lauantai 29. marraskuuta 2014
الفصل الثاني: التدبير في المعيشة استراتيجيّة للحياة
الفصل الثاني: التدبير في المعيشة | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
استراتيجيّة للحياة
إنّ الاستراتيجيّة بمعناها الشامل, تعني: البرامج العامّة التي يجب اتّباعها, لتسخير شتّى الأمور السياسيّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والثقافيّة، والعسكريّة، وغيرها, من أجل تحقيق أهدافٍ معيّنةٍ مخطّط لها مسبقاً1. والاستراتيجيّة في المعيشة, تعني اتّباع برامج محدّدةٍ, لاستثمار المصادر المُتاحة خير استثمارٍ, بغية التمكّن من تحقيق الأهداف المعيشيّة البعيدة الأمد والقريبة الأمد بشكلٍ أمثل. أمّا استراتيجيّات تدبير المعيشة, فهي: عبارةٌ عن البرامج العامّة التي من خلالها تتحقّق الرفاهيّة النسبيّة، والطمأنينة، والضمان الاقتصاديّ، وزوال مشاكل المعيشة, وذلك لا يحصل
إلا في ظلّ إدارةٍ رصينةٍ.
ونشير في ما يلي إلى أهمّ هذه الاستراتيجيّات: أوّلاً: النَّظم والانضباط: لا شكّ في أنّ النظم والانضباط يُعدَّان من أهمّ استراتيجيّات التدبير في المعيشة. وهذه الاستراتيجيّة تعني: "ترتيب مناهج الحياة وتنظيمها"، بحيث يُؤدَّى كلُّ عملٍ في الزمان والمكان المناسبين، على أن لا يمنع هذا الأداء عملاً آخر أو يزاحمه. فالمدير والمدبّر الكفء: هو الذي يراعي النظم والانضباط في عمله، ولا يُوكِل عمل اليوم إلى غدٍ, لأنّ الإنسان المتديّن يؤمن بأنّ كلّ يومٍ يتطلّب عملاً خاصّاً به. وأكّد الإمام عليّ عليه السلام على هذا الأمر بقوله: "فِي كُلِّ وَقْتٍ عَمَلٌ"2, فالإنسان - بالتالي - هو مسؤولٌ عن كلّ لحظةٍ في حياته. وفي رواية عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام ينقل فيها موعظةً للقمان الحكيم في هذا الصدد، يقول فيها: "إِعْلَم أَنَّكَ سَتُسأَلُ غَدَاً إَذا وَقَفتَ بَينَ يَدَي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَن أربعٍ: شبابِكَ في ما أَبلَيتَهُ، وَعُمرِكَ في ما أَفنيتَهُ، وَمالِكَ مِمّا اكتَسبتَهُ وَفي ما أَنفَقتَهُ, فَتَأَهَّبْ لِذلِكَ، وَأَعِدَّ لَهُ جَوابَاً"3.
إذن، يعتبر - وفق هذه
التعاليم السامية - التماهل في أداء عمل اليوم، وإيكاله
إلى وقتٍ لاحقٍ, من الأخطاء التي لا يمكن تداركها. وبالطبع،
فإنّ رواج هذه الظاهرة في المجتمع, سيؤدّي إلى انحطاطه
وانهياره, لأنّ يوم غدٍ لا يأتي إلا في الغد.
وفي الواقع: إنّ مَن يتوهّم قطعيّة بقائه على قيد الحياة في الغد، وأنّه سيتمكّن فيه من تحقيق رغباته, فهو غافلٌ عن الحقيقة. ولا شكّ في أنّ نظمَ المدير وانضباطه يوجبان عليه أن يدبّر الأمور بطريقةٍ صحيحةٍ يمكنه معها الوفاء بالتزاماته في أوقاتها المحدّدة، من دون أن يخلف وعداً في أيّ عملٍ من أعماله. وبالتالي فهو سيحظى بمكانةٍ اجتماعيّةٍ مرموقةٍ، وسيحفظ مكانة المؤسّسة التي يديرها، ويبقى عزيزاً بين النّاس ومحترماً. وكذلك، فإنّ النشاطات التي يمارسها الإنسان لتوفير معيشته، والخدمات التي يقدّمها للمجتمع، وتوزيع الأعمال بين أفراد الأسرة الواحدة, كلّها أمورٌ تنطوي تحت مبدأي النظم والانضباط, كما كان يفعل أئمّتنا المعصومون عليهم السلام, حيث روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: "كانَ أميرُ المؤمنينَ عليه السلام يَحتطِبُ ويَستقِي ويَكنِسُ، وكانتْ
فاطمةُ عليها السلام
تَطحَنُ وتَعجِنُ وتَخبُزُ"4.
فاتّصاف الإنسان بالنّظم والانضباط في تكاليفه المُلقاة على عاتقه, يحفّزه على السعي لأدائها، ويجنّبه اللامبالاة، كما يمكّنه من الوفاء بالتزاماته ووعوده في أوقاتها المحدّدة, فلا يخالف قول الله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُولاً﴾5. إنّ اجتناب الإفراط والتفريط في أداء الوظائف على المستويين الفرديّ والاجتماعيّ، والتقيّد بمنهجٍ منظّمٍ في الحياة، وإنجاز الأعمال والمشاريع في جميع جوانب الحياة, هي أوامر نابعةٌ من روح تعاليم ديننا الحنيف. فديننا يدعونا إلى تنظيم أوقاتنا, لكي نستثمرها خير استثمارٍ, خدمةً لأنفسنا ومجتمعنا، حيث أشار الإمام موسى الكاظم عليه السلام إلى هذه الحقيقة بقوله: "اجْتَهِدُوا فِي أَنْ يَكُونَ زَمانُكُمْ أَرْبَعَ ساعاتٍ: ساعَةً لِمُناجاةِ اللهِ، وساعَةً لأَمْرِ الْمَعاشِ، وساعَةً لِمُعاشَرَةِ الإِخْوَانِ والثِّقَاتِ الَّذِينَ يُعَرِّفُونَكُمْ عُيُوبَكُمْ ويُخْلِصُونَ لَكُمْ فِي الْباطِنِ، وسَاعَةً تَخْلُونَ فِيها لِلَذّاتِكُمْ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ، وبِهذِهِ السّاعَة تَقْدِرُونَ عَلَى الثَّلاثِ ساعاتٍ. لا تُحَدِّثُوا أَنْفُسَكُمْ بِفَقرٍ، ولا بِطُولِ عُمُرٍ, فَإِنَّهُ مَنْ حَدَّثَ نَفْسَهُ بِالْفَقرِ بَخِلَ، ومَنْ حَدَّثَهَا بِطُولِ الْعُمُرِ يَحْرِصُ. اجْعَلُوا لأَنفُسِكُمْ حَظّاً مِن
الدُّنْيا, بِإِعْطائِها
ما تَشْتَهِي مِن الْحَلالِ، وما لا يَثْلِمُ الْمُرُوَّةَ
وما لا سَرَفَ فِيهِ، واسْتَعِينُوا بذلِكَ عَلَى أُمُورِ
الدِّينِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ: لَيْسَ مِنّا مَنْ تَرَكَ
دُنْياهُ لِدِينهِ، أَو تَرَكَ دِينَهُ لِدُنْياهُ"6.
ثانياً: العمل والجهد الحثيث7: لا يختلف اثنان في أنّ السعي الحثيث يُعدّ من الاستراتيجيّات الأساسيّة في تدبير المعيشة. ويُعدّ هذا الأمر - بالنسبة للقوانين الحاكمة على وجود الإنسان - وسيلةً لبناء شخصيّته وترسيخها، وفي الوقت نفسه هو وازعٌ لاكتمال قدراته البدنيّة والعقليّة، ونضوج طاقاته الفطريّة والذاتيّة. وتطرّق كتاب الله المجيد - بدوره - إلى العمل والسعي في مواطن عديدةٍ، وأكّد على أهمّيّة ذلك في نظام التكوين والتشريع، حيث جاء في إحدى آياته المباركة: ﴿لَقَدْ خَلَقْنا الإِنْسانَ فِي كَبَدٍ﴾8. وفي الحقيقة: إنّ الجهد الحثيث هو الذي يصقل شخصيّة الإنسان في الحياة الدنيا ويشذّبها. وحسب قانون الطبيعة، فإنّ
الحركة والعمل
والكبَد(المعاناة) هي أمورٌ ضروريّةٌ في حياة البشر، ولا
بدّ لكلّ إنسانٍ من مكابدتها. لذا، يُعدّ الإنسان بذاته
ظرفاً للحاجة، وبإمكانه أن يلبّي حاجاته ممّا هو موجودٌ في
الطبيعة من ثرواتٍ. وبالتأكيد، فإنّ هذه الثروات ليست
مُعدّة على طَبَقٍ من ذهب، بل إنّ استثمارها بحاجةٍ إلى
جهدٍ وعملٍ دؤوبٍ، وهذه الضرورة فرضتها قوانين الطبيعة على
الإنسان, من أجل أن يتسنّى له الخلاص من الفقر، والحرمان،
وكلّ ما من شأنه الإخلال بنظم حياته الفرديّة والاجتماعيّة.
1ـ الأنبياء والأئمة عليهم السلام والعمل الدؤوب: حثّ الله عزّ وجلّ عباده على العمل الدؤوب والجهد الحثيث، وكان ديدن أنبياء الله تعالى وأوليائه الصّالحين عليهم السلام على هذا النهج, حيث أشار الإمام موسى الكاظم عليه السلام إلى هذه الحقيقة. فعن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة، عن أبيه، قال: رأيتُ أبا الحسن عليه السلام يعمل في أرضٍ له وقد استنقعت قدماه في العرَق، فقلت: جُعلت فداك, أين الرجال؟ فقال عليه السلام: "يا عَليُّ، قَد عَملَ بِاليدِ مَن هُو خيرٌ مِنّي في أِرضِهِ، ومِن أبي". فقلت: ومن هو؟ فقال: "رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وأَميرُ المؤمِنينَ عليه السلام، وآبائي كُلُّهُم كانوا قَد عَملُوا بأَيدِيهِم, وهُو مِن عَملِ النَّبييِّنَ والْمُرسَلينَ والأوصياءُ والصّالِحينَ"9.
