي على ما نقله العراقي، بل فرضها في أهل الإسلام، وما حدث من البدع التي تنازع الناس في تكفير أهلها، وما وقع من بعض الصحابة مما يدعى أنه من جنس الذنوب. فإنه لما منع الدعوى وذكر أن الواقع من الفتن والقتال إنما صدر عن اجتهاد ورأي، وأن المجتهد في مثل هذا - يعني مسائل الإمامة والطلب بدم عثمان، ونحو ذلك - مما يعذر فيه المجتهد إذا كان هذا حاصل علمه واجتهاده ولم يقصد معصية الله ورسوله.
ثم قال بعد ذلك: والعقاب في الدار الآخرة قد يرتفع عن المسلم - أو قال المؤمن - بأسباب عشرة، فذكر التوبة والاستغفار، والعمل الصالح الذي ترجح به حسناته، والمصائب المكفرة في الدنيا والمصائب المكفرة في البرزخ، والمصائب المكفرة في عرصات القيامة؛ ودعاء المؤمنين واستغفارهم؛ وشفاعتهم له في الدار الآخرة وشفاعة سيد الشفعاء، ومغفرة الله ورحمته. فإن لم تقوَ هذه الأسباب ومنع مانع من جهة العبد؛ فلا بدّ من دخوله النار وتطهيره من آثار الذنوب فإذا طهر ونقي دخل الجنة.
وهذا معنى كلام الشيخ في المنهاج وغيره، فمن أراد المراجعة فالعبارة معروفة في محلها.
وقال شيخنا في بعض رسائله: لما اختلف الناس بعد مقتل عثمان؛ وبإجماع أهل العلم أنهم لا يقال فيهم إلا الحسنى، مع أنهم عثوا في دمائهم. ومعلوم أن كلا من الطائفتين - أهل العراق وأهل الشام - معتقدة أنها على الحق والأخرى ظالمة وكان من أصحاب علي من أشرك بعلي، وأجمع الصحابة على كفرهم وردتهم وقتلهم، لكن حرقهم علي، وابن عباس يرى قتلهم بالسيف - أترى أهل الشام لو حملهم مخالفة علي على الاجتماع بهم والاعتذار عنهم والمقاتلة معهم لو امتنعوا أترى أحدا من الصحابة يشك في كفر من التجأ إليهم ولو أظهر البراءة من اعتقادهم؟ وإنما التجأ إليهم وزين مذهبهم لأجل الاقتصاص من قتلة عثمان. فتفكر في هذه القصة فإنها لا تبقي شبهة إلا على من أراد الله فتنته. انتهى.
وهذا العراقي يزعم أنه يقول إن الشرك أو الكفر إنما يكون محرمًا إذا لم يكن له حسنات تمحوه ولا شفع له شفيع، ولا كان جاهلًا. فبعد انتفاء هذه الشروط المتقدمة يحكم عليه بالشرك الأصغر.
فكلام الشيخ وبحثه في ارتفاع العقاب في الآخرة فيما دون الشرك الأكبر بأحد هذه الأسباب. والعراقي فهم انتفاء الاسم والحقيقة وأنه لا يكون ذنبًا.
فاعرف ما في كلام العراقي من الزلل.
ويلزم على هذا أن تنتفي الأحكام المترتبة على الذنوب في الدنيا من الأسماء والعقوبات والحدود، لأن ذلك عنده ليس بذنب ولا يسمى شركًا محرمًا إلّا إذا عوقب في الدار الآخرة عليه. فبطل كلام الفقهاء في الفساق وأهل الذنوب. وما ذكروه في أبواب العبادات والولايات والحدود والعقود والأنكحة، فقف هنا تر العجب العجاب من جهل هؤلاء الضلال.
وقول الشيخ: ولم يكن مجتهدا ولا مقلدًا؛ ولا عرضت له شبهات يعذره الله فيها ولا متأولًا: سيأتيك جوابه في أول نقوله في هذه الرسالة. وقد تقدم بعض ذلك، ويأتي له مزيد، ولكن ينبغي أن يعلم أنّ كلام الشيخ في مسائل مخصوصة، وأن المراد انتفاء العقاب في الدار الآخرة، وأما الأحكام الدنيوية فيجري على المتأول والمقلد ومن عرضت له شبهات يعذره الله تعالى فيها ما أجراه الشارع من الأحكام الدنيوية، يعذر تارة وتارة لا يقال بعذره، وتجري عليه الأحكام، وقد ذكر هذا العلماء مفصلًا في أبوابه.
ومن عجيب أمر هذا العراقي: أنه فهم من قول الشيخ: إنّ العقاب في الآخرة قد يرتفع عن المسلم بأحد الأسباب العشرة: أنه يتناول أهل الشرك وعباد القبور والله تعالى يقول: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } ويقول: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَارُ } وقال تعالى: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } فكيف يظن بالشيخ أو من دونه أن يقول بانتفاء العقاب عمن حكم الله بخلوده في النار، وحبوط أعماله.
فصل
قال العراقي:- وهذه المسائل المطلقة كم استحلت بسببها دماء وأموال، وكم زلت فيها علماء وهلكت رجال، وكم انتهكت فيها حرمة الإسلام وأعراض، وكم استخف فيها بأنبياء الله وأوليائه؟ فهي في القلوب أمراض.
قد صدق العراقي في جملة واحدة من هذه الجمل، وهي قوله: فهي في القلوب أمراض، ومراده قلوب أمثاله وشيعته من عباد الأولياء والصالحين، فنعم { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }.
وأما مسائل العلم والعبادة وإفراد الله بالطلب والإرادة وأحكام الشرك به ودعاء الصالحين والاستغاثة بهم ومحبتهم مع الله، واتخاذهم أولياء من دونه. فهذه ليست من المسائل الفرعية الاجتهادية التي قد يخفى دليلها، فيحتاج المسلم فيها إلى التقليد، كما زعم العراقي: أن الدماء والأموال استحلت بسبب كلام الشبخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، بل المعول في هذا على نصوص الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة، لا على كلام عالم أو فقيه غير رسول الله .
فقول هذا العراقي جهل بأصل هذه الدعوى النجدية؛ وبحال شيخهم رحمه الله. والله تعالى قد حكم في دماء المشركين وأموالهم، وبين ذلك ووضحه في كتابه أتم بيان وأحسن توضيح. قال تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ }، والفتنة الشرك. وقال تعالى: { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً }، وقال: { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ }.
ومن نازع في أن دعاء الصالحين وعبادتهم واتخاذهم أندادًا لله رب العالمين ليس من الشرك، واعتقد ونازع في عدم دخولهم في مثل هذه الآيات، ورأى أنهم من المسلمين: فهذا رجوع منه إلى أصل المسألة. والنزاع في مسمى الإسلام والشرك، والكلام معه في كشف شبهته وتقرير الدليل على أن هذا هو الشرك المبيح للدم والمال.
وقد عرفت أن هذا هو أصل الإشكال عندهم، وسببه ما عرض لهم من الشبهات المانعة من إدخال الواقع في مسمى الشرك والكفر، كقولهم: نحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ونصوم ونصلي، ونؤمن بالبعث، وقولهم: هذا توسل ليس بدعاء، وقولهم: دعاء الصالحين والأولياء ليس كدعاء الأوثان والأصنام. وقولهم في بعض الأدلة والآيات: هذه في الأصنام. وقول بعضهم: المشركون يعتقدون لها التأثير والتدبير، ونحن نجعلها وسائل وشفعاء ونحو ذلك، وقول بعضهم: إن الله أعطاهم الشفاعة، ونريد منهم مجرد الجاه والشفاعة، وقولهم: إن الله أكرمهم بالكرامات، ولهم ما يشاءون عند ربهم.
وهذه الشبهة كشفها القرآن وبينها، وسجل على جهالة أهلها، وكلها أوردها العراقي هنا مفرقة في كلامه، وسيأتيك ردها وكشفها مفصلا بحول الله ومنته.
وقد تكلم شيخنا في كتابه كشف الشبهات على أكثرها؛ فراجعه إن شئت، فإنه مفيد مع اختصاره ولطافة حجمه.
وأما من سلم هذا ولم ينازع فيه؛ وعرف أنه هو شرك جاهلية العرب، فإنه يعرف حينئذ حكم الأموال والدماء بنصوص الكتاب والسنة الظاهرة المستفيضة، وسيرته في دماء المشركين وأموالهم، والشروط المعتبرة كبلوغ الحجة وتقدم الدعوة، حصلت من شيخ الإسلام رحمه الله، بل من وقف في على سيرته وما ذكره المؤرخون في بدء دعوته، مثل الشيخ حسين بن غنام الإحسائي في تاريخه، عرف أن الشيخ لم يبدأ أحدًا بالقتال بل أعداؤهم الذين ابتدأه بذلك، وقتاله كان من باب الدفع والمجازاة على السيئة بمثلها، وما حدث بعده أو في وقته من خطأ أو تعد فلا يجوز نسبته إليه، وأنه أمر به ورضيه، وقد جرى لأسامة بن زيد في دم الجهني، وجرى لخالد بن الوليد في دماء بني جذيمة وأموالهم ما يجهله أهل العلم والإيمان. وذلك في عهده وقد برئ منه وأنكره، فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" وقال لأسامة: "أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة" ومن أشكل عليه أمر القتال في زمن الشيخ وعلى دعوته فهو إما جاهل بحال الأعداء وما قالوه في الإسلام، وما بدلوه من الدين، وما كانت عليه البوادي والأعراب من الكفر بآيات الله، ورد أحكام القرآن والاستهزاء بذلك، والرجوع إلى سوالف البادية، وما كانت عليه من العادات والأحكام الجاهلية، وأمثلهم حالًا من عرف أن كتاب الله وأحاديث رسوله عند الحضر، فلم يرفع بذلك رأسًا ولم يبال بشيء مما هنالك، أو هو جاهل بما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب، لا شعور له بشيء من ذلك، ولا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم.
وبالجملة فالواجب أن يتكلم الإنسان بعلم وعدل، ومن فاته العلم فحسبه السكوت إن كان يؤمن بالله واليوم الآخر. ومن خلع ربقة الدين من عنقه فليقل ما شاء الله، والله بما يعملون بصير.
وأما قوله: وكم استخف فيها بأنبياء الله: فهذا بحسب ما عنده وما يعتقده، والذي يراه هؤلاء القبوريون أن من من دعاء الأنبياء والصالحين والاستعانة في الشدائد والمهمات، وأنهم لا يدعون مع الله في الحاجات والملمات، ولا يذبح لهم تقربًا ولا يطاف بقبورهم ولا يتوكل عليهم: فقد استخف بهم وتنقصهم وهضمهم حقهم.
وأصل هذا: أنهم لا يفرقون بين حق الله وحق عباده، ولا تمييز عندهم في ذلك، بل يرون استحقاقهم كثيرًا من العبادات المختصة بالله، وهذا يشبه غلو النصارى في المسيح وغيره. وقد قالوا لمن أنكر عليهم عبادة المسيح: قد تنقصت المسيح، وقلت فيه قولا عظيمًا، كما قال عمرو بن العاص وأصحابه للنجاشي لما قدموا عليه بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة وسألوه أن يخلي بينهم وبين المهاجرين وعنده جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وأبى النجاشي ذلك فقال عمرو: إنهم يقولون في المسيح قولًا عظيمًا - يعني يقولون: هو عبد الله ليس بإله، فأرسل النجاشي لجعفر وأصحابه وسألهم عن ذلك، فقالوا فيه ما قاله الله تعالى، وتلا جعفر صدر سورة الروم، حتى على ذكر المسيح وشأنه فقال النجاشي: والله ما زاد المسيح على هذا.
وبالجملة فمن عرف ما جاءت به الرسل من وجوب توحيد الله وإفراده بالعبادة، عرف وتبين له أن المنع من دعائهم وقصدهم من دون الله في الحاجات والملمات، هو عين تعظيمهم وتوقيرهم وتعزيرهم والإيمان بهم وتصديقهم، وقبول ما جاءوا به، ومنابذة أعدائهم وأضدادهم من المشركين على اختلاف أجناسهم وتباين مللهم. فإن أصل النزاع بينهم وبين أعدائهم في إخلاص عبادة الله وحده، والبراءة من عبادة ما سواه. ولا يحصل ولا يتصور الإيمان بهم إلا باعتقاد هذا وموافقتهم عليه. وأما مخالفتهم فيه ومعصيتهم فهي عين التنقيص لهم والاستخفاف بهم ومت عرف هذا عرف أن الشيخ وإخوانه المؤمنين من عهد رسول الله إلى قيام الساعة هم المعظّمون للرسل الموقرون لهم العارفون بحقوقهم، القائمون بما يجب لله ورسوله وما يجب لعباده الله من الحقوق لا أهل الشرك بهم والمعصية لهم، ونبذ أوامرهم، وترك ما جاءوا به وهجره وعزله عن الحكم به، وتقديم منطق اليونان في باب معرفة الله وصفاته، وتقديم آراء الرجال وحدسهم على النصوص والأحاديث الصريحة، وتقديم غلو النصارى ورأيهم في عبادة الأحبار والرهبان على ما جاءوا به من تجريد التوحيدن وإخلاص الدين لله.
هذا هو حقيقة الاستخفاف عند كافة العقلاء، وأما طاعة الرسول في إخلاص الدين لله، وترك دعاء الأنبياء والصالحين، فهو عين التعظيم والتوقير، فظهر أن هؤلاء قوم لا يعقلون.
وقد قرر شيخ الإسلام على قوله تعالى: { وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ } قال: فكانوا ينكرون على محمد أن يذكر آلهتهم بما تستحقه، وهم يكفرون بذكر الرحمن، ولا ينكرون ذلك، قال: وهكذا من فيه شبه من اليهود والنصارى والمشركين، تجده يغلو في بعض المخلوقين من المشايخ والأئمة والأنبياء وغيرهم، إذا ذكروا بما يستحقونه أنكر ذلك ونفر منه. وعادى من فعل ذلك، وهو وأصحابه يستخفون بعبادة الله وحده، وبحقه وبحرماته وشعائره، ولا ينكر ذلك. ويحلف أحدهم بالله ويكذب، ويحلف بمن يعظمه ويصدق ولا يستجيز الكذب إذا حلف به. وهؤلاء من جنس النصارى والمشركين، وكذا قد يعيبون من نهى عن شركهم، كالحج إلى القبور التي يحجون إليها عادة، وهم يستخفون بحرمة الحجّ إلى بيت الله، ويجعلون الحج إلى القبور أفضل منه. وقد ينهون عن الحج اعتياضًا منه بالحج إلى القبور، ويقولون: هذا الحج الأكبر، وهؤلاء من جنس المشركين وعباد الأوثان. انتهى.
ولو بسطنا الكلام في استخفاف عباد القبور بالأنبياء والصالحين وما جاءوا به من عند الله؛ لطال الكلام، والعاقل يتنبه فينظر.
ومن المحن أن مشائخ المذاهب الأربعة وفقهاءهم جزموا بوجوب هدم القباب ونهوا عن الطواف بالقبور ودعاء أربابها، بل ودعاء الله عندها، ومنعوا من الذبح لها والغلو فيها، بل وعن عبادة الله بالصلاة عندها. فإذا عمل بمقتضى أقوالهم عامل وألزم بها الناس نسبه هؤلاء الجهال إلى الاستخفاف بالأنبياء والصالحين وإلى مخالفة العلماء لأن العلم في عرفهم ما هم عليه من أقوال أسلافهم ومشايخهم من المتأخرين الجاهلين.
وقد حدثني من يقبل حديثه أنه سمع هذا العراقي بالمدينة المنورة - على ساكنها أفضل الصلاة والسلام - يوم قدوم الحاج يقول في مجمع من الناس: إنّما الرجل من يقول: حدثني سري عن ربي، لا من يقول: حدثنا فلان عن فلان. فانظر هذا الاستخفاف العظيم برسل الله.
ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن من يأخذ عن الأنبياء المعصومين، وعن رسل الله المبلغين أفضل وأكمل ممن يأخذ عن سره ووارده، بل هذه الواردات كلهما موقوفة ومردودة إلا بشاهد عدل عن النبي يشهد لها بالصحة وأنها حق يؤخذ به، وقد قال شيخ الطريق الجنيد بن محمد: "إنّه لتقع في قلبي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة".
وغالب هذه الواردات التي تخالف الشرعيات ويشير إليها أهل التصوف والتعبدات إنما هي من وحي الشياطين لا عن ربّ العالمين.
وبهذا تعلم أن هذا العراقي وأمثاله هم أهل التنقص للرسل التاركون لما جاءوا به، وحاصل أمرهم عزل الكتاب والسنة في باب الاعتقادات والعمليات، واتباع ما تهوى الأنفس من الغلو والإطراء والجهل والضلالات.
وهذا الاعتراض محشو من ذلك، لا تكاد تجد فيه كلمة واحدة سيقت على القانون الشرعي والمنهاج المرضي، وما أحسن ما قال شيخ الإسلام فيما كتب على المحصل للرازيّ:
محصل في أصول الدين حاصله ** من بعد تحصيله جهل بلا دين
بحر الضلالات والإفك المبين وما ** فيه فأكثره وحي الشياطين
فصل
قال العراقي:- وإنما قصدت بهذا الإصلاح بين المسلمين واتفاق الفريقين لقول الله تعالى { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } وقول رسول الله : "لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا".
إذا اتحد الدين وحصل الإيمان بالله ورسوله، وعبادة الله وحده لا شريك وخلع ما سواه من الأنداد والآلهة، حصلت الإخوة في الدين، ووجب من حقوق الإسلام والمسلمين بعضهم على بعض ما أوجبه الله ورسوله. وقصد الإصلاح بينهم واجب. لقوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } لكن مفهوم هذا أن الأخوة تنتفي بانتفاء الإيمان. وقد صرّح الله بهذا المفهوم في مواضع من كتابه، كقوله تعالى: { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الآية، وقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ }، وقوله: { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } الآية، وقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ } الآية، وقال تعالى: { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } إلى قوله: { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ }، وهذا في القرآن كثير، ولكن خفي على العراقي أن دعاء الأنبياء والصالحين والاستعانة بهم، وصرف حقوق الله إليهم من الشرك الذي ينتفي معه أصل الإيمان ومسماه، بل ويخفى على هذا العراقي أن الإيمان هو التوحيد كما فسّره بذلك رسول الله في حديث وفد عبد القيس، وفي حديث معاذ، لما أرسله إلى اليمن. فلذلك قصد بجهله الإصلاح بين الطائفتين واتفاق الكلمتين، ولم يدر شرع الله وحكمه في هذه المباحث، ومثله لا يعذر بالجهل في هذه المباحث والأصول، بل عليه وزره ووزر من اتبعه. من غير أن ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا، وفي الحديث: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا".
لا أصلح الله منا من يصالحكم ** حتى يصالح ذئب المعز راعيها
فصل
قال العراقي في مقدمة رسالته:- اعلم أن شيخ الإسلام قال في بعض كتبه - كما سيأتي قريبًا - إن أول من أظهر كفر أهل السنة والجماعة وتشريكهم: هم الخوارج والرافضة والمعتزلة.
قد تقدم جواب هذا، وأن أهل السنة والجماعة هم المتمسكون بما كان عليه رسول الله من المعتقد والدين الذي خالفوا به أهل البدع وباينوهم، فلم يذهبوا إلى ما ذهبت إليه الجهمية والمعطلة، ولا إلى ما ذهبت إليه القدرية النفاة والقدرية المجبرة، ولا إلى ما ذهبت إليه الخوارج والمعتزلة، ولا إلى ما ذهبت إليه الرافضة والمرجئة، ولم يذهبوا إلى ما افتراه الغلاة في الأولياء والصالحين من عباد القبور، ونحوهم. فإن هؤلاء يسمون عند أهل السنة والجماعة غالية كما سموا به من غلا في علي وزعم أنه الإله الحق، فاستتابهم علي، فأبوا فخدّ لهم الأخاديد وأوقد فيها النيران، وقذفهم فيها وقال:
إني إذا رأيت أمرًا منكرًا ** أججت ناري ودعوت قنبرًا
وفي رواية:
لما رأيت الأمر أمرًا منكرًا..
ومن زعم أن عباد القبور أهل سنة وجماعة فهو إلى أن يعالج عقله أحوج منه إلى أن يقام عليه الدليل.
وفي كلام العراقي لفظة مدرجة ليست من كلام الشيخ، وهي قوله: "وتشريكهم" ظن أنها تنفعه، لأن المسلمين حكموا على عباد القبور بالشرك، فزاد هذه الكلمة، وسيأتيك كلام الشيخ في الغالية وعبارته في الرسالة السنية قريبًا إن شاء الله تعالى.
فصل
قال العراقي:- والخوارج هم كما في البخاري ومسلم وغيرهم من سائر كتب الحديث أناس عمدوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين - وأطال الكلام في الخوارج، وذكر بعض النصوص فيهم مع تصرف وعدم تحقيق ومعرفة للنقل - إلى أن قال -: فتبين لك أن علامة الخوارج تنزيلهم آيات القرآن النازلة في الكفار على المؤمنين من أهل القبلة. ولهذا ما ترى أحدًا من أهل السنة يتفوه بذلك ولا يكفر أحدًا، ومنشأ هذه البدعة من سوء الظن واتباع العقل - ثم ذكر حديث اعتراض ذي الخويصرة التميميّ على قسمة رسول الله وما قال له، ثم ذكر قول الخوارج: "لا حكم إلا لله" وقال بعده: وكذلك إخوانهم في هذا الزمان يقولون: "لا يعبد إلا الله" فنقول: صدقتم هذه كلمة حق، ولكن أين الذي يعبد غيره إذا كان مسلمًا ناطقًا بالشهادتين، ويصلي ويصوم ويزكي ويحج.
إن الأحاديث والآثار التي جاءت بها السنة وصحت بها الأخبار في شأن الخوارج ووصفهم وذمهم، فهي معروفة مشهورة عند أهل العلم بالحديث والآثار، وقد ساقها مسلم في صحيحه من نحو عشرة أوجه، وهذا العراقي ليس من رجال هذا الشأن ولا يحسن الحكاية والنقل، ولا تمييز له بين مرفوعها وموقوفها وصحيحها وسقيمها وغيره.
يوضحه قوله: والخوارج هم كما في البخاري ومسلم وغيرهما من سائر كتب الحديث أناس عمدوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين. فهذا كلام غبي غوي لا يدري الصناعة ولا يعرف ما في تلك البضاعة، فإن هذا اللفظ ليس مرفوعًا باتفاق، وليس في سائر كتب الحديث والسنن الأربعة وصحيحي البخاري ومسلم، ليس فيها هذا اللفظ، فكلامه كلام جاهل بصناعة الحديث وروايته ولسنا بصدد بيان جهله وإفلاسه من العلوم، وإنما المراد كشف شبهه وردها.
وحاصل مقصوده ونقله: تشبيه أهل الإسلام والتوحيد بالخوارج في تكفيرهم من عبد الأنبياء والأولياء والصالحين، ودعاهم مع الله؛ لأن عباد القبور عنده أهل سنة وجماعة، وأهل الإسلام من جنس الخوارج الذين يكفرون أهل القبلة، هذا حاصل إسهابه ومضمون خطابه، لكنه أطال بما لا طائل تحته.
ونحن نتكلم على بدء أمر الخوارج وحقيقة مذهبهم، ثم نتكلم على مذهب عباد القبور وما هم عليه، ثم نتبع ذلك بفصل نافع في بيان حال الشيخ محمد رحمه الله وتقرير مذهبه، وما كان عليه في المعتقد والدين، ليعلم الواقف على ما قررناه حقيقة المذاهب، وحاصل العقائد، فيما وقعت فيه الخصومة فنقول:
اعلم أنه لما اشتد القتال يوم صفين قال عمرو بن العاص لمعاوية بن أبي سفيان: هل لك في أمر أعرضه عليك، لا يزيدنا إلا اجتماعًا ولا يزيدهم إلا فرقة؟ قال: نعم، قال: نرفع المصاحف، ثم نقول لما فيها: هذا حكم بيننا وبينكم، فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول: ينبغي لنا أن نقبها، فتكون فرقة فيهم، فإن قبلوا رفعنا القتال عنا إلى أجل، فرفعوا المصاحف بالرماح، وقالوا: هذا كتاب الله عز وجل بيننا وبينكم. من لثغور الشام بعد أهله؟ من لثغور العراق بعد أهله؟ فلما رآها الناس: قالوا: نجيب إلى كتاب الله. فقال لهم علي: عباد الله امضوا على حقكم وصدقكم، فإنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعلم بهم منكم، والله ما رفعوها إلا خديعة ووهنا ومكيدة. قالوا: لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله، وقال لهم علي: إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم الكتاب، فإنهم قد عصوا الله ونسوا عهده. فقال له مسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي في عصابة من القراء: يا علي أجب إلى كتاب الله عز وجل إذا دعيت إليه، وإلا دفعناك برمتك إلى القوم، أو نفعل بك كما فعلنا بابن عفان، فلم يزالوا به حتى نهى الناس عن القتال، ووقع السباب بينهم وبين الأشتر وغيره ممن يرون عدم التحكيم. فقال الناس: قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكمًا، فجاء الأشعث بن قيس إلى علي، فقال: إن الناس قد رضوا بما دعوهم إليه من حكم القرآن، إن شئت أتيت معاوية، قال على: ائته، فأتاه، فسأله لأي شيء رفعوا المصاحف؟ قال: لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به في كتابه، تبعثون رجلًا ترضون به، ونبعث رجلًا نرضى به، فنأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوان عنه، فعاد إلى علي فأخبره، فقال الناس: قد رضينا. فقال أهل الشام: رضينا عمرو بن العاص، وقال الأشعث وأولئك القوم الذين صاروا خوارج: فإنا قد رضينا بأبي موسى الأشعريّ فراودهم علي على غيره، وأراد ابن عباس، فقالوا: والله لا نبالي أنت كنت حكمها أم ابن عباس، ولا نرضى إلا رجلًا منك ومن معاوية سواء، وألحوا في ذلك وأبوا غير أبي موسى، فوافقهم علي كارهها، وكتب كتاب التحكيم، [2] فلما قرئ الكتاب على الناس سمعه عروة بن أدية أخو أبي بلال. فقال: تحكمون في أمر الله الرجال، لا حكم إلا لله، وشد بسيفه فضرب دابة من قرأ الكتاب، وكان ذلك أول ما ظهرت الحرورية الخوارج وفشت العداوة بينهم وبين عسكر علي، وقطعوا الطريق في إيابهم بالشتائم والتضارب بالسياط، تقول الخوارج: يا أعداء الله داهنتم في دين الله. ويقول الآخرون: فارقتم إمامنا وفرقتم جماعتنا. ولم يزالوا كذلك حتى قدموا العراق، فقال بعض الناس من المتخلفين: ما صنع علي شيئًا، ثم انصرف بغير شيء. فسمعها علي، فقال: وجوه قوم ما رأوا الشام، ثم أنشد:
أخوك الذي إن أحوجتك ملمة ** من الدهر لم يبرح ببابك واجما
وليس أخوك الذي إن تشعبت ** عليك الأمور ظل يلحاك لائما
فلما دخل الكوفة ذهبت الخوارج إلى حروراء فنزل بها اثنا عشر ألفًا على ما ذكره ابن جرير، [3] ونادى مناديهم: إنّ أمير القتال شبث بن ربعي التميميّ، وأمير الصلاة عبد الله بن الكواء اليشكريّ، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فلما سمع ذلك علي وأصحابه قامت إليه الشيعة، فقالوا له: في أعناقنا بيعة ثانية، نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. قالت لهم الخوارج: أسبقتم أنتم وأهل الشام إلى الكفر كفرسي رهان، أهل الشام بايعوا معاوية على ما أحب؛ وأنتم بايعتم عليًا على أنكم أولياء من والى وأعداء من عادى، يريدون أن البيعة لا تكون إلا على كتاب الله وسنة رسوله، لأن الطاعة له تعالى، وقال لهم زياد بن النضر: والله ما بسط على يده فبايعناه قط إلا على كتاب الله وسنة نبيه، ولكنكم خالفتموه جاءت شيعته فقالوا: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. ونحن كذلك وهو على الحق والهدى ومن خالفه ضال مضل.
وبعث علي رضي الله عنه عبد الله بن عباس إلى الخوارج، فخرج إليهم فأقبلوا يكلمونه، فقال: ما نقمتم من الحكمين، وقد قال الله عز وجل: { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } الآية فكيف بأمة محمد ؟
قالوا له: أما ما جعل الله حكمه إلى الناس وأمرهم بالنظر فيه فهو إليهم. وما حكم هو فيه فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا فيه، حكم في الزاني مائة جلدة، وفي السارق قطع يده فليس للعباد أن ينظروا في هذا. قال ابن عباس: فإن الله تعالى يقول: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ }.
قالوا: تجعل الحكم في الصيد والحرث وما يكون بين المرأة وزوجها كالحكم في دماء المسلمين؟ وقالوا له: أعدل عندك عمرو بن العاص، وهو بالأمس يقاتلنا ويسفك دماءنا؟ فإن كان عدلا فلسنا بعدول. ونحن أهل حربه، وقد حكمتم في أمر الله الرجل وقد أمضى الله حكمه في معاوية وحربه أن يقتلوا أو يرجعوا. وقبل ذلك ما دعوناهم إلى كتاب الله فأبوه؟ ثم كتبتم بينكم وبينهم كتابًا، وجعلتم بينكم وبينهم الموادعة وقد قطع الله الموادعة بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت براءة إلا من أقر بالجزية.
فجاء علي وابن عباس يخاصمهم فقال: ألم أكن نهيتك عن كلامهم حتى آتيك؟ ثم تكلم رضي الله عنه فقال: اللهم هذا مقام من يفلج فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة وقال لهم: من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكواء، فقال: فما أخرجكم علينا؟ قالوا: حكومتكم يوم صفين، فقال: أنشدكم الله أتعلمون أنهم حينما رفعوا المصاحف فقلتم نجيبهم إلى كتاب الله قلت لكم: إني أعلم بالقوم منكم، إنهم ليسوا بأصحاب دين، وذكّرهم مقالته، ثم قال: وقد اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالفه، وإن أبيا فنحن من حكمهما برآء.
قالوا: فخبرنا أتراه عدلًا تحكيم الرجال في الدماء؟ قال: لسنا حكمنا الرجال إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال.
قالوا: فخبرنا على الأجل لماذا جعلته فيما بينك وبينهم؟ قال: ليعلم الجاهل ويتثبت العالم، ولعل الله يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة، فادخلوا مصركم رحمكم الله.
فدخلوا من عند آخرهم.
فلما جاء الأجل وأراد علي أن يبعث أبا موسى للحكومة أتاه رجلان من الخوارج زرعة بن البرج الطائي، وحُرقوص بن زهير السعدي، فقالا له: لا حكم إلا لله، وقالا له: تب من خطيئتك، وارجع عن قضيتك، واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربّنا.
فقال علي: قد أردتكم على ذلك فصيتموني. قد كتبنا بيننا وبين القوم كتابًا، وشرطنا شروطًا، وأعطينا عهودًا. وقد قال الله تعالى: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ }.
فقال حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه.
قال علي: ما هو ذنب، ولكنه عجز في الرأي وقد نهيتكم عنه.
قال زرعة: يا علي لئن حكّمت الرجال لأقاتلنّك، أطلب بذلك وجه الله.
فقال له علي: بؤسًا لك، وما أشقاك، كأني بك قتيلًا تسفي عليك الرياح.
قال: وددت لو كان ذلك. وخرجا من عنده يقولان: لا حكم إلا لله.
وخطب علي ذات يوم فقالوها في جوانب المسجد. فقال علي: الله أكبر كلمة حق أريد بها باطل، فوثب يزيد بن عاصم المحاربي فقال: الحمد لله غير مودع ربنا ولا مستغني عنه. اللهم إنا نعوذ بك من إعطاء الدنية في ديننا، فإن إعطاء الدنية في الدين إذهان في أمر الله وذل راجع بأهله إلى سخط الله، يا علي أبالقتل تخوفنا؟ أما والله إني لأرجو أن نضربكم بها عمّا قليل غير مصفحات، ثم لتعلم أينا أولى بها صليا.
وخطب علي يوما آخر، فقال رجال في المسجد: لا حكم إلا لله، يريدون بهذا إنكار المنكر على زعمهم. فقال علي: الله أكبر كلمة حق أريد بها باطل، أما إن لكم علينا ثلاثًا ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدؤنا، وإنا ننتظر فيكم أمر الله. ثم عاد إلى مكانة من الخطبة.
ثم إن الخوارج لقي بعضهم بعضًا واجتمعوا في منزل عبد الله بن وهب الراسبيّ، فخطبهم وزهّدهم في الدنيا، وأمرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال: اخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو إلى بعض هذه المدائن، منكرين لهذه البدع المضلة. فقال حرقوص بن زهير: إن المتاع في هذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك. فلا تدعونكم بزينتها وبهجتها إلى المقام بها. ولا تلفتنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم. فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. فقال حمزة بن سنان الأسدي: يا قوم إن الرأي ما رأيتم: قالوا: ولوا أمركم رجلًا منكم، فإنه لا بد لكم من عماد وسناد وراية تحفون بها وترجعون إليها. فعرضوا ولايتهم على زيد بن حصين الطائي وعلى حرقوص بن زهير وعلى حمزة بن سنان وشريح بن أوفى العبسي فأبوها، ثم عرضوها على عبد الله بن وهب فقال: هاتوها، أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا ولا أدعها فرارًا من الموت. فبايعوه لعشر خلون من شوال فكان يقال له ذو الثفنات، فاجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسيّ، فقال ابن وهب: اشخصوا بنا إلى بلدة نجتمع فيها وننفذ حكم الله، فإنكم أهل الحق. قال شريح: نخرج إلى المدائن فننزلها؛ ونأخذ بأبوابها ونخرج منها سكانها، ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة فيقدمون علينا، فقال زيد بن حصين: إنكم إن خرجتم مجتمعين اتبعوكم، ولكن اخرجوا وحدانًا مستخفين. فأما المدائن فإن بها من يمنعكم، ولكن سيروا حتى تنزلوا بجسر النهروان، وتكاتبوا إخوانكم من أهل البصرة. قالوا: هذا الرأي، فكتب عبد الله بن وهب إلى من بالبصرة منهم ليعلمهم ما اجتمعوا عليه ويحثهم على اللحاق بهم فأجابوه. فلما خرجوا صار شريح بن أوفى العبسي يتلو قوله: { فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ } إلى { سَوَاءَ السَبِيلِ } وخرج معهم طرفة بن عدي بن حاتم إلى عامل على أمير المدائن يحذره، فحذر، وضبط الأبواب، واستخلف عليها المختار بن أبي عبيد وخرج بالخيل في طلبهم، فأخبر ابن وهب خبره، فسار على بغداد ولحقهم سعد بن مسعود بالكرخ في خمسمائة فارس، فانصرف إليهم ابن وهب الخارجي في ثلاثين فارسًا له. فاقتتلوا ساعة وامتنع القوم منهم، فلما جن الليل على ابن وهب عبر دجلة وسار إلى النهروان، وصل إلى أصحابه وقد أيسوا منه، وتفلت رجال أهل الكوفة يريدون الخوارج، فردهم أهلوهم. ولما خرجت الخوارج من الكوفة عاد أصحاب علي وشيعته إليه. فقالوا: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. فشرط لهم سنة رسول الله ، فجاء ربيعة بن أبي شداد الخثعمي. فقال له: أبايع على سنة أبي بكر وعمر؟ فقال علي: ويلك، لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسوله لم يكونا على شيء من الحق، فبايعه، ونظر إليه فقال: أما والله لكأني بك قد نفرت مع هذه الخوارج فقتلت، وكأني بك قد وطئتك الخيل بحوافرها، فكان ذلك وقتل يوم النهر مع خوارج البصرة.
