بسم الله الرحمن الرحيم
المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير
سورة الأحزاب من الآية (23) إلى الآية (29)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين.
يقول الإمام ابن كثير -رحمه الله- في قوله تعالى: {مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ
فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا
بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [سورة الأحزاب:23-24].
لمَّا ذكر -عز وجل-
عن المنافقين أنهم نقضوا العهد الذي كانوا عاهدوا الله عليه لا يولون
الأدبار، وصف المؤمنين بأنهم استمروا على العهد والميثاق و{صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ}، قال بعضهم: أجله، وقال البخاري: عهده، وهو يرجع إلى الأول.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} أي: وما غيروا عهد الله، ولا نقضوه ولا بدلوه.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى-: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: وصف المؤمنين بأنهم استمروا على العهد والميثاق، هذا تفسير لقضاء النحب، يقول: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} قال بعضهم: أجله، وقال البخاري: عهده، وهو يرجع إلى الأول، فقضى أجله أو قضى نحبه بمعنى، يعني قال: أجله، الثاني: عهده، كيف يرجع إلى الأول، هل الأجل هو العهد؟
النحب: الأجل، والنحب
يعني: العهد، لما كان محتوماً لابد من وقوعه صار كالأجل بهذا الاعتبار؛
ولهذا فإن بعضهم يقول: إن أصل النحب هو النذر، ثم صار يطلق على الموت
باعتبار أن الموت أمر واقع لابد منه كما أن النذر أمر لابد من الوفاء به،
يعني هذا الآن الجامع المشترك، عبارة ابن كثير حينما يقول هذا الكلام: إنه
يرجع إلى الأول، كيف يرجع إلى الأول؟ بهذا الاعتبار أن كل واحد منهما أمر
لازم، ولهذا صار النحب يطلق على معانٍ متعددة، منها النذر ومنها العهد،
ومنها الموت، كما يطلق على معانٍ أخرى مثل السير الحثيث، فهنا يقول: إنهم استمروا على العهد والميثاق،
ربما يكون أدق من هذا -استمروا على العهد والميثاق- عبارة من قال من
السلف: مات على الصدق والوفاء، فالذي قال: مات على الصدق والوفاء جمع بين
معنيين: الموت والوفاء بالعهد، ذكر الموت وذكر الوفاء بالعهد، وهذا قال به
جماعة من السلف من التابعين فمن بعدهم، بل هو منقول عن ابن عباس أيضاً
بالإضافة إلى الحسن وقتادة ويزيد بن رومان، مات على الصدق والوفاء، وحديث
أنس -رضي الله عنه- في قصة أنس بن النضر -رضي الله عنه- في يوم أحد مُشعر
بل إن ظاهره يدل على أنه يرى أن ذلك فيمن صدق على عهده الذي عاهد الله
-تبارك وتعالى- به، وذلك في قوم لم يشهدوا بدراً منهم أنس بن النضر، فقال:
لئن أشهدني الله لقاء المشركين ليرين الله ما أصنع، أو كما قال -رضي الله
عنه-، فكان ما كان، لكنه لا يقصد أن ذلك ينحصر فيه، أنها في قوم كذا وكذا،
والواقع أن هذا يرجع إلى ما قبله أنه مات على الصدق والوفاء، ولكن قوله
-تبارك وتعالى- هنا: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ} يعني: إذا فسر النحب هنا بالموت معناه أن منهم من مات على الصدق والوفاء، ومنهم من ينتظر يعني لم يمت، وهذا قال به بعض أهل العلم، {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ َمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ}، وبعض أهل العلم يقول: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} يعني: وفى بما عاهد عليه وكمَّل هذا العهد، {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ} يعني: أنه وفى ببعضٍ ولم يزل يوفي بعهده {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}
فيكون الأمر المشترك بين الفريقين على الأول: أن منهم من مات على الصدق
والوفاء، ومنهم من لا يزال على العهد لكنه لم يزل حياً، وعلى الثاني الذي
ذكرته آخراً وهو أن من هؤلاء من وفى بغض النظر عن كونه مات، وفى بما عاهد
الله عليه وصدق، ومنهم من لا يزال يوفي ذلك، حقق بعضاً وينتظر ليحقق بقية
ما عاهد الله عليه، وهذا قاله بعض أهل العلم، {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ}،
ما الذي جعل هؤلاء يقولون بذلك، الأخير يعني؟ النبي -صلى الله عليه وسلم-
قال في حق طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه-: إنه ممن قضى نحبه، قال ذلك
وهو حي، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((طلحة ممن قضى نحبه))([1])، والحديث مخرج عند الترمذي وابن ماجه وإسناده حسن، قاله وهو في حياته، {وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ}، فإذا كان ممن قضى نحبه وهو حي وفى ما عاهد الله عليه، {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} فوفوا بذلك، ومنهم من صدق ولم يزل يوفي، فالجانب المشترك هو الصدق {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}
فمنهم من مات على الصدق والوفاء، ومنهم من وفى ولم يزل حياً، ومنهم من لم
يزل يوفي وهو على الطريق، فكل ذلك يرجع إلى معنى هو ما ذكر في أول الآية {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}.