كما أكّد الإمام جعفر
الصادق عليه السلام على ذلك, عندما أعرب عن حبِّه لمن يكسب
من عرق جبينه، ويعمل تحت حرارة الشمس, لتأمين لقمة عيشه،
فقد روي عن أبي عمرو الشيبانيّ أنّه قال: رأيتُ أبا عبد
الله عليه السلام وبيده مسحاةٌ، وعليه إزارٌ غليظٌ يعمل في
حائطٍ له، والعرقُ يتصابُّ عن ظهرهِ، فقلتُ: جُعلتُ فَداك,
أعطني أكفِكَ. فقال عليه السلام لي: "إنِّي اُحبُّ أنْ
يَتأذَّى الرّجُلُ بِحرِّ الشَّمسِ في طَلبِ المعيشَةِ"10.
لذا، فإنّ الحياة الطيّبة الكريمة ستكون من نصيب المجتمع الإسلاميّ, متى ما اتّخذ أبناؤه الإيمانَ منهجاً لهم, لأنّ العمل شعارُ المؤمن، وجزءٌ من الإيمان11. وفي الواقع: إنّ العمل يصقل ذات الإنسان ويظهرها على حقيقتها، ولا ريب في أنّ المتخاذل عن العمل جاهلٌ بتعاليم الدين, لأنّ فحوى تعاليم ديننا تتجلّى في النشاط والعمل، وكلّ متديّنٍ يرى العمل كرامةً له. ويظهر ذلك في وصية الإمام جعفر الصادق عليه السلام لأحد أصحابه, حينما سأله كيف يَحفَظ كرامة نفسه, إذ أوصاه عليه السلام: أن يعتمد على نفسه، ويعمل لكسب رزقه. فقد روي عن علي بن عقبة قوله: قال أبو عبد الله عليه السلام لمولىً له: "يا عبدَ اللهِ، إحفظْ عِزَّكَ". قال: وما عزِّي! جُعلت
فداك؟ قال عليه السلام:
"غُدُوُّكَ إلى سُوقِكَ وإكرامُكَ نَفسَكَ". وقال عليه
السلام لشخصٍ آخر: "مالي أراكَ تَركتَ غُدُوّكَ إلى
عِزِّكَ؟!". قال: جنازةُ أردتُ أن أحضرها. قال عليه
السلام: "فَلا تَدَعْ الرَّواحَ إلى عِزِّكَ"12.
وبالطبع، فإنّ العمل النزيه يُعدّ أمراً ضروريّاً لإصلاح حياة الفرد والمجتمع، ولا بدّ منه لحفظ المبادئ والقيم الأصيلة، ومن خلاله يتمُّ تأمين كلّ حاجةٍ في المجتمع. لذا، فإنَّ تعاليم ديننا لا تجيز لنا ترك أعمالنا، ومدّ أيدينا للآخرين, طلباً للرزق، حتّى في أصعب الظروف. روي عن زرارة: أنّ رجلاً أتى الإمام الصادق عليه السلام، فقال له: إنّي لا أُحسن أن أعمل عملاً بيدي، ولا أُحسن أن أتّجر, وأنا محارفٌ13 محتاجٌ! فقال له الإمام عليه السلام: "إعْمَلْ، فَاحمِلْ على رَأسِكَ، واسْتغنِ عَن النّاسِ, فإنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَد حَمَلَ حَجَراً عَلى عُنُقِهِ، فَوَضَعَهُ في حائطٍ مِن حيطانِهِ، وإنَّ الحجَرَ لَفِي مَكانِهِ ولا يُدرى كَمْ عُمقُهُ"14. 2ـ تطوّر الإنسانية يكون بالعمل: إنّ تطوّر شخصيّة الإنسان ورقيّ المجتمع مرهونان
بالجهد والنشاط،
فالمجتمع الذي لا وجود للعمل الحثيث فيه، والمتكاسل الذي
لا عمل دؤوب له, لا يشهدان أيّ تطوّرٍ أو رقيٍّ. ومن هذا
المنطلق، فإنّ ترك العمل يُعدّ من الأخطاء الفادحة التي
تؤدّي إلى الكسل والخمول، وتحول دون نضوج شخصيّة الإنسان
وانتعاش المجتمع. فذات يومٍ جاء تاجرٌ إلى الإمام الصادق
عليه السلام وقال: إنّه وفّر مالاً كثيراً، ويريد ترك
العمل, لأنّه ليس بحاجةٍ إليه. فنهره الإمام عليه السلام
وأخبره بأنّ تفكيره هذا غير صائبٍ، فالإنسان الذي يترك
العمل سوف لا يكون مفيداً لمجتمعه15.
ويثبت لنا ممّا ذُكر من نصائح وإرشادات أنّ أئمّتنا عليهم السلام يريدون تحفيزنا على السّعي، والعمل الحثيث، وعدم الاكتفاء بالقليل, في مجال الإنتاج، وخدمة العائلة، والمجتمع, إذ أنّ العمل يجعل الحياة طيّبةً، وينعش الجسم والروح على حدٍّ سواء، حيث إنّ العمل والإنتاج يرسّخان دعائم المجتمع الإسلاميّ والعالميّ معاً، حتّى وإن كان الشخص بذاته ليس بحاجةٍ إليه. أ- العمل قوّةٌ للجسم والرّوح: من المؤكّد أنّ العمل سببٌ لسلامة الجسم، ووازعٌ لتنامي قدرة الإنسان. وعلى العكس منه, البطالة، التي تتسبّب في
إهدار الطاقة، وحصول
خلق الهمّ والأرق في نفس العاطل عن العمل. والإمام عليّ
عليه السلام الذي يُعدّ مثالاً للعامل المجدّ، أشار إلى
هذه الحقيقة، بقوله: "مَن يَعْمَل, يَزدَدْ قُوّةً،
ومَن يُقَصِّر في العَمَلِ يَزدَدْ فَترَةً"16.
كما قال عليه السلام: "مَن قَصَّرَ فِي العَمَلِ, ابتُلِيَ بالْهَمِّ, ولا حاجَةَ للهِ في مَن لَيسَ للهِ فِي مالِهِ ونَفسِهِ نَصِيبٌ"17. وللعمل فوائد على جسد الإنسان وروحه، فالإنسان لا يكون فعّالاً في مجتمعه إلا من خلال عمله وجهده. وبالطبع، فإنّ العمل يُوجب عليه أن يتغذّى, لأنّ العمل والتغذيّة يمنحان البدن الطاقة الضروريّة لاستمرار الحياة. فالإنسان عندما يتغذّى, فسوف لا تُصرَف الطاقة التي ادّخرها الجسم إلا من خلال نشاطه البدني وعمله, أي بواسطة الجهد العضليّ، حيث يكتسب جسم الإنسان طاقةً، ويخزّنها، ثمّ يحرقها. لذا، فإنّ الطاقة سوف لا تتكدَّس في جسم الإنسان النّشيط, لأنّه يصرف السّعرات الحراريّة الزّائدة عبر العمل، فتتنشّط بواسطة ذلك أعضاؤه التي تخزّن الطاقة وتصنّعها في عمليّتي
الادّخار والتّصريف، وهذا
الأمر بذاته يُعدُّ سبباً لسلامته الرُّوحيّة أيضاً.
أمّا العاطلون عن العمل, الذين لا نشاط بدنيَّ لهم, بحيث يعيشون حياة الخمول، والكسل، والاتّكال على الآخرين, فسوف تضمحّل أجسامهم، وتضطرب عمليّة التغذيّة وتخزين الطاقة فيها، وبالتالي سوف يفقدون كلّ ما لديهم من قدرةٍ بدنيّةٍ18. ومن الواضح، أنّه ليس بدن الإنسان فقط بحاجةٍ إلى العمل، بل روحه وجميع قواه المعنويّة والفكريّة بحاجةٍ إليه أيضاً، وكذلك هو الحال بالنسبة إلى أوضاعه الثقافيّة والتربويّة. فالبطالة لها تأثيرٌ سلبيٌّ على معنويّات الإنسان، وكثيراً ما تسوق الإنسان والمجتمع إلى الفساد والفشل والانهيار. وقد تطرّق الإمام الصادق عليه السلام إلى هذا الأمر في حديثٍ بليغٍ ومعبّرٍ للمفضّل بن عمر، جاء فيه: "فانظُر كيفَ كُفيَ الخِلقَةَ التي لم يكُن عندَهُ فيها حِيلةٌ، وتركَ عليه في كلِّ شيءٍ من الأشياءِ موضِعَ عمَلٍ وحرَكةٍ, لما لهُ في ذلكَ مِن الصّلاحِ, لأنّهُ لو كُفيَ هذا كُلَّهُ حَتّى لا يكونَ لهُ في الأشياءِ موضِعَ شُغلٍ وعمَلٍ, لما حملتهُ الأرضُ أشراً وبطراً، ولبلغَ بهِ كذلكَ إلى أن يتعاطَى أُموراً فيها تَلَفُ نفسِهِ. ولَو كُفيَ النّاسُ كُلَّ ما يحتاجونَ إليهِ،
لما تهنَّؤوا بالعيشِ،
ولا وَجَدوا لهُ لَذَّةً. ألا تَرَى لَو أنّ امرءاً نَزلَ
بقومٍ فأقامَ حِيناً، بَلغَ جميعَ ما يحتاجُ إليهِ من
مَطعَمٍ ومَشرَبٍ وخِدمةٍ, لتَبَرَّمَ بالفراغِ، ونازعَتهُ
نفسُهُ إلى التّشاغُلِ بشيءٍ! فكيفَ لَو كانَ طولَ عُمرِهِ
مَكفِيّاً لا يحتاجُ إلى شيءٍ؟! وكانَ من صوابِ التّدبيرِ
في هذه الأشياءِ التي خُلِقَتْ للإنسانِ أن جُعلَ لَهُ
فيها مَوضعَ شُغلٍ, لِكي لا تُبرِمهُ البطالةُ،
ولِتَكُفُّهُ عَن تَعاطي ما لا يَنالُهُ ولا خَيرَ فيهِ إنْ
نالَهُ. واعلمْ يا مُفضّلُ أنّ رأس معاشِ الإنسانِ وحياتَهُ:
الخبز والماء, فانظُر كيفَ دبّرَ الأمرَ فيهما"، إلى
أن قال: "وهكذا الإنسانُ: لَو خَلا مِن الشّغلِ, لخرَجَ
مِن الأشرِ والعبثِ والبطرِ، إلى ما يعظُمُ ضرَرُهُ عَليهِ،
وعَلى مَن قَرُبَ مِنهُ، واعتَبرَ ذلكَ بِمَن نَشَأ في
الجدَةِ ورَفاهيَةِ العَيشِ والتَرفّهِ والكِفايةِ وما
يُخرجُهُ ذلك إليهِ"19.