وأما خوارج البصرة فإنهم اجتمعوا في خمسمائة رجل وجعلوا عليهم مسعر بن فدكي التميمي، فعلم بهم ابن عباس فأتبعهم أبا الأسود الدؤلي فلحقهم بالجسر الأكبر، فتوافقوا حتى حجز دونهم الليل وأدلج مسعر بأصحابه، وسار حتى لحق بابن وهب.
فلما انقضى أمر التحكيم وخدع عمرو بن العاص أبا موسى وصرح عمرو بولاية معاوية بعد أن عزل أبو موسى عليًا بخدعة عمرو وهرب أبو موسى إلى مكة قام علي فخطبهم، وقال في خطبته: الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح والحدثان الجليل، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. أما بعد، فإن المعصية تورث الحسرة، وتعقب الندم. وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين - يعني أبا موسى وعمرو بن العاص - وفي هذه الحكومة أمري ونحلتكم رأي، لو كان لقصير أمر، ولكن أبيتم إلا ما أردتم. فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ** فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
ألا إنّ هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما، وأحييا ما أمات القرآن، واتبع كل واحد منهما هواه بغير هدى من الله، فحكما بغير حجة بينة، ولا سنة ماضية، واختلفا في حكمهما، وكلاهما لم يرشد. فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين، فاستعدوا وتأهبوا للمسير إلى الشام وأصبحوا في معسكركم إن شاء الله يوم الاثنين.
وكتب للخوارج من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى زيد بن حصين وعبد الله بن وهب ومن معهما من الناس، أما بعد، فإن هذين الرجلين اللذين ارتضينا حكمين قد خانا كتاب الله واتبعا أهواءهما بغير هدى من الله فلم يعملا بالسنة ولم ينفذا للقرآن حكمًا. فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين. فإذا بلغكم كتابي هذا فأقبلوا إلينا فإنا سائرون إلى عدونا وعدوكم، ونحن على الأمر الأول الذي كنا عليه والسلام.
فكتبوا إليه: "أما بعد، فإنك لم تغضب لربك، وإنما غضبت لنفسك. فإن شهدت على نفسك بالكفر، واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد نابذناك على سواء. إن الله لا يحب الخائنين".
فلما قرأ كتابهم أيس منهم ورأى أن يدعهم ويمضي بالناس إلى قتال أهل الشام. فقام في أهل الكوفة فندبهم إلى الخروج معه وخرج معه أربعون ألف مقاتل وسبعة عشر من الأبناء وثمانية آلاف من الموالي والعبيد.
وأما أهل البصرة فتثاقلوا ولم يخرج إلا ثلاثة آلاف. وبلغ عليا أن الناس يرون قتال الخوارج أهم وأولى، فقال لهم علي: دعوا هؤلاء وسيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين ملوكًا ويتخذوا عباد الله خولًا.
فناداه الناس: أن سر بنا يا أمير المؤمنين حيث أحببت.
ثم إن الخوارج استعر أمرهم وبدأوا بسفك الدماء وأخذوا الأموال وقتلوا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله وجدوه سائرًا بامرأته على حمار فانتهروه وأفزعوه ثم قالوا له: ما أنت؟ فأخبرهم، قالوا حدثنا عن أبيك خباب حديثًا سمعه من رسول الله لعل الله ينفعنا به. فقال: حدثني أبي عن رسول الله قال: "إنه ستكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه، يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، ويصبح كافرًا ويمسي مؤمنًا" قالوا: لهذا سألناك. فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيرًا، فقالوا: ما تقول في عثمان في أول خلافته وفي آخرها؟ قال: إنه كان محقًا في أولها وآخرها. وأشد توقيًّا على دينه وأنفذ بصيرة، فقالوا: إنك تتبع الهوى، وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحدًا، فأخذوه وكتفوه ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى فنزلوا تحت نخل مثمر، فسقط منه رطبة فأخذها أحدهم فقذف بها في فمه، فقال له آخر: أخذتها بغير حلها وبغير ثمن، فألقاها، ثم مر بهم خنزير فضربهم أحدهم بسيفه، فقالوا له: هذا فساد في الأرض، فلقي صاحب الخنزير وهو من أهل الذمة فأرضاه، فلما ذلك ابن خباب قال: لئن كنتم صادقين فيما رأى فما علي من بأس، إني لمسلم ما أحدثت في الإسلام حدثًا، ولقد أمنتموني قلتم: لا روع عليك، فأضجعوه وذبحوه، وأقبلوا على المرأة فقالت: إنما أنا امرأة، ألا تتقون الله؟ فبقروا بطنه وقتلوا أم سنان الصيداوية وثلاثًا من النساء، فلما بلغ ذلك عليًّا بعث الحارث بن مرة العبدي يأتيه بالخبر فلما دنا منهم قتلوه، فألح الناس على عليّ في قتالهم، وقالوا: نخشى أن يخلفونا في عيالنا وأموالنا فسر بنا إليهم، وكلمه الأشعث بمثل ذلك، واجتمع الرأي على حربهم، وسار علي يريد قتالهم فلقيه منجم في مسيره فأشار عليه أن يسير في وقت مخصوص، وقال: إن سرت في غيره لقيت أنت وأصحابك ضررًا شديدًا، فخالفه علي، فسار في الوقت الذي نهاه عنه المنجم. فلما وصل إليهم قالوا: ادفعوا إلينا قتلة إخواننا نقتلهم ونترككم. فلعل الله يقبل بقلوبكم ويردكم إلى خير مما أنتم عليه. فقالوا: كلنا قتلهم: وكلنا مستحل لدمائهم ودمائكم. وخرج إليهم قيس بن سعد بن عبادة، فقال: عباد الله أخرجوا إلينا طلبتنا منكم وادخلوا في هذا الأمر الذي خرجتم منه، وعودوا بنا إلى قتال عدونا وعدوكم، فإنكم ركبتم عظيمًا من الأمر، تشهدون علينا بالشرك وتسفكون دماء المسلمين.
فقال له عبد الله بن شجرة السلمي: إن الحق قد أضاء لنا فلسنا متابعيكم، أو تأتونا بمثل عمر. فقال: ما نعلمه فينا غير صاحبنا، فهل تعلمونه فيكم؟ قالوا: لا. قال: نشدتكم الله في أنفسكم أن تهلكوها، فإني لا أرى الفتنة إلا وقد غلبت عليكم.
وخطبهم أبو أيوب الأنصاري فقال: عباد الله إنا وإياكم على الحال الأولى التي كنا عليها ليست بيننا وبينكم فرقة، فعلام تقاتلوننا؟ فقالوا: إن بايعناكم اليوم حكّمتم غدًا، فقال: إني أنشدكم الله لا تجعلوا فتنة العام مخافة ما يأتي في القابل قابل.
وأتاهم علي رضي الله عنه فقال: أيتها العصابة التي أخرجها عداوة المراء واللجاج وصدها عن الحق والهوى، وطمح بها، وأصبحت في الخطب العظيم. إني نذير لكم أن تصبحوا تلعنكم الأمة غدًا، صرعى بأثناء هذا النهر، وبأهضاب هذا الغائط، بغير بينة من ربكم ولا برهان مبين. ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة، ونبأتكم أنها مكيدة وأن القوم ليسوا بأصحاب دين، فعصيتموني. فلما فعلتم أخذت على الحكمين واستوثقت أن يحييا ما أحييا القرآن، ويميتا ما أمات القرآن، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب، فنبذنا أمرهما، فنحن على الأمر الأول، فمن أين أتيتم؟
قالوا: إنا حكّمنا فلما حكّمنا أثمنا، وكنا بذلك كافرين، وقد تبنا فإن تبت فنحن معك ومنك، فإن أبيت فإنا منابذوك على سواء.
قال علي: أصابكم حاصب، ولا بقي منكم وابر، بعد إيماني برسول الله وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله أشهد على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين.
وقيل: كان كلامه: يا هؤلاء إن أنفسكم قد سولت لكم فراقي بهذه الحكومة التي أنتم ابتدأتموها، وأنا لها كاره، وأنبأتكم أن القوم إنما طلبوها مكيدة ووهنًا، فأبيتم عليّ إباء المخالفين، وعدلتم عني عدول عيب النكد العاصين، حتى صرفت رأيي إلى رأيكم، وأنتم معاشر أخفاء إلهام، سفهاء أحلام، فلم آتي - لا أبا لكم - حرامًا والله ما خبلتكم عن أموركم، ولا أخفيت شيئًا من هذا الأمر عنكم، ولا أوطأتكم عشوة، ولا دنيت لكم الضراء، وإن كان أمرنا لأمر المسلمين ظاهرًا، فأجمع رأي مثلكم أن اختاروا رجلين، فأخذنا عليهما أن يحكما بالحق ولا يعداونه، فتركا الحق وهما يبصرانه، وكان الجور هواهما، والتقية دينهما- حتى خالفا سبيل الحق وأتيا بما لا يعرف فبينوا لنا بماذا تستحلون قتالنا والخروج عن جماعتنا، وتضعون سيوفكم عن عواتقكم ثم تستعرضون الناس تضربون رقابهم؟ إن هذا لهو الخسران المبين. والله لو قتلتم على هذا دجاجة لعظم عند الله قتلها، فكيف بالنفس التي قتلها عند الله حرام؟
فتنادوا: لا تخاطبوهم ولا تكلموهم، وتهيئوا للقاء الله، الرواح الرواح إلى الجنة.
فرجع علي عنهم، ثم إنهم قصدوا جسر النهر، فظن الناس أنهم عبروه.
فقال علي: لن يعبروه، وإن مصارعهم لدون الجسر، والله لا يقتلون منكم عشرة ولا يسلم منهم عشرة.
فتعبأ الفريقان للقتال: ورفع علي راية أمان مع أبي أيوب، فناداهم أبو أيوب: من جاء هذه الراية ممن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن، ومن انصرف إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن، فانصرف فروة بن نوفل الأشجعي في خمسمائة فارس، وخرجت طائفة أخرى متفرقين، فبقي مع عبد الله بن وهب ألفان وثمانمائة، فزحفوا إلى علي، وبدأوه بالقتال، وتنادوا: الرواح الرواح إلى الجنة، فاستقبلهم الرماة من جيش علي بالنبل والرماح والسيوف، ثم عطفت عليهم الخيل من الميمنة والميسرة؛ وعليها أبو أيوب الأنصاريّ، وعلى الرجالة أبو قتادة الأنصاري، فلما عطفت عليهم الخيل والرجال وتداعا عليهم الناس ما لبثوا أن أناموهم، فأهلكوا في ساعة واحدة، فكأنما قيل لهم موتوا فماتوا. وقتل ابن وهب وحرقوص وسائر سراتهم، وفتش علي في القتلى والتمس المخدّج الذي وصفه له النبي في حديث الخوارج، فوجده في حفرة على شاطئ النهر، فنظر إلى عضده فإذا لحم مجتمع كثدي المرأة وحلمة عليها شعرات سود، فإذا مدت امتدت حتى تحاذي يده الطولى، فلما رآها علي قال: "الله أكبر، والله ما كذبت ولا كذبت، والله لولا أتنكلوا عن العمل لأخبرتكم بما قضى الله على لسان نبيه لمن قتلهم متصبّرًا في قتالهم، عارفًا للحق الذي نحن عليه" وقال حين مرّ بهم وهم صرعى: "بؤسًا لكم، لقد ضرّكم من غرّكم" قالوا: يا أمير المؤمنين، من غرّهم؟ قال: "الشيطان، ونفس أمارة بالسوء غرتهم بالأماني وزينت لهم المعاصي، ونبأتهم أنهم ظاهرون". هذا ملخص أمرهم.
وقد عرفت شبهتهم التي جزموا لأجلها بكفر علي وشيعته، ومعاوية وأصحابة، وبقي معتقدهم في أناس متفرقين بعد هذه الوقعة، ثم اجتمعت لهم شوكة ودولة فقاتلهم المهلب بن أبي صفرة، وقاتلهم الحجاج بن يوسف، وقاتلهم قبله ابن الزبير زمن أخيه عبد الله، وشاع عنهم التكفير بالذنوب، يعني ما دون الشرك.
وبهذا تعرف حقيقة الحال، ويزول الإشكال الذي نشأت منه الشبهة، وما أحسن ما قال العلامة ابن القيم في نونيته:
ومن العجائب أنهم قالوا لمن ** قد دان بالآثار والقرآن
أنتم بذا مثل الخوارج إنهم ** أخذوا الظواهر، ما اهتدوا لمعان
وهذا داء قديم من أهل الشرك والتعطيل: من كفّر بعبادتهم غير الله وتعطيل أوصافه وخقائق أسمائه، قالوا له: أنت مثل الخوارج، يكفرون بالذنوب ويأخذون بظواهر الآيات.
ومعلوم أن الذنوب تتفاوت وتختلف، بحسب منافاتها لأصل الحكمة المقصودة بإيجاد العالم، وخلق الجن والإنس، وبحسب ما يترتب عليها من هضم حقوق الربوبية، وتنقص رتبة الإلهية، وقد كفّر الله ورسوله بكثير من جنس الذنوب كالشرك وعبادة الصالحين وأخبر أنه أكبر الكبائر، كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله: "أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك. قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك". فأنزل الله تعالى: { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ } الآية".
فمن أنكر التكفير جملة فهو محجوج بالكتاب والسنة. ومن فرّق بين ما فرّق الله ورسوله بينه من الذنوب، ودان بحكم الكتاب والسنة وإجماع الأمة في الفرق بين الذنوب فقد أنصف، ووافق أهل السنة والجماعة، ونحن لم نكفر أحدًا بذنب دون الشرك الأكبر الذي أجمعت الأمة على كفر فاعله، إذا قامت عليه الحجّة، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد، كما حكاه في الإعلام لابن حجر الشافعي.
فصل
ونذكر لك هنا طرفًا من معتقد عباد القبور والصالحين، وحقيقة ما هم عليه من الدين، ليعلم الواقف عليه أي الفريقين أحق بالأمن، إن كان الواقف ممن اختصه الله بالفضل والمن، ولئلا يلتبس الأمر بتسميتهم لكفرهم ومحالهم تشفعًا وتوسلًا واستظهارًا، مع ما في التسمية من الهلاك المتناهي عند من عقل الحقائق.من ذلك محبتهم مع الله محبة تأله وخضوع ورجاء، ودعاؤهم مع الله في المهمات والملمات والحوادث التي لا يكشفها ولا يجيب الدعاء فيها إلا فاطر الأرض والسموات والعكوف حول أجداثهم، وتقبيل أعتابهم، والتمسح بآثارهم، طلبًا للغوث، واستجابة للدعوات وإظهارًا للفاقة، وإبداء للفقر والضراعة، واستنزالا للغوث والأمطار، وطلبًا للسلامة من شدائد البر والبحار، وسؤالهم تزويجهم الأرامل والأيامى، واللطف بالضعفاء واليتامى، والاعتماد عليهم في المطالب العالية، وتأهليهم لمغفرة الذنوب والنجاة من الهاوية، وإعطاء تلك المراتب السامية. وجماهيرهم لما ألفت ذلك طباعهم وفسدت به فطرهم، وعز عنهم امتناعهم، لا يكاد يخطر ببال أحدهم ما يخطر ببال آحاد المسلمين، من قصد الله تعالى والإنابة إليه، بل ليس لذلك عندهم إلا الولي الفلاني ومشهد الشيخ فلان. حتى جعلوا الذهاب إلى المشاهد عوضًا عن الخروج للاستسقاء والإنابة إلى الله في كشف الشدائد والبلوى. كل هذا رأيناه وسمعناه عنهم، وقد حدّث الشيخ مصطفة البولاقي أن بعض رؤساء الجامع الأزهر عادة لما اشتكى عينيه، وقال له: هلا ذهبت إلى مولد الشيخ أحمد البدوي فقد حكي أن إنسانًا شكا إليه هاب بصره، فسمع قائلًا يقول من الضريح: أعطوه عين كذا وكذا.
فانظر إلى ما خطر ببال هذا المتكلم من تعظيم الميت وتأهيله لتلك المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله القاهر الغالب. وقصد الوساطة هنا على ما فيها ما أظنها تخطر بباله أصلًا. فهل سمعت عن جاهلية العرب مثل هذه الغرائب التي ينتهي عندها العجب؟ والكلام مع ذكي القلب يقظ الذهن قوي الهمة العارف بالحقائق، وأما ميت القلب بليد الذهن وضيع النفس جامد القريحة ومن لا تفارق همته التشبث بأذيال التقليد، والتعلق على ما يحكى عن فلان وفلان من معتقد أهل المقابر والتنديد، فذاك فاسد الفطرة معتل المزاج، وخطابه محض عناء ولجاج.
ومما بلغنا عن بعض علماء زبيد: أن رجلين قصدا الطائف، فقال أحدهما لصاحبه - والمسئول ممن يترشح للعلم -: أهل الطائف لا يعرفون الله إنما يعرفون ابن عباس، فأجابه: بأن معرفتهم لابن عباس كافية، لأنه يعرف الله!.
فأيّ ملّة - صان الله ملّة الإسلام - لا تمانع هذه الكفريات ولا تدافعها؟
وذكر الزبيدي أيضًا أن رجلا كان بمكة عند بعض المشاهد، فقال لمن عنده: أريد الذهاب إلى الطواف، فقال بعض غلاتهم: مقامك هنا أكرم.
ومن وقف على كتاب مناقب الأربعة المعبودين بمصر، وهم: البدوي، والرفاعي، والدسوقي، ورابعهم فيما أظن أبو العلا - فقد وقف على ساحل كفرهم، وعرف صفة إفكهم.
وبلغنا عن بعض الثقات أن جماعة من المدعين للعلم بزبيد كانوا يقرؤون صحيح البخاري، فإذا فرغوا منه - إما أحيانًا أو مطلقًا - ذهبوا إلى قبر البحيرة أو غيره، فوقفوا عاكفين ما شاء الله، وعليهم من السكينة والوقار وضروب الخضوع لنازل الحفرة. قال من نقله: فالله أعلم، أهو شيء وجدوه في صحيح البخاري أو غيره، أو ما هو؟
ورأيت في حاشية الشيخ إبراهيم الباجوريّ على السنوسية نقلًا عن الدردير فيما أظن عن الشعراني: أن الله وكل بقبر كل ولي ملكًا يقضي حاجته من سأل ذلك الولي.
فقف هنا وانظر ما آل إليه شركهم وإفكهم، [4] فأين هذا من قوله تعالى { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } الآية، وقوله: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً }، وقوله: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ }، وقوله تعالى: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ }، وقوله تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } الآية وأيّ حجّة في هذا الذي قال الشعرانيّ لو كانوا يعلمون؟ ولكن القوم أصابهم داء الأمم قبلهم. فنبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تتلو الشياطين.
ومن هذا الجنس: ما ذكره الشعراني في ترجمة الملقب بشمس الدين الحنفي أنه قال في مرض موته: من كانت له حاجة فليأت قبري ويطلب مني أن أقضيها له، فإنما بيني وبينه ذراع من تراب، وكل رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب فليس برجل. انتهى.
وقد اجتمع جماعة من الموحدين من أهل الإسلام في بيت رجل من أهل مصر وبقربه رجل يدّعي العلم، فأرسل إليه صاحب البيت، فسأله بمسمع من الحاضرين فقال له: كم يتصرف في الكون؟ فقال: يا سيدي، سبعة، قال: من هم؟ قال: فلان وفلان وعدّ أربعة من المعبودين بمصر، فقال صاحب الدار لمن بحضرته من الموحدين: إنما بعثت لهذا الرجل وسألته لأعرفكم قدر ما أنتم فيه من نعمة الإسلام. أو كلامًا نحو هذا.
وباب تصرف المشايخ والأولياء قد اتسع حتى سلكه جمهور من يدعي الإسلام من أهل البسيطة. وخرقه قد هلك في بحاره أكثر من سكن الغبراء وأظلته المحيطة حتى نسي القصد الأول من التشفع والوساطة، فلا يعرج عليه عندهم إلا من نسي عهود الحمى. وقد ذكر هذا شيخ الإسلام في منهاجه عن غلاة الرافضة في علي، فعاد الأمر إلى الشرك في توحيد الربوبية والتدبير والتأثير، ولم يبلغ شرك الجاهلية الأولى إلى هذه الغاية، بل ذكر الله جل ذكره أنهم كانوا يعترفون له بتوحيد الربوبية ويقرون به، ولذلك احتج عليهم في غير موضع من كتابه بما أقروا به من الربوبية والتدبير على ما أنكروه من الإلهية.
ومن ذلك - وهو من عجيب أمرهم - ما ذكره حسين بن محمد النعمي اليمني في بعض رسائله: أن امرأة كف بصرها فنادت وليها: أما الله فقد صنع ما ترى، ولم يبق إلا حسابك. انتهى.
وحدثني سعد بن عبد الله بن سرور الهاشمي رحمه الله أن بعض المغاربة قدموا مصر يريدون الحجّ، فذهبوا إلى الضريح المنسوب إلى الحسين رضي الله عنه بالقاهرة فاستقبلوا القبر وأحرموا ووقفوا وركعوا وسجدوا لصاحب القبر حتى أنكر عليهم سدنة المشهد وبعض الحاضرين، فقالوا: هذا محبة في سيدنا الحسين. وذكر بعض المؤلفين من أهل اليمن أن مثل هذا واقع عندهم.
وقد حدثني الشيخ خليل الرشيدي بالجامع الأزهر أن بعض أعيان المدرسين هناك قال: لا يدق وتد في القاهرة إلا بإذن أحمد البدوي. قال: فقلت له: هذا لا يكون إلا لله - أو كلامًا نحو هذا -. فقال: حبي في سيدي أحمد اقتضى هذا. وحكي أن رجلًا يأل الآخر: كيف رأيت الجمع عند زيارة الشيخ الفلاني؟ فقال: لم أر أكثر منه إلا في جبل عرفات، إلا أني لم أرهم يجدوا لله سجدة قط، ولا صلوا مدة ثلاثة الأيام، فقال السائل: قد تحملها الشيخ!. قال بعض الأفاضل: وباب تحمل الشيخ مصراعاه ما بين بصرى وعدن، قد اتسع خرقه وتتابع فتقه، ونال رشاش زقومه الزائر والمعتقد وساكن البلد. انتهى.
وقد اشتهر ما يقع من السجود على أعتاب المشاهد، وقصد التبرك - مع ما فيه - لا يمنع حقيقة العبادة الصورية. ومن المعروف عنهم شراء الوالدان من الولي بشيء معين، يبقى رسمًا جاريًا يؤدى كل عام، وإن كانت امرأة فمهرها أو نصف مهرها لأنها مشتراة منه، ولا يماري في هذا إلّا مكابر. لأنه استفاض واشتهر. فلا ينكره إلا مكابر في الحسيات، وإن فقد بعض أنواعه في بعض البلاد فكم له من نظائر وهذا أشد وأشنع مما ذكر الله جل ذكره عن جاهلية العرب بقول: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا } الآية. وكذلك جعل السوائب باسم الولي لا يحمل عليها ولا تذبح، وسوق الهدايا والقرابين إلى مشاهد الأولياء وذبحها حبًا للشيخ، وتقربًا إليه، وهذا وإن ذكر اسم الله عليه فهو أشد تحريما مما ذبح للحم وذكر عليه اسم غير الله كعيسى مثلًا، فإن الشرك في العبادة أكبر من الشرك بالاستعانة.
ومن ذلك ترك الأشجار والكلأ والعشب إذا كا بقرب المشهد وجعله حرمًَا له.
ومنها الحج إلى المشاهد في أوقات مخصوصة مضاهاة لبي الله. فيطوفون حول الشريح ويستغيثون ويهدون لصاحب القبر ويذبحون، وبعض مشائخهم يأمر الزائر بحلق رأسه إذا فرغ من الزيارة، وقد صنف بعض غلاتهم كتابًا سماه حج المشاهد، ومنها التعريف في بعض البلاد عند من يعتقدونه من أهل القبور فيصلون عشية عرفة عند القبر خاضعين سائلين. والعراق فيه من ذلك الحظ الأكبر والنصيب الأوفر. بل فيه البحر الذي لا ساحل له والمهامة التي لا ينجو يالكها، ولا يكاد، ومنحوه درح الكفر وظهر الشرك والفساد، كما يعرف ذلك من له إلمام بالتاريخ. ومبدأ الحوادث في الدين، ومن شاهد ما يقع منهم عند مشهد الحسين ومشهد علي والكاظم عند رافضتهم وعبد القادر والحسن البصري والزبير وأمثالهم عند سنييهم: من العبادات وطلب العطايا والمواهب والتصرفات وأنواع الموبقات: علم أنهم من أجهل الخلق وأضلهم، وأنهم في غاية من الكفر والشرك، ما وصل إليها من قبلهم ممن ينتسب إلى الإسلام. والله المسئول أن ينصر دينه ويعلي كلمته بمحو هذه الأوثان، حتى يعبد وحده، فتسلم الوجوه له، وتعود البيضاء كانت ليلها كنهارها.
ومن ذلك - وإن كان يعلم مما تقدم: اتخاذها أعيادًا ومواسم، مضاهاة لما شرعه الله ورسوله من الأعياد المكانية والزمانية.
ومنها ما يقع ويجري في هذه الاجتماعات من الفجور والفواحش، وترك الصلوات وفعل الخلاعات التي هي في الحقيقة خلع لربقة الدين والتكليف؛ ومشابهة لما يقع في أعياد النصارى والصابئة والإفرنج ببلاد فرنسا وغيرها من الفجور والطبول والزمور والخمور.
وبالجملة فما أحدثه عباد القبور يعز حصره واستيفاؤه.
فصل
ونقص عليك من سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونذكر طرفًا من أخباره وأحواله، ليعلم الناظر فيه حقيقة أمره، فلا يروج عليه تشنيع من استحوذ عليه الشيطان وأغراه، وبالغ في كفره واستهواه.فنقول: قد عرف واشتهر واستفاض من تقارير الشيخ ومراسلاته ومصنفاته المسموعة المقروءة عليه وما ثبت بخطه وعرف واشتهر من أمره ودعوته وما عليه الفضلاء والنبلاء من أصحابه وتلاميذه: أنه كان على ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الدين أهل الفقه والفتوى في باب معرفة الله وإثبات صفات كماله ونعوت جلاله، التي نطق بها الكتاب العزيز، وصحت بها الأخبار النبوية، وتلقاها أصحاب رسول الله بالقبول والتسليم، يثبتونها ويؤمنون بها، ويمرونها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. وقد درج على هذا من بعدهم من التابعين وتابعيهم من أهل العلم والإيمان، وسلف الأمة وأئمتها كسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وطلحة بن عبيد الله وسليمان بن يسار، وأمثالهم. ومن الطبقة الثانية: كمجاهد بن جبر وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري وابن سيرين وعامر الشعبي وجنادة بن أبي أمية وحسان بن عطية، وأمثالهم، ومن الطبقة الثالثة: علي بن الحسين وعمر بن عبد العزيز ومحمد بن شهاب الزهري ومالك بن أنس وابن أبي ذئب وابن الماجشون، وكحماد بن سلمة وحماد بن زيد والفضيل بن عياض وعبد الله بن المبارك وأبي حنيفة النعمان بن ثابت ومحمد بن إدريس الشافعي وإسحاق بن إبراهيم وأحمد بن حنبل ومحمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج القشيري، وإخوانهم وأمثالهم ونظرائهم من أهل الفقه والأثر في كل مصر وعصر.
وأما توحيد العبادة والإلهية فلا خلاف بين أهل الإسلام فيما قاله الشيخ وثبت عنه من المعتقد الذي دعا إليه.
يوضح ذلك: أن أصل الإسلام وقاعدته: شهادة أن لا إله إلا الله، وهي أصل الإيمان بالله وحده وهي أفضل شعب الإيمان. وهذا الأصل لا بد فيه من العلم والعمل والإقرار بإجماع المسلمين. ومدلوله: وجوب عبادة الله وحده لا شريك له والبراءة من عبادة ما سواه كائنا من كان، وهذا هو الحكمة التي خلقت لها الإنس والجن وأرسلت لها الرسل وأنزلت بها الكتب، وهي تتضمن كمال الذل والحب، وتتضمّن كمال الطاعة والتعظيم.
وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينًا غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين. فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام، وهو يتضمن الاستسلام لله وحده. فمن استسلم لله ولغيره كان مشركًا. ومن لم يستسلم له كان مستكبرًا عن عبادته، قال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَاغُوتَ }، وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ }، وقال تعالى عن الخليل: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، لَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ، جَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }، وقال تعالى عنه: { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } وقال: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ }، وقال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وذكر عن رسله نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم أنهم قالوا لقومهم: { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } وقال عن أهل الكهف: { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا، هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا }، وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ }، في موضعين من كتابه، وقال تعالى: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَارُ }.
قال رحمه الله: والشرك المراد بهذه الآيات ونحوها يدخل في شرك عباد الأنبياء والملائكة والصالحين. فإن هذا شرك العرب الذين بعث الله فيهم عبد الله وسوله محمدًا . فإنهم كانوا يدعونها ويلتجئون إليها ويسألونها على وجه التوسل بجاهها وشفاعتها، لتقربهم إلى الله. كما حكى الله عنهم في مواضع من كتابه. كقوله تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } الآية، وكقوله تعالى: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }، وكقوله تعالى: { فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ }.
قال رحمه الله: ومعلوم أنّ المشركين لم يزعموا أن الأنبياء والأولياء والصالحين والملائكة شاركوا الله في خلق السموات والأرض. واستقلوا بشيء من التدبير والتأثير والإيجاد، ولو في خلق ذرة من الذرات، قال تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } فهم معترفون بهذا مقرون به، لا ينازعون فيه. ولذلك حسن موقع الاستفهام، وقامت الحجة عليهم واضحة قوية مفحمة بما أقروا به من هذه الجمل، وبطلت عبادة من لا يكشف الضر ولا يمسك الرحمة. ولا يخفى ما في التنكير من العموم والشمول المتناول لأقل شيء وأدناه، من ضر أو رحمة. وقال تعالى: { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ }، وقال تعالى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } ذكر فيه السلف كابن عباس وغيره: إيمانهم هنا بما أقروا به من ربوبيته وملكه، وفسر شركهم بعبادة غيره.
قال رحمه الله: وقد بين القرآن في غير موضع أن من المشركين من أشرك بالملائكة، ومنهم من أشرك بالأنبياء والصالحين، ومنهم من أشرك بالكواكب. ومنهم من أشرك بالأصنام. وقد رد الله عليهم جميعهم وكفر كل أصنافهم. كما قال تعالى: { وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }، وقال تعالى: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } الآية، وقال: { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ }، ونحو ذلك في القرآن كثير. وبه يعلم المؤمن أن عبادة الأنبياء والصالحين كعبادة الكواكب والأصنام سواء. من حيث الشرك والكفر بعبادة غير الله.
قال رحمه الله: وهذه العبادات التي صرفها المشركون للآلهتهم هي أفعال العباد الصادرة منهم كالحب والخضوع والإنابة والتوكل والدعاء والاستعانة والاستغاثة والخوف والرجاء والنسك والتقوى والطواف ببيته رغبة ورجاء وتعلق القلوب والآمال بفيضه ومدده وإحسانه وكرمه. فهذه الأنواع وكل عمل يخلو منها فهو خداج مردود على صاحبه، وإنما أشرك من أشرك وكفر من كفر من المشركين بقصد غير الله بهذا وتأليهه غير الله بذلك. قال تعالى: { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } وقال تعالى: { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ }، وقال تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } الآية، وحكي عن أهل النار أنهم يقولون لآلهتهم التي عبدوها مع الله { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } ومعلوم أنهم ما سووهم به في الخلق والتدبير والتأثير، وإنما كانت التسوية في الحب والخضوع والتعظيم والدعاء ونحو ذلك من العبادات.
قال رحمه الله: فجنس هؤلاء المشركين وأمثالهم ممن يعبد الأولياء والصالحين نحكم بأنهم مشركون، ونرى كفرهم إذا قامت عليهم الحجة الرسالية. أما ما عدا هذا من الذنوب التي دونه في الرتبة والمفسدة فإنا لا نكفر بها ولا نحكم على أحد من أهل القبلة الذين باينوا عباد الأوثان والأصنام والقبور بكفر بمجرد ذنب ارتكبوه وعظيم جرم اجترحوه. وغلاة الجهمية والقدرية والرافضة ونحوهم ممن كفرهم السلف لا نخرج فيهم عن أقوال أئمة الهدى والفتوى من سلف هذه الأمة. ونبرأ إلى الله مما أتت به الخوارج، وقالته في أهل الذنوب من المسلمين.
قال رحمه الله: ومجرد الإتيان بلفظ الشهادة من غير علم بمعناها ولا عمل بمقتضاها لا يكون به المكلف مسلمًا بل هو حجة على ابن آدم، خلافًا لمن زعم أن الإيمان مجرد الإقرار كالكرامية. أو مجرد التصديق كالجهمية. وقد أكذب الله المنافقين فيما أتوا به وزعموه من الشهادة وسجل على كذبهم، مع أنهم أتوا بألفاظ مؤكدة بأنواع من التأكيدات. قال تعالى: { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } فأكدوا بلفظ الشهادة، و"إن" المؤكدة، واللام، والجملة الاسمية، فأكذبهم وأكد تكذيبهم، بمثل ما أكدوا به شهادتهم سواء بسواء، وزاد التصريح باللقب الشنيع والعلم البشيع الفظيع، ومن شهد أن لا إله إلا الله وعبد غيره معه فلا شهادة له، وإن صلى وزكى وصام وأتى بشيء من أعمال الإسلام. قال تعالى لمن آمن ببعض الكتاب ورد بعضًا { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } الآية، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } الآية، وقال تعالى: { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ } الآية.
والكفر نوعان: مطلق ومقيد، فالمطلق أن يكفر بجميع ما جاء به الرسول، والمقيد أن يكفر ببعض ما جاء به الرسول، حتى إن بعض العلماء كفّر من أنكر فرعًا مجمعًا عليه، كتوريث الجد والأخت وإن صلّى وصام، فكيف بمن يدعو الصالحين ويصرف لهم خالص العبادة ولبها؟ وهذا مذكور في المختصرات من كتب المذاهب الأربعة بل كفروا ببعض الألفاظ التي تجري على ألسن بعض الجهال وإن صلى وصام من جرت على لسانه.
