عهد الملك محمد السادس وسؤال الإصلاحات المؤسساتية والدستورية
الأحد 03 غشت 2014 - 12:00
عهد الملك محمد السادس وسؤال الإصلاحات المؤسساتية والدستورية: من التأجيل المستمر الى جواب 20 فبرايرالعهد الجديد والإرث الدستوري الهش
ثلاث سنوات قبل وفاته ،نجح الملك الراحل الحسن الثاني ، في إقرار دستور يحظى -لأول مرة في تاريخ المملكة- بأكبر تأييد سياسي ممكن ،خاصة داخل أوساط المعارضة .دستور 1996 كان في الحقيقة صيغة سياسية للتوافق بين الملكية وبين المكونات الأساسية للكتلة الديمقراطية .الملك الراحل نجح في تجاوز موقف رفض القوى الوطنية لدساتيره ،وهو ما كان يشكل بالنسبة اليه دليلاً على تجريح تلك القوى في المشروعية السياسية لنظام حكمه ، وقوى المعارضة السابقة نجحت من جهتها في تجاوز عقدة "الدستور غير المتفق حوله "كعائق يحول دون توافق سياسي ناضج مع المؤسسة الملكية.
كان الملك الراحل يحتاج لـ"نعم "الثمينة التي صوتت بها القوى الديمقراطية على الدستور ،للإطمئنان النهائي على إيمانها بمشروعية نظامه ،وكانت القوى الديمقراطية تحتاج لتلك ال"نعم" الصعبة ،لتنزع فتيل التوتر الدرامي والمزمن الذي طبع الإشكالية الدستورية منذ بداياتها في نهاية الخمسينيات ،والمتعلق بالصراع الحاد حول مسألة المشروعية السياسية.
هذه الصيغة ،بالقدر الذي فتحت الأفق السياسي للبلاد على إمكانية التوافق وعلى شروط الإنتقال ،بالشكل الذي جسدته حكومة التناوب ،فإنها كانت حاملة لحدودها الموضوعية :كون التصويت على دستور 1996،لم يكن في عمقه تصويتاً على النص ،بقدر ما كان تصويتاً سياسياً على الثقة.
لقد،ورث الملك محمد السادس إطاراً دستورياً يحظى بتوافق ورضا غالبية القوى الوطنية والديمقراطية ،لكنه في نفس الوقت توافق هش لانه يرتبط بترتيب سياسي لتدبير المرحلة بين هذه القوى وبين الملك الراحل ،أكثر ما يرتبط بصيغة مؤسساتية قادرة على أن تشكل دستور "الانتقال الديمقراطي المأمول".لذلك فان لحظة تعيين الوزير الأول ادريس جطو وزيراً أولاً ،العام 2002،قد شكلت عملياً انحساراً بيناً لأطروحة "النص لايهم" والثقة كمدخل سياسي للانتقال.
اليوم ،عندما نعود الى تقييم الحصيلة المؤسساتية والدستورية للعهد الجديد ،فلابد أن نقف على حقيقة واضحة؛تتجلى في كون النظام السياسي عمل لمدة أكثر من عقد على التأجيل المستمر لملف الإصلاحات الدستورية ،قبل أن يكون للربيع العربي رأي آخر في الموضوع.
تأجيل سينطلق من خطاب أولوية الاصلاح الاقتصادي والاجتماعي ،ثم من الدفاع عن تأهيل الأحزاب بدل تأهيل الدستور ،ثم من فكرة اكتمال النسق المؤسساتي والحاجة-فقط-الى إصلاحات تنقل صلاحيات المركز الى الجهات.
على أنه ،من باب الموضوعية،يبقى من الضروري الإشارة الى أن الكمون الذي عرفه المطلب الدستوري لدى القوى الديمقراطية ،باسثتناء اليسار الجذري وبعض فعاليات المجتمع المدني،قد ساهم بدوره في غياب الاصلاح الدستوري عن أجندة الدولة طوال مايفوق العشر سنوات من عهد الملك محمد السادس.إذ أن هذا المطلب انتظر الى عام 2007،لكي يسجل عودة تدريجية الى دفتر مطالب هذه القوى،حيث شكلت الكتلة الديمقراطية لجنة لإعداد مشروع مذكرة للإصلاحات الدستورية لم يكتب لها أن ترفع الى المؤسسة الملكية ،ثم بعد ذلك وإثر خلاف في توقيت المطالبة بهذه الإصلاحات بين حزبي الاتحاد الاشتراكي والاستقلال الذي كان يقود الحكومة، سيضطر الاتحاد لكي يقدم منفرداً مذكرة للإصلاحات السياسية والدستورية يوم 8ماي 2009،تنفيذا لمقررات مؤتمره الوطني الثامن.