ب ـ ذمّ
التّكاسل والبطالة:
نستلهم من ثقافتنا الدينيّة أنّ النشاط والعمل ضرورةٌ من ضرورات الحياة التي لا يمكن التخلّي عنها بوجهٍ، فالمجتمع الذي يسوده الكسل، وتنتشر فيه البطالة, سوف تتزلزل أركانه. كما نستوحي منها ضرورة اشتراك جميع أبناء المجتمع في الجهد الإنتاجي بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ، وكذلك وجوب تحمُّلهم مسؤولية ما فرضته عليهم الشّريعة العادلة من
تكاليف20.
لذلك، فإنّ الكسل، والبطالة، والحياة الاتّكاليّة,
هي أُمورٌ ذمّتها تعاليمنا الدينيّة، وقبّحتها أشدَّ تقبيحٍ،
بل لُعِن مَن يتّكل على الآخرين, حيث قال الإمام موسى
الكاظم عليه السلام: "إنّ اللهَ لَيُبغِضُ العبدَ
النَّوّامَ، وإنّ اللهَ لَيُبغِضُ العبدَ الفارِغَ"21.
وكما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَلعونٌ مَلعونٌ مَن ألقَى كَلَّهُ عَلى النّاسِ"22. ولو تصفّحنا التأريخ لوجدنا أنّ أنبياء الله تعالى عليهم السلام وأولياءه الصالحين عليهم السلام كانوا مثالاً يُحتذى وأُسوةً صالحةً, للعمل الحثيث، وتأمين متطلّبات الحياة بعرق الجبين، فقد أعاروا العمل أهمّيّةً بالغةً، وعدّوا ثوابه أعظم من ثواب المجاهدين في سبيل الله تعالى. إذ أشار الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام إلى هذا الأمر بقوله: "الذي يَطلُبُ مِن فَضلِ اللهِ ما يَكُفُّ بهِ عيالَهُ, أعظَمُ أجراً مِن المجاهدِ في سبيلٍ اللهِ"23.
إذن، الروايات
ذات الصّلة بهذا الموضوع24
تؤكّد جميعها على أنّ العمل الحثيث خصلةٌ من خصال أنبياء
الله تعالى وأوليائه الصالحين عليهم السلام، إذ أنّهم
يعدّونه عبادةً، كما أنّهم ذمّوا البطالة والتكاسل بشدّةٍ.
وبالطبع، علينا أن نتّخذ الروايات الكثيرة التي تحفّز على العمل الحثيث, منهجاً نتّبعه في اختيار نوع العمل الذي يناسبنا, اقتداءً بأنبياء الله تعالى وأوليائه الصالحين عليهم السلام الذين كانت لهم نشاطاتٌ على جميع المستويات، مثل: التجارة، والمضاربة، والزراعة، وتربية الماشية، والسقاية، وما إلى ذلك من أعمالٍ كريمةٍ شجّعوا العباد على مزاولتها25. ثالثاً: الاستثمار: إنّ استثمار الأموال يُعدّ أحد العوامل الأساسيّة في النموّ الاقتصاديّ. وعلى الرغم من ضرورة هذا الأمر، إلا أنّه لا يزال غير متعارفٍ في النشاطات الاقتصاديّة الأُسريّة, إذ أنّ الأُسرة هي المصدر الأساس للاستثمار. لذا، من الضروريّ السعي في إصلاح برنامج تخصيص الأموال وإنفاقها، بحيث يتمّ اجتناب الإسراف، والتبذير، وهدر الثروات، أو خمودها, وذلك لكي يتمّ تسخير الاستثمار والادّخار
في خدمة
التطوّر الاقتصاديّ. وهذه الاستراتيجيّة في تدبير المعيشة
تؤدّي إلى القضاء على الفقر والحرمان، وتكون ذخراً لا ينضب
لأبناء المجتمع.
فالمال والثروة - بطبيعة الحال - رصيدٌ للفرد والمجتمع على حدٍّ سواء. وبعبارةٍ أخرى: إنّ المال قَوّامٌ عليهما، والخطابات القرآنيّة في هذا المجال جاءت بصيغة الجمع26, وذلك للدلالة على أهمّيّة الرصيد المالي وقوّاميّته في المجتمع. فأصل قوّاميّة المال تبيّن لنا أهمّيّة الاستثمار، حتى وإن كانت الثروة بأيدي الناس, لأنّ الثروة لو سُخّرت لخدمة المجتمع، وتأمين مصالحه, سوف لا تفقد قوّاميّتها، لكنّها لو ادُّخرت وأصبحت خاملةً, ستفقد هذه القوّاميّة27. عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنَّما أعطاكُمْ اللهُ هذهِ الفُضولَ مِن الأموالِ, لتُوجِّهوها حيثُ وَجّهَها اللهُ، ولَم يُعطِكُموها, لتكنِزُوها"28. وأكّد الدين الإسلاميّ على خاصّية العمل والاستثمار في جميع المجالات الاقتصاديّة التي تخدم المجتمع, كالزراعة، والصناعة، والتعدين، والخدمات العامّة، وما إلى ذلك من
نشاطات.
وتطرّقت المصادر الإسلاميّة إلى هذا الأمر وشجّعت الناس
عليه, تحت عناوين مختلفةٍ: إمّا بشكلٍ مباشرٍ، مثل: إصلاح
المال، والعمران، والإحياء، وإمّا بشكلٍ غير مباشرٍ، مثل:
منع ركود الثروة، وحرمة الإسراف والتبذير، وحرمة إتلاف
المال، وترويج مبدأ القناعة، والاقتصاد في استهلاك الأموال29.
وسنذكر في ما يأتي بعض الآيات المباركة والأحاديث الشريفة التي تشجّع على استثمار الأموال: 1ـ آياتٌ مشجِّعة على الاستثمار: أ- صرّح القرآن الكريم بمشروعيّة جمع الثروة، وأهمّيّة تأمين المصادر الاقتصاديّة واستثمارها في مجال الإنتاج، وأشار إلى أنّ الله تعالى خلق الإنسان من الأرض، وسخّرها له، وأوكل إليه إعمارها، حيث قال: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾30، وبالطبع، فإنّ عمران الأرض لا يتمّ إلا عن طريق الاستثمار. - نستلهم من قصّة النبيّ يوسف عليه السلام أنّه وضع برنامجاً
اقتصاديّاً,
لإدارة مصر لأكثر من عقدٍ، وتمكّن من القيام باستثماراتٍ
ضخمةٍ في هذه البلاد العظيمة. وهذه الاستثمارات قد
بُرمِجَت في إطار خطّةٍ طويلة الأمد، وفي ثلاثة محاور, هي:
توفير عناصر الإنتاج، وإنشاء ثروةٍ ماليّةٍ واستثمارها،
وبناء مخازن للموادّ الغذائيّة, بغية حفظها لسنوات الجدب.
قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ
سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي
سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ
يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا
قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ
* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ
النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾31.
- خلق الله تعالى السماء والأرض، وسخّر كلّ ما فيهما, لخدمة الإنسان، وتلبية حوائجه، وأكرمه بالعقل الذي مكّنه من استثمار ما في الطبيعة من خيراتٍ, كصناعة السفن التي تقطع البحار, لكي يتسنّى له كسب رزقٍ حلالٍ. وبالطبع، لا بدّ له من أن يشكر الله تعالى على هذه النعم العظيمة. ومن المؤكّد أنّ استغلال هذه النعم لا يكون ميسّراً إلا بعد برنامجٍ استثماريٍّ مناسبٍ، وإن كان محدوداً. فعلى سبيل المثال: إنّ استخراج لحمٍ طريٍّ من البحر: ﴿وَمِنْ كُلٍّ تَأكُلُونَ
لَحْمَاً
طَرِيَّاً﴾32
لا يكون ميسّراً من دون تسخير بعض الأموال في صناعة السفن
والزوارق، أو على أقلّ تقديرٍ توفير وسائل الصيد.
- تحدّث القرآن الكريم عن استثمارٍ ضخمٍ في أحد المشاريع العظيمة إبّان العهود السالفة من خلال تسخير أموالٍ طائلةٍ، واستخدام تقنيةٍ متطوّرةٍ. وهذا المشروع هو: بناء سدٍّ بين جبلين يحول دون عبور الأعداء من تلك الفسحة، حيث تمّ إنشاؤه من قِبَل ذي القرنين, تلبيةً لطلب سكّان المنطقة, وذلك إمّا باستثمار أموال السكّان وذي القرنين معاً، وإمّا باستثمار أموال السكّان فحسب. وذكر القرآن الكريم نجاح هذا المشروع العظيم، وأنّ ذا القرنين اعترف بأنّ هذا النجاح لم يكن ممكناً لولا رحمة الله تعالى ولطفه, إذ أكرمه تعالى بقدرةٍ مكّنته من صناعة ذلك السدّ. قال تعالى: ﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾33.
- أمر الله
تعالى المسلمين بأنّ يعدّوا أنفسهم لمواجهة الأعداء قدر
المستطاع, وذلك حتّى لا يطمع أحدٌ بالإغارة على أراضيهم
وسلب أموالهم. قال عزّ وجلّ في كتابه الكريم:
﴿وَأَعِدُّواْ
لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ
الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ
وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ
يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ
اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾34.
فهذه الآية المباركة تدلّ على ضرورة اقتناء الأسلحة المتطوّرة من قِبَل المسلمين في كلّ زمانٍ، كما أنّها تحتّم عليهم تقوية عزائم الجند، ورفع معنويّاتهم, ليزدادوا قوّةً. وهي بالتأكيد لا تختصّ بالاستعداد العسكريّ وحسب، بل نستوحي منها ضرورة الاهتمام بسائر القضايا الاقتصاديّة، والثقافيّة، والسياسيّة, التي تندرج تحت مفهوم(القوّة), لما لها من تأثيرٍ بالغٍ في مواجهة الأعداء35. - هناك آياتٌ كثيرةٌ في القرآن الكريم تطرّقت إلى نماذج عديدةٍ من استثمار الأموال في مختلف المشاريع، منها الآيتان 37 و38 من سورة هود، والآية 27 من سورة المؤمنين التي تشير إلى توفير بعض الأمور, من أجل صناعة سفينة نوح عليه السلام عن طريق الوحي. والآيتان 12 و13 من سورة
سبأ تشيران
إلى خطّة النبيّ سليمان عليه السلام الاستثماريّة في صناعة
جدران، وتماثيل، وأواني طعام كبيرة، وقدور ثابتة. وكذلك
الأمر في الآيتين 10 و11 من سورة سبأ، والآيات 26 إلى 28
من سورة القصص التي تذكر مشروع النبيّ داوود عليه السلام
الاستثماريّ في صناعة الدروع الحربيّة، وكذلك تشير إلى
الاتّفاقيّة التي عُقِدَت بين النبيّ شعيب عليه السلام
والنبيّ موسى عليه السلام في استثمار خدمات الأخير36.