قال رحمه الله: والصحابة كفّروا من منع الزكاة وقاتلوهم مع إقرارهم بالشهادتين والإتيان بالصلاة والصوم والحجّ.
قال رحمه الله: واجتمعت الأمة على كفر بني عبيد الله القداح مع أنهم كانوا يتكلمون بالشهادتين ويصلون ويبنون المساجد في قاهرة مصر وغيرها. وذكر ابن الجوزي صنف كتابًا في وجوب غزوهم وقتالهم سماه (النصر على مصر) قال: وهذا يعرفه من له أدنى إلمام بشيء من العلم والدين.
فشبه عباد القبور بأنهم يصلون ويصومون ويؤمنون بالبعث مجرد تعمية على العوام، وتلبيس لينفق شركهم، ويقال بإسلامهم وإيمانهم، ويأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون.
وأما مسائل القدر والجبر والإرجاء والإمامة والتشيع ونحو ذلك من المقالات والنحل، فالشيخ أيضًا فيها على ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الهدى والدين يبرأ مما قالته القدرية النفاة، والقدرية المجبرة، وما قالته المرجئة والرافضة، وما عليه غلاة الشيعة والناصبة. ويوالي جميع أصحاب رسول الله ويكف عما شجر بينهم، ويرى أنهم أحق الناس بالعفو عما صدر منهم؛ وأقرب الخلق إلى مغفرة الله وإحسانه لفضائلهم وسوابقهم وجهادهم، وما جرى على أيديهم من فتح القلوب بالعلم النافع. والعمل الصالح. وفتح البلاد ومحو آثار الشرك، وعبادة الأوثان والنيران والأصنام والكواكب، ونحو ذلك مما عبده جهال الأنام.
ويرى البراءة مما عليه الرافضة وأنهم سفهاء لئام، ويرى أن أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر فعمر فعثمان فعلي رضي الله عنهم أجمعين، ويعتقد أن القرآن الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين وخاتم النبيين كلام الله غير مخلوق، منه بدا وإليه يعود. ويبرأ من رأي الجهمية القائلين بخلق القرآن، ويحكي تكفيرهم عن جمهور السلف أهل العلم والإيمان، ويبرأ من رأي الكلابية أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب القائلين بأن كلام الله هو المعني القائم بنفس الباري وأن ما أنزل به جبريل حكاية أو عبارة عن المعنى النفسي، ويقول: هذا من قول الجهمية، وأول من قسم هذا التقسيم هو ابن كلاب، وأخذ عنه الأشعريّ وغيره كالقلانسي، ويخالف الجهمية في كل ما قالوه وابتدعوه في دين الله. ولا يرى ما ابتدعه الصوفية من البدع والطرائق المخالفة لهدي رسول الله وسنته في طقوسهم في العبادات والخلوات والأذكار المخالفة للمشروع ولا يرى ترك السنن والأخبار النبوية لرأي فقيه ومذهب عالم خالف ذلك باجتهاده، بل السنة أجل في صدره وأعظم عنده من أن تترك لقول أحد كائنا من كان. قال عمر بن عبد العزيز: "لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله " نعم عند الضرورة وعدم الأهلية والمعرفة بالسنن والأخبار وقواعد الاستنباط والاستظهار يصار إلى التقليد لا مطلقًا، بل فيما ينعسر ويخفى، ولا يرى إيجاب ما قاله المجتهد إلا بدليل تقوم به الحجة من الكتاب والسنة، خلافًا لغلاة المقلدين.
ويوالي الأئمة الأربعة ويرى فضلهم وإمامتهم، وأنهم من الفضل والفضائل في غاية ورتبة يقصر عنها المتطاول، ويوالي كافة أهل الإسلام وعلمائهم من أهل الحديث والفقه والتفسير، وأهل الزهد والعبادة ويرى المنع من الانفراد عن أئمة الدين من السلف الماضين برأي مبتدع أو قول مخترع، فلا يحدث في الدين ما ليس له أصل يتبع، وما ليس من أقوال أهل العلم والأثر.
ويؤمن بما نطق به الكتاب وصحت به الأخبار وجاء الوعيد عليه من تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، ولا يبيح من ذلك إلّا ما أباحه الشرع وأهدره الرسول .
ومن نسب إليه خلاف هذا فقد كذب وافترى وقال ما ليس له به علم وسيجزيه الله ما وعد به أمثاله من المفترين.
وأبدى رحمه الله من التقارير المفيدة والأبحاث الفريدة على كلمة الإخلاص والتوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله، ما دل عليه الكتاب المصدق والإجماع المستبين المحقق من نفي استحقاق العبادة والإلهية عما سوى الله، وإثبات ذلك لله سبحانه على وجه الكمال المنافي لكليات الشرك وجزئياته، وأن هو معناها وضعًا ومطابقة خلافًا لمن زعم غير ذلك من المتكلمين، كمن يفسر ذلك بالقدرة على الاختراع أو بأنه تعالى غني عما سواه مفتقر إليه ما عداه. فإنّ هذا لازم المعنى، إذ الإله الحق لا يكون إلا قادرًا غنيًا عمّا سواه؛ وأما كون هذا هو المعنى المقصود بالوضع فليس كذلك.
والمتكلمون خفي عليهم هذا، وظنوا أن تحقيق توحيد الربوبية والقدرة هو الغاية المقصودة، والفناء فيه هو تحقيق التوحيد وليس الأمر كذلك.
بل هذا لا يكفي في الإيمان، وأصل الإسلام إلّا إذا أضيف إليه واقترن به توحيد الإلهية، وإفراد الله بالعبادة والحب، والخضوع والتعظيم، والإنابة والتوكل، والخوف والرجاء، وطاعة الله وطاعة رسوله، هذا أصل الإسلام وقاعدته، والتوحيد الأول توحيد الربوبية والقدرة والخلق والإيجاد، هو الذي بني عليه توحيد العمل والإرادة، وهو دليله الأكبر وأصله الأعظم، كما قال تعالى: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَحْمَنُ الرَحِيمُ } - إلى آخر الآيات.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله:
إن كان ربك واحدًا سبحانه ** فاخصصه بالتوحيد مع إحسان
أو كان ربك واحدًا أنشأك لم ** يشركه إذ أنشأك رب ثان
فكذلك أيضًا وحده فاعبده لا ** تعبد سواه يا أخا العرفان
وهذه الجمل منقولة عن السلف والأئمة من المفسرين وغيرهم من أهل اللغة إجمالًا وتفصيلًا.
وقد قرر رحمه الله على شهادة أن محمدًا رسول الله من بيان ما تستلزمه هذه الشهادة وتستدعيه وتقتضيه من تجريد المتابعة والقيام بالحقوق النبوية من الحب والتوقير والنصرة والمتابعة والطاعة، وتقديم سنته على كل سنة وقول، والوقوف معها حيث وقفت، والانتهاء حيث انتهت في أصول الدين وفروعه باطنه وظاهره خفيه وجليه كليه وجزئيه ما ظهر به فضله، وتأكّد علمه ونبله، وأنه سباق غايات، وصاحب آيات، لا يشق غباره، ولا تدرك في البحث والإفادة آثاره، وأن أعداءه ومنازعيه وخصومه في الفضل وشانئيه يصدق عليهم المثل السائر بين أهل المحابر والدفاتر:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ** فالكل أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ** حسدًا وبغيًا إنه لدميم
وله رحمه الله من المناقب والمآثر ما لا يخفى على أهل الفضائل والبصائر.
ومما اختصه الله به من الكرامة تسلط أعداء الدين وخصوم عباد الله المؤمنين على مسبته، والتعرض لبهته وعيبه. قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ما أرى الناس ابتلوا بشتم أصحاب رسول الله إلّا ليزيدهم الله بذلك ثوابًا عند انقطاع أعمالهم" وأفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر، وقد ابتلينا من طعن أهل الجهالة والسفاهة بما لا يخفى.
وما حكيناه عن الشيخ حكاه أهل المقالات عن أهل السنة والجماعة مجملًا ومفصّلًا.
وهذه عبارة أبي الحسن الأشعريّ في كتابه مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين.
قال أبو الحسن الأشعري: جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله لا يردون من ذلك شيئًا. والله تعالى إله واحد فرد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، وأنّ محمدًا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله تعالى على عرشه كما قال: { الرَحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }، وأن له يدين بلا كيف كما قال: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }، وكما قال: { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ }، وأن له عينين بلا كيف، وأن له وجهًا جلّ ذكره كما قال تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ }، وأن أسماء الله تعالى لا يقال إنها غير الله، كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقروا أن لله علمًا كما قال: { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ }، وكما قال: { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ }، وأثبتوا السمع والبصر ولم ينفوا ذلك، كما نفته المعتزلة، وأثبتوا لله القوة، كما قال: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } وقالوا: إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله تعالى، كما قال: { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ }، وكما قال المسلمون: "ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن" وقالوا: إن أحدًا لا يستطيع أن يفعل شيئًا علم الله أنه لا يفعله، أو يكون أحد يقدر على أن يخرج عن علم الله، وأن يفعل شيئًا علم الله أنه لا يفعله، وأقروا: أنه لا خالق إلا الله، وأن أعمال العباد يخلقها الله، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئًا، وأن الله تعالى وفق المؤمنين لطاعته، وخذل الكافرين بمعصيته، ولطف للمؤمنين ونظر لهم وأصلحهم وهداهم، ولم يلطف بالكافرين ولا أصلحهم ولا هداهم، ولو أصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم الكانوا مهتدين. وأن الله تعالى يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وخذلهم وأضلهم وطبع على قلوبهم، وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره، ويؤمنون بقضاء الله وقدره، خيره وشره، حلوه ومره، ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله، كما قال ويلجئون أمرهم إلى الله، ويثبتون الحاجة إلى الله في كل وقت، والفقر إلى الله في كل حال، ويقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في الوقف واللفظ من قال باللفظ أو بالوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق، ويقولون: إن الله تعالى يرى بالأبصار يوم القيامة، كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون، لأنهم عن الله محجبون، قال الله تعالى: { كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ }، وإنّ موسى سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا وأن الله تعالى تجلى للجبل فجعله دكًّا، فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا، بل يراه في الآخرة، ولم يكفروا أحدًا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كنحو الزنا والسرقة وما أشبه ذلك من الكبائر. وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون وإن ارتكبوا الكبائر، والإيمان عندهم هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره وحلوه ومره، وإن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وأنّ ما أصابهم لم يكن ليخطئهم. والإسلام هو أن يشهد العبد أن لا إله إلا الله على ما جاء في الحديث، والإسلام عندهم غير الإيمان، ويقرون بأن الله مقلب القلوب، ويقرون بشفاعة رسول الله وأنها لأهل الكبائر من أمته، وبعذاب القبر، وإن الحوض حق، والمحاسبة من الله للعباد حق، والوقوف بين يدي الله حق، ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ولا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق، ويقولون أسماء الله هي الله، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار، ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين، حتى يكون الله تعالى أنزلهم حيث شاء، ويقولون أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، ويؤمنون بأن الله تعالى يخرج قومًا من الموحدين من النار على ما جاءت به الروايات عن رسول الله وينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة في القدر، والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم بالتسليم للروايات الصحيحة، ولما جاءت به الآثار التي رواها الثقات عدلًا عن عدل حتى تنتهي ذلك إلى رسول الله ولا يقولون: كيف؟ ولِمَ؟ لأن ذلك بدعة، ويقولون: إن الله لم يأمر بالشر، بل نهى عنه، وأمر بالخير، ولم يرضَ بالشر وإن كان مريدًا له، ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه ويأخذون بفضائلهم، ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم، ويقدمون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليًا رضي الله عنهم، ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون وأنهم أفضل الناس كلهم بعد النبي ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله "إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر؟" كما جاء في الحديث عن النبي ، ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال الله تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَسُولِ } ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين وأن لا يبتدعوا في دينهم ما لم يأذن به الله، ويقرون أن الله تعالى يجيئ يوم القيامة كمال قال: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا }، وإن الله تعالى يقرب من خلقه كيف يشاء، كما قال تعالى: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كل إمام بر وفاجر، ويثبتون المسح على الخفين سنة، ويرونه في الحضر والسفر، ويثبتون فرض الجهاد للمشركين منذ بعث الله نبيه إلى آخر عصابة تقاتل الدجال. وبعد ذلك يرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح وأن لا يخرج عليهم بالسيف، وأن لا يقاتلوا في الفتنة، ويصدقون بخروج الدجال، وإن عيسى ابن مريم يقتله، ويؤمنون بمنكر ونكير والمعراج والرؤيا في المنام، وإن الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عنهم بعد موتهم تصل إليهم، ويصدقون بأن في الدنيا سحرة وأن الساحر كافر، كما قال الله تعالى، وإن السحر كائن موجود في الدنيا، ويرون الصلاة على كل من مات بأجله وكذلك من قتل قتل بأجله، وأن الأرزاق من قبل الله تعالى يرزقها عباده، حلالًا كانت أو حرامًا وإن الشياطين يوسوس للإنسان ويشككه ويخبطه، وإن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله تعالى بآيات تظهر عليهم، وأن السنة لا تنسخ القرآن، وأن الأطفال أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم وإن شاء فعل بهم ما أراد، وأن الله عالم ما العباد عاملون وكتب أن ذلك يكون، وأن الأمور بيد الله تعالى، ويرون الصبر على حكم الله والأخذ بما أمر الله به، والانتهاء عما نهى الله عنه، وإخلاص العمل لله والنصيحة للمسلمين، ويدينون بعبادة الله في العابدين والنصيحة لجماعة المسلمين، واجتناب الكبائر والزنا قول الزور، والمعصية والفخر والكبر والإزدراء على الناس والعجب، ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار، والنظر في الفقه، مع التواضع والاستكانة وحسن الخلق، وبذل المعروف وكف الأذى، وترك الغيبة والنميمة والسعاية، وتفقد المأكل والمشرب.
فهذه جملة ما يأمرون به ويعتقدونه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم ونقول وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
فصل
قال العراقي:- فتبين أن علامة الخوارج تنزيلهم آيات القرآن النازلة في الكفار على المؤمنين من أهل القبلة.
ليست هذه علامة على الخوارج والمروق من الدين، فإن جمهور الغلاة من أهل الأهواء يتأولون بعض الآيات التي أريد بها أهل الكفر والشرك في أهل السنة والجماعة، والعلامة تطرد وتنعكس، كما في حديث: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار" ولا يصح هنا طردها ولا عكسها.
وهب أنها علامة كما زعمت- فمن يثبت لك إيمان عباد القبور؟ بأي كتاب أم بأية سنة تحكم على أنهم من المؤمنين، ومن عباد الله الصالحين؟ بينك وبين إثبات هذا ما يدفع في صدرك؛ ويكبك على أمّ رأسك، من نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة "لو يعطى الناس بدعواهم لادّعى رجل دماء قوم وأموالهم، ولكن البينة على المدعي".
وإنما قيل: علامة أهل الشرك وعباد الأولياء والصالحين: تسمية الرسل وأتباعهم من أهل الإسلام صابئة، كما قاله أبو جهل وأبو لهب وغيرهما من كفار قريش؛ والصابئ بمعنى الخارجي والمعتزلي في عرفهم، فإن الصابئة في الأصل اسم لمن فارق ما عليه جمهور الناس في الديانة، وكان أهل الكفر وأصحاب المذاهب الضالة يرون أنهم أحق بالصواب، وأولى بالآثار والكتاب.
قال تعالى حاكيا عن اليهود والنصارى: { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } فهذه الآية كما وردت على اليهود والنصارى وأخرجتهم من الوعد والإثابة، فهي رد على عباد القبور والصالحين المستغيثين بغير الله، الداعين لسواه، لأن إسلام الوجه لله وإحسان العمل قد تخلف عنهم وفاتهم.
فما أحسن أحكام القرآن، ما ألطف خطابه وما أهناه وأشفاه في كل مقام وعند كل شبهة وخصام، قال تعالى: { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } وأي هدى وأي سلطان وأي حجة على دعاء الصالحين مع الله، والاستغاثة بهم في الشدائد والكربات؟ هذا لم تأتِ به شريعة، ولم يقل بجوازه صاحب عقل يميز أقواله وصنيعه.
وما سيمر بك من الشبه العراقية من جنس شبه القرامطة والباطنية، على ما يزعمونه من الطريقة الخبيثة الكفرية، وسيأتيك رده مفصّلًا إن شاء الله تعالى.
وقوله:
- إن قول الشيخ وأتباعه "لا يعبد إلا الله" من جنس قول الخوارج "لا حكم إلا لله" وأنه يقال لهم ما قيل لأولئك: هذه كلمة حق، ولكن أين من يعبد غير الله إذا كان مسلمًا ناطقًا بالشهادتين يصلي ويزكي ويحج؟
الخوارج مخطئون ظالمون فيما نقموا به على أصحاب رسول الله ؛ فإن الصحابة ما حكموا سوى القرآن، وإنما الرجال يحكمون بالقرآن، فالتبس الأمر على الخوارج، ولم يفهموا أن جميع الأحكام الشرعية إذا صدرت عما في الكتاب والسنة فهما الحاكمان، ولا ينسب الحكم إلى الرجال إلا بقيد، وجاءت السنة بأن الطاعة في المعروف، وهو ما أمر الله به ورضيه من الواجبات والمستحبات. وإنما يحرم التحكيم إذا كان المستند إلى شريعة باطلة تخالف الكتاب والسنة، كأحكام اليونان والإفرنج والتتر وقوانينهم التي مصدرها آراؤهم وأهواؤهم، وكذلك سوالف البادية وعاداتهم الجارية. فمن استحل الحكم بهذا في الدماء أو غيرها فهو كافر. قال تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }، وهذه الآية ذكر فيها بعض المفسرين: أن الكفر المراد هنا كفر دون الكفر الأكبر، لأنهم فهموا أنها تتناول من حكم بغير ما أنزل الله، وهو غير مستحل لذلك، لكنهم يتنازعون في عمومها للمستحل، وأن كفره مخرج عن الملة.
إذا عرفت هذا عرفت وجه قول أمير المؤمنين في مقالة الخوارج: لا حكم إلا الله "إنها كلمة حق أريد بها الباطل" وأما قول المسلم الحنيفي: لا يعبد إلا الله، فهي كلمة حق أريد بها حق؛ لأنّ دعاء الأولياء والصالحين والاستغاثة بهم وتعلق القلوب بهم محبة ورجاء وخوفًا وطمعًا، هو العبادة بالإجماع. وقد مرّ لك أنهم صرفوا من العبادات لمعبوداتهم جميع ما يستحقه ذو العرش المجيد تقدس اسمه جل ذكره.
فإذا قال الجاهلون عباد القبور: فأين من يعبد غير الله؟
قيل لهم: أنتم وأمثالكم من عباد القبور والصالحين جمهور من سكن الغبراء وأظلته الخضراء، لا سيما أهل العراق عباد علي والحسين والكاظم وعبد القادر والحسن والزبير وأمثالهم من الأولياء والصالحين. ولست أعني خصوص الرافضة، بل عبادة القبور والصالحين ليس من خصوص الرافضة في هذه الأزمان، وفي بلاد الفرس ومصر والشام من عبادة القبور ودعائها وجعلها أندادًا لله ربّ العالمين ما لا يخفى على من عرف الإسلام، ولكن قد تقدم غير مرة التنبيه على جهل هذا الرجل وأمثاله بالمسميات والحدود، وعندهم أن العبادة مجرد السجود، مع أنه قد وقع منهم أيضًا لأهل القبور، ولكنهم يكابرون في الحسيات، وقد صار من يدعي العلم وينتسب إليه في كثير من البلدان دعاة إلى الشرك والتوسل بدعاء الصالحين وتعظيمهم برفع القبور وتشييدها واتخذاها مساجد، والتوجه إلى من فيها والطواف بقبره، وبعض علمائهم يحتج على تركها مرفوعة أو على رفعها وبنائها بحديث: "سدوا عني كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر" فانظر هذا الجهل المتناهي، جعلوا القباب التي هي من وسائل الشرك وأفعال الجاهلية من جنس ما يخص به العبد الصالح من ترك خوخة أو نحوها في جدار المسجد. والذي هو نص في المسألة لا يقبل التأويل حديث أبي الهياج: أن عليًا قال له: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ألا أدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا إلا سوّيته" والحديث أشهر من أيذكر وقد عمل به الإمام المفضل الأكبر. ومع هذا فلا يعرجون عليه في الاستدلال، ولا يبالون بما فيه من الأمر الواضح بهدم أماكن الجهل والضلال. وما ذاك إلا لأنّهم نشأوا في حجر عباد القبور وحزبهم؛ وغذوا بلبان جهلهم وكفرهم، وألفته طباعهم وأنست به أوضاعهم، ولولا ذلك لما قيس رفع القباب وإبقاؤها على المقابر على إبقاء خوخة الصديق، وترك سدّها، مع عدم الاشتراك في العلة والمناط، وبعد ما بينهما وتباينه.
وأما قوله: إذا كان مسلمًا ناطقًا بالشهادتين.. إلى آخره.
فقد تقدم لك أنه لا يشترط في التكفير أن يكفر المكلف بجميع ما جاء به الرسول، بل يكفي في الكفر والردة - والعياذ بالله - أن يأتي بما يوجب ذلك، ولو في بعض الأصول، وهذا ذكره الفقهاء من أهل كل مذهب، وهو من عجيب جهل العراقي وأمثاله؛ لأنه يعرفه المبتدئون في الفقه والعلم، ومن أراد الوقوف على جزئيات وفروع في الكفر والردة فعليه بما صنف في ذلك، كالإعلام لابن حجر الهيتمي، وما عقده الفقهاء من أهل كل مذهب في باب حكم المرتد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة السنية لما ذكر حديث الخوارج ومروقهم من الدين وأمره بقتالهم - قال: فإذا كان على عهد النبي وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه، مع عباداته العظيمة، حتى أمر النبي بقتالهم، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضًا من الإسلام، وذلك بأسباب: منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه، حيث قال: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } الآية، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حرق الغالية من الرافضة، فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، فقذغوا فيها واتفق الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق وهو قول أكثر الصحابة. وقصتهم معروفة عند العلماء. وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه. فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعًا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال فكلّ هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه. فإن تاب وإلّا قتل، فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده، ولا يجعل معه إله آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق وتنزل المطر وتنبت النبات، إنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم، أو صورهم ويقولون: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }، ويقولون: { هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ }، فبعث الله رسوله ينهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة. وقال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ }. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرًا والملائكة فأنزل الله هذه الآية. ثم ذكر آيات في المعنى. انتهى.
والمقصود منه: أنه جعل عباد القبور من شر الخوارج المارقين، فهم شر أصناف الخوارج، وقد توقف بعض السلف في تكفير الخوارج، قيل لعلي: أكفار هم؟ قال: من الكفر فرّوا.
وعباد القبور ما رأيت أحدًا من أهل العلم الذين يرجع إليهم توقف في كفرهم، غاية ما قالوا: لا يقتل حتى يستتاب، أو لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة أو نحو هذا الكلام.
فصل
واستدل العراقي على دعواه أن عباد القبور لا يكفرون بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا }، وزعم أن سبب نزول هذه الآية قتل رجل كافر كان قصده الإسلام، ولم يتلفظ بالشهادة. قال: فكيف بمن يتجاسر على خيار الأمة المحمدية وعلمائها ويكفرهم بالتوسل بالأنبياء والصالحين بشبهة هي أوهى من بيت العنكبوت، ولم يكن نية فاعلها إلا خيرًا، وهذه الأشياء التي يكفرون بها ما أجمعت الأمة على تحريمها، فضلًا عن التكفير بها.والجواب أن يقال:
زعمه أن سبب النزول قتل رجل كافر كان قصده الإسلام ولم يتلفظ بالشهادة فهو كذب بحت، وقول على الله وعلى كتابه بغير علم. وفي الحديث: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار" وفي رواية: "برأيه" وهذا الرجل لا يتحاشى الكذب والترويج على الجهال. قال البيضاوي: " { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَلامَ } لمن حياكم بتحية الإسلام. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة: { السلم } " وفسّره البيضاوي بالاستسلام والانقياد، وفسر به السلام أيضًا، وجزم بأنه استسلم وانقاد للإسلام على القراءتين. وقال في قوله: { لَسْتَ مُؤْمِنًا }: "أي إنما فعلت ذلك متعوّذًا، فظهر أنه أظهر لهم الإسلام، وإنما أتوه من جهة ظنهم عدم صدقه". وقال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا يحيى بن بكير وحسين بن محمد وخلف بن الوليد حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: "مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي يسوق غنمًا، فسلم عليهم. فقالوا: ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه، وأتوا بغنمه النبي ، فنزلت هذه الآية". وقال أحمد: حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق حدثنا يزيد بن عبد الله بن قسيط عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد قال: "بعثنا النبي إلى أضم مرَّ بنا عامر بن الأضبط على قعود له، معه متيع له ووطب من لبن، فسلم علينا، فأمسكنا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله، لشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره ومتيعه، فلما قدمنا على النبي وأخبرناه نزل فينا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } الآية، فقال رسول الله للمقداد: "كان رجلًا مؤمنًا يخفي إيمانه مع قوم كفار فقتله كذلك كنت تخفي إيمانك بمكة" وهذه الجملة الأخيرة من الحديث رواها البخاري في صحيحه تعليقًا.
وبهذا يتبين جهل العراقي وكذبه، وجميع كلامه من أول كتابه إلى آخره من هذا القبيل ظلمات بعضها فوق بعض.
وأما قوله: فكيف بمن يتجاسر على خيار الأمة وعلمائها ويكفرهم بالتوسل بالأنبياء والصالحين بشبهة أوهن من بيت العنكبوت؟
فجوابه: أن خيار الأمة وعلماءها لم يكفرهم أحد من أهل الإسلام، لا من أهل نجد ولا غيرهم، حتى إن المخالف في أصل الملة كاليهودي والنصراني والمجوسي والوثني لا يكفرهم، بل غايته أن يعتقد أنه على حق وأنهم أخطأوا في إنكار دينه وتكفيره، والخوارج كفّروا بعض خيار الأمة، وبعض العلماء لم يطلقوا تكفير الخيار والعلماء. هذا لا يُعرف عن أحد ولا ادّعاه أحدٌ قبل العراقي. لكنه جاهل يخفى عليه ما في عبارته من العموم المستفاد من الإضافة، وأظنه يريد بعض من ينتسب إلى الدين والعلم من عباد القبور. ولذلك قال: بتوسلهم ودعاء الصالحين، وعبادتهم عنده توسل لا يكفر فاعله. وقد تقدم الكلام على ردّ هذا. ويأتي له مزيد بحث وأن التوسل صار مشتركًا، وهو في عرف عباد القبور يستعمل في دعاء الصالحين وعبادتهم، وبيان التكفير بذلك وما يستدل به عليه قد مرّ بعضه ويأتيك عند كلام العراقي عكس القضية فسمى عباد القبور خيار الأمة وعلماءها، وسمّى أهل الإسلام والتوحيد الذين لا يدعون مع الله آلهة أخرى خوارج، يكفرون خيار الأمة!. ومن وصل به الجهل إلى هذه الغاية والحد فقد استحكم عليه الضلال، وفقد إدراكه وإحساسه، ولا علاج له غير الاطراح والتضرع بين يدي الله في أوقات الإجابة وتحري الأدعية الواردة النبوية أن يرده الله إلى الرشد. ولا سبيل إلى ذلك مع اعتقاد أنه من أهل العلم والفضل والدين، وأنه يصلح معلما ومربيا وداعيًا.
وقوله: بشبهة هي أوهن من بيت العنكبوت:
إن كان يريد ما استدل به المسلمون أهل التوحيد من الأدلة القرآنية والأحاديث النبوية في المنع من دعاء الأولياء والصالحين، وتحريم عبادتهم بالحب والخضوع والتوكل والدعاء والنسك والرجاء، ونحو ذلك من العادات، فتسميته أدلة ذلك وأدلة تكفير فاعله: شبهة أوهن من بيت العنكبوت: صريح في كفره؛ لمسبته لآيات الله وحججه وبياته، ولا يخفى كفر فاعل ذلك على أحد من المسلمين، قال تعالى فيمن قال ما دون ذلك في النبي ومن معه من القرّاء: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } الآية، فكفرهم بما لا نسبة بينه وبين كلمة العراقي، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والمسلمون يحتجون على مثل هذه المسائل بمثل قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } الآية، وقوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، وقوله: { وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ } الآية، وقوله: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا } الآية، وقوله: { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ }، وقوله: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا }، ونحو ذلك كثير. وبقوله : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" والقول المراد هنا الصادر عن علم بمعناها وانقياد لأصول مقتضاها، لا كما ظنّه عباد القبور من أن مجرد اللفظ يكفي مع المخالفة الظاهرة، وعباد الأولياء والصالحين، فإن شهادتهم والحالة هذه وقولهم شبيه بشهادة المنافقين برسالة سيد المرسلين، وقد مرّ لك ما فيها.
وبالجملة: فأدلة تحريم دعاء الصالحين من دون الله لا يمكن حصرها ولا تستقصى، وقد قال هذا الملحد: إنّها شبهة أوهن من بيت العنكبوت، { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا }.
وأما قوله: هذه الأشياء وما أجمعت الأمة على تحريمها، فضلًا عن التكفير بها:
فهذا مبلغ علمه ومنتهى إيمانه وفهمه، وكلّ إناء بالذي فيه ينضح.
فيا منكرًا هذا تأخر، فإنه حرام على الخفاش أن يبصرالشمسا
ونقول: اجتمعت الأمة على تحريم هذا وعلى كفر فاعله إجماعًا ضروريًا، يعرف بالضرورة من دين الإسلام، وبتصور ما جاء به الرسل، واتفاق دعوتهم، فإن كل رسول أول ما يقرع أسماع قومه بقوله: { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ }، كما تقدمت أدلة ذلك.
قال شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني رحمه الله ورضي عنه: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم كفر إجماعًا.
قال شارح الإقناع من كتب الحنابلة منصور بن يونس البهوتي المصريّ: لأنه فعل عابدي الأصنام، قائلين { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } الآية؛ نعم عباد القبور يخالفون في هذا، كما يخالف الخارجيّ فيما اجتمعت عليه الأمة من عدم التكفير بالذنوب التي دون الشرك، وكما يخالف القدري أهل السنة في تكفير غلاتهم، وكما يخالف الجهمي معطل الصفات في تكفيره وتبديعه، وكما ينازع الحلولي والاتحادي في التكفير بمذهبه الخبيث، ومن نسب إلى الشيخ رحمه الله تكفير أحد من أهل الإسلام والتوحيد فهو من أعظم الناس كذبًا وبهتانًا وافتراءً وسيجزيه الله ما وعد به أمثاله من المفترين، بقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَبذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ }.
فصل
قال العراقي:- ويستدلون بأقوال ابن تيمية وابن القيم، وهما لا يلزمان بقولهما ولا بقول أحد من أهل المذاهب الأربعة.
قد تقدم أن العمدة عندهم في مسائل أصول الدين وفروعه على كتاب الله وسنة رسوله وإجماع أهل العلم من هذه الأمة، ولا تذكر أقوال أهل العلم إلا تبعًا وبيانًا. لا إنّها المقصودة بالذات والأصالة؛ ثم المسائل التي لا يلزم بها المجتهد غيره ما كان للاجتهاد فيها مساغ، ولم تخالف كتابًا ولا سنة صريحة ولا إجماعًا، وما خالف ذلك فهو مردود على قائله. ويلزمه أهل العلم بصريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى: "ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر" يعني رسول الله .
وأحسن منه قول الله تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَسُولِ } الآية، وقد قال النبي : "لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه".
فإذا كان ردّ السنة محرمًا لا يجوز، ولو ردّها ظانًا أن القرآن لا يدل عليها، فكيف رد الكتاب والسنة، وعدم التزامهما لخلاف أحد من الناس كائنًا من كان؟ ومسائل معرفة الله ووجوب توحيده، وإسلام الوجه له وحده لا شريك له، ومسائل ربوبيته واختصاصه بالخلق والإيجاد والتدبير، ونحو ذلك، مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام كصمديته تعالى، ونفي الكفء والصاحبة والولد، وغناه بذاته ومباينته لمخلوقات، وعموم قدرته وإحاطة سمعه وبصره وعلمه بجميع المعلومات والمبصرات والمسموعات، ونحو ذلك من أصول الدين.
فكلّ الرسل متفقون عليه، وجميع الكتب داعية إليه والعقول الصحيحة حاكمة به، فكل اجتهاد خالفه فباطل مردود لا يسوغ العمل به في شريعة من الشرائع، ولا عند عالم من العلماء ولا فقيه من الفقهاء. والعراقي أجنبي عن هذه المباحث والعلوم، ولا يدري الفرق بين مسائل الاجتهاد وغيرها، وكأن الرجل من أهل الفترات لم يأنس بشيء مما جاءت به النبوات.
قال شمس الدين في هدايته:
بل جميع النبوات من أولها إلى آخرها متفقة على أصول:
أحدها: أن الله تعالى قديم واحد لا شريك له في ملكه، ولا ند ولا ضد ولا وزير ولا مشير ولا ظهير ولا شافع إلا من بعد إذنه.
الثاني: أنه لا والد له ولا ولد، ولا كفء ولا نظير، ولا نسب بوجه من الوجوه ولا زوجة.
الثالث: أنه غني بذاته، فلا يأكل ولا يشرب، ولا يحتاج إلى شيء مما يحتاج إليه خلقه بوجه من الوجوه.
الرابع: أنه لا يتغير ولا تعرض له الآفات، من الهرم والمرض والسنة والنوم والنسيان والندم، والخوف والهم والحزن، وتحو ذلك.
الخامس: أنه لا يماثله شيء من مخلوقاته، بل ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
السادس: أنه لا يحل بشيء من مخلوقاته، ولا يحل في ذاته شيء منها. بل هو بائن عن خلقه بذاته، والخلق بائنون عنه.
السابع: أنه أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء، وفوق كل شيء، وعال على كلّ شيء، وليس فوقه شيء البتة.
الثامن: أنه قادر على كل شيء ولا يعجزه شيء يريده، بل هو فعّال لما يريد.
التاسع: أنه عالم بكلّ شيء، يعلم السر وأخفى، ويعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس، ولا متحرك ولا ساكن إلا وهو يعلمه على حقيقته.
العاشر: أنه سميع بصير، يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، قد أحاط سمعه بجميع المسموعات، وبصره بجميع المبصرات، وعلمه بجميع المعلومات، وقدرته بجميع المقدورات، ونفذت مشيئته في جميع البريات، وعمت رحمته جميع المخلوقات ووسع كرسيه الأرض والسموات.
الحادي عشر: أنه الشاهد الذي لا يغيب، ولا يستخلف أحدًا على ملكه، ولا يحتاج إلى من يرفع إليه حوائج عباده أو يعاونه أو يستعطفه عليهم ويسترحمه لهم.
الثاني عشر: أنه الأبدي الباقي الذي لا يضمحل ولا يتلاشى ولا يعدم ولا يموت.