فالتعبير بالماضي لتحقق
الوقوع، هنا في هذا الموضع قد يكون فيه بعد، يشهد له النبي -صلى الله عليه
وسلم- أنه قضى نحبه وهو حي، فظاهره أنه فعل ما يجب، أو فعل ما تحصل له به
السعادة والنجاة، كقول الله -عز وجل- لأهل بدر: ((اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم))([2])، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في عثمان -رضي الله عنه-: ((ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم))([3])، كما تقول: فلان أدى ما عليه، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ}،
فهل يُربط ذلك بالضرورة بالموت؟ قد لا يلزم عند التأمل، وإنك إذا نظرت
فيها لأول وهلة في الأقوال قد تقول: منهم من مات على الصدق والوفاء ومنهم
من ينتظر وهو على الطريق، فهذا له وجه قريب، لكن إذا نظرت إلى مثل الحديث
فقد يكون هذا يشهد للقول الآخر أن ذلك لا يربط بالموت، ولكن من هؤلاء من
مات على الصدق والوفاء، ومنهم من وفى ولم يزل حياً، ومنهم من لم يزل يوفي
وهو على طريقهم، -والله أعلم-، والمقصود أن هؤلاء جميعاً صدقوا ما عاهدوا
الله عليه، ولم يحصل منهم تبديل ولا تغيير، {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}،
وذلك أن العوارض التي تعرض للإنسان في السراء والضراء داعية إلى التبديل
والتغيير، وأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- تقلبوا بين السراء والضراء،
وفتح الله عليهم الفتوح، وصار كثير منهم بحال من النعمة، وصار كثير منهم
أميراً على مصر من الأمصار، ولم يحصل منهم تغيير، لم تغيرهم الدنيا، ولا
الشدائد والجوع، كان الواحد منهم لربما على تمرة سائر اليوم في الغزو،
بخلاف الكثيرين ممن جاء بعدهم، فيتغير إما بالشدة وإما بالنعمة حينما يفتح
الله -عز وجل- عليه أيًّا كانت هذه الفتوح فيحصل منه تبديل وتغيير، فيعرف
ما كان يُنكِر، ويُنكِر بعض ما كان يعرف، فيكون مفتوناً، والله المستعان.
قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} أي: وما غيروا عهد الله، ولا نقضوه ولا بدلوه.
روى البخاري عن زيد
بن ثابت -رضي الله عنه- قال: لما نسخنا الصُّحُف فَقَدْتُ آيةً من سورة
الأحزاب كنت أسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرؤها، لم أجدها مع أحد
إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري -الذي جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
شهادته بشهادة رجلين- قال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}([4]) تفرد به البخاري دون مسلم، وأخرجه أحمد في مسنده، والترمذي والنسائي -في التفسير من سننيهما- وقال الترمذي: "حسن صحيح".
هذا الكلام ما معناه:
لم أجدها عند أحد غيره يعني مكتوبة، وهذا لا يعارض التواتر، كون القرآن نقل
بالتواتر، لم أجدها عند أحد غيره يعني مكتوبة، كما ذكر الحافظ ابن حجر
-رحمه الله- وغيره كأبي شامة أنهم كانوا يشترطون في الجمع الحفظ والكتابة،
أن يكون مما كتب على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بعضهم فسر
الشاهديْن، من شهد عليه شاهدان فسره بذلك: الحفظ والكتابة، يشهد له الحفظ
والكتابة، وبعضهم فسر الشاهديْن برجلين يشهدان على أن ذلك مما كتب على عهد
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يعني بين يديه، فالشاهد أنه ما شهد
شاهدان، فهنا لم يجدوا هذه الآية عند أحد يعني: مكتوبة، لكنهم كانوا
يحفظونها، وأبيّ -رضي الله عنه- كيف فقدها؟ كان يحفظها، فجاء بها خزيمة
الذي جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- شهادته بشهادة رجلين، جاء بها.
وروى البخاري أيضاً عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: نرى هذه الآية نزلت في أنس بن النضر -رضي الله عنه-: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}([5])، انفرد به البخاري، ولكن له شواهد من طرق أخر.
نرى هذه الآية نزلت في
أنس -رضي الله عنه-، هذا الذي أشرت إليه آنفاً، نزلت في أنس، وهذا الأسلوب
محمول على أنه من قبيل التفسير، وليس من أسباب النزول؛ لأنه ليس بصريح،
فيكون هذا مما يدخل في معنى الآية، نزلت في أنس، فيكون ذلك كأنه من قبيل
التفسير بالمثال، وهذا لا ينافي المعنى الذي ذُكر سابقاً، فمثل أنس بن
النضر -رضي الله عنه- مِن هؤلاء الذين ماتوا على الصدق والوفاء أو الذين
وفوا بما عاهدوا الله -عز وجل- عليه وهو من النوع الأول: الذين ماتوا على
الصدق والوفاء، قضى نحبه.