ب
ـ روايات مشجِّعة على الاستثمار:
وفي ما يلي نذكر بعض الروايات المباركة التي تناولت قضيّة استثمار الأموال: - روى زرارة عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "ما يَخلُفُ الرّجُلُ بَعدَهُ شَيئاً أشَدَّ عَلَيهِ مِن المالِ الصّامِتِ". قال زرارة: قلت له كيف يصنع به؟ قال عليه السلام: "يَجعَلهُ فِي الحائطِ والبُستانِ أو الدّارِ"37. - روى محمّد بن عذافر، عن أبيه، قال: أعطى أبو عبد الله عليه السلام أبي ألفاً وسبعمائة دينارٍ، فقال له: "اتَّجِر لِي بِها". ثمّ قال عليه السلام : "أَما إنّهُ لَيسَ لِي رَغبَةٌ في رِبحِها،
وإنْ كانَ
الرّبحُ مَرغوباً فيهِ، ولكِنِّي أحبَبتُ أن يَراني اللهُ
عزَّ وجلَّ مُتعرِّضاً لفَوائدِهِ". قال: فربحت له فيه
مائة دينارٍ، ثمّ لقيته، فقلت له: قد ربحت لك فيها مائة
دينارٍ، ففرح أبو عبد الله عليه السلام بذلك فرحاً شديداً،
وقال لي: "أَثبِتْها في رَأسِ مالِي"38.
- أوصى الإمام جعفر الصادق عليه السلام أحد أصحابه أن يشتري مزرعةً أو بستاناً, لأنّ الذي يمتلك رصيداً مادّيّاً يؤمّن حاجاته وحاجات عياله, سوف لا يعاني كثيراً، ويرتاح باله, لو تعرّض إلى نائبةٍ أو حادثةٍ. فقد روى محمّد بن مرازم، عن أبيه: أنّ أبا عبد الله عليه السلام قال لمصادف مولاه: "اتّخِذْ عقدةً أو ضَيعةً, فإنّ الرّجلَ إذا نزَلت بهِ النّازِلةُ أو المصيبةُ، فذَكرَ أنّ وَراءَ ظهرَهُ ما يقيمُ عيالَهُ, كانَ أسخَى لنفسِهِ"39. - وأوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس باستثمار أموالهم، وعدَّ ذلك من المروءة، حيث قال: "مِن المروءَةِ استصلاحُ المالِ"40. كما أكّد الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام على هذا الأمر - أيضاً - بقوله: "استثمارُ المالِ تمامُ المروءَةِ"41. وإضافةً إلى ما ذُكر، فإنّ جميع الروايات التي وردت في
العقود
التجاريّة، مثل: عقد المزارعة، والمساقاة، والمضاربة،
والشراكة، والجعالة، والإجارة، وما شاكلها, تجوّز استثمار
الأموال، وتسخيرها, خدمةً للفرد والمجتمع.
2- فوائد الاستثمار: لا ريب في أنّ الاستثمار ذو فوائد عظيمة للفرد والمجتمع على حدٍّ سواء، ونذكر من هذه الفوائد ما يلي: أ- الرقيّ الاقتصاديّ: إنّ استقطاب رؤوس الأموال, من شأنه أن يمهّد الأرضيّة المناسبة لاستغلال الطاقات البشريّة والاقتصاديّة بشكلٍ أمثل، وبالتالي سيؤدّي إلى رفع مستوى الإنتاج الوطنيّ الذي يترتّب عليه ارتفاع مستوى الدخل القوميّ، وتوفير فرص العمل، وتقليص مستوى التضخّم، والقضاء على البطالة، كما يصون اقتصاد المجتمع من الأزمات التي تطرأ عليه. ب- التقدّم الاجتماعي: فمن شأن الاستثمار أن يكون نقطة انطلاقٍ لمنهجٍ تنمويٍّ ينصبُّ في تحسين الأوضاع المعيشيّة للفرد والمجتمع معاً، وكذلك من شأنه أن يصقل القدرات الفرديّة والجماعيّة. كما أنّه سببٌ لبلوغ أقصى درجات الاقتدار السياسيّ والاقتصاديّ. ج- الاستقلال السياسي: للاستثمار دورٌ هامٌّ في الاستقلال
عن سلطة
الأجانب، وبلوغ درجة الاكتفاء الذاتيّ، كما له تأثيرٌ فاعلٌ
على مكافحة الفقر، واجتثاث جذوره من المجتمع، وفي الوقت
نفسه يعدُّ أساساً للسياسة الاجتماعيّة والاقتصاديّة في
الإسلام. فالثروة تكون مفيدةً حسب التعاليم الإسلاميّة,
حينما تُسخَّر في خدمة مصالح المجتمع الإسلاميّ وتحفظ
كرامة أبنائه42.
د- استغلال الطاقات: من الطبيعيّ أنّ إهدار الثروات، واستهلاك الأموال, بأسلوبٍ غير مبرمجٍ, سوف يحول دون التطوّر والإعمار. لذا، فإنّ استثمار الثروة والمال ذو أهمّيّةٍ بالغةٍ في تسخير الطاقات البشريّة والماليّة بشكلٍ صحيحٍ43. هـ- الدفع في عجلة التطوّر: يُعدّ الاستثمار من الأسباب البارزة والمؤثّرة في تطوّر الفرد والمجتمع في جميع مجالات الحياة، وهو يؤدّي دوراً هامّاً في إصلاح البنية التحتيّة لاقتصاد المجتمع ورقيّه، ولا سيّما في مجالَي الزراعة والصناعة.
رابعاً:
الرقابة والسّيطرة:
إنّ الإشراف على العمل يُعدّ أمراً هامّاً في شتّى الأمور ومن شأنه ضمان استثمار الفرص بطريقةٍ مُثلى، كما يساهم في رفع كفاءة الإمكانيّات الموجودة، ويُعدّ عاملاً مساعداً لوليّ أمر المؤسّسة أو العائلة في أداء مهامّه. لذا، يجب على الإنسان مراقبة نفسه وجميع تصرّفاته, فيصلح ما كان غير لائقٍ منها. من هنا، أكّد الإمام عليّ عليه السلام على هذا الأمر بقوله: "مَن حاسَبَ نَفسَهُ، وَقَفَ عَلى عُيوبِهِ، وأحاطَ بذُنوبِهِ، واستقالَ الذّنوبَ، وأصلَحَ العُيوبَ"44. والإشراف الصحيح على الأعمال في مؤسّسةٍ ما, سوف يُصلحها ويؤدّي إلى رفعة رأس المسؤول عنها أمام مَنْ هم أعلا منه رتبةً. وعلى العكس من ذلك، فإنّ فقدان الإشراف الصحيح على الأعمال, سيؤدّي إلى حدوث خللٍ فيها, وبالتالي فسادها، ويعدّ علامةً على ضعف الإدارة وسوء التدبير. ولا بدّ أن تكون الرقابة على الأعمال بالعلن والخفاء في آنٍ واحدٍ، ففي تعاليمنا الدينيّة يوجد أخبارٌ تشير إلى أهمّيّة الرقابة الخفيّة، وتأثيرها الكبير على نجاح الأعمال. أمّا الرقابة الخفيّة التي أشار إليها القرآن الكريم, فهي على مستوىً عالٍ من
الدقّة,
لدرجة أنّها تدرك أحاسيس الإنسان وأفكاره الباطنيّة, حيث
قال تعالى في كتابه المجيد:
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنا
الإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾45.
فالرقابة الخفيّة عن طريق الرقابة والتفتيش، لها دورٌ فعّالٌ في تشخيص الطاقات الكامنة، ورفع مستوى العطاء، وكذلك من شأنها كشف الانتهازيّين والمتصيّدين في الماء العكر، والمتملّقين، وتمييز الصالحين والمخلصين في العمل عن غيرهم. وما أكثر الذين يرتدون ثياب الصُّلحاء، لكنّهم يكنُّون في أنفسهم المكر والأحقاد، كما أنّهم في الوقت نفسه حمقى ومتحجّرون، حيث ينظرون إلى الحياة من زاويةٍ ضيّقةٍ. لذلك فإنّ تقويم الأمور, حسب آراء هؤلاء، أمرٌ مخالفٌ للصواب والمنطق. وللإمام عليّ عليه السلام كلامٌ رائعٌ في هذا المجال في عهده إلى مالك الأشتر النخعيّ, حينما نصحه بحسن اختيار عمّاله، حيث قال: "ثُمَّ لا يَكُن اختِيارُكَ إِيّاهُمْ عَلَى فِراسَتِكَ واسْتِنامَتِكَ وحُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ, فَإِنَّ الرِّجالَ يَتَعَرَّفُونَ لِفِراساتِ الوُلاةِ بِتَصَنُّعِهِمْ وحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ، ولَيْسَ وَراءَ ذلِكَ مِن النَّصِيحَةِ والأَمانَةِ شَيءٌ, ولكِنِ اختَبِرهُمْ بِما وُلُّوا لِلصّالِحِينَ قَبلَكَ, فَاعمِدْ لأَحْسَنِهِمْ كانَ فِي العامَّةِ أَثَراً، وأَعرَفِهِمْ بِالأَمانَةِ وَجْهاً"46.
كما جاء في
هذا العهد - أيضاً -: "ثُمَّ انظُرْ فِي أُمُورِ
عُمّالِكَ, فَاستَعْمِلهُمُ اختِباراً، ولا تُوَلِّهِمْ
مُحاباةً وأَثَرَةً، فَإِنَّهُما جِماعٌ مِنْ شُعَبِ
الْجَوْرِ والْخِيانَةِ. وتَوَخَّ مِنهُمْ أَهْلَ
التَّجْرِبَةِ والْحَياءِ" إلى أن قال: "ثُمَّ
تَفَقَّدْ أَعْمالَهُمْ، وابْعَث الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ
الصِّدْقِ والْوَفاءِ عَلَيهِمْ، فَإِنَّ تَعاهُدَكَ فِي
السِّرِّ لأُمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُم عَلَى اسْتِعمالِ
الأَمانَةِ والرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ"47.