الثالث عشر: أنه المتكلم المكلم الآمر الناهي، قائل الحق، وهادي السبيل مرسل الرسل، ومنزل الكتب، قائم على كل نفس بما كسبت من الخير والشر، ومجازي المحسن بإحسانه والمسئ بإساءته.
الرابع عشر: أنه الصادق في وعده وخبره، فلا أصدق منه قيلا، ولا أصدق منه حديثًا، وهو لا يخلف الميعاد.
الخامس عشر: أنه تعالى صمد بجميع معاني الصمدية، يستحيل عليه ما يناقض صمديته.
السادس عشر: أنه قدوس سلام، فهو المبرأ من كل عيب وآفة ونقص.
السابع عشر: أنه الكامل الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه.
الثامن عشر: أنه العدل الذي لا يجور ولا يظلم، ولا يخاف عباده منه ظلمًا.
وهذا مما اتفقت عليه جميع الكتب والرسل وهو من المحكم الذي لا يجوز أن تأتي شريعة بخلافه، ولا يخبر بشيء بخلافه، فتركت المثلثة عباد الصليب هذا كله وتمسكوا بالمتشابه من المعاني والمجمل من الألفاظ، وأقوال من قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا وضلوا عن سبيل السواء. وأصول المثلثة ومقالاتهم في ربّ العالمين تخالف هذا كله وتباينه أشد المخالفة والمباينة. انتهى.
فقف وتأمل هذه الأصول وأولها، وهو أنه تعالى لا شريك ولا ند ولا شافع إلا من بعد إذنه، ووازن بينه وبين قول العراقي: إنّ هذه المسائل التي لا تعلم يعذر العلماء في جهلها أحدًا، وهل يقول من يعقل إنّ هذه المسائل من المسائل الاجتهادية، فإن كان هذا القول صحيحًا فليهن النصارى عباد الصليب اجتهادهم المنجي عند هذا العراقي، وكذا عباد الأوثان، والجهمية والمعطلة، والقدرية النفاة والقدرية المجبرة، والرافضة المارقة. فإنّهم قالوا بتلك الأقوال الضالة واعتقدوها عن رأي لهم واجتهاد وشبهة تصوروها. كما قال هذا الشيخ: فترك المثلثة عباد الصليب هذا كله وتمسكوا بالمتشابه. قال تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا } الآية، وقال: { بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ }، وقال: { وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ } الآية، وقال: { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ }، والتزيين يتناول ما تمسكوا به من الشبه والمتشابه واعتقاد حسنه، وأنه لا ينكر ولا يلزم بسواه.
ثم هذا مخالف للإجماع، ولو في فروع الدين، فإنّ الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على إنكار على المخطئ المخالف للنص في مسائل كثيرة.
منها ما وقع من قدامة بن مظعون وأصحابه لما استحلوا الخمر باجتهاد تأويل وفهم انفردوا به، في قوله تعالى: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الآية، والصحابة أنكروا على من رأى أن دفع الزكاة لا يجب لأحد بعد رسول الله وقاتلوا على ذلك واستباحوا الدماء عليه، وإن لم ينكر من قاتلوه غير ذلك من الدين. وقد بعث سرية إلى رجل تزوج امرأة أبيه فقتلوه وغنموا ماله، وسار فيه بسيرته في المرتدين، فكيف يقال: إن من دعا الأولياء والصالحين واستغاث بهم وذبح لقبورهم وخافهم ورجاهم مع الله لا ينكر عليه؟ لأن الإنكار محل الاجتهاد؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
فصل
قال العراقي:- قال العلماء: لو أفتى مائة عالم إلا واحدًا بكلمة كفر صريحة مجمع عليها، وقال عالم واحد بخلاف أولئك يحكم بقول الواحد ويترك قول التسعة والتسعين، حقنًا للدماء.
ها هنا والله يعرف ذوو الألباب مقدار ما هم فيه من النعمة بالعقول التي فارقوا بها الحيوانات، ويعرف ذوو الفضل والعلم نعمة العلم التي فارقوا بها أهل الجهالات والضلالات، ويعرفون حاصل هؤلاء الحيارى وما هم عليه من العقل والدين، لا سيما من عرف ما في الدعوى من العموم والإجماع على خرق الإجماع، ثم هذا العدد المخصوص أهو غاية وحد لا يجوز أن يتجاوزه أحد؟ أو هو مبالغة وتهور لا يبالي به عند التحقيق والتصور؟ قوم هذا حاصل بحثهم ونهاية إقدامهم، لم يمتازوا على سائمة الأنعام إلا بمجرد الصورة والهيولى. قال تعالى: { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ } الآية.
وأما قوله: لقوله : "ادرأوا الحدود بالشبهات ما استطعتم" فهو من نمط ما قبله في الجهالة. والخلاف ليس من الشبهة، ولا يلتفت إليه إذا خالف الكتاب والسنة أو الإجماع. هذا باتفاق المسلمين، لا يشكل إلّا على الأغبياء، وإطلاق القول بأن الخلاف شبهة يعود على الإسلام بالنقض والهدم، والتسجيل على عامة العلماء بالعيب والذم. فقلّ حكم من الأحكام الاجتهادية إلّا وفيه خلاف. ومن المعلوم أنه جاء الخبر النبوي: أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وتختلف في دينها. والعلماء مجمعون على القول بهذا، وإنه لا يلتفت إلى كل خلاف، لا سيما ما خالف النصوص والإجماع. وأفتوا بهذا في مسائل لا تحصى في أصول الدين وفروعه. فلو كان وجود الخلاف من الشبه لحكمنا بضلالهم في ذلك كله. وهم مجمعون على عكس ما قال العراقي. ولو أفتى ألوف ما يخالف النصوص فهم في جانب والنص في جانب ولو كان النص والحجة مع واحد من هؤلاء الألوف، قال الفضيل بن عياض: لا تستوحش من الطريق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين. وأحسن منه وأدل قوله تعالى: { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ }، فبطل الاحتجاج بالأكثر في الأصول والفروع. وما أحسن ما قيل:
وليس كل خلاف جاء معتبرًا ** إلّا خلاف له حظ من النظر
وقوله: المكفر بهذه الأشياء واحد، ليس في العير ولا في النفير، القائلون بخلافه ألوف:
يريد أن المكفر بعبادة القبور واحد، وهو الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
والوقوف على هذه القولة الضالة الحمقاء التي تنادي بجهل قائلها يكفي في الجواب.
وقوله: إنهم يسيئون الظن بجميع علماء المسلمين، ما عدا جماعتهم - إلى آخر كلامه:
تقدم جوابه، وأنه لا يعرف الحدود فلا يعرف العلماء في عرف الشرع ولا المسلمين في اصطلاح الرسول. والذي في وهمه أن العلماء من يجيز دعاء أهل القبور وأن المسلمين عنده من يدعو الموتى ويستغيث بهم. هذا حاصل كلام العراقي، فسبحان من أضله.
وسوء الظن بمن جالس وداهن وهذا الضرب من الناس مما يثاب عليه المؤمن، ويحمد عليه؛ لأنه من باب الاحتياط والبراء، بل ويدخل فيه ما أمر الله به من الجهاد، وعدم الانبساط والبشاشة لمن يوالي عباد القبور ويعاشرهم. فكيف من يجيز ذلك ويفعله؟ وقد قال مجاهد بن جبر لابن حميد لما رآه مع غيلان القدري في الطواف وهجره على ذلك فجاءه ابن حميد، فحلف له أنه تبعه يسأله عن حرف في قراءة مجاهد - قال له مجاهد: لولا أنك عندي صدوق ما بششت في وجهك الدهر، ذكره ابن وضاح.
فصل
قال العراقي:- بل عندهم أن أهل الحرمين اللذين هما أشرف بقاع الله وأخبر الرسول كما في الصحيحين: "إن الإيمان يأرز في آخر الزمان إلى الحجاز" وفي رواية: "إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها" فهم عندهم كفار مشركون، واستباحوا هذين البلدين الشريفين، وجعلوهما دار حرب، واستحلوا دماء أهلهما وأموالهم وجعلوا دار مسيلمة الكذاب هي دار الهجرة ودار الإيمان، وأن الإيمان يأرز إليها مع قوله : "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا" قالوا: وفي نجدنا يا رسول الله؟ فكرر ثلاث مرات، يدعو للشام واليمن، وهم يقولون: وفي نجدنا، فقال في الرابعة: "تلك مواضع الزلازل والفتن" إلى آخره.
في هذه الكلمات اليسيرة من الكذب والظلم والقول بلا علم ما يطول استيفاء الكلام عليه؛ ومن خلع جلباب الحياء وتكلّم في المباحث الدينية بمجرد الجهل والهوى فقد استحكم عليه الشقا، وحلت قريبًا من داره قوارع المحن والبلوى. ليس من كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ولا في كلام من يعتد به ويعول عليه من أهل العلم والدين حكم على عامة أهل الحرمين بالكفر والشرك، بل ولا بالفسوق. وسنورد من كلامه رحمه الله هنا ما يعرف به الواقف على كتابنا حقيقة مذهبه ودينه. وأن هذا العراقي وأمثاله يتفترون مثل هذه العبارات بقصد تنفير الناس عن هذا الشيخ، والصد عن سبيل الله.
قال رحمه الله تعالى، وفي أثناء كلام له في رسالته المعروفة إلى محمد بن عيد:
وأما ما ذكر من الأعداء عني أني أكفر بالظن أو بالموالاة أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، فهذا بهتان عظيم، يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله.
وقال رحمه الله: سألني الشريف عما نقاتل عليه، وعما نكفر الرجل به؟ فأخبرت بالصدق، وبينت له أيضًا الكذب الذي يبهتنا به الأعداء، فسألني أن أكتب له.
فأقول: أركان الإسلام خمسة: أولها: الشهادتان، ثم الأركان الأربعة. فالأربعة إذا أقرّ العبد بها وتركها تهاونًا، فنحن وإن قاتلناه على فعلها، فلا نكفره بتركها. والعلماء اختلفوا في التارك لها كسلًا من غير جحود، ولا نقاتل إلا على ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان وأيضًا نكفره بعد التعريف إذا عرف وأنكر. فنقول: أعداؤنا معنا على أنواع:
النوع الأول: من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله الذي أظهرناه للناس وأقرّ أيضًا الاعتقادات في الحجر والشجر، الذي هو دين غالب الناس إنه الشرك بالله الذي بعث الله رسوله ينهى عنه، ويقاتل أهله ليكون الدين كله لله. ومع ذلك لم يلتفت إلى التوحيد ولا تعلمه، ولا دخل فيه، ولا ترك الشرك.
فهذا كفر نقاتله بكفره، لأنه عرف دين الرسول فلم يتبعه، وعرف دين الشرك فلم يتركه، مع أنه لم يظهر ببغض دين الرسول ولا من دخل فيه، ولا يمدح الشرك ولا يزينه للناس.
النوع الثاني: من عرف ذلك كله، ولكنه تبين في سب دين الرسول مع ادعائه أنه عامل به، وتبين في مدح من عبد يوسف والأشقر، ومن عبد أبا علي والخضر من أهل الكويت، وفضلهم على من وحّد الله وترك الشرك. فهذا أعظم من الأول، وفيه قوله تعالى: { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } وهو ممن قال الله فيه: { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ } الآية.
النوع الثالث: من عرف التوحيد واتبعه وعرف الشرك وتركه، ولكن يكره من دخل في التوحيد، ويحب من بقي على الشرك، فهذا أيضًا كافر، فيه قول الله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }.
النوع الرابع: من سلم من هذا كله، ولكن أهل بلده مصرحون بعداوة التوحيد، واتباع أهل الشرك، وساعون في قتالهم ويعتذر بأن ترك وطنه يشق عليه، فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده، ويجاهد معهم بماله ونفسه. فهذا أيضًا كافر، فإنهم لو يأمرونه بترك صوم رمضان ولا يمكنه الصيام إلا بفراقهم فعل، ولو يأمرونه بتزويج امرأة أبيه ولا يمكنه ترك ذلك إلا بمخالفتهم فعل، وموافقتهم على الجهاد معهم بنفسه وماله مع أنهم يريدون بذلك قطع دين الله ورسوله أكبر من ذلك بكثير. فهذا أيضًا كافر، وهو ممن قال الله فيه: { سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ } الآية.
وأما الكذب والبهتان: أنّا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وأنّا نكفر من لم يكفر ولم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه. فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدّ به ورثة أبي جهل من سدنة الأصنام وأئمّة الكفر: الناس عن دين الله ورسوله؛ وإنّا لا نكفر إلّا من كفّره الله ورسوله، من المشركين عباد الأصنام كالذين يعبدون الصنم الذي على قبر عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما أما الذين آمنوا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر وجاهدوا في الله حق جهاده فهم إخواننا في الدين وإن لم يهاجروا إلينا. فكيف نكفر هؤلاء؟ سبحانك هذا بهتان عظيم. انتهى.
وأما استباحة هذين البلدين الشريفين، فكلّ أحد يعرف أن هذا من الكذب والبهت البين. قال تعالى: { إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ } لم يقع فيهما قتال بحمد الله، فضلًا عن الاستباحة.
وفي الحديث: "إنّ ممّا أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت" وإنما دخلها المسلمون في حال أمن وصلح، وانقياد من شريف مكة ورؤساء المدينة. وجلس المشايخ بالحرمين الشريفين للتعليم والتدريس.
وكتبت الرسائل في بيان التوحيد والتنزيه عن التقديس، حتى جاءت دولة الأتراك فجاسوا خلال الديار، وكان وعدًا مفعولًا.
وأما الأموال التي أخذت من الحجرة الشريفة، فلم تؤخذ ولم تصرف إلا بفتاوى أهل العلم من سكان المدينة، ووضع خطوطهم بذلك.
وحاصل ما كتب: إن هذه الأموال وضعت توسعة لأهل المدينة وصدقة على جيران النبي ، وأرصدت لحاجتهم وأعدت لفاقتهم. ولا حاجة بالنبي إليها وإلى اكتنازها وإدخارها في حال حياته، فضلًا عن حال مماته. وقد تعطّلت أسباب أهل المدينة ومتباتهم بمنع الحاج في تلك السنة. فأخرجت تلك الأموال لما وصفنا من الحال باطلاع وكيل الحرم وغيره من أعيان المدينة وعلمائها، وما وقع من خيانة وغلول لا تجوز نسبته إلى أهل العلم والدين أو أنهم راضون أو غير منكرين له. ولا يجوز أن يسمي ما وقع استباحة للحرمين، كما قاله هذا المفتري. كيف وقد وقع من تعظيم الحرمين وكسوة الكعبة الشريفة وتأمين السبل والحج إلى بيت الله وزيارة الحرم الشريف النبوي ما لا يخفى على منصف عرف الحال ولم يقصد البهت والضلال.
وأما الاستدلال على صلاح أهلها بشرف تلك البقعة، فهو استدلال من غربت عنه أدلة الشرع وقواعده، وغابت عنه عهود الكتاب العزيز ومواعده، وصار من جماعة الغوغاء والعامة، ولا حاجة لنا إلى تعداد من كفر بآيات الله وصادم رسله ورد حججه من أهل الحرمين، ولا إلى تعداد من في بلاد الحبشة والهند وبلاد الفراعنة كمصر وبلاد الصابئة كحران وبلاد الفرس المجوسية من أهل العلم والإمامة والفقه والدين، وفضل الحرمين لا يشك فيه من له أدنى إلمام بما جاءت به الرسل الكرام ولكن ليست فيه حجة على تحسين حال أهلهما مطلقًا. وقد قال سلمان الفارسيّ لأبي الدرداء، لما دعاه إلى الأرض المقدسة ورغبه فيها: "إن الأرض لا تقدس أحدًا" قال تعالى: { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا }، وهي مصر والشام، فإن كان في شرف البقاع حجة ودليل على صلاح أهلها؛ فليكن هنا بنو إسرائيل في الأرض المقدسة، وهم سكّان إيليا والمسجد الأقصى وقد جرى منهم من الكفر والتكذيب، وقتل الأنبياء، ما لا يخفى على من آنس شيئًا من أنوار الرسالة.
ثم استدلال أهل اليمن على حسن حالهم بحديث: "الإيمان يمان، والحكمة يمانية" وحديث: "أتاكم أهل اليمن أرق قلوبًا وألين أفئدة" أظهر من الاستدلال بشرف البقاع على عدم ضلال أهلها، لأنّ حديث "الإيمان يأرز إلى المدينة" يصدق ولو على البعض. وإلّا دلّ على العموم. ولو احنج الأسود العنسي وأمثاله على حسن حالهم بما ورد في فضل اليمن لكان جوابه جوابًا لنا. وقد قال تعالى: { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَاسِ }.
وأمّا حديث: "اللهمّ بارك لنا في شامنا وفي يمننا" فقد استيجبت دعوته وحصل من البركات بسبب هذه الدعوة في الشام واليمن ما هو معروف مشهور، وهل دونت الدواوين ووضع العطاء وجنّدت الجنود وارتفتعت الرايات والبنود إلّا بعد إسلام أهل اليمن وأهل الشام وصرف أموالهما في سبيل الله، ولكن لا يحتج به على صلاح دين أهلهما إلّا من غربت عنه الحقائق، وعدم الفهم لأصول الدين فضلًا عن الفروع والدقائق. وقد تقدم قوله تعالى: { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا } الآية، وجمهور أهل نجد كتميم وأسد وطيئ وهوازن وغطفان وبني ذهل بن شيبان صار لهم من الجهاد في سبيل الله، والمقام بالثغور، والمناقب والمآثر لاسيما في جهاد الفرس والروم ما لا يخفى على من له أدنى إلمام بشيء من العلوم. ولا ينكر فضائلهم إلّا من لم يعرف جهادهم وبلاءهم من في المواطن. ولا يشك عاقل أنهم أفضل من أهل الأمصار قبل استيطان الصحابة وأهل العلم والإيمان، وأما بعد ذلك فالفضل والتفضيل باعتبار الساكن يختلف وينتقل مع العلم والدين. فأفضل البلاد والقرى في كل وقت وزمان أكثرها علمًا وأعرفها بالسنن والآثار النبوية. وشر البلاد أقلها علمًا وأكثرها جهلًا وبدعة وشركًا. وأقلها تمسكًا بآثار النبوة، وما كان عليه السلف الصالح. فالفضل والتفضيل يعتبر بهذا في الأشخاص والسكان. وقد قال تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }، وكما أن الحسنات تضاعف في البلد الحرام فكذلك السيئات تضاعف، لعظيم حرمته وفضيلته.
وقد جاء في فضل بعض أهل نجد، كتميم، ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "أحب تميمًا لثلاث سمعتهن من النبي ، قوله لما جاءت صدقاتهم: هذه صدقات قومي، وقوله في الجارية التميمية: "أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل"، وقوله: هم أشدّ أمتي على الدجال" هذا في المناقب الخاصة.
وأمّا العامة للعرب فلا شكّ في عمومها لأهل نجد لأنهم من صميم العرب، وما ورد في تفضيل القبائل والشعوب أدلّ وأصرح في الفضيلة مما ورد في البقاع والأماكن في الدلالة على فضل الساكن والقاطن.
ومعلوم أن رؤساء عباد القبور الداعين إلى دعائها وعبادتها لهم حظ وافر مما يأتي به الدجال، وقد تصدى رجال من تميم وأهل نجد للرد على دجاجلة عبّاد القبور والدعاة إلى تعظيمها مع الله، وهذا من أعلام نبوته إن قلنا إنّ "أل" في الدجّال للجنس لا للعهد. وإن قلنا إنها للعهد - كما هو الظاهر - فالرد على جنس الدجّال توطئة وتمهيد لجهاده ورد باطله. فتأمّله فإنّه نفيس جدًّا.
ثم لو تكلّم غير العراقي بمثل هذا لكان أسهل، وأما هو فبلاده معدن كل محنة وبلية، ولم يزل أهل الإسلام منها في رزية بعد رزية، فأهل حروراء ما جرى منهم على أهل الإسلام لا يخفى، وفتنة الجهمية الذين أخرجهم كثير من السلف من الإسلام إنما خرجت ونبغت بالعراق، والمعتزلة وما قالوه للحسن البصري وتواتر النقل به واشتهر من أصولهم الخمسة التي خالفوا بها أهل السنة من العراق، والمبتدعة الصوفية الذين يرون الفناء في توحيد الربوبية غاية يسقط بها الأمر والنهي إنّما نبغوا وظهروا بالبصرة. ثم الرافضة والشيعة وما حصل منهم من الغلو في أهل البيت والقول الشنيع في علي والأئمة ومسبة أكابر أصحاب النبي كل هذا معروف مستفيض عن أهل العراق، أفلا يستحي أهل هذه العظائم من عيب أهل الإسلام ولمزهم بوجود مسيلمة في بلادهم؟ وقد روى الطبراني من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: "دخل إبليس العراق فقضى فيها حاجته، ثم دخل الشام فطردوه، ثم دخل مصر فباض فيها وفرخ وبسط عبقرية" والعراق قبل الإسلام هي محل المجوس عباد النيران والبقر.
فإن قيل: طهرت بالفتح والإسلام، فما بال اليمامة لا تطهر بما أظهر الله فيها من الإسلام وشعائره العظام وجهاد أعداء الله ورسوله؟
وأما حديث: "اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا" الخ.
فجوابه: إن المراد بالشرق ونجد في هذا الحديث وأمثاله: هو العراق الذي يحاذي المدينة من جهة المشرق. يوضحه: أن في بعض طرق هذا الحديث: "وأشار إلى العراق". قال الخطابي: نجد من جهة المشرق ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها فهي مشرق أهل المدينة. وأصل النجد: ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور فإنه ما انخفض منها. وقال الداودي: إن نجدًا من ناحية العراق: ذكر هذا الحافظ ابن حجر في فتح الباري.
ويشهد له ما في مسلم عن ابن غزوان: سمعت سالم بن عبد الله يقول: سمعت ابن عمر يقول: "يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم للكبيرة، سمعت النبي يقول: "إنّ الفتنة تجئ من هاهنا، وأومأ بيده إلى المشرق".
فظهر أنّ هذا الحديث خاص بأهل العراق؛ لأنّ النبي فسّر المراد بالإشارة الحسية. وقد جاء صريحًا في الكبير للطبراني النص على أنها العراق. وقول ابن عمر وأهل اللغة وشهادة الحال كلّ هذا يعين المراد.
فصل
قال العراقي في الباب الأول في نقل عبارات ابن تيمية وابن القيم في تبرئتهما من تكفير المسلمين، وتشريكهم وتأثيمهم، ونقل بعض عبارات ابن عبد الوهاب في بعض الأشياء التي حكم على الناس فيها بالتكفير والشرك. ثم ذكر في هذا الباب خمسين موضعًا، يزعم أنّها تشهد له وتؤيد كلامه ودعواه على استحباب دعاء الصالحين وجوازه. وغالبها قد حرّفه، وألحد فيه، وتصرّف في نقله بزيادة ونقصان، وتقطيع للعبارات، وتعسف في حمله على دعواه. وبعضها لم يفهم مراد الشيخ منه ولم يدر المقصود. فحمل الكلام على المسائل الاجتهادية النظرية على مسائل أصول الدين الضرورية الاجتماعية. فتركب من هواه وإلحاده وجهله فساد عظيم وتحريف للكلم عن مواضعه. وقد وصف الله اليهود بتحريف الكلم عن مواضعه: بتحريف ألفاظه ومعانية، وذكر تعالى أنه جعل قلوب اليهود قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه، ولعنهم بسبب ذنوبهم، ونقض الميثاق الذي أخذ عليهم من الإيمان بالله ورسوله، والوقوف مع أمره وما أوجبه عليهم في التوراة. وعبّاد القبور والدعاة إليها نقضوا الميثاق المأخوذ على هذه الأمة على لسان نبينا محمد في مثل قوله تعالى: { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ }، وقوله تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ }، وقوله تعالى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } الآيات.فما صدر عنه مما ستقف عليه من الإلحاد والتحريف نشأ عن مخالفة الرسول ، ونبذ ما جاء به وراء الظهر. ومن له خبرة بتحريف اليهود لنصوص التوراة يعرف قوة المشابهة والمماثلة بينهم وبين هذا المحرف.
واعتبر بما يأتيك تجد ما قلنا صريحًا.
قال في نقله الأول:
- قال تقي الدين ابن تيمية في الفتاوى - بعد أن سئل عن رجل تكلم في مسألة التكفير - فأجاب الشيخ بقوله: أصل التكفير للمسلمين من الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمّة المسلمين بما يعتقدون أنهم أخطأوا فيه من الدين. وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أنّ علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي . وليس كلّ من يترك قوله لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق، ولا يؤثم. فإن الله قال في دعاء المسلمين: { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }، وفي الصحيح عن النبي أن الله قال: "قد فعلت" - إلى أن قال -: ومن المعلوم أن المنع من تكفير علماء المسلمين الذين تكلموا في هذا الباب وإن أخطأوا - من أحق الأغراض الشرعية، وهو إذا اجتهد في ذلك وأصاب فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد.
هذا الكلام من جنس تحريفه الذي قررناه، فإن في هذا تحريفين:
أحدهما: أنه أسقط السؤال، وفرضه في التكفير بالمسائل التي وقع فيها خلاف ونزاع بين أهل السنة والجماعة. والخوارج والروافض فإنهم كفروا المسلمين وأهل السنة بمخالفتهم فيما ابتدعوه، وما أصلوه ووضعوه، وذهبوا إليه وانتحلوه، فأسقط هذا خوفًا من أن يقال دعاء أهل القبور وسؤالهم والاستغاثة بهم ليست من هذا الباب، ولم يتنازع في هذه المسألة المسلمون، بل هي مجمع على أنها من الشرك المكفر، كما حكاه الشيخ ابن تيمية نفسه، وجعلها مما لا خلاف في التكفير به، فلا يصح حمل كلامه هنا على ما جزم هو بأنه كفر مجمع عليه، ولو صح حمل هذا العراقي لكان قوله قولًا مختلفًا، وقد نزهه الله وصانه عن هذا، فكلامه متفق يشهد بعضه لبعض. إذا عرفت هذا عرفت تحريف العراقي في إسقاط بعض الكلام وحذفه، وأيضًَا فالحذف لأصل الكلام يخرجه عن وجهه، وإرادة المقصود التحريف.
الثاني: أن الشيخ رحمه الله، قال: أصل التكفير للمسلمين، وعبارات الشيخ أخرجت عبّاد القبور من مسمى المسلمين، كما سننقل لك جملة من عباراته في الحكم عليهم بأنهم لا يدخلون في المسلمين في مثل هذا الكلام.
قال رحمه الله - في أثناء كلام له في النهي عن التفرق، والاختلاف وترك التعصب لمذهب أو قبيلة أو طريقة - قال: "فليس كل من أخطأ يكون كافرًا ولا فاسقًا ولا عاصيًا، بل قد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال تعالى في كتابه في دعاء المؤمنين: { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }، وثبت في الصحيح: "أن الله قال: قد فعلت" لا سيما وقد يكون يوافقكم في أخص من الإسلام مثل أن يكون مثلكم على مذهب الشافعي أو منتسبًا إلى الشيخ عدي. ثم بعد هذا قد يخالف في شيء، ربما كان الصواب معه. فكيف يستحل عرضه أو دمه أو ماله، مع ما ذكر الله من حقوق المسلم والمؤمن؟ وكيف يجوز التفريق بين الأمة بأسماء مبتدعة لا أصل لها في كتاب الله ولا سنة رسوله؟ وهذا التفريق الذي حصل بين الأمة علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليهم وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى: { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ }، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا، فإن الجماعة رحمة، وإن الفرقة عذاب، وجماع ذلك: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } - إلى قوله - { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } الآية، فمن الأمر بالمعروف: الأمر بالائتلاف والاجتماع، والنهي عن الاختلاف والفرقة. ومن النهي عن المنكر: إقامة الحدود على من خرج عن شريعة الله تعالى.
فمن اعتقد في بشر أنه إله أو دعا ميتًا أو طلب منه الرزق أو النصر أو الهداية، أو توكل عليه أو سجد له، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه". انتهى.
فبطل استدلال العراقي، وانهدم من أصله، كيف يجعل النهي عن تكفير المسلمين متناولًا لمن يدعو الصالحين ويستغيث بهم مع الله، ويصرف لهم من العبادات ما يستحقه إلا الله؟ وهذا باطل بنصوص الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة.
ومن عجيب جهل العراقي أنه يحتج على خصمه بنفس الدعوى، والدعوى لا تصلح دليلًا، فإن دعوى العراقي لإسلام عباد القبور تحتاج دليلًا قاطعًا على إسلامهم فإذا ثبت إسلامهم منع من تكفيرهم، والتفريع ليس مشكلًا. ومعلوم أن من كفر المسلمين لمخالفة رأيه وهواه كالخوارج والرافضة أو كفر من أخطأ في المسائل الاجتهادية أصولًا أو فروعًا، فهذا ونحوه مبتدع ضال، مخالف لما عليه أئمة الهدى ومشايخ الدين. ومثل شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب لا يكفر أحدًا بهذا الجنس ولا من هذا النوع. وإنما يكفر من نطق بتكفيره الكتاب العزيز، وجاءت به السنة الصحيحة وأجمعت على تكفيره الأمة، كمن بدل دينه، وفعل فعل الجاهلية الذين يعبدون الملائكة والأنبياء والصالحين، ويدعونهم مع الله، فإن الله كفرهم وأباح دماءهم وأموالهم وذراريهم بعبادة غيره، نبيًا أو وليًا أو صنمًا لا فرق في الكفر بينهم، كما دل عليه الكتاب العزيز والسنة المستفيضة، وبسط هذا يأتيك مفصلًا، وقد مر بعضه.
والشيخ محمد رحمه الله من أعظم الناس توقفًا وإحجامًا عن إطلاق الكفر، حتى أنه لم يجزم بتكفيره الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور أو غيرهم إذا لم يتيسر له من ينصحه ويبلغه الحجة التي يكفر تاركها. قال في بعض رسائله: وإذا كنا لا نقاتل من يعبد قبة الكواز حتى نتقدم بدعوته إلى إخلاص الدين لله، فكيف نكفر من لم يهاجر إلينا وإن كان مؤمنًا موحدًا؟ وقال: وقد سئل عن مثل هؤلاء الجهال. فقرر أن من قامت عليه الحجة وتأهل لمعرفتها يكفر بعبادة القبور. وقد سبق من كلامه ما فيه الكفاية، مع أن العلامة ابن القيم رحمه الله جزم بكفر المقلدين لشيوخهم في المسائل المكفرة إذا تمكنوا من طلب الحق ومعرفته وتأهلوا لذلك. فأعرضوا ولم يلتفتوا. ومن لم يتمكن ولم يتأهل لمعرفة ما جاءت به الرسل فهو عنده من جنس أهل الفترة ممن لم تبلغه دعوة رسول من الرسل. وكلا النوعين لا يحكم بإسلامهم ولا يدخلون في مسمى المسلمين، حتى عند من لم يكفر بعضهم وسيأتيك كلامه. وأما الشرك فهو يصدق عليهم، واسمه يتناولهم وأي إسلام يبقى مع مناقضة أصله؟ وقاعدته الكبرى: شهادة أن لا إله إلا الله، وبقاء الإسلام ومسماه، مع بعض ما ذكر الفقهاء في باب حكم المرتد أظهر من بقائه مع عباده الصالحين ودعائهم. ولكن العراقي يفر من أن يسمى ذلك عبادة ودعاء، ويزعم أنه توسل ونداء ويراه مستحبًا، وهيهات هيهات.
أين المفر والإله الطالب ** قد حيل بين العير والنزوان
بما من الله به من كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وبما جاء به محمد عبد الله ورسوله من الحكمة والهدى والبيان لحدود ما أنزل الله عليه، ولا يزال سبحانه وتعالى يغرس لهذا الدين غرسًا تقوم بهم حججه على عباده يجاهدون في بيان دينه وشرعه ومن ألحد في كتابه ودينه وصرفه عن موضوعه.
ومن هذا نقله الثاني عن الشيخ في الصلاة خلف أهل الأهواء، وعدم تكفيرهم وأن القول يكون كفرًا، ويطلق تكفير صاحبه، ويقال من قال هذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم عليه بكفر، حتى تقوم عليه الحجة الرسالية التي يكفر تاركها إلى أن قال: والشخص المعين لا يشهد عليه، فقد لا يكون التحريم بلغه - إلى أن قال - ومن كان من المؤمنين مجتهدًا في طلب الحقّ، فأخطأه فإن الله يغفر له خطأه كائنًا ما كان، سواء كان في المسائل العملية أو النظرية، وأنه لا فرق بين مسائل الأصول والفروع - وأطال الكلام في الرد على من فرّق بينهما، واحتج بحديث الذي قال لأهله: "إذا أنا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين" ثم استدل العراقي بقوله: "ولا يعكر على هذا أن أكثر المتأخرين على أن المخطئ في مسائل الاعتقاد يفسق ويؤثّم كالرافضة والخوارج والمعتزلة؛ لأنّ استدلال الشيخ بأقوال الصحابة وجماهير السلف على عدم التكفير والتفسيق من حيث بعض المسائل المختلف فيها. ونحن مرادنا إخراج أهل السنة من التكفير والتفسيق في مسائل التوسل والاستغاثة بالأنبياء والصالحين والحلف بغير الله، والنذر وصرفه لأماكن الأنبياء والصالحين وهذه المسائل لا يكفر صاحبها عند الشيخين، كما عند غيرهما فيرد إطلاقهما لتخصيصهما، بل لم يذكر هذه الأشياء أحد من العلماء غير الشيخين. ولو كانت هذه المسائل من أمور الشرك المخرج لصاحبه من الملة لذكرها المفسرون في تفاسيرهم وأهل العقائد في كتبهم. فلما لم يذكرها أحد من السلف والخلف غير ابن تيمية ومن تابعه، وهي من اجتهادياته لكنه أطلق اللفظ في الكفر والشرك، وأراد الأصغر وقيده إذا لم يكن الفاعل مجتهدًا ولا مقلدًا ولا متأولًا ولا جاهلًا. فدل كلامه على أنها من الفروع المختلف فيها في الحل والحرمة؛ فرجعت إلى الاجتهادية، وقد قال العلماء قاطبة الحنابلة وغيرهم: لا إنكار في مسائل الاجتهاد.
والجواب عن هذا النقل وما بعده من الكلام أن يقال:
أولًا: موضوع الكلام والفتوى في أهل الأهواء، كالقدرية والخوارج والمرجئة ونحوهم. وأما عباد القبور فهم عند السلف وأهل العلم يسمون الغالية؛ لأنّ فعلهم غلو يشبه غلو النصارى في الأنبياء والصالحين وعبادتهم. فالعراقي لا يعرف أهل الأهواء وما يراد به، ومع هذا لاجهل فالتحريف غالب عليه في كل ما يشير إليه.