إصلاح دستوري أم إصلاحات ميكروسياسية؟
في بداية العهد الجديد ،ستتضح ملامح التوجه السياسي المعلن في علاقة بخطاب الإصلاح ،وذلك انطلاقاً من العناصر التالية:
أولا: في مقابل النزوع ''الدستوراني'' لامتدادات الحركة الوطنية ممثلة في الكتلة خلال التسعينات والتي قدمت ملامح تصور إصلاحات سياسية ودستورية متكاملة شكلت جوهر العملية السياسية الصراعية / التوافقية مع الدولة، نجحت الدولة في السنوات الاولى للعهد الجديد في تحويل النقاش من الإطار الماكرو سياسي، إلى إطارات جزئية: القضاء، الجهوية، التنمية البشرية، حقوق الإنسان....
ثانيا: سيبرز توجه واضح للحفاظ على الإصلاح كسياسات عمومية وكشعار سياسي وكبرنامج للدولة، لكن مع الحرص على إعطائه أبعادا أكثر تقنية وأقل تسييسا، حيث يختزل فيما يعرف بالحكامة، وهو ما كان من شأنه أن يجعل الخيار التحديثي ينتصر على خيار الحداثة.
ثالثا:المؤكد أن بداية العهد الجديد ستعرف الكثير من التحولات التي شهدتها مسألة المطالبة بالإصلاح.لنلاحظ بأن الفاعل الحزبي لم يعد وحده يحتكر المطالبة بالإصلاح، فإيديولوجيا الإصلاح أصبحت تقريبا ضمن دائرة المشترك العمومي داخل البلاد. والمؤسسة الملكية أصبحت كذلك حاملة لخطاب إصلاحي، وفي كثير من الحالات فمبادرات إصلاحية قوية تأتي من حيث لا ننتظر، مثل حالة قضية المرأة والتي تم من خلالها استثمار الفصل 19 من الدستور السابق ،والذي تحول هنا من رمز للمحافظة إلى بؤرة للتحديث.
رابعاً: سنلاحظ كذلك أن النظام السياسي طور آليات جديدة وداخلية لخلق مطالب الإصلاح، حتى لا يظل أسيرا لمعادلة أو لخطاطة توزيع العمل بين القوى السياسية كمُطالبة بالإصلاح والدولة كمُطالبة (برفع الميم) بالإصلاح. وهنا مثلا نذكر حالتي: الأولى تقرير الإنصاف والمصالحة والثانية تقرير الخمسينية. إن رهان الدولة كان في هذه الحالة هو خلق مرجعيات حديثة للإصلاح، تكسير احتكارية اليسار -والحقل الحزبي-لمطلب الإصلاح، ثم تحقيق ما يمكن تسميته ''باختصار دورة المطالب''، وهذا ما يجعل النظام السياسي متحكما بشكل أكبر في تدبير أجندة الإصلاح.
إصلاح سياسي أم إصلاح اقتصادي واجتماعي؟
دون أي نزعة تبسيطية تسعى إلى التحقيب، نعتقد بأن جدول الأعمال الإصلاحي، كما يمكن استخلاصه من تتبع الخطب الملكية لبداية عهد الملك محمد السادس ، ظل موزعاً بين لحظتين أساسيتين، وهما لحظتين ليستا متعاقبتين بالضرورة في الزمن، رغم أن دينامية الأسئلة المطروحة على المغرب قد تقرر أفضلية نسبية بين اللحظتين تجاوبا مع حاجيات المجتمع والمحيط.
فقد لا يخطأ المرء إذا اعتبر أن الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي قد بدا في الخطب الأول للملك محمد السادس كأولوية مطلقة، ليبدأ الإصلاح السياسي في العودة شيئا فشيئا لجدول الأعمال "الملكي" خاصة بعد أحداث 16 ماي، ثم لتتحول الأولويات داخل نفس لحظة الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، بالتركيز أكثر على الشق الاجتماعي وذلك من خلال المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.