وروى الريّان بن الصلت أنّ الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام قال: "كانَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم إذا وَجّهَ جَيشاً فَأمَّهُم أميرٌ, بعثَ مَعهُ مِن ثِقاتِهِ مَن يَتَجَسَّسُ لَهُ خَبرَهُ"48. إذن، الرقابة التي أُشير إليها في هذه الروايات تختصّ عموماً بالمؤسّسات والمراكز العامّة، وكذلك فهي من البديهيّ تشمل المكوّن الأصغر في المجتمع, كالأسرة, إذ يمكن تطبيق تلك التعاليم فيها حسب الظروف الزمانيّة والمكانيّة. الرقابة على الاستهلاك49: إنّ الرقابة على إنفاق الأموال تُعدّ من الأمور الهامّة في مجال تدبير شؤون المعيشة، وقد تكون أهميّتها أكثر من الإنتاج
أحياناً.
والمقصود من رقابةٍ كهذه هو تحديد صرف الأموال بمستوىً
يتناسب مع دخل الفرد أو المجتمع، مع الأخذ بعين الاعتبار
واجتناب الإسراف، والتبذير، وعدم إتلاف المال بأيّ طريقةٍ
كانت، مع مراعاة أحوال الأجيال اللاحقة في الإنفاق، بغية
إيصال المجتمع نحو التقدّم والرقي.
فالنبيّ يوسف عليه السلام عندما تولّى إدارة الشؤون الاقتصاديّة في مصر، أشرف على الأموال والمحاصيل في السنوات السبع ذات النعمة الوفيرة إشرافاً دقيقاً، فتمكّن من ادّخار أكبر قدرٍ ممكنٍ من المحاصيل الزراعيّة لسنوات الجدب. وحسب ما أشارت إليه بعض الروايات، فإنّه عليه السلام تجاوز محنة سنوات الجدب، وجنّب الناس القحط والمجاعة, من خلال حسن تدبيره في القضاء على الاستثمار الطبقيّ في المجتمع، وإزالة الفواصل بين فئات المجتمع المصريّ50. فمن خلال الإشراف بدقّةٍ على إنفاق الأموال في سنوات الخير السبعة, تمكّن من ادّخار مقادير عظيمةٍ من المحاصيل الزراعيّة لسنوات الجفاف والجدب. فبحسن تدبيره وإدارته الصحيحة قام بمعاوضة المحاصيل الزراعيّة في سنوات القحط مع الدراهم، والدنانير، والمواشي، والغلمان، والجواري، والدور، والأراضي الزراعيّة, ثمّ بعد ذلك
أعاد هذه
الأموال والممتلكات إلى أهلها بشكلٍ عادلٍ, لأنّ هدفه كان
إنقاذ أهل مصر من المجاعة والبلاء.
إنّ النبيّ يوسف عليه السلام في الواقع لم يكن مجرّد مفسّرٍ للأحلام، بل كان قائداً يخطّط من زاوية السجن لمستقبل البلاد، حيث قدّم مقترحاً من عدّة موادٍّ لخمسة عشر عاماً على الأقلّ. وكما سنرى، فإنّ هذا التعبير المقرون بالمقترح للمستقبل حرّك الملك وحاشيته، وكان سبباً لإنقاذ أهل مصر من القحط القاتل من جهة، وخلاص يوسف من سجنه، وإخراج الحكومة من أيدي الطغاة من جهة أُخرى51. أمّا في الجانب الفرديّ، فإنّ وفور النعمة يجب أن لا يكون وازعاً للتبذير والإسراف، بل لا بدّ من اتّخاذ منهجٍ صحيحٍ، وإشرافٍ دقيقٍ عند استهلاك المواهب والنِّعم الإلهيّة, بغية ادّخارها للمستقبل, وذلك كي لا يُجبر الإنسان يوماً على أن يمدّ يده للآخرين, طلباً للعطاء. كما يمكن من خلال هذا الإشراف الصحيح مساعدة الفقراء والمساكين، وأداء التكاليف الشرعيّة والاجتماعيّة بأفضل وجهٍ. وكذلك لا بدّ للإنسان أن يأخذ بعين الاعتبار حياته الأخرويّة.
خامساً:
مشورة الآخرين:
إنّ مشورة الآخرين ومعرفة آرائهم تُعدّ من استراتيجيّات التدبير في جميع المستويات الفرديّة، والعائليّة، والإداريّة. ومهما كان الإنسان عبقريّاً وذا حصافةٍ, فإنّه لا يستطيع أن يُدرِك زوايا الحياة كافّةً، وأن يحيط بجميع مشاكل المعيشة. فالمسؤول الذي لا يستشير الآخرين في إدارة مؤسّسته, يُعدّ فاشلاً في إدارته، ويتعرّض لانتكاساتٍ في عمله. لقد حظيت مسألة المشورة بأهمّيّةٍ بالغةٍ في التعاليم الإسلاميّة، فالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رغم امتلاكه قدرةً فكريّةً كبيرةً تؤهلّه لتسيير الأُمور وتصريفها من دون حاجةٍ إلى مشاورة أحد، وبغضّ النظر عن الوحي الإلهي, ولكنّه فعل ذلك صلى الله عليه وآله وسلم كي يُشعر المسلمين بأهمّيّة المشاورة وفوائدها, فيتخذوها ركناً أساسيّاً في برامجهم، وحتّى ينمّي فيهم قواهم العقليّة والفكريّة. لذا، نجده يشاور أصحابه في أُمور المسلمين العامّة التي تتعلّق بتنفيذ القوانين والأحكام الإلهية - لا أصل الأحكام والتشريعات التي مدارها الوحي - ويقيم لآراء مشيريه أهمّيّةً خاصّةً، ويعطيها قيمتها اللائقة بها، حتّى أنّه كان أحياناً ينصرف عن الأخذ برأي نفسه, احتراماً لهم ولآرائهم, كما فعل ذلك في واقعة أُحد. ويمكن القول: إنّ هذا الأمر بالذات كان أحد العوامل المؤثّرة وراء نجاح الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في تحقيق أهدافه الإسلاميّة العليا52.
وحيث إنّه لا
شكّ في أصل أهمّيّة المشورة في تدبير أمور المعيشة، سوف
نتطرّق إلى بعض فوائدها وآثارها في ما يلي:
1- حدود المشورة: أمر الله تعالى نبيّة الكريم صلى الله عليه وآله وسلم أن يشاور المسلمين في الآية الكريمة: ﴿شاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾53. وصحيحٌ أنّ كلمة(الأمر) في هذه الآية ذات مفهومٍ واسعٍ يشمل جميع الأُمور، لكن من المسلّم - أيضاً - أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يشاور الناس في الأحكام الإلهيّة مطلقاً، بل كان في هذا المجال يتّبع الوحي فقط. وعلى هذا الأساس، كانت المشاورة في كيفيّة تطبيق الأحكام الإلهيّة على أرض الواقع. وبعبارةٍ أُخرى: إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يشاور أحداً في التقنين، بل كان يشاور في كيفيّة التطبيق، ويطلب وجهة نظر المسلمين في ذلك, ولهذا عندما كان يقترح أمراً - أحياناً -، يبادره المسلمون بهذا السؤال: هل هذا حكمٌ إلهيٌّ لا يجوز إبداء الرأي فيه، أو إنّه يرتبط بكيفيّة التطبيق والتنفيذ؟ فإذا كان من النوع الثاني, أدلى الناس فيه بآرائهم، وأمّا إذا كان من النوع الأوّل, لم يكن منهم تجاهه سوى التسليم والتفويض54. 2- الاختلاف بين الشورى والمشورة: إنّ الشورى عبارة عن المشورة المتبادلة بين أهل المعرفة
والمتخصّصين
وأصحاب الخبرة والمفكّرين بشأن موضوعٍ معيّنٍ, لأنّ أفضل
طريقٍ للوصول إلى النتيجة هو: البحث والنقاش في ما بينهم55.
ومن خلال تلاقح هذه الأفكار, يسطع نورٌ يستنير به الناس، وسبيلٌ يمكنهم سلوكه56. وفي بعض الأحيان، يخلط البعض بين الشورى والمشورة، فالقرار في الشورى يكون جماعيّاً, إذ يتشاور المختصّون في قضيّةٍ ما، ويكون القرار مطابقاً لرأي الأغلبيّة. أمّا القرار في المشورة, فيتّخذه شخصٌ واحدٌ بعد استشارته لشخصٍ أو أشخاصٍ، ويكون هذا القرار حسب ما يراه المستشير مناسباً, أي أنّ القرار النهائيّ يكون طبق ما يستسيغه هو57. 3- المشورة في الأسرة: إنّ المشورة من الأصول التي يجب الاعتماد عليها في إدارة شؤون الأسرة, لذلك، فإنّ أفضل طريقٍ لاجتناب الخلافات التي تَحْدُث في بعض العوائل، في مختلف المجالات المعيشيّة، وفي تبادل الزيارات بين الأهل والأصدقاء، وفي الأعراف والتقاليد، وفي المسائل المتعلّقة بالضيافة, هو استشارة الزوجين،
واستشارة سائر أعضاء العائلة بعضهم للبعض الآخر،
وقبول الرأي الآخر برحابة صدرٍ ومحبّةٍ متبادلةٍ. فعلى
جميع أعضاء العائلة التفاهم في ما بينهم، وأن يعيروا
أهمّيّةً لجميع الآراء والمقترحات، كما عليهم التخلّي عن
الأنانيّة وتحكيم العقل, لأنّ الاستشارة المتبادلة تصقل
الأفكار وتشذّبها.
ولا يمكن لأحدٍ إنكار فوائد المشورة في العائلة, فمن شأنها تقليص الخلافات لأدنى درجةٍ ممكنةٍ، أو القضاء عليها تماماً, وبالتالي خلق أجواءٍ من الطمأنينة والاستقرار, الأمر الذي يساعد على حسن التدبير في المعيشة. وقد يؤدّي ترك مشورة الآخرين إلى الحسرة والندامة, إذ في معظم الأحيان يكون القرار الصادر إثر المشورة صائباً لا يعقبه ندم. ومن هنا، فإنّ فوائد المشورة بين أعضاء الأسرة كثيرةٌ. كما لا يجب غضّ النظر حتّى عن مشورة الصغار، أو تجاهل دورهم في المجتمع, فلربّما تكون لديهم آراء ومعلومات ذات أبعادٍ جديدةٍ تعين الكبار على اتّخاذ القرار58. 4- فوائد المشورة: إنّ استشارة الآخرين ومعرفة آرائهم - حسب ثقافتنا الدينيّة -، تعني مشاركتهم في عقولهم، وتوسعة أُفق اتّخاذ القرار, الأمر
الذي أكّد عليه الإمام عليّ عليه السلام في قوله:
"مَن
شاوَرَ الرِّجالَ شارَكَهُا فِي عُقُولِهِا"59.