ويقال: هذا النقل الذي نقله فيه تكفير من قامت عليه الحجة ولو في المسائل الخفية ونحن لا نكفر إلا بعد قيام الحجة الرسالية في المسائل الجلية فبطلت الشبهة العراقية. ومسألة توحيد الله وإخلاص العبادة له لم ينازع في وجوبها أحد من أهل الإسلام، لا أهل الأهواء ولا غيرهم، وهي معلومة من الدين بالضرورة. كل من بلغته الرسالة وتصورها على ما هي عليه عرف أن هذا هو زبدتها وحاصلها. وسائر الأحكام تدور عليه. قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ووجه الحصر: ما أشرنا إليه من أن التوحيد هو الأصل المقصود بالذات، فراجع كلام المفسرين فبطل ما زعمه هذا الملحد من أن هذه من مسائل أهل الأهواء.
وأما الكلام في تكفير المعين، فالمقصور به مسائل مخصوصة، قد يخفى دليلها على بعض الناس، كما في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك مما قاله أهل الأهواء. فإن بعض أقوالهم تتضمن أمورًا كفرية من رد أدلة الكتاب والسنة المتواترة النبوية. فيكون القول المتضمن لرد بعض النصوص كفرًا، ولا يحكم على قائله بالكفر، لاحتمال وجود مانع، كالجهل وعدم العلم بنفس النص، أو بدلالته. فإن الشرائع لا تلزم إلا بعد بلوغها. ولذلك ذكر هذا في الكلام على بدع أهل الأهواء. وقد نص على هذا، فقال في تكفير أناس من أعيان المتكلمين، بعد أن قرر هذه المسألة قال: وهذا إذا كان في المسائل الخفية فقد يقال: بعدم التكفير. وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة. فهذا لا يتوقف في كفر قائله.
وسيأتيك كلامه مفصلًا فراجعه إن شاء الله تعالى.
واحتج العراقي بقول الشيخ: وقد يكون له شبهات يعذره الله فيها.
وليس في كلام الشيخ العذر بكل شبهة، ولا العذر بجنس الشبهة؛ فإن هذا لا يفيده كلام الشيخ، ولا يفهمه منه إلا من لم يمارس شيئًا من العلوم. بل عبارته صريحة في إبطال هذا المفهوم. فإنها تفيد قلة هذا، كما في المسائل التي يعرفها إلا الآحاد، بخلاف محل النزاع، فإنه أصل الإسلام وقاعدته، ولو لم يكن من الأدلة إلا ما أقر به من يعبد الأولياء والصالحين من ربوبيته تعالى، وانفراده بالخلق والإيجاد والتدبير لكفي به دليلًا مبطلًا للشبهة. كاشفًا لها منكرًا لمن أعرض عنه ولم يعمل بمقتضاه، من عبادة الله وحده لا شريك له، ولذلك حكم على المعينين من المشركين من جاهلية العرب الأميين لوضوح الأدلة، وظهور البراهين. وفي حديث المنتفق: "ما مررت عليه من قبر دوسي أو قرشي فقل له: إن محمدًا يبشّرك بالنار". هذا وهم أهل فترة. فكيف بمن نشأ من هذه الأمة وهو يسمع الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والأحكام الفقهية من إيجاب التوحيد والأمر به، وتحريم الشرك والنهي عنه؟ فإن كان ممن يقرأ القرآن فالأمر أعظم وأطم، لا سيما إن عاند في إباحة الشرك ودعا إلى عبادة الصالحين والأولياء، وزعم أنها مستحبة، وأن القرآن دل عليها. فهذا كفره أوضح من الشمس في الظهيرة، ولا يتوقف في تكفيره من عرف الإسلام وأحكامه وقواعده وتحريره، والغالب على كل مشرك أنه عرضت له شبهة اقتضت كفره وشركه، قال تعالى: { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا } الآية، وقال: { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ } عرضت لهم شبهة القدرية، فردوا أمره تعالى ودينه وشرعه بمشيئته القدرية الكونية، وعلى إطلاق هذا العراقي وفهمه تكون هذه الشبهة مانعة من تكفير أعيانهم. والنصارى شبهتهم في القول بالبنوة والأقانيم الثلاثة: كون المسيح خُلق من غير أب، بل بالكلمة، فاشتبه الأمر عليهم؛ لأنهم عرفوا من بين سائر الأمم بالبلادة وعدم الإدراك في المسائل الدينية، فلذلك ظنوا أن الكلمة تدرعت في الناسوت، وأنها ذات المسيح، ولم يفرقوا بين الخلق والأمر، ولم يعلموا أن الخلق يكون بالكلمة، لا هو نفس الكلمة، وقد أشار تعالى إلى شبهتهم وردها وأبطلها في مواضع من كتابه، كقوله تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ }، وقوله: { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ } وأكثر أعداء الرسل عرضت لهم شبهات.
ومن عرف هذا تبين له ضلال العراقي وأنه نبطي لم يمارس شيئًا من العلوم وإن قل. وقد قيل: يفسد الأديان: نصف متفقه، ويفسد اللسان: نصف نحوي، ويفسد الأبدان: نصف متطبب، فكيف ترى بالمعدم المفلس إذا خاض في العلوم وخبط فيها؟
والشيخ قيد الشبهة المانعة من التكفير ووصفها بصفة كاشفة، فقال: وقد يكون له شبهات يعذره الله فيها؛ يريد أن الكلام يخصص بالشبهة التي يعذر فيها.
والعراقي أخذ كلامه من غير نظر للقيد والوصف المانع من دخول المشركين وعباد القبور، ولما عرف أن العموم في هذا لا يتجه استدرك فقال: فإن قلت: أكثر المتأخرين على أن المخطئ في المسائل الاعتقادية يفسق ويؤثم، كالرافضة والخوارج والمعتزلة، قلنا: استدلال الشيخ من حيث الجملة في بعض المسائل المختلف فيها.
فنقول له: مسائل دعاء الصالحين والاستعانة بهم من المسائل الاعتقادية، فتدخل في الاستثناء والتفريق بينها وبين أقوال الروافض والخوارج والمعتزلة فالإخراج لها من كلام الشيخ تحكم وتهور، ولا يصير إليه من عرف الحقائق. والصواب أن عباد القبور شرّ الأصناف، وأن شبهتهم أوهن الشبه وأضعفها، وفي حديث ابن مسعود: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد" رواه أحمد في مسنده.
وهذا العراقي في إخراجه الخوارج ونحوهم من العذر بالشبهة، وقوله في عباد القبور: إنهم معذورون تابع لهواه، دائر معه في هذا ونحوه. ولو كان فيه الهلاك الأبدي والشقاء السرمدي، عياذًا بالله من جهد البلاء.
إذا عرفت أن استثناءه واستدراكه على كلام الشيخ برأي أكثر المتأخرين في عدم الاعتداد والعذر بالشبه في العقائد، فاعلم أن هذا الاستدراك مبني على فهم فاسد، وعدم تحقيق. فإن الشيخ لم يرد ما قاله العراقي من المسائل الاعتقادية التي تعلم من الدين بالضرورة. وإنما يريد ما فيه شبهة يخفى دليلها على مثل القائل بها، ولا تقوم عليه حجة يكفر مخالفها إلا بتوقيف وكشف، ولا فرق في ذلك بين المسائل الاعتقادية والعملية.
وأما مسألة عبادة القبور ودعائها مع الله، فهي مسألة وفاقية التحريم، وإجماعية المنع والتأثيم، فلم تدخل في كلام الشيخ لظهور برهانها، ووضوح أدلتها؛ وعدم اعتبار الشبهة فيها.
هذا وجه الإخراج والاستدراك، لا ما زعمه الغبي، فإن الخوارج لا يكفرهم الشيخ، ولا كثير من أهل العلم، وقد سئل علي رضي الله عنه عن الخوارج: "أكفّار هم؟ قال: من الكفر فرّوا"، فما أخرجه العراقي غير خارج، ما أدخله غير داخل، فكلامه مجرد تخبيط لا يروج على النقّاد.
وأما الذي أمر أهله أن يحرقوه ويذروه، فهذا لم تقم عليه الحجة التي يكفر مخالفها، وأهل الفترة لا يقاسون بغيرهم. والشيخ قصده أن الأصول قد يجري فيها ذلك، وليس المراد أن كل من عرضت له شبهة في الأصول يعذر بها، وسيأتيك لهذا مزيد بيان إن شاء الله.
واعلم أن المراد بقول الشيخ في المنع من تكفير أهل الأهواء ومن عرضت له شبهة يعذره الله فيها، المقصود به: العذر في الجملة، فيصدق بعدم التكفير، ولو مع وجود الفسق والعقاب كما جاء في الخوارج ونحوهم.
والشيخ قيد التكفير المنفي بقوله: أول من أحدث تكفير المسلمين أهل الأهواء. وعباد القبور ليسوا عنده بمسلمين، وصناعة العلم محظورة ممنوعة على من لم يعرف توحيد الإلهية، وفاته النصيب والحظ من الأنوار الرسالية، فإن العلم نور يقدفه الله في القلب، يبصر به صاحبه الحقائق على ما هي عليه.
وما أحسن ما قال الشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ** فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال: اعلم بأن العلم نور ** ونور الله لا يهدى لعاصي
وقول العراقي:
- ونحن مرادنا إخراج أهل السنة من التكفير في مسائل التوسل والاستغاثة بالأنبياء والصالحين، والحلف بغير الله، والنذر، ومصرفه لأماكن الأنبياء والصالحين.
وبهذا تعرف أن مراده: إخراج المشركين عباد الأولياء والصالحين من التكفير الذي أجمع عليه كافة المسلمين، وعلم إجماعهم واتفاقهم بالضرورة من الدين ومعلوم أن الشيخ لم يرد هؤلاء، كيف ولله في كل شيء آية تدل على أنه واحد.
ومسألة الحلف بغير الله، جاء فيها الحديث النبوي، وأنها من الشرك. والذي عليه الجمهور: أن الحلف بغير الله محرم لا يجوز، سواء كان بالأنبياء أو غيرهم. والنصوص المانعة من ذلك أكثرها صيغ عموم لا يجوز تخصيصها إلا بما يساويها في الظهور والدلالة والصحة، من الأحاديث النبوية.
وأما صرف النذر لأماكن الأنبياء والصالحين فمراده: قبورهم، ولكنه دلس بذكر الأماكن؛ لأنّ كلام العلماء صريح في المنع من صرف النذر لرفع القبور، وتشييدها والبناء عليها وفرشها وسترها، وإيقاد السرج عليها، وجعل السدنة لها، لما في ذلك من مضاهات اليهود والنصارى والمشركين، وما تفعله عند أوثانها وأصنامها، وهذا مجمع عليه عند الفقهاء فيما نعلم.
وأما النذر لها فهو نذر معصية باتفاق العلماء، والمعصية تصدق بالعبادة للمنذور له، ومعلوم أن إخراجه على وجه القربة والتعظيم لأهل القبور عبادة لهم وشرك، وتقرب إلى غير الله، وشرع لما لم يأذن له الله، ولم تأت به شريعة، ولم يكن من هدي السلف والقرون المفضلة، ولو قصد به المجاورين والعاكفين عند القبور، فهو غير جائز أيضًا لأنّ العكوف عند القبور وسدانتها أصل عبادة الأصنام، كما ذكره ابن عباس وغيره في الكلام على قوله تعالى: { وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا } الآية.
وأما قوله: وهذه المسائل لا يكفر فاعلها عند الشيخين، فقد مرّ ردّه.
وقوله:
- لم يذكر هذا أحد من العلماء غير الشيخين.
وقوله:
- ولو كانت هذه المسائل من الشرك المخرج لصاحبه من الملة لذكرها المفسرون.
ذكرها المفسرون وقرووها، وأطنبوا وبسطوا وكرروا، لكنهم لم يضمنوا أن يفقه كلامهم ميت القلب، جامد الذهن، بل ولا ضمن الله تعالى لهذا النوع أن يفقهوا عنه وعن رسله ما جاءوا به من البينات والهدى والحجة والشفاء. قال تعالى: { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا }، وقال تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ، وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ }، وما أحسن ما قيل:
فيا لك من آيات حق لو اهتدى ** بهن مريد الحق كن هواديا
ولكن على تلك القلوب أكنة ** فليست وإن أصغت تجيب المناديا
وقال تعالى: { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأسْمَعَهُمْ }، والقرآن كله يدل على وجوب إخلاص العبادة لله، والبراءة من عبادة ما سواه وإسلام الوجوه له على اختلاف أنواع الدلالات مطابقة وتضمنا والتزامًا، وقياسًا صحيحًا.
وأمثّل لك بما قاله العلماء في معنى البسملة وتفسيرها لتعلم أن هذا العراقي كاذب جاهل في قوله: لم يذكرها المفسرون.
من ذلك قول العلماء في باء بسم الله: إن معناها الاستعانة، ورجحوا هذا القول، لوجوه مقررة في محلها وقالوا: قد جاءت السنة بأن "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر أو أجذم أو أقطع" وذكروا فيه روايات. والمعنى: أنه لا يكمل أمر ولا يحصل تمامه إلا بذكر الله، ولا يكون أصله ولا يوجد منه شيء إلا بمعونته تعالى، قالوا: وقد قالت طائفة من أهل العلم: إن البسملة من الفاتحة. وقالت طائفة أخرى: هي آية من القرآن فاصلة بين السور. وعلى القول الأول: فالآيتان بها من العبادات الواجبة والاستعانة هي مضمونها، فتكون الاستعانة واجبة به تعالى. وعلى القول الآخر: يكون الإتيان بها مستحبًا والاستعانة بالله واجبة، لا بخصوص هذا اللفظ. ثم قالوا: إن المتعلق يتعين أن يقدر مؤخرًا، لإفادة الحصر والاختصاص. وهذا يدل على القول بوجوب الاستعانة؛ لأن ما اختص به تعالى واستحقه دون ما سواه لا يصرف لغيره، والقاعدة العربية تفيد أن تقديم المتأخر، وتأخير المتقدم: يقتضي الحصر.
فهذان موضعان يدلان على وجوب الاستعانة به وحده في أول حرف في كتاب الله، مع متعلقه.
الموضع الثالث: من الأبحاث في الباء وتأخير متعلقها، قولهم: إن الحصر هنا حصر إفراد، لا حصر قلب. ورجحه أساطينهم بأن المشركين إنما اعتقدوا الشركة لآلهتهم، لا الاستقلال، فالحصر باعتبار معتقدهم خص أفرادًا، قالوا: وأكثر الكفار اعتقدوا الشركة، لا الاستقلال، فمعنى التسمية عند الموحِّد: إفراده سبحانه بالاستعانة عما عُبد معه من الآلهة، وعلى القول بأن الاختصاص والحصر للقلب: إنما يتجه باعتبار معتقد من يدعي الاستقلال لمعبوده، كمعطلة الصانع.
البحث الرابع في اسم الله، قولهم: إنه من أله إلهة وألوهية، فهو إله فعال، بمعنى مفعول، بمعنى: عُبد يُعبد عبادة، والمستعين بغير الله متأله عابد، لا سيما فيما لا يقدر عليه إلا الله. وإذا ثبت أن الاستعانة تأله وأن التأله عبادة، فالبرهان قائم على أن العبادة لا يستحقها غيره تعالى.
الخامس: قول ابن عباس في تفسيره للاسم الشريف الأقدس: بأنه "ذو الألوهية والعبودية، على خلقه أجمعين" وقد أخذه المفسرون وقرروه واستحسنوه. فإذا كان تعالى هو صاحب ذلك ومستحقه فصرفه إلى غيره شرك، ووضع للحق في غير موضعه. وهذا يدخل فيه جميع العبادات التي يصدق عليها التأله والألوهية، والعبادة والعبودية، لا سيما الدعاء، فإنه من أجل أنواعه. قال البخاري في كتاب الإيمان: "باب دعاؤكم: إيمانكم" وساق حديث ابن عمر. وكثيرًا ما يترجم بما صح عنده وإن لم يكن على شرطه.
السادس: قولهم في اسمه "الرحمن" إنه الموصوف بغاية الرحمة ومنتهاها وأنه وصف ذات، لا ينفك عنه كسائر أوصافه الذاتية المقدسة، ودعاء غير الموصوف بهذا الوصف وقصد من دونه، والتعرض للوسائط والشفعاء، سوء ظن بصفات كماله، ونعوت جلاله، وإنما دعا إلى عبادته ودعائه والاستعانة به ما اتصف به من الصفات المقدسة، والنعوت الكاملة الجميلة. واستدلوا على ذلك بقول الخليل عليه السلام لقومه: { فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ }، قالوا: أي فما ظنكم به أن يجازيكم وقد عبدتم معه غيره؟ وما الذي ظننتم به حتى جعلتم له شركاء؟ أظننتم أنه محتاج إلى الشركاء والأعوان؟ أم ظننتم أنه يخفى عليه أحوال عباده، حتى يحتاج إلى شركاء يعرفونه بها كالملوك؟ أم لا يقدر وحده على الاستقلال بتدبيرهم وقضاء حوائجهم؟ أم هو قاس، فيحتاج إلى شفعاء يستعطفونه على عباده؟ أم ذليل فيحتاج إلى ولي يتكثر به من القلة، ويتعزز به من الذلة؟ أم محتاج إلى ولد فيتخذ صاحبة يكون الولد منه ومنها؟ تعالى الله عن ذلك كله علوًا كبيرًا، ولو قدره المشركون حق قدره لما أشركوا به.
وكذلك اسمه تعالى "الرحيم" فإنه يدل على أنه بالغ في الرحمة غايتها، وأن رحمته عمت عباده ووسعت خلقه، فما بهم من النعم والإحسان والعطايا الباطنة والظاهرة فآثار رأفته ورحمته. ومن هذا فعله وهذا وصفه كيف يعدل المضطر إلى غيره في ضروراته وحاجته وملماته؟ وفي الحديث القدسي: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم" الحديث بطوله، ومن رحمته وتودده إلى عباده: أنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا فينادي: "هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟" الحديث معروف مشهور. وفي بعض الإسرائيليات: أن الله يقول: "ابن آدم، اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كلّ شيء، وإن فتك فاتك كل شيء" وهذا قرروه بهذا المعنى في التفسير. وفي الكلام على شرح الأسماء الحسنى وفي الكلام على أحوال القلوب وسيرها، وتوجهاتها إلى الملك العلي الأعلى.
وعبارة البيضاوي في الكلام على أول فاتحة الكتاب: وإنما خص التسمية بهذه الأسماء ليعلم العارف أن المستحق لأن يستعان به في مجامع الأمور هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم كلها، عاجلها وآجلها جليلها وحقيرها، فيتوجه بشراشره إلى جناب القدس، ويتمسك بحبل التوفيق، ويشغل سره بذكره والاستمداد به عن غيره. قال البيضاوي: وإجراء هذه الأوصاف على الله تعالى: من كونه موجدًا للعالمين، ربًا لهم، منعما عليهم بالنعم كلها ظاهرها وباطنها، عاجلها وآجلها، مالكًا لأمورهم يوم الثواب والعقاب: للدلالة على أنه الحقيق بالحمد لا أحد أحق به منه، بل لا يستحقه على الحقيقة سواه، فإن ترتب الحكم على الوصف يشعر بعلِّيته له، وللإشعار من طريق المفهوم على أن من لم يتصف بتلك الصفات لا يتأهل لأن يحمحد فضلا عن أن يعبد، ليكون دليلًا على ما بعده. فالوصف الأول: لبيان ما هو الموجب للحمد، وهو الإيجاد والتربية. والثاني، والثالث: للدلالة على أنه متفضل بذلك مختار فيه، ليس يصدر منه لإيجاب بالذات أو وجوب عليه قضت به سوابق الأعمال حتى يستحق به الحمد، والرابع: لتحقيق الاختصاص، فإنه لا يقبل الشركة فيه. وتضمين الوعد اللحامدين والوعيد للمعرضين" انتهى.
وإن شئت المزيد على هذا، ولم تكتف بما ذكرناه من التمثيل بالبسملة، وما فيها من الأبحاث فنتكلم على فاتحة الكتاب بما قاله أهل العلم والتأويل لينتفع بذلك من وقف على كتابنا.
فاعلم أن الحمد على ما أفاده بعض المحقيقين ذكر محاسن المحمود على وجه الثناء عليه بها، مع محبته والرضا عنه والخضوع له. فلا يحمده من أعرض عن محبته والخضوع له، أو جعل له شريكًا في ذلك. ولا يرضى عنه من أعد غيره لحاجته وفاقته واستغاث به في شدته وضرورته. وهذا الحد أتم وأكمل من تعريف بعضهم له بأنه اصطلاحًا: فعل ينبئ عن تعظيم المنعم، لوجوه لا تخفى على الذكي. فلا نطيل بذكرها، وإذا كانت "أل" فيه للاستغراق وعموم الأفراد - كما هو الراجح - فجميع أوصاف الكمال ونعوت الجلال والجمال التي يحمد من قامت به ثابت لله أكملها لكمال صفاته وكثرتها. ولهذا لا يحصي أحد من خلقه ثناءً عليه. وبها يستدل على آلهيته وأنه الإله الحق، ولذلك يستدل الله تعالى على بطلان إلهية ما سواه بفقد صفات الكمال التي يستحق بها أن يعبد ويعظم ويقصد وحده، كما قال عن خليله في مخاطبته لأبيه: { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا }، وقال في عُبّاد العجل: { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا }، فجعل نفي صفات الكمال موجبًا لبطلان آلهيته وعبادته. وهذا يعرف بالفطر والعقول.
فهذه ثلاثة مواضع في أول كلمة من كتاب الله دلت على بطلان دعاء غيره وعبادته والاستعانة بسواه، والعبد وإن علت درجته وارتتفعت رتبته فهو فقير إلى بارئه وفاطره، لا نسبة لقدرته وعلمه وحكته وفضله وكرمه وحياته إلى ما اتصف به خالقه وإلهه الحق من صفات الكمال ونعوت الجلال. قال شيخ الإسلام:
والفقر لي وصف ذات لازم أبدًا ** كما الغنى أبدًا وصف له ذاتي
وأما اسمه "الله" فهو دال على الإلهية المتضمنة لسائر صفات الإلهية والكمال، مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى، دال بالوضع والمطابقة على كونه مألوهًا معبودًا، تألهه الخلائق محبة وتعظيمًا وخضوعًا ومفزعًا إليه في الحوائج والنوائب، بخلاف من أله سواه ممن لا يستحق الإلهية، ولم يخرج عن رتبة العبودية، وصار مفزعه في الحوائج والنوائب إليه، واعتماده في المهمات والملمات عليه، فمن كان هكذا كعبّاد الملائكة والأنبياء والصالحين، فلم يعط هذا الاسم الشريف حقه من العبودية، وإفراد الله بالإلهية.
وأمّا "الربّ" فهو دال على ربوبيته لجميع مخلوقاته، وكمال الربوبية هو بما اتصف به من صفات الكمال، كقدرته وعلمه ورحمته وقيوميته، وهو يربي عباده بالخلق والتدبير والملك وهو من أكبر الأدلة وأوضحها وأجلاها على وجوب عبادته تعالى، وأن إلهية ما سواه وعبادة غيره أبطل الباطل وأضل الضلال، ولهذا يستدل على إلهيته تعالى ووجوب توحيده بأفعاله الصادرة عن ربوبتيه، كخلقه وقيوميته. قال تعالى: { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ }، وقال تعالى: { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ }، وقال: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ }، وهذا كثير في القرآن، ولكن يحول بين عباد القبور والصالحين وفهمه ما على قلوبهم من رين الشرك وطابعه، فلا جرم قال العراقي: لم يذكر هذا أحدٌ من العلماء والمفسرين.
وأما اسمه "الرحمن" فهو كما تقدم دال على أن الرحمة وصفه وصف ذات لا ينفك عنه، ولهذا لا يطلق على غيره.
و"الرحيم" هو الراحم لعباده البالغ في إيصال الرحمة. لأن فعيل من صيغ المبالغة. لكن فعلان أبلغ. فسعة الرحمة وكثرتها وإحاطتها من أدلة عظمة الموصوف وكمال صفاته، ووجوب عبادته وإلهيته، وإنابة القلوب إليه. فالمستغيث بغيره الراغب إلى سواه فيما لا يقدر عليه غيره من الأمور المهمة العظام، وما ليس من جنس الأسباب العادية، كمن يستغيث بالأنبياء، والصالحين والملائكة، ويرجع إليهم في حاجاته وملماته: ما أعطي هذا الاسم حقه، ولا آمن به حق الإيمان الواجب. ولو استشعر شيئًا من كمال مدلوله وسعته وإحاطته لما عدل بربه سواه، ولا التفت إلى غير رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، ومشهد الأسماء الحسنى والصفات العلي مشهد عظيم لا يعرفه ويسير به إلا الصديقون العارفون بالله. وما يجب له وما يستحيل عليه، وأما من تعلق على غيره والتفت إلى سواه، وصار مبلغ علمه وغاية حذقه وفهمه تعلقه على الأولياء والصالحين ورجاء رحمتهم وإحسانهم وعطفهم. فهو محجوب عن هذا غير عارف بربّه، جاهل بصفات كماله ونعوت جلاله. قال تعالى: { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } فسجّل على من أمر بدعاء الصالحين والاستغاثة بهم بالجهالة، سواء سمي ذلك توسلًا وتشفعًا واستظهارًا وكرامة أو لم يسمه.
وأمّا { مَالِكِ يَوْمِ الدِينِ } فهو وصف كمال ومجد، يقتضي وجوب معاملته وحده لا شريك له، وإسلام الوجه له، لأنّ الاختصاص والانفراد بالملك يوجب خوفه ورجاءه وطاعته. والتعلق على المملوك المقهور الذي لا شركة له ولا ملك بوجه من الوجوه، وقصده في طلب الإعطاء والمنع، والخفض والرفع والنجاة من النار، والفوز بدار الأبرار: سفه وضلال مبين. قال تعالى: { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } وقد تمدح سبحانه باختصاصه بملك هذا اليوم في مواضع من كتابه مع أنه الملك المالك في الدنيا والآخرة لسر اقتضى ذلك، وحكمة أوجبته، وهي انقطاع كل العلائق والأسباب والمؤاخاة والوصل التي يتعامل بها أهل الدنيا في دنياهم. قال تعالى: { وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ }، فاعرف ما في هذا الخطاب من العموم، وما دل عليه التنكير من الشمول المتناول لكل معبود مع الله، ولو نبيًا أو ملكًا، وما يجري على يد الشفعاء ذلك اليوم لا يرد على الآية ولا ينفي العموم، لأنه لا يقع إلا بإذنه تعالى فيمن يرضى قوله وعمله. فعاد الأمر له جل ذكره بدءا وعودًا أولًا وآخرًا.
و"الدين" هو الجزاء والمكافأة على الأعمال حسنها وقبيحها، وما لم ينزل به سلطان ولم ترد به حجة من الأعمال والديانات، يجازي فاعله، ويعاقب إن لم يمنع مانع كتوحيد الله والإيمان به وبرسله. وأي توحيد يبقى وينفع مع عبادة الأولياء والصالحين والاستغاثة بهم، وصرف الوجوه إليهم.
قال تعالى: { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }، قال جمعٌ من العلماء: عن شهادة أن لا إله إلا الله.
وأما قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ففيها اختصاصه وانفراده بالعبادة والاستعانة وأن ذلك حق لا يشركه فيه نبي مرسل، ولا ملك مقرب. والعبادة هي الغاية المقصودة من العباد المكلفين. والاستعانة وسيلة إلى هذه الغاية المقصودة من العباد المكلفين. والمؤمنون بالرسل أخلصوا له العبادة وأفردوه بالاستعانة. فهو معبودهم ومستعانهم وجميع الأعمال داخلة في هاتين الكلمتين الشريفتين، وقد دلت صيغة الحصر والاختصاص فيهما على التوحيد. والعبد همام وحارث، لا بد له من ذلك، وهمه وحرثه غاية ووسيلة فيجب أن يكون غاية قصده ومراده وجه الله، والتماس طاعته ومرضاته، ويجب أن تكون الوسيلة إلى ذلك استعانته بخلاف من عبد غيره واستعان بسواه، أو من عبده لكن قصر وأضاع ما يحصل به مقصوده من الاستعانة، أو من استعان به ولكن على ما لا يحبه وما لم يشرعه من الأعمال الصالحة أو وسائلها. ويدخل في النوع الثاني: من تعلق على الأنبياء والصالحين عبادة واستغاثة واستعانة، كعبّاد القبور، وفي حديث ابن عباس: "ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" الحديث.
وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: "إياك أن تستعين بغير الله فيكلك الله إليه"، وقال أبو عبد الله القرشيّ" استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق" وقال غيره: "استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون" والكلام هنا يطول.
وغرضنا التنبيه على أن القرآن كله دال على التوحيد. آمر به مشير إليه مستلزم له، مقرر لوصف أهله وما لهم من الكرامة في المعاد ومبين لأحوال من تركه، ولم يرفع به رأسًا أو أشرك في عبادته. وما لهذا الصنف من الجزاء والعقاب والإهانة في الدار الآخرة.
وأما قوله: { اهْدِنَا الصِرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فهذا فيه توحيد الطريق وأن من سلك سواه وأراد الوصول من غيره فالسبل والطرق عليه مسدودة قاطعة غير موصلة. وفي حديث ابن مسعود: "خطّ لنا رسول الله خطًّا، ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن شماله، وقال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قوله تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }. إذا عرف هذا فالصراط المستقيم ما كان عليه النبي وأصحابه والتابعون لهم بإحسان من أئمة الهدى، ودعاء الأنبياء والصالحين والاستغاثة بهم والتوجه إليهم كل هذا ليس مما كان عليه النبي ولا أصحابه ولا التابعون لهم بإحسان، بل وليس عليه أحد من رسل الله ولا أوليائه، وقد توافرت النصوص وتظاهرت على المنع منه. كما سيمر بك مفصّلا، وقد مر منه جملة صالحة، فإذا كان خارجًا عن الصراط المستقيم ناهيا عنه سالكيه ومؤتميه، فهو سبيل يفضي بسالكه إلى النيران والدخل في طاعة الشيطان، وأهل هذا الصراط المستقيم دأبهم وشأنهم إفراد الله بالعبادة والاستعانة والاستغاثة والإنابة والخوف والرجاء والتوكل والاعتماد، ومباينتهم في الأوصاف خروج عن صراطهم وطريقهم، قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى:
فلواحد كن واحدا في واحد ** أعني سبيل الحق والإيمان
فسبيل الله واحد لا متعدد، ولا يمكن أن يأتي أحد بحجة وسلطان على أن دعاء الأولياء والصالحين من أهل القبور أو غيرهم مشروع مسنون أو مباح، ولا يمكن أن تأتي شريعة بهذا، وما يقوله الجاهلون من الشبه الواهية لا يعتد به؛ ولا يلتفت إليه، بل هي قاطعة عن الطريق حائلة بين أربابها وبين الصراط المستقيم، وما كان عليه النبي وما جاء به من عند الله، وإن زعموا أنها أدلة وبينات، فهي جهالات وخيالات وضلالات. وسيأتيك الكلام على ما أورده العراقي منها.
وقوله تعالى: { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَالِّينَ } فغير: صفة ونعت لما قبلها من الاسم الموصول، على ما وجهه بعض المفسرين.
والمعنى: أنّ الذين أنعم الله عليهم خالفوا وباينوا المغضوب عليهم والضالين في صفاتهم الشنيعة، وأفعالهم القبيحة، فالأولون عرفوا الحقّ ولم يتبعوه ولم يريدوه، بل آثروا أغراضهم الفاسدة وشهواتهم القاطعة، واستمتعوا بخلاقهم، ولم يعبثوا بما عداه مما فيه صلاح العبد وهداه. والآخرون غلبت عليهم الشبهات، وتاهوا في أودية الجهالات والضلالات، ولم يهتدوا إلى ما نصبه الله تعالى من الآيات الواضحات، والأدلة الظاهرات على وجوب توحيده وإلهيته وصمديته وتنزهه عن الصاحبة والولد، وأحق الناس بالوصف الأول: اليهود، وبالوصف الثاني: النصارى؛ لغلبة الوصف الأول على اليهود، وغلبة الثاني على النصارى، ولذلك جاء في حديث عدي بن حاتم: "اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون" ولكن هذا الوصف لا يختص بهم، بل كل منحرف عن الصراط المستقيم إيثارًا لهواه ورأيه فله نصيب من الوصف الأول، ومن انحرف لجهله وعدم فقهه فله نصيب من الوصف الثاني، وهذا الانحراف إن بقي معه أصل الدين الذي لا يقوم الإيمان والتوحيد إلا به فهو من أهل الذنوب من المسلمين وأمره إلى الله، وإن كان الانحراف يخل بأصل الدين والإيمان، ويمنع التوحيد، كحال من يدعو الملائكة والأنبياء والصالحين مع الله في مهماته وملماته ويعتمد عليهم، ويستغيث بهم في شدائده فهذا له حظ وافر ونصيب كامل من الضلال، قال تعالى: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } انظر هذا الاستفهام وحسن موقعه بعدما تقدم من الاستفهامات التي هي حجج وآيات على ما بعدها تعرف به فحش ما جاء به عباد القبور من دعاء آلهتهم والاستغاثة بهم في الملمات والشدائد المدلهمات وأن الجاهلية كانوا يخلصون في الشدائد، ويعترفون بأنه المختص بإجابة المضطر وكشف السوء وهؤلاء يشتد شركهم عند الضر ونزول الشدائد.
ثم من المعلوم أن أخصّ أوصاف النصارى الضالين: عبادة الأنبياء والصالحين وجعلهم شركاء لله فيما يختص به ويستحقه، وطاعة علمائهم وأحبارهم في التحليل والتحريم، المخالف لما عهد إليهم في الكتب السماوية على ألسنة أنبيائهم، وعبّادُ القبور ضربوا في هذا بسهم وافر، وحصلوا على نصيب من عبادة الأنبياء والصالحين ودعائهم مع الله استحقوا به إطلاق وصف الضلال عليهم، فيما أتو به وابتدعوه من طاعة الدعاة إلى عبادة القبور من المنتسبين إلى العبادة أو العلم.
وهذه إشارة تطلعك على ما وراءها. وفي فاتحة الكتاب والسبع والمثاني من العلوم والتوحيد والرد على أصناف الضالين وشيع المبطلين، ما لا يمكن حصره واستقصاؤه وإنما أردنا بيان كذب العراقي بقوله: لم يذكر المفسرون هذا. والتسجيل على جهله في ذلك، وليس لنا فيما مر إلا تقريبه في عبارة يفهمها الذكي والبليد، وإبرازه في قالب معناه على الطالب غير متعسر ولا بعيد، والفضل للمتقدم. ولولا الحاجة والضرورة لما تصديت لمثل هذه المباحث، خوفًا من زلة القدم، وهفوة القلم، ومعرّة الندم، وأستغفر الله العظيم من التقصير في فهم كتابه، وعدم الاشتغال بمعرفة ما يراد من حكمه وخطابه.