أ- لحظة الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي
طورت المؤسسة الملكية في بداية عهد الملك محمد السادس، خطابا يعتبر الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي أولوية عمل أساسية، منطلقا من قراءة معينة للتاريخ، تجعل من عهد محمد الخامس عهدا للاستقلال الوطني، ومن عهد الحسن الثاني عهدا لبناء المؤسسات، وهذا ما يترك للملك محمد السادس، المهمة التي تواترت خطبة الأولى على نعتها بالجهاد الأكبر الاقتصادي والاجتماعي.
وهكذا كثيرا ما تخللت هذا الخطاب السياسي الملكية في بداياته نبرة تتعامل مع المنجز السياسي المغربي كمنجز مكتمل البناء والحلقات، وتقدر أن الوقت قد حان للتوجه إلى "الأهم" ألا وهو التحدي الاقتصادي.
وبشكل واضح تعبر الرسالة التي وجهها الملك محمد السادس إلى الوزير الأول عبد الرحمن يوسفي بتاريخ 16 دجنبر 1999، أبرز معبر عن تصور الملكية لمكانة الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، حيث يتم التأكيد على أنه " إذا كان لابد من ترتيب أولويات استراتيجية عملنا المستقبلي فواضح أنه يتعين التطلع إلى تسريع أنساق النمو الاقتصادي بوتيرة تمكن من تحسين ظروف عيش المواطنين وإرضاء حاجياتهم الأساسية من ضمان صحي وسكن لائق مع الاستجابة لمتطلبات التشغيل ولا سيما تشغيل الشباب الذي يجب أن يكون على رأس ما نحن به معتنون ومهتمون".
إن هذا التأكيد على أن الأولويات هي بالأساس اقتصادية واجتماعية ، لا يلغي الإشارة إلى أنه مع الإعلان على المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، قد وقع تحول على مستوى ترتيب هذه الأولويات، على أساس ليس فقط إعادة مركزة المسألة الاجتماعية على رأس جدول أعمال المغرب الرسمي، بل كذلك من خلال تجاوز نظرة تقنوية للقضايا الاجتماعية بشكل يجعل هذه الأخيرة رهينة بشكل تبعي لحل إشكالية النمو الاقتصادي، دون التفكير في أدنى سياسة إرادوية وتدخلية بمضمون تضامني.
ولعل أقوى مؤشر على هذا الاختيار نجده في نص الخطاب الموجه إلى الأمة بتاريخ 18-05-2005، والذي أعلن من خلاله الملك عن مشروع المبادرة المذكورة، حيث نجد الإشارة الواضحة إلى " المعضلة الاجتماعية" كأكبر تحد يعرفه المشروع المجتمعي التنموي.
ب- لحظة الإصلاح السياسي
ترتبط هذه اللحظة، بالخطاب الذي أنتجته المؤسسة الملكية تقييما لأداء مختلف دوائر الفعل السياسي الوطني من أحزاب سياسية وتعددية حزبية وممارسات انتخابية وعمل برلماني وتمثيلي.
واضح إذن أن الإصلاح السياسي لدى الملكية، يعني إصلاح باقي الفاعلين ومختلف البنيات التي توجد في مستوى أدنى.
والواقع أن هذا الخطاب ذي الحمولة النقدية قد تواتر بشكل كبير خاصة بعد أحداث 16 ماي 2003 التي هزت مدينة الدار البيضاء، فهل كان الانتباه إلى هشاشة المجال السياسي التأطيري والتمثيلي مرتبطا بحجم التساؤلات التي طرحت على المجتمع المغربي بعد صدمة " الإرهاب"؟
هكذا يقف الخطاب الملكي على تشخيص قاس لوضعية الأحزاب السياسية الموزعة بين "هيئات قائمة على تقسيم المجتمع إلى طوائف دينية أو عرقية وأخرى لا هم لها إلا الأغراض الانتخابية بذل التنافس على البرامج الملموسة وتكوين النخب الواعية المسؤولة ... وهيآت أخرى تركب في المواسم الانتخابية مواضيع أو شعارات لا تسمن ولا تغني من جوع ..." بعد ذلك يتحدث الملك عن ضرورة تحصين المشهد الحزبي، وتأهيل العمل الحزبي انطلاقا من "أن ترسيخ الديمقراطية لن يكتمل إلا بوجود أحزاب سياسية قوية وما قوتها إلا في النهوض بدورها الفاعل في تأطير المواطنين وتمثيلهم ، وفي مقد متهم شباب الأمة، والعمل على تعزيز سلطة الدولة وتوفير مناخ الثقة في المؤسسات ...".