لذا، فإنّ
القرار الذي يتّخذه المتشاورون لا يكون فرديّاً, إذ يكونون
شركاء فيه، ولا يشعرون بأنّه فُرِضَ عليهم فرضاً. أضف إلى
ذلك أنّ الذي يستشير الآخرين في أُموره وأعماله, لو تمكّن
من تحقيق نجاحٍ, قَلّ أن يتعرّض للحسد, لأنّ الآخرين يرون
أنفسهم شركاء في تحقيق ذلك النجاح، وليس من المتعارف أن
يحسد الإنسان نفسه على نجاحٍ حقّقه. وأمّا إذا استشار، ولم
يتمكّن من تحقيق نجاحٍ، وتعرّض لنكسةٍ, فسوف لا يلومه
الناس، ولا يتعرّض لسهام نقدهم واعتراضهم, لأنّ الإنسان لا
يعترض على عمل نفسه، ولا ينقد فعل ذاته، بل سيشاطرونه
الألم، ويتعاطفون معه، ويشاركونه في التبعات, كلّ ذلك
لأنّهم شاركوه في الرأي، وشاطروه في التخطيط، ولأنّه لم
يكن مستبدّاً في الرأي، ولا متفرّداً في العمل60.
كما أنّ المشورة تعين الإنسان على تشخيص الخطأ، كما قال الإمام عليّ عليه السلام: "مَن استَقبَلَ وُجُوهَ الآراءَ عَرَفَ مَواضِعَ الخطَأ"61.
فالرؤية
العقلائيّة تشجّع الإنسان على طلب آراء الآخرين، حيث قال
الإمام عليّ عليه السلام: "العاقِلُ مَن اتَّهَمَ رَأيَهُ،
ولَم يَثِق بِما سَوَّلَتهُ لَهُ نَفسُهُ".62
وقال عليه السلام في مناسبةٍ أُخرى: "كَفاكَ مِن عَقْلِكَ
ما أَوْضَحَ لَكَ سُبُلَ غَيِّكَ مِن رُشْدِكَ"63.
وهناك فائدةٌ أُخرى للمشورة, تكمن في أنّها خير محكٍّ لمعرفة جواهر الآخرين، والعلم بما يكنّونه للمستشير, من حبٍّ أو كراهيةٍ، وولاءٍ أو عداءٍ، ولا ريب في أنّ هذه المعرفة تمهّد سبيل النجاح. وللمشورة فوائد جمّة في حُسن تدبير المعيشة، نذكر منها ما يلي، أنّها: - تحول دون تكرار العمل. - تحول دون وقوع أخطاء لا تُحمد عقباها. - تجنّب الإنسان الملامة والندم. - تصون الإنسان من خسائر فادحة. - تجنّب الإنسان الديون التي لا مسوّغ لها. - تمنع بعض القرارات الطائشة التي تُتّخذ لأسبابٍ عاطفيّةٍ محضة.
- ترفع من
المستوى المعيشيّ للإنسان.
- تمكّن الإنسان من استثمار تجارب الآخرين وأفكارهم في قضايا المعيشة. - تكون وازعاً لكسب رضا الآخرين وعطفهم. - تحول دون إنفاق أموالٍ طائلةٍ في مختلف المجالات. - ترفع مستوى الاستثمار الماليّ إلى أعلى درجةٍ. 5- عواقب الاستبداد بالرّأي: إنّ الاستبداد بالرأي - حسب تعاليمنا الدينيّة - يعدُّ آفةً عظيمةً تزلُّ قدم الإنسان بها عن طريق الصواب، وتوقعه في المهالك. قال الإمام عليّ عليه السلام: "الاستبدادُ بِرأيكَ يزلُّكَ ويهوّرُكَ فِي المهاوِي"64. لذا، فإنْ تصوّر العقل أنّه غنيٌّ فسوف يزلّ65. وهذا الأمر بذاته ناشئٌ من جهل الإنسان66. وبالطبع، فالعاقبة هي الهلاك لا محالة67. ولا ريب في أنّ الاستبداد في الرأي يقضي على الشخصيّة في الجمهور، ويُوقف حركة الفكر وتقدّمه، ويميت المواهب
المستعدّة، بل
يأتي عليها, وبهذا الطريق تُهدر أعظم طاقات الأمّة
الإنسانيّة68.
لذلك، فإنّ عاقبة الاستبداد سيّئةٌ، ولا خير فيها أبداً،
كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا سَعَدَ
بِاستِغناءِ رأي"69.
إذن، عاقبة الاستبداد بالرأي وترك المشورة في شؤون الحياة, هي الجهل بالأعمال، ولا سيّما ما يتعلّق منها بأمور المعيشة, فالمستبدّ برأيه سيكون بعيداً كلّ البعد عن حسن التدبير الذي لا تُحمد عقباه. 6- اتّخاذ القرار بعد المشورة: إنّ التشاور هو مجرّد إبداء الرأي من قِبَل الأكثريّة، والقرار الحاسم يكون لقائد الجماعة70، والآية الكريمة تشير إلى هذا المعنى: ﴿وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾71. فقد أكّدت الآية على مشورة الجماعة (شاورهم)، ولكنّ القرار النهائيّ أوكلته إلى المستشير(عزمتَ) الذي هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا الأمر إشارة إلى قضيّةٍ هامّةٍ تكمن في أنّ التطرّق إلى مختلف القضايا الاجتماعيّة، والسياسيّة، والثقافيّة، وغيرها, يجب أن يكون بشكلٍ جماعيٍّ ومشتركٍ، ولكن عند بلوغ مرحلة
التطبيق, فمن
الضروريّ أن يُتّخذ القرار من جانبٍ واحدٍ، وإلا سوف تعمّ
الفوضى.
وهناك مسألةٌ هامّةٌ في هذا المضمار, هي: وجوب التوكّل على الله عند اتّخاذ القرار النهائيّ, أي عند الاستعداد لأداء العمل, لا بدّ من الاستعانة بقدرة الله تعالى العظيمة, إذ التوكّل يعطي الإنسان دفعةً معنويّةً تعينه على مواجهة المصاعب. لذلك، فالمشورة في مسائل الحياة، والمعيشة، والتدبير, يجب أن تتزامن مع التوكّل على الله تعالى, فيتمّ تنفيذ العمل بإرادةٍ واحدةٍ، حيث تظهر آثار التوكّل في هذه المرحلة. سادساً: الحزم في اتّخاذ القرار: إنّ اتّخاذ القرار هو اختيار أمرٍ من بين عدّة أمورٍ، ويتمّ ذلك عن طريق جمع المعلومات، وتحليل المعطيات بشكلٍ عمليٍّ, الأمر الذي يوسّع الأفق لحلولٍ متنوّعةٍ. وبالطّبع، هناك مسائلُ عديدة لها تأثيرٌ في اتّخاذ القرار في موضوعٍ ما، نذكر منها ما يلي: - مطالعة المعلومات ذات الصلة بالموضوع وتحليلها. - معرفة حقيقة الموضوع. - تشخيص الموضوع بشكلٍ صحيحٍ. - سعة أفق التفكير.
- الحصول على
حلولٍ مناسبةٍ.
- الاطّلاع على عيوب الموضوع ومحاسنه. - معرفة أهمّيّة القرار. - معرفة الجوانب المختلفة للموضوع. ويمكن تشبيه اتّخاذ القرار بقارئ الأقراص المدمجة المصوّرة، حيث يستقبل المعلومات على شكل رموزٍ رقميّة، ثمّ يترجمها إلى صورةٍ وصوتٍ. فعمليّة اتّخاذ القرار تشمل دراسة جوانب الموضوع من كافّة النواحي وتقويمها، وبعد ذلك يتمّ الاختيار. 1ـ شروط الصحّة في اتّخاذ القرار: يوجد مجموعة من الشروط المؤثّرة في صحّة اتّخاذ القرار، حيث تتعلّق بشهامة صاحب القرار، وحزمه، وقدرته على ذلك, وهذه الشروط نراها جليّةً في سيرة أنبياء الله تعالى عليهم السلام، ولا سيّما نبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الكرام عليهم السلام. فهؤلاء الأفذاذ لم يتماهلوا عن أداء واجباتهم طرفة عينٍ، وكانوا أهلاً للمسؤوليّة في إبلاغ رسالتهم, ففي المواقف الصعبة كانوا يتّخذون أصعب القرارات من دون تردّدٍ. ومن خلال حُسن تدبيرهم, كانوا يختارون الطريق الأمثل في الحياة، ويقطعونه بعزمهم الراسخ، وإرادتهم الصلبة.
وفي دعوة
رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم التي دامت ثلاث
وعشرين سنةً، نجد الكثير من تلك القرارات الحاسمة التي
اتّخذها بإرادةٍ حديديّةٍ غيّرت مجريات الأمور، مثل: تحطيم
أصنام الكعبة، وتخريب مسجد ضرار، وإصراره على إقامة حدود
الله تعالى، وما إلى ذلك من أحداث تحكي عن حزمه في الأمور.
وكذلك هو الحال بالنسبة للإمام عليّ عليه السلام، حيث اتّخذ قراراتٍ مصيريّةً لا يجرؤ على اتّخاذها سوى أصحاب الهمم العالية. ونلمس هذا الأمر جليّاً في أحاديثه وخطبه، فقال مرّةً بشأن الأموال التي تُنهب من بيت مال المسلمين: "وَاللهِ لَو وَجَدتُهُ قَد تُزُوِّجَ بِهِ النِّساءُ ومُلِكَ بِهِ الإِماءُ لَرَدَدتُهُ"72. لذا، فإنّ الخوفَ المُفرِط الذي لا يكون في محلّه, هو علامةٌ على ضعف الشخصيّة، وفقدان الإرادة، الأمر الذي لا يليق بأُولي الأمور73. فالمدير أو المسؤول المقتدر والمدبّر في قضايا المعيشة, هو الذي يتمكّن من اتّخاذ القرارات اللازمة بعزمٍ راسخٍ, متى ما رأى أنَّ المصلحة تقتضي ذلك. وبالتالي، فإنّه قبل أن يتَّخذ أيَّ قرارٍ، عليه القيام بما يلزم من مشورةٍ وتحقيقٍ, قدرَ المستطاع, بغية سلوك الطريق الصحيح, ومعرفة
مكامنه،
وحينها تكون قراراته صائبةً تُحمد عقباها. والنتيجة، فإنَّ
ثمرة ذلك النّجاح74.