فصل
قال العراقي:- النقل الثالث: قال الشيخ - بعد أن سئل عمن قال: يجوز الاستغاثة بالنبي في كلّ ما يستغاث الله فيه على معنى أنه وسيلة من وسائل الله في طلب الغوث، وكذلك يستغاث بسائر الأنبياء والصالحين في كل ما يستغاث الله فيه، وأن من نفى الاستغاثة بالنبي يكفر؛ لأنه نقص من قدر وما يستحقه - إلى آخر ما قال السائل، فأجاب بجواب طويل قال في آخره: "وأمّا التوسل بالنبي ففيه حديث في السنن من رواية النسائي والترمذي وغيرهما: "أن أعرابيًّا أتى النبي فقال: يا رسول الله، إنّي أُصبت في بصري، فادع الله لي، قال له النبي : توضأ وصل ركعتين وقل: اللهم، إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد - وفي لفظ: أتوسل إليك بنبيك - يا محمد إني أتشفع بك في ردّ بصري، اللهم فشفعه فيّ، وقال له النبي : إن كان لك حاجة فمثل ذلك، فرد الله بصره" فلأجل هذا الحديث استثنى الشيخ عز الدين بن عبد السلام التوسّل به، وللناس في معنى ذلك قولان:
- أحدهما: أن هذا التوسل هذا الذي ذكره عمر بن الخطاب لما قال: "كنا نتوسل إليك بنبيك فتسقنا، وإنا نتوسل إليك بعمّ نبيك فاسقنا، فيسقون" فقد ذكر أنهم كانوا يتوسلون به في حياته في الاستسقاء ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم به هو استسقاؤهم به بحيث يدعو ويدعون معه ويكون وسيلتهم إلى الله، وهذا لم يفعله الصحابة بعد موته، ولا في مغيبه، والنبي كان في مثل ذلك شافعًا داعيًا.
- القول الثاني: أن التوسل به يكون في حياته وبعد موته ومغيبه وحضرته ولم يقل أحد إن من قال بالقول الأول فقد كفر، ولا وجه لتكفيره، فإن هذه مسألة خفية، وليس أداتها جلية، والكفر إنما يكون بإنكار ما علم من الدين بالضرورة، أو بإنكار الأحكام المجمع عليها، واختلاف الناس فيما يشرع من الدعاء وما لا يشرع كاختلافهم هل تشرع الصلاة عليه عند الذبح، وليس ذلك من مسائل السبب.
- فانظر كيف أثبت حديث الأعمى وفيه الاستغاثة بالنبي بقوله: "يا محمد" والنبي كان غائبًا؛ وقوله: "وإن كان لك حاجة فمثل ذلك" يدل على التشريع، بناء على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقول الشيخ: إن القائل بالجواز لا يكفر من قال بالمنع؛ لأن هذه المسألة ليست أدلتها ظاهرة جلية، والكفر إنما يكون بإنكار ما علم من الدين بالضرورة، والمجمع عليه المتواتر من هذه المسألة شبيهة بالصلاة عليه عند الذبح، هل تشرع أو لا تشرع؟ وجعل حكم الاستغاثة والتوسل، كالذبح واختلافهم في الصلاة عليه عنده. لا يقال: مراد الشيخ قول القائل: اللهم بجاه محمد أو بحرمته، لأنا نقول: جواب الشيخ مبني على السؤال، والسؤال إنما هو في الاستغاثة لا التوسل. وأيضًا: فالشيخ يمنع التوسل كما يمنع الاستغاثة، وإن عذر المجتهد. وجوابه هذا أخرج به نفسه من التكفير، فإنه يقول بالمنع والمجوزون يقولون: من منع فقد نقص من قدر النبي .
الأول: أن هذا العراقي تصرف في كلام الشيخ بحذف وزيادة ونقصان، وهذا هو تحريف الألفاظ والإلحاد في النقل، والخيانة في الحكاية وأول جواب الشيخ رحمه الله نص في مسألة النزاع، يبطل دعوى العراقي، ويجتث أصلها. فلذلك أعرض عنه وتركه، ونقل ما يقبل التصرف والتبديل، مع ارتباط الكلام، وهكذا صنع فيما سيمر بك من نقوله وأدلته، فما أشبهه بعبد الله بن صوريا اليهودي، لما أحضر التوراة يتلوها عند النبي لينظر حكم الله في حد الزاني بالرجم، وهم قد زعموا أن الذي في التوراة التحميم، فلما قرأ وضع يده على آية الرجم فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فإذا آية الرجم تلوح، وقد قدمت لك أن بين هذا وبين اليهود مشابهة كلية من جهة التحريف للفظ والمعنى.
إذا عرفت هذا، فأول جواب الشيخ وطالعة خطابه، قوله: الحمد لله رب العالمين. لم يقل أحد من علماء المسلمين: إنه يستغاث بشىء من المخلوقات، في كل ما يستغاث فيه بالله تعالى، لا بنبي، ولا بملك، ولا بصالح، ولا غير ذلك، بل هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، أنه لا يجوز إطلاقه.
ولم يقل أحد: إن التوسل بنبي هو استغاثة به، بل العامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بأمور، كقول أحدهم: أتوسل إليك بحق الشيخ فلان أو بحرمته، أو أتوسل إليك باللوح والقلم، أو بالكعبة، أو غير ذلك، مما يقولونه في أدعيتهم، يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، فإن المستغيث بالنبي طالب منه وسائل له، والمتوسل به لا يدعى ولا يطلب منه ولا يُسأل، وإنما يُطلب به، وكل أحد يفرق بين المدعو والمدعو به.
والاستغاثة طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون، والمخلوق يطلب منه من هذه الأمور ما يقدر عليه منها، كما قال تعالى: { وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِينِ فَعليكم النَصْرُ }، وكما قال: { فَاسْتَغَاثَهُ الذي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الذي مِنْ عَدُوِّهِ }، وكما قال تعالى: { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَقْوَى }.
وأمَّا ما لا يقدر عليه إلا الله، فلا يطلب إلا من الله؛ ولهذا كان المسلمون لا يستغيثون بالنبي ويستسقون به، ويتوسلون به، كما في صحيح البخاري: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس وقال: اللهم إنا كنا إذا أجْدَبْنَا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون.
وفي سنن أبي داود: أن رجلًا قال للنبي : إنا نستشفع بالله عليك، ونستشفع بك على الله، فقال: "شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه". فأقره على قوله: نستشفع بك على الله، وأنكر عليه قوله: نستشفع بالله عليك.
وقد اتفق المسلمون على أن نبينا شفيع يوم القيامة، وأن الخلق يطلبون منه الشفاعة، لكن عند أهل السنة أنه يشفع في أهل الكبائر، وأما عند الوعيدية فإنما يشفع في زيادة الثواب.
وقول القائل: إن من توسل إلى الله بنبي، فقال: أتوسل إليك برسولك، فقد استغاث برسوله حقيقة، في لغة العرب وجميع الأمم، قد كذب عليهم، فما يعرف هذا في لغة أحد من بنى آدم، بل الجميع يعلمون أن المستغاث مسؤول به مدعو، ويفرقون بين المسؤول والمسؤول به، سواء استغاث بالخالق أو بالمخلوق، فإنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيما يقدر على التصرف فيه، والنبي أفضل مخلوق يستغاث به في مثل ذلك.
ولو قال قائل لمن يستغيث به: أسألك بفلان، أو بحق فلان، لم يقل أحد: إنه استغاث بما توسل به، بل إنما استغاث بمن دعا، وسأله؛ ولهذا قال المصنفون في شرح أسماء الله الحسنى: إن المغيث بمعنى المجيب، لكن الإغاثة أخص بالأفعال، والإجابة أخص بالأقوال.
والتوسل إلى الله بغير نبينا - سواء سُمِّىَ استغاثة أو لم يُسَمَّ - لا يعلم أحدًا من السلف فعله، ولا روى فيه أثرًا، ولا نعلم فيه إلا ما أفتى به الشيخ من المنع.
كلّ هذا أسقطه العراقي، وضرب عنه صفحًا، لأنه شجى في حلقه وقذى في عينه وغصّة في صدره، وحذف أيضًا من آخر الجواب قول الشيخ: "وأما من قال: إن من نفي التوسل الذي سماه استغاثة بغيره كفر، وتكفير من قال بقول الشيخ عز الدين وأمثاله، فأظهر من أن يحتاج إلى جواب، بل المُكَفِّر بمثل هذه الأمور، يستحق من غليظ العقوبة والتعزير ما يستحقه أمثاله، من المفترين على الدين، لا سيما مع قول النبي : "من قال لأخيه: كافر، فقد باء بها أحدهما". وأما من قال ما لا يقدر عليه إلا الله لا يستغاث فيه إلا به، فقد قال الحق، بل لو قال كما قال أبو يزيد: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وكما قال الشيخ أبو عبد الله القرشي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون لكان قد أحسن، فإن مطلق هذا الكلام يفهم الاستغاثة المطلقة، كما قال النبي لابن عباس: "إذا سألت فاسأل اللّه، وإذا استعنت فاستعن بالله". وإذا نفي الرسول عن نفسه أمرًا كان هو الصادق المصدوق في ذلك، كما هو الصادق المصدوق في كل ما يخبر به، من نفي، وإثبات، وعلينا أن نصدقه في كل ما أخبر به من نفي وإثبات، ومن رد خبره تعظيما له، أشبه النصارى، الذي ن كذبوا المسيح في إخباره عن نفسه بالعبودية، تعظيما له، ويجوز لنا أن ننفي ما نفاه، وليس لأحد أن يقابل نفيه بنقيض ذلك البتة، والله أعلم.
فحذف العراقي هذا كله وكتمه لما فيه من إبطال مذهبه، والدفع في صدره وحف من أثناء الكلام عبارة أخرى وهي قول الشيخ في حديث الأعمى: فعلم أن النبي شفع له، فسأل الله أن يشفعه فيه.
ومن بلغ تحريفه وخيانته إلى هذا الحدّ فهو من أوفر الناس نصيبًا من قول الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } وقوله: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَاعِنُونَ } وهذه المسائل التي قررها الشيخ منسوبة إلى أحكام الكتاب مأخوذة من نصوصه.
الوجه الثاني: إن قول الشيخ: وأما التوسل بالنبي ففيه حديث في السنن لا يريد به التوسل في عرف العراقي، وعبّاد القبور. وهو دعاء المخلوق والاستغاثة به، وإنّما يريد به سؤال الله تعالى أن يشفع عبده فيه بإجابة دعائه لهذا السائل، وأرشده في هذا إلى التوسل إلى الله بالصلاة التي هي أفضل العبادات البدنية وأن يوحده بالدعاء والمسألة في أن يقبل شفاعة نبيه: أي دعاءه له، وهذا ليس الكلام فيه، وليس من توسل عباد القبور. وتقدم قول الشيخ: إن هذا لا يسمى استغاثة، وفرق بين التوسل والاستغاثة، والعراقي يسمي كل ما يفعله عبّاد القبور من العبادات توسلًا، ويسقط من كلام الشيخ ما رد عليه هذه التسمية، وأنها لا تعرف في لغة العرب ولا لغة أحد من الأمم، وقوله في الحديث: "أتوجه بعبده ورسوله، ومسألة التوجه على الله بجاه عباده ومسألته بهم مسألة معروفة مشهورة، قد تكلم فيها الأئمة وسيأتيك كلامهم فيها، وعلى كل فليست من محل النزاع، وأما قوله: "يا محمد إني أتشفع بك في ردّ بصري، اللهم شفعه فيّ" فهذه الكلمة لم تثبت في الطرق المعروفة لهذا الحديث. ولم يذكرها الترمذي وأمثاله من الحفّاظ، وليس فيها استغاثة بالنبي ، فإن هذا لايسمى استغاثة، كما قاله الشيخ فيما أسقطه العراقي؛ والداعي ليس مستغيثًا، والمغيث هو المجيب، وهذا كلام الشيخ الذي كتمه العراقي، وقال الشيخ: إن من نسبه إلى أحد من الأمم فهو كاذب.
وقول العراقي: والنبي كان غائبًا، كلام من لا يدري الحقائق؛ فليس في نفس الحديث ما يدل على الغيبة، بل فيه ما يدل على الحضور، وهو قوله: "يا محمد إني أتشفع بك"، فقوله: "والنبي كان غائبًا" زيادة عراقية ليست في الأحاديث النبوية. وقوله: "وإن كان لك حاجة فمثل ذلك" ليس فيه ما زعمه العراقي من الدلالة على التشريع لوجوه:
منها: أن الحديث فيه مقال، وقد تكلم الحافظ في سنده، والشيخ عز الدين علّق الجواز على صحة الحديث، وبين العراقي وبين الكلام في التصحيح والحكم به مفاوز تتقطع أعناق مطايا الحفاظ دونها، فكيف بالمقعدين الذين هم صفر من فنون العلم والدين؟
الوجه الثاني: أن اللفظ ليس بعام كما زعمه هذا العراقي، ثم كيف يقول هذا وهو ينكر تناول العام لإفراده ويقتصر على مورد السبب فيما يحتج عليه به من الآيات القرآنية، كما قاله لما احتج عليه بعض أصحابنا بقوله تعالى: { أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَارِ } قال: هذا في أبي لهب. فظهر أنه متلاعب، وهذا هو:
الوجه الثالث منها: أن الذي رجح الشيخ ومن وافقه من المحققين أن هذا خاص في حياته؛ لأن المقصود به شفاعته بالدعاء كما كان يستغفر لأصحابه ويدعو لهم، وهذا هو الذي فهمه الفاروق، وناهيك به، فإنه قال: "وكنّا نتوسّل إليك بنبيّنك فتسقنا" وهو في حياته كان يدعو لهم فتجاب دعوته، وبعد موته لا يشرع طلب الدعاء منه؛ لأنّ عمر عدل إلى العباس ولم ينكره منكر ولم يذهب إلى القبر الشريف أحد من أفاضل الأمة وأكابرها، مع أنّ قبره بين ظهرانيهم؛ وهذا اتفاق منهم على تصويب عمر ومتابعته، وهذا من باب التنزل مع هذا العراقي، وإلا فعدم مشروعية هذا في سائر الكتب السماوية معلوم من الدين بالضرورة.
الوجه الرابع: أن الحديث إن صحّ فهو مخصوص بالنبي عند من قال بالجواز، كابن عبد السلام، فسؤال الله بغيره لم يقل به أحد ممن حكى الشيخ قولهم بالجواز، قال الشيخ فيما تقدم ولا يعلم أحدٌ من السلف فعله؛ ولا روي فيه أثر ولا يعلم فيه إلا ما أفتى به الشيخ عز الدين من المنع؛ وعباد القبور يسألون الله بجاه من اعتقدوا فيه، بل آل الأمر إلى أن يسألوه تعالى بجاه كل من رفع قبره وجعلت عليه قبّة، بل بالبله والمجانين الذين يعتقدهم عبّاد القبور. وقد حدثني شيخنا محمد بن محمود الجزائري بداره بالإسكندرية أن مذهب الحنفية يمنع سؤال الله بجاه أحد لقوله : "لا تزكوا على الله أحدًا" وهذا مشهور عن أبي حنيفة وعن أبي يوسف وكثير من أتباعهما، هذا مع أنها مسألة أخرى غير محل النزاع، فإيراد العراقي لها هنا مغالطة، وما تمسّك به من قول الأعمى: "يا محمد" ليس هو من سؤال الغائب وندائه كما زعمه العراقي، والالتفات له مقتضيات تذكر في فن المعاني. فأي فائدة في إيراد هذا؟ ثم هذه اللفظة وهي قوله: "يا محمد" لم يخرجها أهل السنن، ولم تثبت من الطرق المشهورة لهذ الحديث.
وفي كلام الشيخ: "أن الكفر يكون بإنكار ما علم من الدين بالضرورة، وبإنكار ما أجمع عليه أو ما تواتر" وقد أعمى الله بصيرة العراقي عن هذا، كيف يكرر فيما تقدم أن دعاء القبور والتوسل بمسألة أربابها والاستغاثة بهم من مسائل الاجتهاد، التي يكفر المخطئ فيها، ولا يؤثم؟ بل هو مأجور. ثم يكتب بيده عن الشيخ الذي نسب إليه ما تقدم من إفكه أن الكفر يكون بإنكار ما علم بالضرورة أو ما أجمع عليه أو ما تواتر.
ومسألة المخلوق والاستغاثة به فيما لا يقدر عليه إلا الله تحريمها والمنع منها من الضروريات عند كل من تصور الإسلام وتحريمها مجمع عليه، والنهي عنها متواتر. فسبحان من طبع على قلبه، والذي جزم الشيخ أن أدلتها ليست ظاهرة جلية هي مسألة سؤال الله بجاه رسوله كأن يقول، ما في الحديث: "اللهم إني أتوجه إليك بنبيك أو أسألك بجاه نبيك" فالمسؤول هو الله، والمتوجه به عبده ورسوله. هذه هي أدلة جوازها خفية على القول به، فلا يكفر منكرها. وليست من مسألة المخلوقين في شيء أصلًا، وهذه هي المشبهة بالصلاة عليه عند الذبح.
وقول العراقي:
- لا يقال مراد الشيخ قول القائل: اللهم إني أسألك بجاه محمد أو بحرمته، لأنّا نقول: جواب الشيخ مبني على السؤال، والسؤال إنما هو الاستغاثة لا التوسل.
وأما كون الشيخ يعذر المجتهد في مسألة الله بجاه رسوله، فلا يلزم منه أن يعذر في الاستغاثة بالمخلوقين ودعائهم مع الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، لوضوح الأدلة المانعة هنا وخفائها في الأولى، فبطل قول العراقي. وأيضًا فالشيخ يمنع التوسل كما يمنع الاستغاثة.
فصل
قال العراقي في النقل الرابع:- قال في الفتاوى أيضًا في جواب من سأله فيمن قال: لا يستغاث بالنبي هل يحرم عليه هذا القول؟ وهل هو كافر به أم لا؟ وإن استدل بآية من كتاب الله وأحاديث النبي أم لا؟ وإذا قام الدليل من الكتاب والسنة فما يجب على من خالف ذلك والحالة هذه؟
- الجواب: الحمد لله، قد ثبت بالسنة المستفيضة، بل المتواترة، واتفاق الأمة: أن نبينا الشافع المشفع في الخلائق يوم القيامة وأن الناس يستشفعون به، ويطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربه. وأما الخوارج والمعتزلة فأنكروا شفاعته لأهل الكبائر، فهؤلاء مبتدعة ضُلال، وفي تكفيرهم نزاع وتفصيل. وأما من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة عليه، سواء سمى هذا استغاثة أو لم يسمه. وأما من أقر بشفاعته وأنكر ما كان الصحابة يفعلونه من التوسل به والاستشفاع به، فمن أنكر هذا فهو ضال مخطئ مبتدع، وفي تكفيره نزاع وتفصيل. والتوسل به نحو ذلك. ولكن قال: لا يدعى إلا الله وأن الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله لا تطلب إلا منه، مثل غفران الذنوب، وهداية القلوب، وإنزال المطر، وإنبات النبات، ونحو ذلك - فهذا مصيب في ذلك.
- روى الطبراني: "أنه كان في زمن النبي منافق، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: قوموا بنا نستغيث بالنبي من هذا المنافق، فقال النبي : "إنه لا يستغاث بى، وإنما يستغاث بالله"، فهذا إنما أراد به النبي المعنى الثاني، وهو أن يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، وإلا فالصحابة كانوا يطلبون منه الدعاء ويستسقون به، كما في البخاري عن عمر قال: "ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي يستسقي، فما ينزل حتى يجيش له الميزاب:
- وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ** ثمال اليتامى عصمة للأرامل
- وهو قول أبي طالب؛ ولهذا قال العلماء في أسماء الله تعالى: يجب على المكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله، وأن كل غوث فمن عنده، وإن كان ذلك على يد غيره فالحقيقة له ولغيره مجاز - إلى أن قال الشيخ -: والاستغاثة بمعنى أن يطلب من النبي ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم، ومن نازع في هذا المعنى فهو إما كافر إن أنكر ما يكفر به، وإما مخطئ ضال. ومن خالف ما يكون ثبت في الكتاب والسنة، فإنه يكون إما كافرًا، وإما فاسقًا، وإما عاصيا، إلا أن يكون مجتهدًا مخطئًا فيثاب على اجتهاده، ويغفر له خطؤه، وكذلك إن كان لم يبلغه العلم الذي تقوم عليه الحجة به" انتهى.
- فانظر إلى قوله: قال العلماء المصنفون في أسماء الله: يجب على المكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله، وأن كل غوث فمن عنده، وإن كان ذلك على يد غيره فالحقيقة له وبغيره مجاز" وهذه القاعدة الراسخة في قلوب المسلمين، فإذا طلبوا من أحد غير الله من أنبيائه وأوليائه فمرادهم أنهم يتسببون لهم والله هو الفاعل الحقيقي، بل عوام الناس يعرفون ذلك، وأعظم من هذا قول الشيخ رحمه الله تعالى: "والاستغاثة بمعنى أن يطلب من النبي ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيه مسلم، ومن نازع فيه فهو إما كافر أو مخطئ ضال"، والمستغيثون بالنبي طالبون منه أن يشفع لهم إلى ربهم في قضاء مآربهم بدعائه أو وسيلته، وهذا هو اللائق بمنصبه ، فتبين أن المنازع في هذا كما قاله الشيخ إما كافر أو ضال؛ فواللهِ إنّ هذه العبارة تكفي ردعًا لمن يتعرض للمسلمين في هذه الأمور.
قد اعترى هذا النقل ما قبله من التحريف والحذف والتصرف في كلام الشيخ حتى أخرجه عن مقصوده. فإنّه حذف منه ما يرد قوله ويهدم أصله. قال بعض أهل العلم: أهل السنة يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل البدع لا يكتبون إلا ما لهم.
قلت: هم لا يتجاسرون على هذا الصنيع والتصرف والخيانة غايتها ترك ما لم يوافق أصولهم ومذهبهم، بخلاف العراقي، فإنه محرّف كذّاب لا يؤمن على النقل، فحذف من هذا الجواب المختصر نحو سبعة مواضع:
الأول: قول الشيخ: "ثم اتفق أهل السنة والجماعة أنه يشفع في أهل الكبائر وأنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد". فانظر ما النكتة في حذف هذه الجملة وتفطن لذلك.
الموضع الثاني: قول الشيخ في الخوارج والمعتزلة: "لم ينكروا شفاعته للمؤمنين". والنكتة في حذف هذا أنه لم يفقه الجمع بين ما أنكروه وما أثبتوه.
الموضع الثالث: حذف ما حكاه الشيخ من توسل الصحابة واستشفاعهم بنبيهم، وأن ما كان يفعله من الدعاء لهم والاستغفار لأن هذا البيان يبطل دعواه، فحذف الأحاديث، وحذف كلام الشيخ عليها ليلبّس على الناس بأن الصحابة يتوسّلون بالرسول، والتوسّل عنده هو دعاء الرسول مع الله والاستغاثة به في حياته وبعد مماته؛ فقاتل الله الملبسين والملحدين، وما أشدّ جنايتهم على الإسلام والمسلمين؟ فإنّ الشيخ بيّنه بما رواه البخاري في صحيحه عن أنس: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا لتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون"، وفي سنن أبي داود وغيره: "أنّ أعرابيا قال للنبي : جهدت الأنفس، وجاع العيال، وهلك المال، فادع الله لنا، فإنا نستشفع بالله عليك، ونستشفع بك على الله. فسبح رسول الله حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال: "ويحك، إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك"، وذكر تمام الحديث، فأنكر قوله: "نستشفع بالله عليك"، ولم ينكر قوله: "نستشفع بك على الله"، بل أقره عليه، فعلم جوازه". كلّ هذا حذفه العراقي.
الرابع: حذف قول الشيخ: "بل هذا مما لا نزاع فيه بين المسلمين أيضًا، كما قال تعالى: { وَمَن يَغْفِرُ الذُنُوبَ إِلَّا اللهُ }، وقال: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء }، وكما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عليكم هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَمَاء وَالْأَرْضِ }، وكما قال تعالى: { وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللهِ }، وقال: { إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الذي نَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا } فالمعاني الثابتة بالكتاب والسنة يجب إثباتها، والمعاني المنتفية بالكتاب والسنة يجب نفيها، والعبارة الدالة على المعاني نفيًا وإثباتًا إن وجدت في كلام الله ورسوله، وجب إقرارها، وإن وجدت في كلام أحد وظهر مراده من ذلك رتب عليه حكمه، وإلا رجع فيه إليه. وقد يكون في كلام الله ورسوله عبارة لها معنى صحيح، لكن بعض الناس يفهم من تلك غير مراد الله ورسوله، وهذا يرد عليه فهمه".
حذف العراقي هذا كله لأن فيه تفصيلًا وفيه حكاية الإجماع بين المسلمين، أنّه لا يطلب من الرسول ولا من غيره فيما يختص به تعالى كمغفرة الذنوب وهداية القلوب والنصر على الأعداء والرزق من الأرض والسماء ونحو ذلك من أفعال الربوبية. وتقدم أن الشيخ يكفّر بإنكار ما علم من الدين بالضرورة وما تواتر الخبر به. وفيه قوله: والمعاني المنتفية بالكتاب والسنة يجب نفيها، فضرب الملحد عن هذا صفحًا وأسقط من كلام الشيخ بقصد الترويج، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون.
الخامس: مما حذف من قول الشيخ رحمه الله: قالوا ومن أسماء الله تعالى المغيث والغياث، وجاء ذكر المغيث في حديث أبي هريرة، قالوا: وأجمعت الأمة على ذلك. وقال أبو عبد الله الحليمي: "الغياث هو المغيث"، وأكثر ما يقال: غياث المستغيثين، ومعناه المدرك عباده في الشدائد إذا دعوه، ومجيبهم ومخلصهم. وفى خبر الاستسقاء في الصحيحين: "اللهم أغثنا" يقال: أغاثه إغاثة وغياثًا وغوثًا، وهذا الاسم في معنى المجيب والمستجيب، قال تعالى: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ }، إلا أنّ الإغاثة أحق بالأفعال، والاستجابة أحق بالأقوال، وقد يقع كل منهما موقع الآخر.
قالوا: الفرق بين المستغيث والداعي: أن المستغيث ينادي [بالغوث، والداعي ينادي] [5] بالمدعو والمغيث. وهذا فيه نظر؛ فإنّ من صيغة الاستغاثة: "يا الله"، "يا للمسلمين"؛ وقد روي عن معروف الكرخي أنه كان يكثر أن يقول: "واغوثا بالله"، ويقول: "إني سمعت الله يقول: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } "، وفي الدعاء المأثور: "يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك". والاستغاثة برحمته استغاثة به في الحقيقة، كما أن الاستعاذة بصفاته استعاذة به في الحقيقة، وكما أن القسم بصفاته قسم به في الحقيقة، ففي الحديث: "أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق"، وفيه "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك".
ولهذا استدل الأئمة فيما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق بقوله: "أعوذ بكلمات الله التامات" قالوا: والاستعاذة لا تصلح بالمخلوق، وكذلك القَسَم، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي قال: "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت"، وفى لفظ: "من حلف بغير الله فقد أشرك" رواه الترمذي وصححه. ثم قد ثبت في الصحيح: الحلف بـ " عزة الله"، و بـ " عمر الله"، ونحو ذلك مما اتفق المسلمون على أنه ليس من الحلف بغير الله الذي نهى عنه.
كل هذا حذفه العراقي وأسقطه، لما فيه من رد كلامه، وهدم أساسه، وقد بين فيه الشيخ معى الإغاثة، وأن الله هو المغيث، والفرق بينه وبين الداعي، وفيه أن الاستغاثة لا تصح بالمخلوق، وهي نوع من الدعاء وكذلك القسم وأسقط العراقي هذا كله.
الموضع السادس: حذف قول الشيخ: "وأما بالمعنى الذي نفاها النبي فهو أيضًا مما يجب نفيها، ومن أثبت لغير لله ما لا يكون إلا لله فهو أيضًا كافر إذا قامت عليه الحجة، ومن هذا الباب قول أبي يزيد البسطامي: "استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق"، وقال الشيخ أبو عبد الله القرشي: "استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون". وفى دعاء موسى عليه السلام: "اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله"، ولما كان هذا المعنى هو المفهوم عند الإطلاق وكان مختصًا بالله، صح إطلاق نفيه عما سواه؛ ولهذا لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين أنه جوَّز مطلق الاستغاثة بغير الله، وكذا الاستعانة أيضا، منها ما لا يصح إلا لله، وهى المشار إليها بقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فإنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا الله. وقد يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه، وكذلك الاستنصار، قال تعالى: { وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِينِ فَعَلَيْكُمُ النَصْرُ }، والنصر المطلق هو به ما يغلب العدو ولا يقدر عليه إلا الله".
فهذا حذفه كلّه، واقتصر على قول الشيخ: "والاستغاثة أن يطلب من الرسول ما هو اللائق بمنصبه، لا ينازع فيها مسلم، ومن نازع في هذا المعنى فهو إما كافر إن أنكر ما يكفر به، وإلا مخطئ ضال".
حذف ما بعد هذه العبارة وظنّ أنها تؤيد مذهب عبّاد القبور، وأن منصب الرسالة يقتضي أن يدعى مع الله ويستغاث به الاستغاثة المطلقة، كما يفعل من يستغيث بالمسيح وأمه والملائكة؛ هذا فهم العراقي. والشيخ قد فصل وبين ما يليق بالمنصب الشريف وما يختص بمقام الربوبية، فأسقط ما لا يقبل التحريف وأثبت ما حرفه وألحد فيه.
وهذا الجواب حجّة لشيخنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيره من أهل الإسلام. وهذا مما يفضح هذا العراقي وشيعته من عبّاد القبور. وأسقط قول أبي يزيد البسطامي وقول أبي عبد الله القرشي في الاستغاثة بالمخلوق لأنه يهدم أصله ويبين زيفه وتحريفه. وأسقط دعاء موسى عليه السلام، لما فيه من حصر المشتكي وحصر الاستعانة والاستغاثة. والعراقي لا يرى حصر ذلك بل يرى أن الاستغاثة والاستعانة والشكوى لغير الله مما يستحب في الكتاب والسنة، ولو كان المستغاث والمستعان بهم أمواتًا وغائبين؛ فلم يجد من الحيل لما أصاب الحديث مقاتله إلا أن أسقطه ومحاه. فالحمد لله على تأييد دينه ونصر عباده الموحدين.
ومن المحذوف قوله: "ولهذا لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين أنه جوّز مطلق الاستغاثة بغير الله، وكذلك الاستعانة أيضًا منها ما لا يصلح إلا لله، وهي المشار إليها بقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نِسْتَعِينُ } " خاف العراقي من هذا؛ لأنّه يأتي على كلّ ما ذكر، فيهدم أصله، ويسقط ما بناه من الشبه.
الموضع السابع: حذف كلام الشيخ على قيام الحجة، قال رحمه الله: "فإن الله يقول: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا }. وأما إذا قامت عليه الحجة الثابتة بالكتاب والسنة فخالفها: فإنه يعاقب بحسب ذلك".
قلت: فهذا صريح في عقاب من قامت عليه الحجة في مسألة النزاع، وهي دعاء الصالحين مع الله. وهذا دأب هذا الملحد، يكذب على أهل العلم، ويلحد في آيات الله وفي أحاديث رسوله. والله الموعد بيننا وبينه: { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ }.
وأما قوله بعد حكاية كلام الشيخ: "في أنّ كلّ غوث فمن عنده تعالى، وإن كان ذلك على يد غيره، فالحقيقة له ولغيره مجاز":
قال العراقي: "وهذه القاعدة هي الراسخة في قلوب المسلمين، فإذا طلبوا من أحد غير الله من أنبيائه وأوليائه فمرادهم أنهم يتسببون لهم، والله هو الفاعل الحقيقي، بل عوام الناس يعرفون ذلك".
فجواب هذا أن يقال: ليس هذا هو الراسخ في قلوب عباد القبور، فإن أقوالهم وأدعيتهم وتوجهاتهم صريحة في أن مدعوهم ومستغاثهم مع الله يعطي ويمنع ويخفض ويرفع، ويقضي حاجة من دعاه، ويجبر من لاذ بحماه، ولا تستبين العقائد وما في القلوب إلا بترجمة المترجم وعنوان المعبر وهو اللسان، قال الشاعر:
إنّ البيان لفي الفؤاد وإنما ** جعل اللسان على الفؤاد دليلًا
وقد قرّر الفقهاء، وأهل العلم في باب الردة وغيرها أن الألفاظ الصريحة يجري حكمها وما تقتضيه وإن زعم المتكلم بها أنه قصد ما يخالف ظاهرها.
وهذا صريح في كلامهم يعرفه كل ممارس، ولكن الهوى أحال عقول عبّاد القبور وفهومهم عن مستقرها.
وأيضًا فإطلاق السبب ليس عذرًا مبيحًا لدعاء غير الله والاستغاثة به فإن المشركين قصدوا السبب ليس إلا، كما حكى الله عنهم ذلك في مواضع من كتابه، ولم يريدوا أنها فاعلة مستقلة، بل اعترفوا بالفعل والاستقلال لله تعالى، وقد مرّت أدلة ذلك، وتأتيك في مواضعها إن شاء الله تعالى فبطل كلامه.
وإن سلمنا الدعوى وأنه إنما أراد السبب، فهذا الموضع هو منشأ الغلط، فإن القوم لم يفرقوا بين توحيد الإلهية الذي هو إفراد الله سبحانه بالدعاء والاستعانة والخوف والرجاء والحب والإنابة والذل والخضوع، وظنوا أن هذا لا يكون شركًا إلا إذا اعتقد فاعله أن غير الله مستقل مدبر مؤثر، وإلا فلا شرك على زعم هؤلاء الضلال، وقد تقدم أنّ عبّاد القبور أو جمهورهم صرّحوا بأن المشايخ والأولياء يتصرفون، فراجع ما مرّ من حكاية معتقدهم، فالعراقي كاذب، وعلى تسليم صدقه فهو قول المشركين من جاهلية العرب سواء بسواء.
وأما قوله:
- وأعظم من هذا قول الشيخ رحمه الله: والاستغاثة بمعنى أن يطلب من النبي ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيه مسلم، ومن نازع فيه فهو إما كافر أو مخطئ ضال. والمسلمون المستغيثون بالنبي طالبون منه أن يشفع لهم إلى ربهم في قضاء مآربهم بدعائه أو وسيلته. وهذا هو اللائق بمنصبه فتبين أن المنازع في هذا كما قال الشيخ: إما كافر أو ضال، فوالله إن هذه العبارة تكفي ردعًا لمن يتعرض للمسلمين في هذه الأمور.