وفي هذا السياق المتعلق بهاجس الإصلاح الحزبي، ستتم إعادة إحياء طرح قانون الأحزاب "كإطار تشريعي يسمتد منه الحزب شرعيته ومشروعيته... قانون يأتي بإجابات جماعية متميزة عن قضايا مجمعية عريضة وليس تلبية لمطامع شخصية أو فئوية ضيقة... ويساعد على عقلنة وتجديد وتحصين المشهد السياسي الوطني، كما أنه يعد تجسيدا لحرصنا على توطيد التحديث المؤسسي بما يكفل عدم إضرار التعددية الحزبية العشوائية بالقطبية السياسية الفعالة ...".
وبنفس النبرة النقدية يتم توجيه اللوم إلى طريقة تدبير الصراعات الانتخابية وإلى طبيعة الممارسة التمثيلية سواء الوطنية منها أو المحلية.
في هذا المستوى من التحليل سيطرح سؤال يتعلق بمضمون هذا الاصلاح السياسي :هل يتعلق الآمر بإصلاح مؤسساتي ودستوري يهم "الفعل السياسي" أم بإصلاح جزئي يهم "الفاعلين السياسيين".؟
وهنا لا شك أن الجواب ظل يحمل تأجيلاً مستمراً لملف الإصلاحات الدستورية ، فانتخابات 2007،ستعرف صراعاً رمزياً وسياسياً حول تأويل نتائجها ،خاصة على مستوى نسب العزوف ،بين من سيعتبر أن هذه النتائج تعبير عن "أزمة السياسة "،وعلى انحصار الافق الديمقراطي ،(أرضية المؤتمر الثامن للاتحاد الاشتراكي مثلاً)، وبين من سيعتبر أن مستويات التأهيل الاقتصادي والاجتماعي التي يعرفها المغرب ،في حاجة الى استكمال حلقاتها من خلال تأهيل سياسي/حزبي ،واذا كانت القراءة الاولى ستدعو الى إصلاح دستوري ومؤسساتي يرتبط بمطلب الملكية البرلمانية ،فان القراءة الثانية ستتوج بالدعوة الى خلق حزب سياسي جديد ،ستثير شبه علاقته مع الدولة الكثير من النقاش واستدعاء المقارنات.
إصلاحات دستورية تعيد توزيع السلط آم إصلاحات إدارية تعيد توزيع الصلاحيات من المركز الى الجهات؟
من جهته حاول الخطاب حول "الجهوية المتقدمة " بكل التعبئة من "فوق " التي رافقته ، خلق رهان "تعويضي" و بديل "مفترض " للحوار حول الدستور وأزمة السياسة، وهنا لابأس من تقديم الفرضية التالية : إن طرح "النقاش حول الجهوية" جاء أساساً كتغطية لنقاش كان هو الأكثر مطابقة لمرحلة ما بعد أزمة انتخابات 2007 ،ألا و هو"النقاش حول الدستور".
نعم، لا شك أن للعلاقة المعقدة بين مشروعي "الجهوية المتقدمة" و"الحكم الذاتي"، أكثر من تأثير على طبيعة التعاطي السياسي مع مشروع الجهوية، لكن كذلك لا بد أن تعود بنا الذاكرة إلى ذلك الخطاب الذي أنتج من طرف "مقربين " من الدولة، حول الجهوية باعتبارها العنوان الوحيد للإصلاحات المؤسساتية الممكنة ببلادنا، وحول كون بلادنا استنفذت دستوريا كل صيغ توزيع الصلاحيات ،داخل المركز، وأن الخطوة المقبلة هي الانتقال من التوزيع الدستوري الأفقي للاختصاصات بين السلط، إلى التوزيع المجالي بين الدولة والجهات.
هذا الخطاب الذي طالما، زكى أطروحة إصلاح الجهوية كبديل عن إصلاح الدستور، شكل جزءا من خطاب أعم أريد له أن يسود طوال مرحلة ما بعد 2007، وأراد له التاريخ أن ينحصر بعد 20 فبراير.