وأكّد الإمام عليّ عليه السلام على هذه الحقيقة, بقوله: "الظَّفَرُ بالْجَزمِ والْحَزمِ"75. فالحزم في مجال المشورة, لتدبير شؤون المعيشة, لا بدّ أن يكون في إطار الليونة والمرونة، ولكن عند اتّخاذ القرار يجب الخروج من هذا الإطار، واتّخاذ جانب القطع والجزم. وهذه الاستراتيجيّة في تدبير المعيشة تعدّ سبباً لتنفيذ الأعمال في مواعيدها المقرّرة، وتقف حائلاً أمام أطماع الآخرين، كما أنّها تمهّد الأرضيّة اللازمة لنظم شؤون الحياة، وتمنع تدخّل الآخرين في الشؤون الخاصّة. 2ـ أنواع القرارات: إنّ القرارات التي يتّخذها الإنسان هي على نوعين، هما: - قراراتٌ ذات أهداف قصيرة الأمد: تتضمّن قضايا الحياة اليوميّة، وغالباً ما تتكرّر. - قراراتٌ استراتيجيّةٌ ذات أهداف بعيدة الأمد: وغالباً ما تتأثّر بقضايا مجهولةٍ لم يحسب لها حسابٌ.
وعلى الإنسان
قبل اتّخاذ أيّ قرارٍ، أن يأخذ بعين الاعتبار العواملَ ذات
الصلة بالمعيشة وسائر العوامل الهامّة, كالأوضاع
الاقتصاديّة, فأحياناً تكون القرارات مصيريّةً، ومن شأنها
أن تقضي على كيانٍ ما بالكامل76.
سابعاً: الأولويّة في إنفاق الأموال: لا ريب في أنّ الدخل المحدود، والإمكانيّات القليلة، وغلاء الأسعار, أمورٌ تحول دون قدرة الإنسان على تلبية جميع متطلّبات حياته. لذا، فإنّ حسن التدبير في المعيشة يقتضي تقنين إنفاق الأموال حسب الأولويّات التي تتطلّبها ظروف المعيشة, أي يجب تسخير الأموال لتوفير المتطلّبات الضروريّة، أمّا الأمور الثانويّة, التي لا ضرورة لها، فهي في الدرجة الثانية في سُلّم الترتيب. فلو لم ينتهج الإنسان هذا النهج، ولم يُعِرْ أهمّيّةً لمتطلّبات حياته الضروريّة، ولم يقنّن كيفيّة صرف أمواله، خصوصاً إذا كان دخله محدوداً وثابتاً, فسوف يضطرّ إلى الاقتراض, وبالتالي فإنّ القرض يسبّب ضغوطاً تنهك حياة الفرد والأسرة. ومن هنا، تبرز أهمّيّة إيلاء الأولويّة لبعض الأمور الهامّة في المعيشة. استغلال الوقت والفرص المناسبة من القضايا الهامّة في تعيين الأولويّة بتخصيص الأموال، وما يؤيّد ذلك قول الإمام
عليّ عليه
السلام: "إِنَّ رأيَكَ لا يَتَّسِعُ لِكُلِّ شَيءٍ،
فَفَرِّغهُ لِلمُهمِّ"77.
ويقول الشيخ الكفعمي رحمه الله: "طُوبى لمن أطاعت نفسه ناصحاً يهديه، وتجنّبت غاوياً يرديه، وقصر همّته على ما يعنيه، وجعل كلّ جدِه لما ينجيه، وطوبى لمن بادر أجله، وأخلص عمله، وقصر أمله، واغتنم مهله"78. وهناك مسألتان هامّتان يجب التأكيد عليهما في هذا المجال، هما: - لا بدّ من التصرّف بوعيٍ، وكسب معلوماتٍ لازمةٍ, في كيفيّة تسخير الأموال لموردٍ ما، وإنفاقها فيه. فعلى سبيل المثال: يجب العلم بمقدار الموادّ البروتينيّة اللازمة لجسم الإنسان، ومعرفة مصادر هذه المواد ونوعيّتها, فمن خلال هذه المعلومات يمكن للإنسان أن يشتري ما يحتاج إليه من دون إسرافٍ. - يجب كسب معلوماتٍ بخصوص أسعار البضائع والخدمات التي تقدّم في مختلف الأماكن, بغية اتّخاذ القرار المناسب. وأصحاب الدخل المحدود لو لم يأخذوا هاتين المسألتين بعين الاعتبار، ولم يكن لديهم الاطّلاع الكافي على طريقة
الاستهلاك
الصحيحة, سوف لا يتسنّى لهم استثمار أموالهم بشكلٍ صحيحٍ،
وبالتالي سيواجهون مصاعب في حياتهم. أمّا الأثرياء، فإنّهم
بفقدان هذا التقنين الصحيح من خلال استهلاكهم المُفْرِط,
سوف يتعرّضون لأضرارٍ قد لا يكون لها تأثيرٌ بالغٌ على
المدى القريب، بل ستظهر آثارها السيّئة على المدى البعيد.
فالتدبير الصحيح يقتضي التدرّج في الإنفاق الصحيح، وتعيين الأولويّة في بذل الأموال, ففي بادئ الأمر، يجب الإنفاق في الموارد المهمّة، ثمّ الإنفاق في الموارد الأقلّ أهمّيّةً79. 1- أقسام الإنفاق: يمكن تقسيم إنفاق الأموال، وتصنيف ذلك حسب الوقت الذي يتمّ فيه الإنفاق، وحدّ الأموال التي يجب صرفها على المدى القريب - النّفقات الثّابتة - وعلى المديَين المتوسّط والبعيد. فالنّفقات الثّابتة, هي الأموال التي يتمّ إنفاقها يوميّاً، مثل: أجور المأكل، والتنقّل، وإيجار المنزل. والنّفقات التي تُخصّص للاستهلاك في مدّةٍ طويلةٍ نسبيّاً - على المدى المتوسّط - هي التي لا يتمّ إنفاقها يوميّاً، مثل: ثمن
الثياب،
والأحذية، وما شابههم.
أمّا النّفقات التي تُخصّص للاستهلاك على المدى البعيد, فهي التي تؤثّر على اقتصاد الأسرة، مثل: شراء منزلٍ، وسيارةٍ، وسائر الأجهزة المنزليّة. وبالتأكيد لا يمكن توفير هذه النفقات شهريّاً عن طريق الدّخل الشهريّ, لذلك يجب وضع منهجٍ مناسبٍ للنّفقات قريبة الأمد ومتوسّطة الأمد, يمكن من خلاله توفير النفقات بعيدة الأمد80. 2- تدوين النفقات: تُعدّ عمليّة تدوين النّفقات من الأمور الهامّة, لأنّها تُمكّن الإنسان من معرفة مقدار ما يحتاج إليه من أموالٍ في حياته, إذ يسعى من خلالها إلى رفع مستوى دخله. ومن هنا، فإنّ رفع مستوى الدَّخل منوطٌ بالسّعي والعمل الحثيث, لذا شجَّع الإسلام على ذلك, بشرط مراعاة الاعتدال والتوازن بين العمل والعبادة. ومن جانبٍ آخر، فإنّ الظُّروف المحيطة بالإنسان، والأسعار، ومستوى أجور العمل, تُعدّ من الأمور التي تؤثّر على معدّل الدخل, وهي خارجةٌ عن إرادة
الإنسان، غير
أنّ تغيير مقدار النفقات غالباً ما يكون منوطاً بإرادة
الإنسان.
أمّا تدوين النفقات اليوميّة، والأسبوعيّة، والشهريّة، والسنويّة, فيمكّن الإنسان من معرفة مدى الإنفاق المطلوب، وتحليل معطياته, فيعرف ما يحتاج إليه, لتأمين مؤونته، وكذلك يتمكّن من معرفة أهمّيّة هذه النفقات، ومدى تأثيرها على التوازن الماليّ لعائلته. لذا، فإنّ التدوين يعين الإنسان على وضع برنامجٍ مناسبٍ لنفقات العائلة, من أجل ضمان المستقبل. إنّ الإنسان يكتسبُ الخبرة اللازمة في تنظيم نفقاته من خلال حُسن التدبير، والبرنامج المنظّم لأمور المعيشة, في الموازنة بين متطلّبات الحياة والإمكانيّات المادّيّة المتوافرة، بعد إنفاق ما يلزم. لذلك، فإنّ تدوين مقدار النفقات وتحليلها, من شأنه أن يخفّف الضغط المادّيّ على العائلة ويوصله إلى أدنى مستوىً له، ويقلّص الشعور بالحرمان من السلع والخدمات التي يحتاجها. كما أنّ استخدام الطريقة الصحيحة في تدوين النفقات, من شأنه أن يُقنِعَ بعض أعضاء العائلة المعارضين لبرنامج الإنفاق المتّبع, وهو بحدّ ذاته يحول دون الإسراف81. وهناك مرحلة هامّةٌ في موضوع تدوين النفقات، تتأتّى في
نهاية كلّ
دورةٍ يتمّ تدوينها، حيث، لا بدّ من الاطّلاع على مقدار
النفقات، وتقويم مدى صحّة الإنفاق أو عدمه. فإذا كان
الدّخل والإنفاق متوازنين, فهذا يدلّ على أنّ الخطط
الاقتصاديّة صحيحةٌ. ولكن، إذا كان الدخل والإنفاق غير
متوازنين, أي كان الإنفاق أكثر من الدخل, يجب حينها تشخيص
أسباب عدم الاتّزان، ومعرفة هل إنّه ناشئٌ من التضخّم
والغلاء، أم من البذخ في الضيافة، أم من النّفقات غير
الضروريّة، أم من سوء التّدبير، أم إنّها ناشئى من أسباب
وعوامل أخرى؟ وبعد معرفة هذه الأسباب، يجب التخطيط للمرحلة
القادمة، واجتناب الأخطاء التي حصلت, لكي يتسنّى لربّ
العائلة إيجاد توازنٍ بين مقدار الدخل والإنفاق, وبالتالي،
تحقيق تناسقٍ مطلوبٍ بين أمور المعيشة ومقدار نفقاتها.
وهناك فوائد كثيرة لتدوين النفقات، نذكر منها ما يلي: - تنظيم مستوى الإنفاق، وتحقيق ضبطٍ اقتصاديٍّ. - معرفة متطلّبات الحياة، وتحديد الأولويّات اللازمة. - استثمار الطاقات والإمكانيّات المُتَاحة, استثمارٍ أفضل. - الحؤول دون إهدار الطاقات والثروات المادّيّة. - اجتناب الإسراف والتبذير. - معرفة قيمة النعمة.
- تمهيد
الأرضيّة اللازمة للادّخار.