الفرق بين اللائق بمنصبه، وما لا يليق إلا بمقام الربوبية ومرتبة الإلهية موضح في الكتاب والسنة، وهو الأصل المهم، وهو الزبدة المقصودة، فإن المرجع لتفسير كلام الشيخ وعبارته إليه نفسه، فقد فسر ذلك وبيّنه ووضّح اللائق بمنصبه بما مر في حديث أنس، وما مرّ من رواية أبي داود وغيره، ولكن أنت أيها العراقي أبيت هذا البيان والتفصيل، وفررت منه كالحمر المستنفرة، وموهت على الجهّال بأول العبارة، وتركت ما قبلها وما بعدها، وقد سقنا العبارة برمتها، والواقف عليها يعرف مراد الشيخ وما هو اللائق بالمنصب النبوي، لأنه موضح فيما مر. وإن رجعنا إلى الأصل الأصيل ونظرنا إلى الكتاب والسنة عرفنا ما يليق بمنصبه من الإيمان به والتصديق له، وتعزيره وتوقيره ومحبته وتحكيمه والرضى بحكمه والتسليم له ونصرته والذب عن سنته وجهاد من أشرك به وغلا فيه، وطلب منه ما لا يليق إلا بالحي الحاضر، كالدعاء والاستغفار، وعرفنا أيضًا ما هو اللائق برتبة الربوبية وما هو المختص لمستحق الألوهية والعبودية من الحب والذل والتعظيم والاستغاثة والاستعاذة والاستعانة، والخوف والرجاء ونحو ذلك من العبادات المختصة اللائقة بالله، وكل جملة من هذه الجمل قد مرت بك أو يمر دليلها فلا نطيل بتكراره، والشيخ يكفر أو يضلل من نازع فيما يليق بالمنصب النبوي.
وأما من قال: "لا يدعى إلا الله، ولا يستغاث إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، " فهذا محق عرف الحق، وما يجب لله وما يليق بعبده ورسوله ، فهذه العبارة تكفي ردعًا لمن يتعرض للموحّدين المسلمين لأنها تؤيدهم، وليست ردعًا لمن يتعرض لعبّاد القبور المحرفين الكلم عن مواضعه، والملحدين في آياته، وإن روّجوا على الناس بأنهم مسلمون: { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَمِيعُ الْعَلِيمُ }.
فصل
قال العراقي:- النقل الخامس، قال في اقتضاء الصراط المستقيم: صارت النذور المحرمة مأكلًا للسدنة والمجاورين والعاكفين على بعض المشاهد وغيرها، وأولئك الناذرون يقول أحدهم: مرضت فنذرت، ويقول الآخر: خرج المحاربون فنذرت، وقد قام في نفوسهم أن هذه النذور هي السبب في حصول مطلوبهم ودفع مرهوبهم، بل تجد كثيرا من الناس يقولون: إن المشهد الفلاني والمكان الفلاني يقبل النذر بمعنى أنهم نذروا له نذورًا فقضيت حاجتهم - إلى أن قال -: وما روي أن رجلًا جاء النبي فشكى إليه الجدب عام الرمادة، فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر فيأمره أن يخرج يستسقي بالناس، قال: ومثل هذا يقع كثيرًا لمن هو دون النبي وأعرف من هذا وقائع. وكذلك سؤال بعضهم للنبي حاجة أو غيره من أمته، فتقضى هذا يوقع كثيرًا. ولكن عليك أن تعلم أن إجابة النبي أو غيره من أمته لهؤلاء السائلين الملحين لما هم عليه من ضيق الحال لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم، كما أنّ السائلين له في الحياة كانوا كذلك" انتهى.
- فانظر إلى تسليمه رحمه الله للآثار الواقعة والأخبار الواردة في هذه الوقائع، فإنّ عام الرمادة الذي يشير إليه الشيخ هو ما رواه البيهقي وابن أبي شيبة بسند صحيح عن مالك الدارمي - وكان خازن عمر - قال: "أصاب الناس قحط في زمن عمر بن الخطّاب، فجاء رجل إلى قبر النبي ، فقال: يا رسول الله استسق لأمّتك، فإنّهم قد هلكوا فأتاه رسول الله في المنام، فقال له: ائت عمر، واقرأه السلام، وأخبره أنهم مسقون" إلى آخر الحديث، وسيأتيك في الأدلة، ويسمون تلك السنة: عام الرمادة، لكن عند الشيخ باجتهاده لا يستحب، وعند غيره من جماهير الأمة قام الدليل على الاستحباب لهذا الأثر، وحديث الأعمى وغيرهما. ثم إن الشيخ أثبت قضاء الحوائج من أهل القبور كالأنبياء والأولياء من أمته، وأنه واقع كثيرًا وأن رحمته للسائلين لئلا يضطرب إيمانهم، فلا ينبغي أن ينسب إلى هذا الشيخ ما هو بريء منه مثل تكفير الناس وتفسيقهم.
- النقل السابع: قال في اقتضاء الصراط المستقيم: "وكذلك ما حكى لنا أن بعض المجاورين بالمدينة أتى إلى قبر النبي فاشتهى نوعًا من الأطعمة، فجاء بعض الهاشميين إليه فقال: إن النبي بعث إليك ذلك، وأعطاه الطعام، وقال: إنه يقول لك: من يكون عندنا لا يشتهي مثل هذا، اخرج من عندنا. وآخرون قضيت حوائجهم ولم يقل لهم مثل هذا لاجتهادهم أو تقليدهم، أو قصورهم في العلم؛ فإنه يغفر للجاهل مالا يغفر لغيره كما حكى عن برخ العابد الذي استسقى في بني إسرائيل" انتهى.
ثم قال العراقي:
- الثامن قال أيضًا في اقتضاء الصراط المستقيم: "وقد يعمل الرجل العمل الذي يعتقده صالحًا ولا يكون عالما أنه منهي عنه، فيثاب على حسن قصده، ويعفى عنه، لعدم علمه، وهذا باب واسع، ثم الفاعل قد يكون متأولا أو مجتهدًا مخطئًا أو مقلدًا، فيغفر له خطؤه، ويثاب على ما يفعله من الخير المشروع المقرون بغير المشروع في المجتهد المخطئ، وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع". انتهى.
ثم قال:
- النقل التاسع: قال الشيخ في هذا الكتاب أيضًا: "وقد علمت جماعة ممن سأل المقبورين من الأنبياء والصالحين، فقضيت حاجتهم، وهو لا يخرج عمّا ذكرته". انتهى.
- النقل العاشر قوله: "ولا يدخل في هذا الباب ما يروى من أنّ قومًا سمعوا رد السلام من قبر النبي أو قبور غيره من الصالحين، وأن سعيد بن المسيب كان يسمع الأذان من القبر ليالي الحرة ونحو ذلك. فهذا كله حق ليس مما نحن فيه والأمر أجل من ذلك وأعظم، وكذلك ما يروى: أنّ رجلًا جاء إلى قبر النبي فشكى إليه الجدب عام الرمادة، فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر فيأمره أن يخرج يستسقي بالناس، ومثل هذا يقع كثيرا ممن هو دون النبي وأعرف من هذا وقائع. وكذلك سؤال بعضهم النبي أو لغيره من أمته حاجة فإن هذا قد وقع كثيرًا - وليس هو مما نحن فيه. وعليك أن تعلم أن إجابة النبي وغيره لهؤلاء السائلين ليس مما يدل على استحباب السؤال؛ فإنه هو القائل: "إن أحدهم يسألني المسألة فأعطيه إياها فيخرج يتأبطها نارًا. فقالوا: يا رسول الله فلم تعطِهم؟ قال: يأبون إلا أن يسألوني، ويأبى الله لي البخل". وأكثر هؤلاء السائلين الملحين لما هم عليه من الحال لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم كما أن السائلين له في الحياة كانوا كذلك. فهذا القدر إذا وقع يكون كرامة لصاحب القبر، أما أنه يدل على حسن حال السائل فلا" انتهى.
قلت: قد حرّف العراقي كلام الشيخ، والشيخ قصده أن الإجابة قد تكون كرامة لصاحب القبر، وليس المقصود سؤال الميت كما زعم هذا الملحد، بل المسؤول لا يكون كرامة، كما قال الشيخ بعد هذا الموضع في هذا الكتاب بعينه: "ثم من غرور هؤلاء وأشباههم أن استجابة مثل هذا الدعاء كرامة من الله لعبده، وليس هو في الحقيقة كرامة، وإنما يشبه الكرامة، والكرامة في الحقيقة ما نفعت في الآخرة".
ثم قال العراقي:
- النقل الحادي عشر في اقتضاء الصراط المستقيم: "ومن هذا أني أعرف رجالًا يستغيثون ببعض الأحياء أو ببعض الأموات، فيراه يحول بينه وبين إيذاء أولئك، وربما رآه ضاربًا له بسيف وإن كان الحال لا شعور له بذلك. وإنما ذلك من فعل الله سبحانه بسبب يكون بين المقصود وبين الرجل الدافع من أتباعه له في طاعة الله، فيما يأمره به من طاعة الله أو نحو ذلك، فهذا قريب" انتهى.
- ووجه قربه أنه كرامة، وهو من فعل الله، والمجوزون لذلك يقولون: إن الله هو الفاعل وذلك المستغاث يكون سببًا ووسيلة، ولا ينكر هذا حتى العوام؛ فإنهم لا يقولون إن ذلك المستغاث يفعله بنفسه استقلالا، بل هو من الله تعالى وبأمره وبإذنه.
- النقل الثاني عشر: قال في هذا الكتاب: "وكذلك ما يذكر من الكرامات وخوارق العادات التي توجد عند قبور الأنبياء والصالحين، مثل نزول الأنوار والملائكة عندها، وتوقي الشياطين والبهائم لها، واندفاع النار عنها وعمن يجاورها، وشفاعة بعضهم في جيرانه من الموتى، واستحباب الدفن عند بعضهم وحصول الأنس والسكينة عندها، فجنس هذا حق ليس مما نحن فيه. وفي قبور الأنبياء والصالحين من كرامة الله ورحمته وما لها عند الله من الحرمة والكرامة فوق ما يتوهمه أكثر الخلق. وكل هذا لا يقتضي استحباب الصلاة أو قصد الدعاء والنسك عندها، لما في قصد العبادات عندها من المفاسد التي علمها الشارع كما تقدم. فذكرت هذه الأمور لأنها مما يتوهم معارضته لما قدمناه وليس كذلك".
وحاصل ما احتج به هذا الجاهل قول الشيخ: وما روي أن رجلًا جاء إلى النبي فشكى إليه الجدب عام الرمادة، وأن مثل هذا يقع كثيرًا لمن هو دون النبي وأعرف من هذا وقائع، وكذلك سؤال بعضهم للنبي حاجة أو غيره من أمته فتقضى لهؤلاء السائلين الملحين ولو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم. وكذلك من أتى إلى القبر واشتهى نوعًا من الأطعمة، فجاء إليه بعض الهاشميين به، وقال: إنه يقول: من يكون عندنا لا يشتهي مثل ذلك، اخرج من عندنا، وآخرون قضيت حوائجهم لاجتهادهم، وتقليدهم وقصورهم في العلم فإنه يغفر للجاهل ما لا يغفر لغيره. فزعم العراقي أن هذا دليل على جواز الطلب من أصحاب القبور.
وكذلك في دليله الثامن: نقل عن الشيخ: "وقد يعمل الرجل العمل الذي يعتقده صالحًا ولا يكون عالما أنه منهي عنه، فيثاب على حسن قصده، ويعفى عنه"، والنقل التاسع والعاشر نحو هذا، ونقل قول الشيخ: "وهذا ليس مما نحن فيه" ولم يفهم أن هذا يرد عليه ما نقل، وأن الكلام في التشريع وتقرير المنع والتحريم ليس في الأمور القدرية والحوادث الكونية، ولم يفقه مراد الشيخ ومقصوده.
وحينئذ فنقول في جوابه:
لا بد من مقدمة نقدمها قبل الجواب ليعلم الواقف على كتابنا ما صنع هؤلاء القبوريون من التحريف والتبديل لدين الله، والكذب على أهل العلم، فنقول:
موضوع هذا الكتاب الذي نقل منه العراقي في بيان النهي عن التشبه بالكفار في أعيادهم وما جاءت به الشريعة من مخالفتهم ومخالفة الأعاجم والمشركين في هديهم وزيّهم وما هم عليه من الأوصاف المقتضية لغضب الله والطرائق الضالة الموجبة لسخط الله ومقته، وبالأخص مسألة الغلو في الأنبياء والصالحين وما يفعله أهل الكتاب من الضلال الواضح المستبين؛ وقرّر أدلة ذلك وقواعده، وأصوله ووسائله وذرائعه وذكر من النصوص والآثار والاعتبار ما فيه كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وأما ما نقله العراقي من هذا الكتاب فهي أسئلة وإيرادات أوردها الشيخ بقصد ردها ودفعها والجواب عنها، لئلا يغتر بها الغالون ويشبه بها المحرفون، فأخذ العراقي تلك الإيرادات وانتزعها من الكلام وترك جوابها وكشفها بما قبلها وبما بعدها، وموّه على الجهّال والأغمار بأنّ الشيخ ذكر هذا في كتابه، وهذا من جنس لي الألسن بالكتاب الذي وصف الله به اليهود في قوله تعالى: { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ }، وقد فسّر بهذا الجنس، وأن منه إقامة ما يظن أنه حجة في الدين وليس بحجّة، بل هذا أبلغ ما فسروا به ليّ الألسن، فإنه من جنس ما جرى لكثير من الفسّاق والكفّار في أخذ بعض الكلام أو كلمة فقط في الجملة، ويدعون تمامها وما ارتبط بها، حتى أنشد بعضهم:
دع المساجد للعبّاد تسكنها ** واذهب بنا إلى حانة الخمّار يسقينا
ما قال ربك ويل للأولى سكروا ** بل قال ربك ويل للمصلينا
ولا يتبين لك ما قلناه إلا بسياق كلام الشيخ في هذا المبحث، فإنه رحمه الله ذكر مشابهة المغضوب عليهم والضالين في أعيادهم الزمانية وقرّر ما في ذلك من المفاسد الموجبة للخروج عن الصراط المستقيم بعد ما مهّد جملة من القواعد الكلية العامة والمسائل المفيدة التامة، وقرّر وأطال وبحث وأجاد المقال، ثم ذكر فصلًا في الأعياد المكانية، وقسمها كالزمانية إلى ثلاثة أقسام، أحدها: مكان لا فضل له في الشريعة أصلًا ولا فيه ما يوجب تفضيله، بل هو كسائر الأمكنة أو دونها، فقصد ذلك المكان أو قصد الاجتماع فيه لصلاة أو دعاء أو ذكر أو غير ذلك ضلال مبين، ثم إن كان به بعض آثار الكفار من اليهود والنصارى أو غيرهم، صار أقبح وأشنع، وأدخل هذا الباب والباب قبله في مشابهة الكفار، وهذا نوع لا يمكن ضبطه، بخلاف الزماني، فإنه محصور. وهذا الضرب أقبح من الذي قبله، فإن هذا يشبه عبادة الأوثان أو هو ذريعة إليها أو نوع من عبادة الأوثان، كانوا يقصدون بقعة بعينها لتمثال هناك أو غير تمثال. يعتقدون أن ذلك يقربهم إلى الله، وكانت الطواغيت الكبار التي يشد إليها الرحال ثلاث: اللات، والعزّى، ومناة الثالثة الأخرى، كما ذكر الله تعالى في كتابه العزيز حيث قال: { أَفَرَأَيْتُمُ اللَاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَالِثَةَ الْأُخْرَى، أَلَكُمُ الذَكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى } كل واحدة من الثلاثة لمصر من أمصار العرب، والأمصار التي كانت من ناحية الحرم ومواقيت الحج ثلاثة: مكة والمدينة والطائف، فكانت اللات لأهل الطائف، وذكروا أنه كان في الأصل رجلًا صالحًا يلت السويق للحاجّ فلمّا مات عكفوا على قبره مدة ثم اتخذوا تمثاله، ثم بنوا عليه بنية سموها بيت الربة، وقصتها معروفة لما بعث النبي لهدمها حين افتتحت الطائف بعد مكة سنة تسع من الهجرة. وأما العزّى فكانت لأهل مكة قريبًا من عرفات هناك شجرة يذبحون عندها ويدعون، فبعث النبي خالد بن الوليد عقب فتح مكة فأزالها وقسم النبي مالها وخرجت منها شيطانة ناشزة شعرها فيئست الجزيرة [؟] أن تعبد في الجزيرة بعد ذلك، وأما مناة فكانت لأهل المدينة، بهلون لها بالمشلل شركًا بالله، وكانت حذو قديد، الجبل الذي بين مكة والمدينة من ناحية الساحل. ومن أراد أن يعلم كيف كانت أحوال المشركين ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمّه الله وأنواعه حتى يتبين له تأويل القرآن ويعرف ما كرهه الله ورسوله، فلينظر سيرة النبي وأحوال العرب وما ذكره الأزرقي في أخبار مكة وغيره من العلماء.
ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم ويسمونها ذات أنواط قال بعض الناس: "يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال: الله أكبر قلتم كما قال موسى لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، ثم قال: إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم" فأنكر النبي مجرد مشابهتهم الكفار في اتخاذ شجرة يستظلون بها معلقين عليها سلاحهم، فكيف بما هو أطم من ذلك من مشابهة المشركين أو هو الشرك بعينه؟ فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها، ولم تستحب الشريعة ذلك فهو من المنكرات وبعضه أشد من بعض سواء كانت البقعة شجرة أو عين ماء أو قناة جارية أو جبلا أو مغارة، وسواء قصدها ليصلي عندها أو ليدعو عندها أو ليقرأ عندها، أو ليذكر الله سبحانه، أو ليتنسّك عندها، بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادات التي لم يشرع تخصيص تلك البقعة به لا عينا ولا نوعا - ثم ذكر النذر لتلك الأماكن وقرّر تحريمه والمنع منه، ولو للمجاورين والسدنة العاكفين، وقرّر مشابهتهم للسدنة التي كانت للات والعزّى ومناة، يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله، وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان، وسدنة الأبدال التي بالهند - ثم قال: فمن هذه الأمكنة عدّة أمكنة بدمشق مثل: مشهد لأبي بن كعب خارج الباب الشرقي، ولا خلاف بين أهل العلم أن أبي بن كعب إنما توفي بالمدينة ولم يمت بدمشق، وكذلك مكان بالحائط القبلي بجامع دمشق يقال: إن فيه قبر هود عليه السلام، وما علمتُ أحدًا ذكر أن هودًا النبي مات بدمشق، بل قد قيل: إنه مات باليمن، وقيل: بمكة؛ فإن مبعثه كان باليمن ومهاجره بعد هلاك قومه إلى مكة - وعدّ جملة من المشاهد المكذوبة بدمشق ومصر والحجاز - ثم قال: هذه البقاع التي يعتقد لها خصيصة كائنة ما كانت، فإن تعظيم مكان لم يعظمه الشرع شر من تعظيم زمان لم يعظمه. فإن تعظيم الأجسام بالعبادة عندها أقرب إلى عبادة الأوثان من تعظيم الزمان، حتى إن الذي ينبغي تجنب الصلاة عندها وإن كان المصلي لا يقصد تعظيمها؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى تخصيصها بالصلاة فيها، كما ينهى عن الصلاة عند القبور المحققة، وإن لم يكن المصلي يقصد الصلاة لأجلها. - إلى أن قال -: وهذه المشاهد الباطلة إنما وضعت مضاهاة لبيوت الله وتعظيمًا لما لم يعظمه الله وعكوفًا على أشياء لا تنفع ولا تضر، وصدًا للخلق عن سبيل الله. وهي عبادته وحده لا شريك له بما شرعه الله على لسان رسوله ، واتخاذها عيدًا والاجتماع عندها واعتياد قصدها؛ فإن العيد من المعاودة - إلى أن قال -: وأكثر ما تجد الحكايات المتعلقة بهذا عند السدنة والمجاورين لها الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله، وقد يحكى من الحكايات التي فيها تأثير مثل: أن رجلا دعا عندها فاستجيب له، أو نذر لها إن قضى الله حاجته فقضيت حاجته ونحو ذلك. وبمثل هذه الأمور كانت تعبد الأصنام؛ فإن القوم أحيانًا كانوا يخاطبون من الأوثان، وربما تقضي حوائجهم إذا قصدوها، وكذلك يجري لأهل الأبدال من أهل الهند وغيرهم، وربما قيست على ما شرع الله تعظيمه من بيته المحجوج والحجر الأسود الذي شرع الله استلامه وتقبيله كأنه يمينه. والمساجد التي هي بيوته، وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس وبمثل هذه الشبهات حدث الشرك في أهل الأرض.
قلت: فأين العراقي عن هذه العبارة التي فيها أن الاستدلال باستجابة الدعاء وقضاء الحاجة من الشبهات التي حدث الشرك في الأرض بسببها؟
ثم قال الشيخ: وأما إجابة الدعاء فقد يكون سببه اضطرار الداعي وصدقه. وقد يكون سبه مجرد رحمة الله، وقد يكون أمرًا قضاه الله لا لأجل دعائه، وقد يكون له أسباب أخرى وإن كانت فتنة في حقّ الداعي، فإنّا نعلم أن الكفار قد يستجاب لهم، فيسقون وينصرون ويعافون ويرزقون مع دعائهم عند أوثانهم وتوسلهم، وقد قال سبحانه وتعالى: { كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا }، وقال تعالى: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا }، وأسباب المقدورات فيها أمور يطول تعدادها. ليس هذا موضع تفصيلها، وإنما على الخلق اتباع ما بعث الله به المرسلين، والعلم بأن فيه خير الدنيا والآخرة، ثم قال:
فصل
النوع الثاني من الأمكنة: ما له خصيصة، لكن لا يقتضي اتخاذه عيدا ولا الصلاة ونحوها من العبادات عنده؛ فمن هذه: قبور الأنبياء والصالحين وقد جاء عن النبي والسلف النهي عن اتخاذها عيدًا، عموما وخصوصا بين معنى العيد - ثم ساق حديث أبي هريرة في النهي عن اتخاذ قبره عيدًا، وصحّح الحديث، وجزم بأنّ كل جملة منه رويت عن النبي بأسانيد معروفة، وساق طرفًا من ذلك وقرّر وأفاد، ثم ذكر استحباب زيارة القبور الشرعية، وساق الأحاديث في ذلك، وذكر حرمة قبر المسلم، ثم ذكر مسألة السفر لقبور الأنبياء والصالحين هل هو جائز يباح فيه قصر الصلاة أو هو معصية لا يجوز فيه قصر الصلاة؟ وذكر في المسألة قولين لأهل العلم ورجّح المنع لحديث: "لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد" ثم ذكر الصلاة عند القبور مطلقًا، وبناء المساجد عليها، وساق الأحاديث والنصوص المانعة من ذلك، وما فيها من التغليظ، وذكر ذلك عن عامة علماء الطوائف، وذكر الأحاديث التي فيها لعن من فعله من أهل الكتابين. ثم قال -: فهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين والملوك وغيرهم يتعين إزالتها بهدم أو بغيره، هذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين - ثم ذكر العلة في تحريم الصلاة عند القبور، وإنذها ذريعة إلى تعظيم من فيها بالعبادة، وإنّها مظنة لاتخاذها أوثانًا، كما قال الشافعي رحمه الله: "أكره أن يعظم مخلوق، حتى يجعل قبره مسجدًا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس"، وذكر هذا عن أبي بكر الأثرم وغيره من أصحاب أحمد وسائر العلماء، ثم ردّ تعليل بعضهم النهي عن اتخاذ القبور مساجد بالنجاسة أو مظنتها، ورده بوجوه منها: أن قبور الأنبياء أطهر البقاع، وقد لعن من اتخذها مساجد، وتواتر الحديث بذلك، وبوجوه غير هذا ذكرها وقرّرها. وذكر أن سبب عبادة اللات تعظيم قبره، وكذلك ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر أسماء قوم صالحين بين آدم ونوح عليهما السلام، وصوروا تماثيلهم ثم عبدوهم. قال: وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع، وهي التي أوقعت كثيرًا من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك؛ فإنّ النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين وبتماثيل يزعمون أنها طلاسم للكواكب، ونحو ذلك. فإن يشرك بقبر الرجل الذي يعتقد نبوته أو صلاحه أعظم من أن يشرك بخشبة أو حجر على تمثاله؛ ولهذا تجد أقوامًا كثيرين يضرعون عندها ويتخشعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في المسجد بل ولا في السحر. ومنهم من يسجد لها وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد التي تشد إليها الرحال، فهذه المفسدة التي هي مفسدة الشرك كبيره وصغيره هي التي حسم النبي مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقًا وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بركة المساجد الثلاثة ونحو ذلك، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس واستوائها وغروبها لأنها الأوقات التي يقصد المشركون بركة الصلاة للشمس فيها فنهى المسلم عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد ذلك سدًا للذريعة. وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند قبور الأنبياء والصالحين متبركًا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ورسوله والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن به الله، فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين الرسول من أن الصلاة عند القبر أي قبر كان لا فضل فيها لذلك ولا للصلاة في تلك البقعة مزية خير أصلًا بل مزية شر. واعلم أن تلك البقعة وإن كانت تنزل عندها الملائكة والرحمة، ولها شرف وفضل لكن دين الله تعالى بين الغالي فيه والجافي عنه، فإنّ النصارى عظموا الأنبياء حتى عبدوهم وعبدوا تماثيلهم، واليهود استخفوا بهم حتى قتلوهم، والأمة الوسط عرفوا مقاديرهم فلم يغلوا فيهم غلو النصارى ولم يجفوا عنهم جفاء اليهود؛ ولهذا قال : "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله". إلى أن قال: وإنما حقوق الأنبياء في تعزيرهم وتوقيرهم ومحبتهم محبة مقدمة على النفس والأهل والمال وإيثار طاعتهم ومتابعة سننهم ونحو ذلك من الحقوق التي من قام بها لم يقم بعبادتهم والإشراك بهم، كما أن عامة من يشرك بهم شركًا أكبر أو أصغر يترك ما يجب عليه من طاعتهم بقدر ما ابتدعه من الإشراك بهم - ثم ذكر نزاع الفقهاء في الصلاة في المقبرة، هل هي محرمة أو مكروهة؟ ورجّح التحريم للنصوص الدالة، ثم ذكر الدعاء عندها وقرّر المنع - ثم قال: وما يرويه بعض الناس من أنه قال: "إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا بأهل القبور" ونحو هذا فهو كلام موضوع مكذوب باتفاق العلماء. والذي يبين ذلك أمور: أحدها: أنه قد تبين أن العلة التي نهى النبي لأجلها - ثم بسط الكلام في هذه المسألة، واحتج واستدل.
ثم أورد سؤالًا يورده من يتبرك بالدعاء عند القبور ويرى فضله: "فإن قيل: قد نقل عن بعضهم أنه قال: قبر معروف الترياق المجرب، ويروى عن معروف أنه أوصى ابن أخيه أن يدعو عند قبره، وذكر أبو علي الخرقي في قصص من هجره أحمد أن بعض هؤلاء المهجورين كان يجيء إلى عند قبر أحمد ويتوخى الدعاء عنده وأظنه ذكر ذلك المروزي، ونقل عن جماعات بأنهم دعوا عند قبور جماعات من الأنبياء والصالحين من أهل البيت وغيرهم فاستجيب لهم الدعاء. وعلى هذا عمل كثير من الناس، وقد ذكر العلماء في مناسك الحج إذا زار قبر النبي فإنه يدعو عنده، وذكر بعضهم أن من صلى عليه سبعين مرة عند قبره ودعا استجيب له، وذكر بعض الفقهاء في حجة من يجوز القراءة على القبر أنه بقعة يجوز السلام والذكر والدعاء عندها فجازت القراءة. فقد رأى بعضهم منامات في الدعاء عند قبر بعض الأشياخ، وجرّب أقوام استجابة الدعاء عند قبور معروفة كقبر الشيخ أبي الفرج الشيرازي المقدسي وغيره، وقد أدركنا في أزمامنا وما قاربها من ذوي الفضل علمًا وعملًا من كان يتحرى الدعاء عندها والعكوف عليها، وفيهم من كان بارعًا في العلم وفيهم من له كرامات، فكيف يُخالَف هؤلاء؟ وإنما ذكرت هذا السؤال مع بعده عن طريق العلم والدين؛ لأنه غاية ما يتمسك به القبوريون".
ثم أجاب عن هذا السؤال بقوله: "قلنا الذي ذكرنا كراهته لا ينقل في استحبابه شيء ثابت عن القرون الثلاثة التي أثنى النبي عليها حيث قال: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" مع شدة المقتضى فيهم لذلك لو كان فيه فضيلة. فعدم أمرهم وفعلهم لذلك مع قوة المقتضى لو كان فيه فضل يوجب القطع بأن لا فضل فيه. وأمّا من بعد هؤلاء فأكثر ما يفرض أن الأمة اختلفت فصار كثير من العلماء إلى فعل ذلك وصار بعضهم إلى النهي عن ذلك، فإنه لا يمكن أن يقال: قد اجتمعت الأمة على استحسان ذلك لوجهين:
أحدهما: أن كثيرا من الأمة كره ذلك وأنكره قديمًا وحديثًا.
الثاني: أنه من الممتنع أن تتفق الأمة على استحسان فعل لو كان حسنًا لفعله المتقدمون ولم يفعلوه. فإنّ هذا من باب تناقض الاجماعات وهي لا تتناقض. وإذا اختلف فيه المتأخرون فالفاصل بينهم هو الكتاب أوالسنة وإجماع المتقدمين نصًا واستنباطًا. فكيف - والحمد لله - لم ينقل هذا عن إمام معروف ولا عالم متبع؟ بل المنقول في ذلك إما أن يكون كذبًا على صاحبه، مثل ما حكى بعضهم عن الشافعي رحمه الله أنه قال: "إذا نزلت بي شدة أجيء فأدعو عند قبر أبي حنيفة الله فأُجاب" أو كلاما هذا معناه، وهذا كذب معلوم كذبه بالاضطرار عند من له أدنى معرفة بالنقل؛ فإن الشافعي لما قدم ببغداد لم يكن ببغداد لأبي حنيفة ولا غيره قبر ينتاب للدعاء عنده البتة، بل ولم يكن هذا معروفًا على عهد االشافعي، وقد رأى الشافعي بالحجاز واليمن والعراق والشام ومصر من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين من كان أصحابها عنده وعند المسلمين أفضل من أبي حنيفة وأمثاله من العلماء، فما باله لم يتوخ الدعاء إلا عند قبر أبي حنيفة؟ ثم أصحاب أبي حنيفة الذين أدركوه مثل أبي يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد وطبقتهم لم يكونوا يتحرون الدعاء لا عند قبر أبي حنيفة ولا غيره. ثم قد تقدم عن الشافعي ما هو ثابت في كتابه من كراهة تعظيم قبور الصالحين خشية الفتنة بها، وإنما يضع مثل هذه الحكايات من يقل علمه ودينه.
وإما أن يكون المنقول من هذه الحكايات عن مجهول لا يعرف ونحن لو روي لنا بالطريق التي روي بها مثل هذه الحكايات المسيبة أحاديث عمن لا ينطق عن الهوى لما جاز التمسك بها حتى تثبت فكيف بالمنقول عن غيره؟ ومنها ما قد يكون صاحبه قاله أو فعله باجتهاد يخطئ أو يصيب، أو قاله بقيود وشروط كثيرة على وجه لا محذور فيه. فحرّف النقل عنه كما أن النبي لما أذن في زيارة القبور بعد النهي فهم المبطلون أن ذلك هو الزيارة التي يفعلونها من حجها للصلاة عندها والاستغاثة بها، ثم سائر هذه الحجج دائرة بين نقل لا يجوز إثبات الشرع به، أو قياس لا يجور استحباب العبادات بمثله، مع العلم بأن الرسول لم يشرعها وتركه مع قيام المقتضي للفعل بمنزلة فعله، وإنه لا يثبت العبادات بمثل هذه الحكايات والمقاييس من غير نقل عن الأنبياء إلا النصارى وأمثالهم. وإنما المتبع في إثبات أحكام الله عز وجل كتاب الله وسنة رسوله ، وسبيل السابقين الأولين لا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة نصا واستنباطا بحال.
والجواب عنها من وجهين مجمل ومفصل:
أما المجمل فالنقض فإن اليهود والنصارى عندهم من الحكايات والقياسات من هذا النمط كثير بل المشركون الذين بعث إليهم الرسول كانوا يدعون عند أوثانهم فيستجاب لهم أحيانا كما قد يستجاب لهؤلاء أحيانا وفي وقتنا هذا عند النصارى من هذا طائفة. فإن كان هذا وحده دليلا على أنّ الله تعالى يرضى ذلك ويحبه فليطرد الدليل وذلك كفر متناقض، ثم إنك تجد كثيرًا من هؤلاء الذين يستغيثون عند قبر أو غيره كل منهم قد اتخذ وثنا وأحسن الظن به وأساء الظن بآخر، وكل منهم يزعم أن وثنه يستجاب عنده ولا يستجاب عند غيره فمن المحال إصابتهم جميعًا وموافقة بعضهم دون بعض تحكم وترجيح بلا مرجح، والتدين بدينهم جميعًا جمع بين الأضداد. فإن أكثر هؤلاء إنما يكون تأثرهم فيما يزعمون بقدر إقبالهم على وثنهم وانصرافهم عن غيره، وموافقتهم جميعًا فيما يثبتونه دون ما ينفونه بضعف التأثير على زعمهم. فإن الواحد إذا أحسن الظن بالإجابة عند هذا وهذا لم يكن تأثيره مثل تأثير الحسن الظن بواحد دون آخر، وهذا كله من خصائص الأوثان، ثم قد استجيب لبلعام بن باعوراء في قوم موسى المؤمنين وسلبه الله الإيمان. والمشركون قد يستسقون فيسقون ويستنصرون فينصرون.
وأما الجواب المفصل فنقول: مدار هذه الشبهة على أصلين منقول، وهو ما يحكى من فعل هذا الدعاء عن بعض الأعيان. ومعقول وهو ما يعتقد من منفعته بالتجارب والأقيسة.
فأما النقل في ذلك فإما كذب أو غلط أوليس بحجة، بل قد ذكرنا من النقل عمن يقتدى به بخلاف ذلك.