20 فبراير تعيد السؤال الدستوري الى الواجهة
بعد عشرة سنوات من التأجيل المستمر ،سيعود الملف الدستوري بقوة ،في سياق التفاعل مع الربيع العربي ،وكأثر مباشر من جهة لدينامية 20فبراير التي رفعت شعار إسقاط الفساد والاستبداد ،وأعادت الحياة لشعار "الملكية البرلمانية "،ومن جهة أخرى للخطاب الملكي لتاسع مارس2011.
هذه العودة ستعرف من جهة تحولاً على مستوى الانتقال من ملف يتم تدبيره ضمن هامش نخبوي ،الى ملف يتملكه الشارع والفاعلون الاجتماعيون والمجتمع المدني.
لقد أدت 20فبراير الى معالجة جذرية لبراديغم الاصلاح ،كما تم تبنيه منذ 1999،فقد شكل سياق تبلور دستور 2011، انعطافة حاسمة في مسار "النموذج المغربي للإصلاح"، الذي تكرس منذ بداية الألفية الثالثة، وهو نموذج، تأسس على نجاح الدولة في تحويل النقاش من الإطار الماكرو سياسي، إلى إطارات جزئية،وعلى تحكم الدولة في أجندة الاصلاح عبر "تأميمها" لإيديولوجيا الإصلاح التي أصبحت جزءا من المشترك العمومي، ونجاحها في عملية "اختصار دورة المطالب"حيث لم تبقى الدولة أسيرة لمطالب المجتمع والأحزاب بقدرما خلقت آليات مؤسسية وموضوعاتية لإنتاج المطالب والتوصيات الضرورية للتغدية الذاتية للنظام السياسي.
لكن هذا النموذج تبينت محدوديته مع آثار الحراك الإقليمي الذي انطلق في عام 2011 وشكلت دينامية 20 فبراير امتداده المغربي، خاصة باعتبارها طلبا مكثفا على السياسة وعلى الإصلاح الدستوري الشامل، وبقراءتها كلحظة حاملة لمعادلة جديدة للإصلاح السياسي والدستوري، معادلة تتجاوز "المحاورة الثنائية" التي ظلت تطبع ملف الإصلاحات المؤسساتية، بين الأحزاب وبين الدولة، مما طرح السؤال حول حدود التحولات العميقة في النسيج الاجتماعي ،وعما إن كانت توحي بميلاد مجتمع المواطنين القادر على التعبير الذاتي عن مطالبه دون الحاجة إلى المرور الحتمي عن طريق الوساطات "التقليدية" خاصة مع التوفر على إمكانيات ولوج سهل إلى "الفضاء العمومي".
إن سياق دستور 2011، لا يرتبط فقط بعودة الإشكالية الدستورية إلى الواجهة كعقدة مركزية لأي إصلاح، وبالحاجة إلى إصلاح "السياسة" و"المؤسسات"، ولكنه يرتبط بالعمق المجتمعي الذي انطلقت منه المطالب الدستورية وبدور الشارع في احتضان هذه المطالب، ثم بإتساع غير مسبوق لدائرة الحوار العمومي حول قضايا الدستور.
لاشك أن هذه الشروط التاريخية التي أطرت مسلسل بلورة دستور يوليوز 2011، قد انعكست بالضرورة على طبيعة هذه الوثيقة، فعمق المطالب الدستورية والطريقة التي قدمت بها، والخلفية الإقليمية الضاغطة، جعلت موضوع ومضمون الإصلاح الدستوري ينتقل من دائرة ضبط التوازن بين البرلمان والحكومة، إلى دائرة أكثر أهمية وهي توزيع الصلاحيات داخل السلطة التنفيذية، ومن جهة اخرى أدى انفتاح الحوار العمومي حول المراجعة الدستورية ،على المجتمع المدني والحركة الجمعوية إلى صياغة دستور لا تعتبر السلطة والمؤسسات هاجسه الوحيد، بقدر ما يجسد كذلك دستورا للمواطنة وللحقوق.
- دستور 2011:عزلة النص وأزمة النخب السياسية
إعلامياً، على الأقل تَحُل هذه الايام الذكرى الثالثة للدستور الجديد،في تزامن مع مرور خمسة عشر سنة على تولى الملك محمد السادس لسدة الحكم .