- الرقيّ مادّيّاً ومعنويّاً. - تنامي روح القناعة لدى الإنسان. - حصول توازنٍ بين الدخل والنفقات. وقد عُبّر عن التدوين في الأحاديث الشريفة, بالتقدير والتدبير، حيث روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "التَّقدِيرُ نِصفُ العيشِ"82. وكما روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "قِوامُ العيشِ حُسنُ التَّقدِيرِ، ومِلاكُهُ حُسنُ التَّدبيرِ"83. إذن، تدوين النفقات في مجالات الإنفاق العامّة - وكذلك الخاصّة -، ووضع برنامجٍ صحيحٍ لمداولة الأموال في إطار نظامٍ اقتصاديٍّ فرديٍّ وجماعيٍّ على جميع المستويات, يعدّ حلّاً ناجعاً للمشاكل الاقتصاديّة. ثامناً: التّخطيط: إنّ التخطيط لمختلف شؤون الحياة الاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والثقافيّة, يُعدّ من أهمّ استراتيجيّات التدبير في المعيشة. فهذا التخطيط من شأنه أن يرسّخ الدعائم الاقتصاديّة للعائلة، وأن
يكون وازعاً
لنجاح الأبناء في دراستهم، وأن يساعد على تحقّق الحسابات
الصحيحة في الدخل والإنفاق، وتنظيم أمور العائلة، وكما
أنّه يخلق توازناً في الكثافة السكّانيّة.
ومن الطبيعي أن يسلك الإنسان طُرُقاً فرعيّةً عديدةً في مسيرته نحو هدفه المنشود، وعبر التخطيط الصحيح, سوف لا يحيد عن هذا الطريق، وسيتغلّب على الكثير من مشاكله. ولو لم يحدّد الإنسان مسلكه الصحيح، ولم يضع خطّةً مناسبةً, فإنّه لن يصل إلى هدفه أبداً. وبعبارةٍ أخرى: عند انعدام التخطيط، أو عند اتّباع خطّةٍ غير صحيحةٍ, فإنّ الإنسان سوف يبتعد عن هدفه وربّما لا يتمكّن من بلوغه أبداً. وفي بعض الأحيان يكون هذا الأمر سبباً للفقر والتخلّف، كما قال الإمام عليّ عليه السلام: "سُوءُ التَّدبِيرِ مِفتاحُ الفَقرِ"84. فالعائلة أو المؤسّسة التي تفقد حسن التدبير والتخطيط الصحيح في برامجها المعيشيّة, سوف تُحرَم من الخير. قال الإمام عليّ عليه السلام: "أيُّهَا النّاسُ، لا خَيرَ فِي دُنيا لا تَدبِيرَ فِيها"85. ومن المؤكّد، أنّ التخطيط الصحيح وحسن التّدبير, يعدّان وسيلةً لكسب المال، والتمكّن من ادّخاره، ولكنّ سوء التدبير
والتخطيط
الخاطئ يحولان دون كسب المال، بل قد يؤدّيان إلى اهدار ما
في اليد من مالٍ, كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام:
"لا مالَ لِمَن لا تَقدِيرَ لَهُ"86.
أقسام التّخطيط: يمكن تعريف التخطيط في العائلة، كما يلي: هو هدايةٌ عقلانيّةٌ وآليّةٌ لاتّخاذ القرار في مختلف شؤون الحياة، على المديَين القريب والبعيد, بغية استثمار الأموال، والإمكانيّات المتاحة بشكلٍ مناسبٍ, لتوفير متطلّبات العائلة. لذا يمكن تقسيم التخطيط في ثلاثة محاور: 1- التّخطيط القصير المدى: هو توجيه الأسرة نحو فعّاليّاتٍ معيّنةٍ وتنفيذها، وعادةً ما تكون نتائجه منطقيّةً خلال مرحلة التطبيق في فترةٍ قصيرةٍ، كما يُطلق عليه اصطلاحاً البرنامج التنفيذيّ - أيضاً -. وزمان تنفيذ الخطط وأداء النشاطات في هذا البرنامج، لا يتجاوز سنةً واحدةً. 2- التخطيط متوسّط المدى: هو توجيه الأسرة نحو فعّاليّاتٍ مخطّطٍ لها مُسبقاً، عادةً ما تكون مُستوحاة من البرامج بعيدة المدى. وزمان تنفيذ الخطط في هذا البرنامج يكون خلال سنةٍ أو سنتين.
3- التخطيط
بعيد المدى: وهو عبارةٌ عن توجيه الأسرة نحو فعّاليّاتٍ
تتضمّن أهدافاً بعيدة الأمد، ويطلق عليه - أيضاً - اصطلاح
البرنامج الاستراتيجيّ. وزمان تنفيذ الخطط فيه يتراوح بين
خمس وعشرة سنواتٍ87.
ما يجب اتّباعه في التخطيط: هناك أمورٌ لا بدّ من أخذها بعين الاعتبار عند التخطيط للمعيشة, إذ لها تأثيرٌ كبيرٌ على نجاحه، ونذكر منها ما يلي: تحديد الأهداف المرجوّة من وراء البرنامج الذي تمّ وضعه بشكلٍ واضحٍ وشاملٍ. استشارة جميع أعضاء الأسرة، وكلّ من له صلةٌ بهذا البرنامج بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ، وكذلك استشارة ذوي الخبرة في هذا الصدد. تشخيص القضايا الهامّة، ومعرفة الأولويّات اللازمة في شتّى المجالات. تحديد البرنامج حسب الإمكانيّات المتاحة، والقيام بدراسةٍ واقعيّةٍ للمصادر الاقتصاديّة. جمع كافّة الحقائق والمعلومات عن آراء الآخرين وتجاربهم, التي لها صلةٌ بالبرنامج الذي تمّ وضعه.
الأخذ بعين
الاعتبار الظروف الزمانيّة والاجتماعيّة، ودراسة ما قد
يطرأ مستقبلاً.
الاعتماد على النتائج الجديدة التي تمّ الحصول عليها, إثر التطوّرات الحديثة، وتجارب الآخرين, بغية الرقيّ بمستوى الخطّة الموضوعة, من خلال تشخيص الأخطاء، ومعرفة الطرق الصحيحة لمواجهتها.
خلاصة
الفصل الثاني:
الاستراتيجيّة - بمعناها الشامل -, هي البرامج العامّة التي يجب اتّباعها, لتسخير شتّى الأمور السياسيّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والثقافيّة، والعسكريّة، وغيرها, لأجل تحقيق أهدافٍ معيّنةٍ ومخطّط لها مسبقاً. وتقسم هذه البرامج إلى ما يلي: أ - النَّظم والانضباط, أي: ترتيب مناهج الحياة وتنظيمها، حيث ينُجز كلّ عملٍ في وقته ومحلّه. ب- العمل والجهد الحثيث: ويُعدّ هذا الأمر - بالنسبة للقوانين الحاكمة - وسيلةً لصناعة شخصيّة الإنسان وترسيخها، وفي الوقت نفسه هو وازعٌ لاكتمال قدراته البدنيّة، والعقليّة، ونضوج طاقاته الفطريّة والذاتيّة. ج- الاستثمار: يُعدّ استثمار الأموال أحد العوامل الأساسيّة في الرقيّ الاقتصاديّ. ومن الضروريّ السعي في إصلاح برنامج تخصيص الأموال وإنفاقها, بحيث يتمّ اجتناب الإسراف، والتبذير، وهدر الثروات أو ركودها, لكي يكون الاستثمار والتوفير في خدمة النموّ الاقتصاديّ. وللاستثمار فوائد عظيمة على الفرد والمجتمع على حدٍّ سواء, منها ارتفاع مستوى النموّ الاقتصاديّ، ورفع مستوى
الإنتاج
الوطنيّ، وارتفاع مستوى الدخل القوميّ، وتوفير فرص العمل،
وتقليص نسبة التضخّم، والقضاء على البطالة، وتطوّر الفرد
والمجتمع في جميع المجالات.
د- الإشراف والسّيطرة: إنّ الإشراف على العمل ذو أهمّيّةٍ بالغةٍ في مختلف المجالات، ويُعدّ ضماناً لاستثمار الفرص بطريقةٍ مُثلى، كما يساهم في رفع كفاءة الامكانيّات الموجودة. وللإشراف نوعان: علنيٌّ وخفيٌّ. وللإشراف الخفيّ تأثيرٌ أكبر من الإشراف العلنيّ. هـ- مشورة الآخرين: مشورة الآخرين ومعرفة آرائهم, تعني مشاركتهم في عقولهم، واتّساع أُفق اتّخاذ القرار, الأمر الذي يقلّل من احتمال وقوع الخطأ. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة المعصومون عليهم السلام يستشيرون الآخرين. والشورى تختلف عن المشورة, فالقرار في الشورى يكون جماعيّاً، وفي المشورة يكون فرديّاً. و- الحزم في اتّخاذ القرار: إنّ اتّخاذ القرار يعني اختيار أمرٍ ما بين عدّة خياراتٍ، وهذا القرار يتمّ عن طريق جمع المعلومات، وتحليل المعطيات بشكلٍ عمليٍّ, ما يوسّع الأفق لحلولٍ متنوّعةٍ. فالمسؤول القدير والمدبّر في قضايا المعيشة, هو الذي يتمكّن من اتّخاذ القرارات اللازمة
بعزمٍ
راسخٍ. لذا، عليه أن يتّخذ القرار بحزمٍ متى ما رأى أنّ
المصلحة تقتضي ذلك.
ز- الأولويّة في إنفاق الأموال: إنّ حسن التدبير في المعيشة يقتضي تقنين إنفاق الأموال, حسب الأولويّات التي تتطلّبها ظروف المعيشة، وغضّ النظر عن النفقات الزائدة. ح- تدوين النفقات: يُعدّ تدوين النفقات من الأمور الهامّة في تدبير المعيشة, لأنّه يجعل الإنسان على اطّلاعٍ بمقدار ما يحتاج إليه من أموالٍ في حياته, إذ يسعى من خلاله إلى رفع مستوى دخله. ط- التخطيط: إنّ التّخطيط لمختلف شؤون الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة, يُعدّ من أهمّ استراتيجيّات التدبير في المعيشة. وقد يكون التخطيط الخاطئ سبباً لعدم بلوغ الهدف أو الابتعاد عنه، وقد يؤدّي إلى الفقر والتخلّف, لأنّ الثروة التي يمتلكها الإنسان, فإنّه سيفقدها, بسبب سوء تخطيطه.
|
Tilaa:
Blogitekstit (Atom)