وأما المعقول فنقول: عامة المذكور من المنافع كذب؛ فإن هؤلاء الذين يتحرون الدعاء عند القبور وأمثالهم إنما يستجاب لهم في النادر يدعو الرجل منهم ما شاء الله من دعوة فيستجاب له في واحدة ويدعو خلق كثير منهم فيستجاب للواحد بعد الواحد وأين هذا من الذين يتحرون الدعاء في أوقات الأسحار، ويدعون الله عز وجل في سجودهم وأدبار صلواتهم وفي بيوت الله؟ فإنّ هؤلاء إذا ابتهلوا من جنس ابتهال المقابريين لم يكد يسقط لهم دعوة إلا لمانع، بل الواقع أن الابتهال الذي يفعله المقابريون إذا فعله المخلصون لم يرد دعاء المخلصين إلا نادرًا، ولم يستجب للمقابريين إلا نادرا والمخلصون، كما قال النبي : "ما من عبد يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل الله له دعوته، أو يدخر له من الخير مثلها، أو يصرف عنه من الشر مثلها. قالوا: يا رسول الله إذا نكثر؟ قال: الله أكثر". فهم في دعائهم لا يزالون بخير. وأما القبوريون فإنهم إذا استجيب لهم نادرًا فإنّ أحدهم يضعف توحيده ويقل نصيبه من ربه، ولا يجد في قلبه من ذوق طعم الإيمان وحلاوته ما كان يجده السابقون الأولون. ولعله لا يكاد يبارك له في حاجته اللهم إلا أن يعفو الله عنهم لعدم علمهم بأن ذلك بدعة؛ فإن المجتهد إذا أخطأ أثابه الله عز وجل على اجتهاده وغفر له خطأه، وجميع الأمور التي يظن أن لها تأثيرًا في العالم وهي محرمة في الشرع كالتمريخات الفلكية والتوجهات النفسانية كالعين أو الدعاء المحرم والرقي المحرمة والتمريخات الطبيعية ونحو ذلك فإن مضرتها أكثر من منفعتها حتى في نفس ذلك المطلوب. فإن هذه الأمور لا يطلب بها غالبا إلا أمور دنيوية فقلّ أن يحصل لأحد بسببها أمر دنيوي إلا كانت عاقبته فيه في الدنيا عاقبة خبيثة دع الآخرة. والمخفق من هذه الأسباب أضعاف أضعاف المنجح، ثم إن فيها من النكد والضرر ما الله به عليم، فهي في نفسها مضرة لا يكاد يحصل الغرض بها إلا نادرًا، وإذا حصل فضرره أكثر من نفعه، والأسباب المشروعة في حصول هذه المطالب المباحة والمستحبة سواء كانت طبيعية كالتجارة والحراثة أو كانت دينية كالتوكل على الله والثقة به، وكدعاء الله سبحانه على الوجه المشروع في الأمكنة والأزمنة التي فضلها الله ورسوله بالكلمات المأثورة عن إمام المتقين كالصدقة وفعل المعروف يحصل بها الخير المحض أو الغالب وما يحصل من ضرر بفعل مشروع أو ترك غير مشروع مما نهى عنه فإن ذلك الضرر مكثور في جانب ما يحصل من المنفعة. وهذا الأمر كما أنه قد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع فهو أيضًا معقول بالتجارب المشهورة والأقيسة الصحيحة، فإنّ الصلاة والزكاة يحصل بهما خير الدنيا والآخرة ويجلبان كل خير ويدفعان كل شر، فهذا الكلام في بيان أنه لا يحصل بتلك الأسباب المحرمة لا خير محض ولا غالب، ومن كان له خبرة بأحوال العالم وعقل يتيقن ذلك يقينا لا شك فيه.
وإذا ثبت ذلك فليس علينا من سبب التأثير أحيانًا فإن الأسباب التي يخلق الله بها الحوادث في الأرض والسماء لا يحصيها على الحقيقة إلا هو، أما أعيانها فيلا ريب، وكذلك أنواعها أيضا لا يضبطها المخلوق لسعة ملكوت الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا كانت طريقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنهم يأمرون الخلق بما فيه صلاحهم وينهونهم عما فيه فسادهم، ولا يشغلونهم بالكلام في أسباب الكائنات كما يفعل المتفلسفة فإن ذلك كثير التعب قليل الفائدة أو موجب للضرر، ومثل النبي مثل طبيب دخل على مريض فرأى مرضه فعلمه، فقال له: اشرب كذا، واجتنب كذا ففعل ذلك. فحصل غرضه من الشفاء. والمتفلسف قد يطول معه الكلام في سبب ذلك المرض وصفته وذمه وذم ما أوجبه ولو قال له المريض: فما الذي يشفيني منه؟ لم يكن له بذلك علم تام، والكلام في بيان تأثير بعض هذه الأسباب قد يكون فيه فتنة لمن ضعف عقله ودينه؛ بحيث يختطف عقله، فيتألهه إذا لم يرزق من العلم والإيمان ما يوجب له الهدى واليقين. ويكفي العاقل أن يعلم أن ما سوى المشروع لا يؤثر بحال فلا منفعة فيه أو أنه وإن أثر فضرره أكبر من نفعه.
ثم سبب قضاء حاجة بعض هؤلاء الداعين الأدعية المحرمة أن الرجل منهم قد يكون مضطرًا ضرورة لو دعا الله بها مشرك عند وثن لاستجيب له لصدق توجهه إلى الله وإن كان تحري الدعاء عند الوثن شركا، ولو كان قد استجيب له على يد المتوسل به صاحب القبر أو غيره لاستغاثته فإنه يعاقب على ذلك ويهوي به في النار إذا لم يعف الله عنه فيوفقه لتوبة نصوح، كما لو طلب من الله عز وجل ما يكون فتنة له كما أن ثعلبة لما سأل النبي أن يدعو له بكثرة المال ونهاه النبي عن ذلك مرة بعد مرة فلم ينته حتى دعا له وكان ذلك سبب شقائه في الدنيا والآخرة وقد قال النبي : "إن الرجل ليسألني المسألة فأعطيه إياها فيخرج بها يتأبطها نارًا. قالوا: يا رسول الله، فلم تعطهم؟ قال: يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل". فكم من عبد دعا دعاء غير مباح فقضيت حاجته في ذلك الدعاء وكانت سبب هلاكه في الدنيا والآخرة، تارة بأن يسأله ما لا يصح له مسألته كما فعل بلعام بن باعورا وثعلبة وخلق كثير دعوا بأشياء فحصلت لهم وكان فيها هلاكهم. وتارة بأن يسأل على الوجه الذي لا يحبه الله كما قال سبحانه: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } فهو سبحانه وتعالى لا يحب المعتدين في صفة الدعاء ولا في المسؤال، ولكن حاجتهم قد تقضى كأقوام ناجوا الله تعالى في دعواتهم بمناجاة فيها جرأة على الله واعتداء لحدوده، وأُعطوا طلبتهم فتنة ولما يشاء الله سبحانه وتعالى بل أشد من ذلك ألست ترى السِحْر والطلسمات والعين وغير ذلك من المؤثرات في العالم بإذن الله قد يقضي الله بها كثير من أغراض النفوس الخبيثة، ومع هذا فقد قال سبحانه وتعالى: { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } فإنهم معترفون بأنه لا ينفع في الآخرة وأن صاحبه خاسر في الآخرة وإنما يتشبثون بمنفعته في الدنيا. وقد قال تبارك تعالى: { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ }. كذلك أنواع من الداعين السائلين قد يدعون دعاء محرمًا يحصل معه ذلك الغرض، ويورثهم ضررا أعظم منه. وقد يكون الدعاء مكروها ويستجاب له أيضا، ثم هذا التحريم والكراهة قد يعلمه الداعي وقد لا يعلمه على وجه لا يعذر فيه بتقصيره في طلب العلم أو ترك الحق، وقد لا يعلمه على وجه يعذر فيه بأن يكون فيه مجتهدا أو مقلدا كالمجتهد والمقلد اللذين يعذران في سائر الأعمال المعذور فيها. وغيره قد يتجاوز عنه في ذلك الدعاء لكثرة حسناته، وصدق قصده، أو لمحض رحمة الله عز وجل به، أو نحو ذلك من الأسباب.
فالحاصل أن ما يقع من الدعاء المشتمل على كراهة شرعية قد تغفر تلك الكراهة بمنزلة سائر أنواع العبادات، وقد علم أن العبادات المشتملة على وصف مكروه قد تغفر تلك الكراهة لصاحبها لاجتهاده أو تقليده أو حسناته أو غير ذلك، ثم ذلك لا يمنع أن يعلم أن ذلك مكروه ينهى عنه وإن كان هذا الفاعل المعين قد زال موجب الكراهة في حقه، ومن هنا يغلط كثير من الناس فإنهم يبلغهم أن بعض الأعيان من الصالحين عبدوا عبادة أو دعوا دعاء وجدوا لتلك العبادة والدعاء، ويجعلون ذلك العمل سنة كأنه قد فعله نبي، وهذا غلط لما ذكرناه خصوصًا إذا كان العمل إنما كان أثره لصدق قام بقلب فاعله حين الفعل ثم يفعله الأتباع صورة لا صدقا فيضربون به؛ لأنه ليس العمل مشروعًا فيكون لهم ثواب المتبعين، ولا قام بهم صدق ذلك الفاعل لفعله بصدق الطلب وصحة القصد يكفر عن الفاعل.
ومن هذا الباب ما يحكى من آثار لبعض الشيوخ حصلت في السماع المبتدع فإن تلك الآثار إنما كانت عن أحوال قامت بقلوب أولئك الرجال حركها محرك كانوا في سماعه إما مجتهدين وإما مقصرين تقصيرا غمره حسنات قصدهم، فيأخذ الأتباع حضور صورة السماع حضور أولئك الرجال سنة تتبع، ولا مع المقتدين من الصدق والقصد ما لأجله عذروا أو غفر لهم فيهلكون بذلك، وكما يحكى عن بعض الشيوخ أنه رؤي بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: أوقفني بين يديه، وقال: يا شيخ السوء أنت الذي كنت تتمثل فيّ بسعدي ولبني، لولا أعلم أنك صادق لعذبت. [6]
فإذا سمعت دعاء أو مناجاة مكروهة في الشرع قد قضيت حاجة صاحبها فكثيرًا ما يكون من هذا الباب؛ ولهذا كان الأئمة العلماء بشريعة الله يكرهون هذا من أصحابهم، وإن وجد أصحابهم أثره كما يحكى عن سمنون المحب، قال: "وقع في قلبي شيء من هذه الآيات، فجئت إلى دجلة فقلت: وعزتك لا أذهب حتى يخرج لي حوت، وخرج حوت عظيم" أو كما قال فبلغ ذلك الجنيد فقال: "كنت أحب أن تخرج إليه حية فتقتله"، وكذلك حكي لنا: "أن بعض المجاورين بالمدينة المنورة جاء إلى قبر النبي فاشتهى عليه نوعا من الأطعمة فجاء بعض الهاشميين إليه فقال إن النبي بعث لك ذلك، وقال لك: اخرج من عندنا فإن من يكون عندنا لا يشتهي مثل هذا"، وآخرون قضيت حوائجهم ولم يقل لهم مثل هذا لاجتهادهم أو تقليدهم أو قصورهم في العلم فإنه يغفر للجاهل مالا يغفر لغيره، كما يحكى عن برخ العابد الذي استسقى في بني إسرائيل؛ وهكذا عامة ما يحكى من هذا الباب إنما هو من قاصري المعرفة، ولو كان هذا شرعًا أو دينًا لكان أهل المعرفة أولى به.
ثم قال: وقد علمت جماعة ممن سأل حاجته من بعض المقبورين من الأنبياء والصالحين فقضيت حاجته وهو لا يخرج عما ذكرته، وليس ذلك بشرع فيتبع ولا سنة، وإنما يثبت استحباب الأفعال واتخاذها دينًا بكتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه السابقون الأولون، وما سوى هذا من الأمور المحدثات فلا يستحب وإن شملت أحيانًا على فوائد؛ لأنا نعلم أن مفاسدها راجحة على فوائدها.
ثم هذا التحريم أو الكراهة المقترنة بالأدعية المكروهة إما من جهة المطلوب وإما من جهة نفس الطلب.
وتكلّم على الأول، ومثّل له بأمثلة، ثم قال: "وأما التحريم من جهة الطلب فيكون تارة دعاء لغير الله، مثل ما يفعله السحرة من مخاطبة الكواكب وعبادتها، ونحو ذلك. فإنه قد يقضى عقب ذلك أنواع من القضاء إذا لم يعارضه معارض من دعاء أهل الإيمان وعبادتهم وغير ذلك؛ ولهذا تنفذ هذه الأمور في أزمان فترة من الرسل وفي بلاد الكفر والنفاق ما لا تنفذ في دار الإيمان وزمانه، ومن هذا أني أعرف رجالا يستغيثون ببعض الأحياء في شدائد تنزل بهم فيفرج عنهم، وربما عاينوا أمورًا. وذلك الحي المستغاث به لم يشعر بذلك، ولا علم له به ألبتة وفيهم من يدعو على أقوام أو يتوجه في إيذائهم فيرى بعض الأحياء أو بعض الأموات يحول بينه وبين إيذاء أولئك، وربما رآه ضاربًا له بسيف وإن كان الحائل لا شعور له بذلك، وإنما ذلك من فعل الله سبحانه وتعالى؛ بسبب يكون بين المقصود وبين الرجل الدافع من اتباع له وطاعة فيما يأمره من طاعة الله عز وجل ونحو ذلك فهذا قريب.
وقد يجري لعبّاد الأصنام أحيانًا من هذا الجنس المحرم محنة من الله عز وجل بما يفعله الشياطين لأعوانهم فإذا كان الأثر قد يحصل عقب دعاء من يتيقنا أنه لم يسمع الدعاء، فكيف يتوهم أنه هو الذي تسبب في ذلك؟ أو أن له فيه فعلًا؟ وإذا قيل: إن الله يفعله بذلك السبب، فإذا كان ذلك السبب محرمًا لم يجز كالأمراض التي يحدثها الله عز وجلّ عقب أكل السموم، وقد يكون الدعاء المحرم في نفسه دعاء لغير الله أن يدعو الله، كما تقول النصارى: يا والدة الإله اشفعي لنا إلى الإله، وقد يكون دعاء لله لكنه توسل إليه بما لا يحب أن يتوسل به إليه، كما يفعل المشركون الذين يتوسلون إلى الله عز وجل بأوثانهم، وقد يكون دعاء لله عز وجل بكلمات لا تصلح أن يناجي بها الله عز وجل ويدعي بها، لما في ذلك من الاعتداء.
فهذه الأدعية ونحوها، وإن كان قد يحصل لصاحبها أحيانا غرضه لكنها محرمة لما فيها من الفساد الذي يربو على منفعتها كما تقدم؛ ولهذا كانت هذه فتنة في حق من لم يهده الله عز وجل وينور قلبه، ويفرق بين أمر التكوين وأمر التشريع، ويفرق بين القدر والشرع، ويعلم أن الأقسام ثلاثة:
أمور قدرها الله عز وجل، وهو لا يحبها ولا يرضاها فإن الأسباب المحصلة بهذه الأمور تكون محرمة موجبة لعقابه.
وأمور شرعها فهو يحبها من العبد ويرضاها، ولكن لم يعنه على حصولها، فهذه محمودة عنده مرضية وإن لم توجد.
والقسم الثالث: أن يعين الله العبد على ما يحبه؛
فالأول: إعانة، والثاني: عبادة، والثالث: جمع له بين العبادة والإعانة كما قال تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، فما كان من الدعاء غير المباح ذا أثر فهو من باب الإعانة لا العبادة كدعاء سائر الكفار والمنافقين والفساق؛ ولهذا قال تعالى في مريم: { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ }، ولهذا كان النبي يستعيذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر. ومن رحمة الله تعالى أنّ الدعاء المتضمن شركا كدعاء غيره أن يفعل أو دعائه أن يدعو الله ونحو ذلك لا يحصل غرض صاحبه، ولا يورث حصول الغرض إلّا في الأمور الحقيرة فأما الأمور العظيمة كإنزال الغيث عند القحوط، وكشف العذاب النازل فلا ينفع فيه هذا الشرك كما قال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ }، وقال تعالى: { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُورًا }، وقال تعالى: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ }، وقال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا }، وقال تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ، قُلْ لِلَّهِ الشَفَاعَةُ جَمِيعًا }.
فكون هذه المطالب العظيمة لا يستجيب الدعاء فيها إلا هو سبحانه، دل على توحيده وقطع شبهة من أشرك به، وعلم بذلك أن ما دون هذا أيضًا من الإجابات إنما فعلها هو سبحانه وحده لا شريك له، وإن كانت تجري بأسباب محرمة أو مباحة، كما أن خلقه السموات والأرض والرياح والسحاب وغير ذلك من الأجسام العظيمة دل على وحدانيته، وأنه خالق لكل شيء وأن ما دون هذا بأن يكون خلقًا له أولى إذ هو منفعل عن الأسباب التي هي مخلوقاته العظيمة. فخالق السبب التام خالق للمسبب لا محالة وجماع الأمر أن الشرك نوعان: شرك في ربوبيته بأن يجعل لغيره معه تدبير إما كما قال سبحانه وتعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ }، فبين سبحانه أنهم لا يملكون ذرة استقلالًا ولا يشركونه في شيء من ذلك، ولا يعينونه على ملكه. ومن لم يكن مالكًا ولا شريكًا ولا عونًا فقد انقطعت علاقته.
وشرك الألوهية بأن يدعى غيره دعاء عبادة أو دعاء مسألة، كما قال تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فكما أن إثبات المخلوقات أسبابًا لا يقدح في توحيد الربوبية ولا يمنع أن يكون الله خالق كل شيء، ولا يوجب أن يدعى مخلوق دعاء عبادة أو دعاء استعانة. كذلك إثبات بعض الأفعال المحرمة من شرك أو غيره أسبابًا لا تقدح في توحيد الألوهية، ولا يمنع أن يكون الله هو الذي يستحق الدين الخالص، ولا يوجب أن تستعمل الكلمات والأفعال التي فيها شرك، إذ كان الله يسخط ذلك ويعاقب العبد عليه وتكون مضرة ذلك على العبد أكثر من منفعته إذ قد جعل الخير كله في: "أنّا لا نعبد إلا إياه ولا نستعين إلا إياه"، وعامة آيات القرآن لتثبيت هذا الأصل، حتى إنه سبحانه قطع أثر الشفاعة بدون إذنه كقوله تعالى: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } وكقوله تعالى: { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ } وقوله تعالى: { وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ } وقوله تعالى { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا } الآية وقوله تعالى: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } وسورة الأنعام سورة عظيمة مشتملة على أصول الإيمان، وكذلك قوله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ } وقوله سبحانه: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } وقوله تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ، قُلْ للهِ الشَفَاعَةُ جَميعًا }، وسورة الزمر أصل عظيم في هذا ومن هذا قوله سبحانه وتعالى: { وَمِنَ النَاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَلالُ الْبَعِيدُ، يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } وكذلك قوله: { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }، والقرآن عامته إنما هو في تقرير هذا الأصل العظيم الذي هو أصل الأصول.
وهذا الذي ذكرناه كله من تحريم هذا الدعاء مع كونه قد يؤثر إذا قدر أن هذا الدعاء كان سببًا أو جزءًا من السبب في حصول طلبته، والناس قد اختلفوا في دعاء المستغيث المستعتب لقضاء الحاجات: فزعم قوم من المبطلين متفلسفة ومتصوفة أنه لا فائدة فيه أصلًا؛ فإن المشيئة الإلهية والأسباب العلوية إما أن تكون قد اقتضت وجود المطلوب، وحينئذ فلا حاجة إلى الدعاء أو لا تكون اقتضته وحينئذ فلا ينفع الدعاء. وقال قوم ممن يتكلم في العلم: بل الدعاء علامة ودلالة على حصول المطلوب وجعلوا ارتباطه بالمطلوب ارتباط الدليل بالمدلول، لا ارتباط السبب بالمسبب بمنزلة الخبر الصادق والعلم السابق.
والصواب ما عليه الجمهور من أنّ الدعاء سبب لحصول الخير المطلوب أو غيره، كسائر الأسباب المقدرة والمشروعة، وسواء سمي سببًا أو جزءًا من السبب أو شرطًا فالمقصود هنا واحد.
وإذا أراد الله بعبده خيرا ألهمه دعاءه والاستعانة به، وجعل استعانته ودعاءه سببًا للخير الذي قضاه له كما قال عمر رضي الله عنه: "إني لا أحمل همّ الإجابة، وإنما أحمل همّ الدعاء فإذا أُلهمت الدعاء فإن الإجابة معه". كما أن الله عز وجل إذا أراد أن يشبع عبدًا أو يرويه ألهمه أن يأكل أو يشرب، وإذا أراد أن يتوب على عبد ألهمه أن يتوب فيتوب عليه، وإذا أراد أن يرحمه ويدخله الجنة يسره لعمل أهل الجنة. والمشيئة الإلهية اقتضت وجود هذه الخيرات بأسبابها المقدرة لها، كما اقتضت وجود دخول الجنة بالعمل الصالح، ووجود الولد بالوطء، والعلم بالتعليم. فمبدأ الأمور من الله عز وجل وتمامها على الله، لا أن العبد نفسه هو المؤثر في الرب أو في ملكوت الرب، بل الرب سبحانه هو المؤثر في ملكوته وجاعل دعاء عبده سببًا لما يريده سبحانه وتعالى من القضاء، كما قال رجل للنبي : "أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها وتقى نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: هي من قدر الله عز وجل"، وعنه : "إنّ الدعاء والبلاء يلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض".
فهذا في الدعاء الذي يكون سببًا في حصول المطلوب، وأعلى من هذا ما جاء في الكتاب والسنة من رضى الله عز وجل وفرحه وضحكه بسبب أعمال عباده الصالحين، وما جاءت به النصوص؛ وكذا غضبه ومقته، وقد بسطنا الكلام في هذا الباب وما للناس فيه من المقالات والاضطراب في موضع آخر. فما فرض من الأدعية المنهي عنها سببًا فقد تقدم الكلام عليه، فأما غالب هذه الأدعية التي ليست مشروعة فلا تكون هي السبب في حصول المطلوب ولا جزءًا منه، ولا يعلم ذلك بل لا يتوهم وهمًا كاذبًا كالنذر، فإن في الحديث الصحيح عن ابن عمر عن النبي أنه: "نهى عن النذر وقال: إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل" - وأطال الكلام في النذر، ومنع كونه سببًا، ثم قال -: بل إذا كان المبطلون يضيفون قضاء حوائجهم إلى خصوص نذر المعصية، مع أن جنس النذر لا أصل له في ذلك لم يبعد منهم إذا أضافوا حصول غرضهم إلى خصوص الدعاء بمكان لا خصوص له في الشرع؛ لأن جنس الدعاء هنا مؤثر، فالإضافة إليه ممكنة، بخلاف جنس النذر فإنه لا يؤثر - ثم تكلم على منع كون الدعاء المبتدع سببًا، وأنه لا دليل عليه إلا الاقتران أحيانًا، وقرّر أن هذا لا يدل؛ لأنّ التراخي والانتقاض مانع من الاستدلال، وأن مجرد الاقتران أحيانًا ليس دليلًا باتفاق العقلاء إذا كان هناك سبب آخر، ثم تكلم في الأسباب، وقسم الناس فيها ثلاث فرق: مغضوب عليهم، وضالين، ومهتدين. ثم تكلم على الكرامات وقرّر أنّها فعل الله، وذكر شيئًا من الحكمة ثم قال: "وأما العلم بعلية السبب فله طرق في الأمور الشرعية، كما له طرق في الأمور الطبيعية، منها الاضطرار - وتكلّم على الأدعية الشرعية والاستجابة بها، وخرق العادة للداعي -.
ثم قال: "وأما اعتقاد تأثير الأدعية المحرمة فعامته إنما تجد اعتقاده عند أهل الجهل الذين لا يميزون بين الدليل وغيره، ولا يفهمون ما يشترط للدليل من الاطراد، وإنما تنفق في أهل الظلمات من الكفار والمنافقين، أو ذوي الكبائر الذين أظلمت قلوبهم بالمعاصي، حتى لا يميزون بين الحق والباطل.
وبالجملة فالعلم بأن هذا كان هو السبب أو بعض السبب أو شرط السبب في هذا الأمر الحادث قد يعلم كثيرًا، وقد يتوهم كثيرًا وهمًا ليس له مستند صحيح إلا ضعف العقل، ويكفيك أنّ كل ما يظن أنه سبب لحصول المطلوب مما حرمته الشريعة: من دعاء أو غيره لا بد فيه من أحد أمرين: إما أن لا يكون سببًا صحيحًا، كدعاء ما لا يسمع وما لا يبصر ولا يغني عنك شيئًا، وإما أن يكون ضرره أكثر من نفعه، فأما ما كان سببًا صحيحًا منفعته أكثر من مضرته، فلا ينهى عنه في الشرع بحال، وكل ما لم يشرع من العبادات مع قيام المقتضي لفعله من غير مانع فإنه من باب المنهي عنه.
وأما ما ذكر في المناسك أنه بعد تحية النبي وصاحبيه والصلاة والسلام يدعو، فقد ذكر الإمام أحمد وغيره: أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره، وذلك بعد تحيته والصلاة والسلام عليه، ثم يدعو لنفسه، وذكروا أنه إذا حيّاه وصلّى وسلّم يستقبل قبلة وجهه بأبي هو وأمي ، فإذا أراد الدعاء جعل الحجرة عن يساره واستقبل القبلة ودعا، وهذا مراعاة منه لذلك فإن الدعاء عند القبر لا يكره مطلقا، فليؤمر به كما جاءت به السنة فيما تقدم ضمنا وتبعا، وإنما المكروه أن يتحرى المجيء إلى القبر للدعاء عنده. وكذلك ذكر أصحاب مالك قالوا: يدنو من القبر فيسلم على النبي ثم يدعو مستقبل القبلة، يوليه ظهره، وقيل: لا يوليه ظهره وإنما اختلفوا لما فيه من استدباره. فأما إذا جعل الحجرة عن يساره فقد زال المحذور، وصار في الروضة أو أمامها؛ ولعل هذا الذي ذكره الأئمة أخذوه من كراهة الصلاة إلى القبر فإن ذلك قد ثبت فيه النهي عن النبي كما تقدم.
فلما نهى أن يتخذ القبر مسجدًا وقبلة أمروا بأن لا يتحرى الدعاء إليه، كما لا يصلي إليه. قال مالك في المبسوط: "لا أرى أن يقف عند قبر النبي يدعو ولكن يسلم ويمضى"؛ ولهذا - والله أعلم - حرفت الحجرة وثلثت لما بنيت فلم يجعل حائطها الشمالي على سمت القبلة ولا جعل مسطحًا.
وكذلك قصدوا قبل أن تدخل الحجرة في المسجد، فروى ابن بطة بإسناد معروف عن هشام بن عروة حدثني أبي قال: "كان الناس يصلون إلى القبر، فأمر عمر بن عبد العزيز فرفع حتى لا يصلي إليه الناس، فلما هدم بدت قدم بساق وركبة، قال: ففزع من ذلك عمر بن عبد العزيز، فأتاه عروة فقال له: هذه ساق عمر رضي الله عنه وركبته، فسرى عن عمر بن عبد العزيز".
وهذا أصل مستمر فإنه لا يستحب للداعي أن يستقبل إلا ما يستحب أن يصلي إليه، ألا ترى أن الرجل لما نهى عن الصلاة إلى جهة المشرق وغيره فإنه ينهى أن يتحرى استقبالها وقت الدعاء، ومن الناس من يتحرى وقت دعائه استقبال الجهة التي يكون فيها الرجل الصالح، سواء كانت في الشرق أو غيره. وهذا ضلال بين وشرك واضح، كما أن بعض الناس يمتنع من استدبار الجهة التي فيها بعض الصالحين، ويستدبر الجهة التي فيها بيت الله وقبر رسول الله ، وكلّ هذه الأشياء من البدع التي تضاهي دين النصارى. ومما يبين لك ذلك: أن نفس السلام على النبي قد راعوا فيه السنة حتى لا يخرج إلى الوجه المكروه الذي قد يجر إلى إطراء النصارى عملًا بقوله : "لا تتخذوا قبري عيدا"، وبقوله : "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله"، فكان بعضهم يسأل عن السلام على القبر خشية أن يكون من هذا الباب، حتى قيل له: إن ابن عمر كان يفعل ذلك.
ولهذا كره مالك رحمه الله وغيره من أهل العلم من أهل المدينة كلما دخل أحدهم المسجد أن يجيء فيسلم على قبر النبي وصاحبيه قال: "وإنما يكون ذلك لأحدهم إذا قدم من سفر أو أراد سفرا" ونحو ذلك. ورخّص بعضهم في السلام عليه إذا دخل المسجد للصلاة ونحوها، وأما قصده دائمًا في الصلاة والسلام فما علمت أحدًا رخّص فيه؛ لأن ذلك من اتخاذه عيدًا، مع أنا قد شرع لنا إذا دخلنا المسجد أن نقول: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، كما نقول ذلك في آخر صلاتنا، بل قد استحب ذلك لكل من دخل مكانًا ليس فيه أحد أن يسلم على النبي بما تقدم من أن السلام عليه يبلغه من كل موضع. فخاف مالك وغيره أن يكون فعل ذلك عند القبر كل ساعة نوعًا من اتخاذ القبر عيدًا. وأيضا فإن ذلك بدعة فقد كان المهاجرون والأنصار على عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم يجيئون إلى كل يوم خمس مرات يصلون ولم يكونوا يأتون مع ذلك إلى القبر يسلمون عليه لعلمهم ما كان النبي يكرهه من ذلك وما نهاهم عنه، وأنّهم يسلمون عليه حين دخول المسجد والخروج منه، وفي التشهد كما كانوا يسلمون عليه كذا في حياته.
والمأثور عن ابن عمر يدل على ذلك، قال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا عبد الرحمن بن زيد حدثني أبي عن ابن عمر: "أنه كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي فسلم وصلّى عليه ثم قال: السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه". وعبد الرحمن بن زيد وإن كان يضعف لكن الحديث المتقدم عن نافع الصحيح يدل على أن ابن عمر ما كان يفعل ذلك دائما ولا غالبا.
وما أحسن ما قال مالك: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها"، ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك وغيره؛ ولهذا كره الأئمة استلام القبر وتقبيله، وبنوه بناء منعوا الناس أن يصلوا إليه، فكانت حجرة عائشة رضي الله عنها التي دفنوه فيها ملاصقة لمسجده ومنفصلة عن المسجد. وكان ما بين منبره وبيته هو الروضة، ومضى الأمر على ذلك في عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، وزيد في المسجد زيادات غيرت الحجرة عن حالها هي وغيرها من الحجر المطيفة بالمسجد من شرقيه وقبليه، حتى بناه الوليد بن عبد الملك. وكان عمر بن عبد العزيز عامله على المدينة فابتاع هذه الحجر وغيرها وهدمهن وأدخلهن في المسجد، فمن أهل العلم من كره ذلك كسعيد بن المسيب ومنهم من لم يكرهه، قال أبو بكر الأثرم: "قلت لأبي عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - قبر النبي يمس ويتمسح به؟ فقال: ما أعرف هذا. فقلت له: في المنبر؟ فقال: أما المنبر فنعم قد جاء فيه، قال أبو عبد الله: شيء يرويه عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن ابن عمر أنه مسح على المنبر، ويرويه عن سعيد ابن المسيب في الرمانة. قلت: ويروى عن يحيى بن سعيد أنه حين أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا فرأيته استحسنه، ثم قال: لعلّه عند الضرورة والشيء. قيل لأبي عبد الله: إنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر؟ وقلت له: رأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسونه ويقومون ناحية فيسلمون، فقال أبو عبد الله: نعم، وهكذا كان ابن عمر يفعل. ثم قال أبو عبد الله: بأبي هو وأمي " وقد رخص أحمد وغيره في التمسح بالمنبر والرمانة التي هي موضع مقعد النبي ويده ولم يرخص في التمسح بقبره. وقد حكى بعض أصحابنا رواية في مسح قبره؛ لأن أحمد شيع بعض الموتى فوضع يده على قبره يدعو له. والفرق بين الموضعين ظاهر. وكره مالك رحمه الله التمسح بالمنبر كما كرهوا التمسح بالقبر. وأما اليوم فقد احترق المنبر وما بقيت الرمانة، وإنما بقي من المنبر خشبة صغيرة فقد زال ما رخص فيه؛ لأن الأثر المنقول عن ابن عمر وغيره إنما هو التمسح بمقعده. فروى الأثرم بإسناده عن القعنبي عن مالك عن عبد الله بن دينار قال: "رأيت ابن عمر يقف على قبر النبي فيصلي على النبي وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
الوجه الثالث: في كراهة قصدها بالدعاء، أن السلف رضي الله عنهم كرهوا ذلك متأولين في ذلك قوله : "لا تتخذوا قبري عيدا" كما ذكرنا عن علي بن الحسين والحسن بن الحسن ابن عمه وهما أفضل أهل البيت من التابعين وأعلم بهذا الشأن من غيرهما؛ لمجاورتهما الحجرة النبوية نسبًا ومكانًا، وقد ذكرنا عن أحمد وغيره أنه أمر من سلّم على النبي وصاحبيه ثم أراد أن يدعو: أن ينصرف ويستقبل القبلة، وكذلك أنكر ذلك غير واحد من العلماء المتقدمين كمالك وغيره ومن المتأخرين مثل أبي الوفاء بن عقيل وأبي الفرج بن الجوزي، وما أحفظ لا عن صحاب ولا عن تابع ولا عن إمام معروف أنه استحب قصد شيء من القبور للدعاء عندها، ولا روى أحد في ذلك شيئا لا عن النبي ولا عن الصحابة، ولا عن أحد من الأئمة المعروفين.
وقد صنف الناس في الدعاء وأوقاته وأمكنته وذكروا فيه الآثار فما ذكر أحد منهم في فضل الدعاء شيء من القبور حرفًا واحدًا - فيما أعلم -، فكيف يجوز والحالة هذه أن يكون الدعاء عندها أجوب وأفضل؟ والسلف تنكره ولا تعرفه وتنهى عنه ولا تأمر به.
نعم صار من نحو المائة الثالثة يوجد متفرقا في كلام بعض الناس: فلان ترجى الإجابة عند قبره وفلان يدعى عنده، ونحو ذلك؛ والإنكار على فعل ذلك أو قاله كائنا من كان، فإن أحسن أحواله أن يكون مجتهدا في هذه المسألة أو معذورًا يعفو الله عنه، أما كون هذا الذي قال يقتضي استحباب ذلك فلا، بل قد يقال: هذا من جنس قول بعض الناس: المكان الفلاني يقبل النذر، والموضع الفلاني ينذر له ويعينون عينًا أو بئرًا أو شجرةً أو مغارةً أو حجرًا أو غير ذلك من الأوثان، فكما لا يكون مثل هذا القول عمدة في الدين كذلك الأول، ولم يبلغني إلى الساعة عن أحد من السلف رخصة في ذلك إلا ما روى ابن أبي الدنيا في كتاب القبور بإسناده عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك قال أخبرني سليمان بن يزيد الكعبي عن أنس بن مالك أن النبي قال: "من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شفيعًا وشهيدا يوم القيامة". قال ابن أبي فديك: وأخبرني عمر بن حفص أن ابن أبي مليكة كان يقول: "من أحب أن يقوم وجاه النبي فليجعل القنديل الذي في القبلة عند رأس القبر على رأسه". قال ابن أبي فديك: وسمعت بعض من أدركت يقول: "بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي فتلا هذه الآية: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَبِيِّ }، فقال: "صلى الله عليك يا محمد حتى يقولها سبعين مرة ناداه ملك: صلى الله عليه يا فلان ولم تسقط له حاجة".
فهذا الأثر من ابن أبي فديك قد يقال: فيه استحباب قصد الدعاء عند القبر؛ ولا حُجّة فيه لوجوه:
أحدها: أن ابن أبي فديك روى هذا عن مجهول، وذكر ذلك المجهول أنه بلاغه عمن لا يعرف؛ ومثل هذا لا يثبت به شيء أصلًا، وابن أبي فديك متأخر في حدود المائة الثانية ليس هو من التابعين ولا من تابعيهم المشاهير حتى يقال: قد كان هذا معروفا في القرون الثلاثة.
Ei kommentteja:
Lähetä kommentti