لافت ،في البدء أن ثمة مشاكل تعترض مسار تكملة النصف الثاني -غير المكتوب-من هذه الوثيقة،فلم يُصادق خلال ما إنصرم من مدة الولاية التشريعية الحالية،سوى على عدد محدود من القوانين التنظيمية،و عدا هذا القصور الكمي،سجلت عدة ملاحظات على مستوى تدبير الحكومة لهذه القوانين،خارج منطق التوافق و الحوار العمومي الذي دًُبر به الدستور نفسه.
واذا كان من الموضوعي ،أن نسجل حضوراً قوياً خلال الثلاث سنوات الاخيرة ،تواتراً لحالات الجدل الدستوري ،ورغم ان هذا لا يعني بالضرورة ضمانة مؤكدة لنتيجة احترام مقتضيات الدستور ،فانه يؤشر على تحول بيداغوجي في التعامل الجماعي مع القانون الأسمى للبلاد.
في نفس السياق ،فانه على مستوى بناء الخطاب السياسي للفاعلين ،فان الإحالة الى دستور 2011،اصبحت جزءاً من مكونات الحجج المستثمرة داخل الفضاء العمومي بشكل غير مسبوق.
وعلى قصر التجربة الدستورية الحالية، فإنها تبقى بدون منازع التجربة الأكثر تميزا بتضخم الحديث عن "التأويل"، إذ لا يكاد يتم ذكر دستور 2011، إلا مقترناً بالحاجة إلى "التأويل الديمقراطي"، سواء في خطابات الأحزاب أو الصحافة أو المجتمع المدني، بل و حتى داخل خطاب المؤسسات.
وإذا كان خطاب بعض الفاعلين السياسيين، قد ربط بين "نجاح" التجربة الدستورية الحالية، وبين هذا التأويل، فإن قليلا ما يتم الإنتباه إلى أن هذا الحديث المتضخم، هو في النهاية دليل على "الحدود الموضوعية للنص الدستوري" والتي لا تجعله منتجا لأثاره الإيجابية، إلا انطلاقا من نوعية القراءة التي تقدم له، وهو ما يعني في نفس التحليل، تعليق أهمية النص، على الطريقة التي سيتمثله بها الفاعلون الأساسيون، وبالتالي ترك الدستور "رهينة" للحياة السياسية.
وهنا فإذا كان لابد من تقديم خلاصة ما، في هذا المناسبة، يمكن القول أنه لدينا اليوم، دستور جديد ومتقدم، لكن مع ثقافة سياسية قديمة تتحكم في تطبيقه وتفعيله وتأويله، مما لا يجعل دائما من احترام "الشرعية الدستورية "القاعدة السائدة ولا يجعل الحياة الدستورية مطابقة دوما لكل الواقع السياسي. إذ لا شك أن جزء من الدولة-كما يتضح على الأقل من الخطاب الديني الرسمي- يريد أن يحتفظ من الماضي، في بعض الحالات، بفكرة- طورها الملك الراحل– هي أسبقية وأولوية وسمو النظام السياسي على مؤسسة الدستور نفسه، كما أن جزء من النخب الحكومية وغير الحكومية، تريد هي الأخرى، في بعض الحالات، أن تحتفظ من الماضي، بفكرة – طورها اليسار سابقا- هي أولوية الثقة على التعاقد المكتوب، وأسبقية السياسي على الدستوري.
لذلك في بعض الحالات، تريد الدولة أن تبدو أقوى من الدستور وأكبر منه. وفي المقابل، تبدو الحكومة أضعف من الدستور، مثلها تماما مثل العديد من الفاعلين السياسيين الذين يعانون من أزمة تمثل حاد لدستور 2011، ويستمرون في إستبطان روح دستور 1996.
ختاماً ،قد يهم قراء هسبريس ،شيء من المقارنة -على المستوى المؤسساتي والدستوري- بين عهد الملك محمد السادس ،وبين العهد السابق ،وهنا فانه يمكن في المجمل الإشادة بالتطور الذي شهدته الهندسة الدستورية مع التحسر على مستوى الإنحدار الذي تعرفه النخبة السياسية.
وهنا ،لابأس أن أشاطر قراء هسبريس ، أحد استيهاماتي الخاصة ،ذلك أنني كثيراً ما أفكر في أن دستور محمد السادس -ربما- كان محتاجاً الى النخبة السياسية والحزبية للملك الحسن الثاني!
Ei kommentteja:
Lähetä kommentti