قال: روى الإمام
أحمد عن أنس -رضي الله عنه- قال: عمِّي أنس بن النضر -سُميتُ به- لم يشهد
مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر، فشق عليه وقال: أول مشهد شهده
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غُيِّبْتُ عنه، لئن أراني الله تعالى
مشهداً فيما بعد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لَيَرَيَن الله ما
أصنع، فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم
أحد، فاستقبل سعدَ بن معاذ فقال له أنس -رضي الله عنه- يا أبا عمرو، أين
واهاً لريح الجنة أجده دون أُحد، قال: فقاتلهم حتى قُتل -رضي الله عنه-
قال: فَوُجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته -عمتي
الرُّبَيِّع ابنة النضر-: فما عرفتُ أخي إلا ببنانه، قال: فنزلت هذه الآية:
{من المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ
فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا
بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}، قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه، وفي أصحابه -رضي الله عنه-([6])، ورواه مسلم والترمذي والنسائي.
كانوا يرون أنها نزلت فيه، هذا ممكن أن يحمل على التفسير كما في الحديث -الرواية السابقة-، لكن قوله هنا: فنزلت هذه الآية: {من المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}،
فالروايات الواردة في سبب النزول: لمّا تحدثتُ عن مقدمة شيخ الإسلام في
الصريح وغير الصريح، وتتبع الروايات أمر مهم في هذا الباب؛ لأنك تجد في
بعضها ما هو صريح، وتجد في بعضها ما هو غير صريح، وتجد أحياناً في الرواية
نفسها في أولها غير صريح وفي آخرها صريح، ولربما تجد ذلك جميعاً في آخرها
مثل الرواية الثانية، "فكانوا يرون أنها نزلت فيه" هذا غير صريح، وقبله:
"فنزلت هذه الآية" هذا صريح، في نفس الرواية في آخرها، وهذا يدل على أن ما
ذكر مراراً من قولهم: نزلت في كذا يحتمل أن يكون سبب نزول.
قال: وروى ابن جرير
عن موسى بن طلحة قال: قام معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- فقال: إني
سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((طلحة ممن قضى نحبه))([7]).
ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} قال: عهده، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} قال: يوماً فيه القتال فيصدق في اللقاء.
مجاهد من أعلم التابعين
بالتفسير وعبارته دقيقة، وكلام ابن كثير يدل على دقة الحافظ ابن كثير،
وأنه ينزل أقوال السلف على المعاني التي أرادوها، قال: ولهذا قال مجاهد،
يعني الآن هو يوجه كلام مجاهد، مجاهد لم يقيده بالموت، ولم يفسره به، قال: {قَضَى نَحْبَهُ} عهده، والنحب كما سبق أن أصله يقال: النذر، والنذر من العهد، {قَضَى نَحْبَهُ} قال: عهده، باعتبار أن طلحة -رضي الله عنه- حينما قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} يعني: أنه لم يوف بعد، ينتظر الوفاء.
قال: وقال الحسن: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} يعني: موته على الصدق والوفاء، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} الموت على مثل ذلك، ومنهم مَنْ لم يبدل تبديلاً، وكذا قال قتادة، وابن زيد، وقال بعضهم: {نَحْبَهُ} نذره.
هنا قوله: ومنهم مَنْ لم يبدل تبديلاً،
لا يقصد هنا القسمة أن بعضهم مات على الصدق والوفاء، وبعضهم ينتظر الموت
على مثل ذلك، ومنهم طائفة ثالثة لم يبدلوا تبديلاً، لكن كل هؤلاء لم يبدلوا
تبديلاً كما قال الله -عز وجل- في وصفهم آخراً: {من المؤمنين
رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى
نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}، فهذا وصف للجميع، وإلا فالتبديل مذموم، وحديث الذود عن الحوض معروف فيقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أصيحابي أصيحابي)) فيقال: ((إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك))([8])، فهذا تبديل، فهنا ماذا يعني في قوله: ومنهم من لم يبدل تبديلاً؟ أنها تكون {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ}
ومنهم من لم يبدل تبديلاً، فممكن أن تكون "من" بيانية، إذا رجع ذلك إلى
المذكورين تكون بيانية، إن منهم يعني: من صفات هؤلاء أنهم لم يبدلوا
تبديلاً، قال بعضهم: {نَحْبَهُ} يعني: نذره، وهذا فسره
بأصل المعنى، ولا يلزم أن يكون هناك نذر، وحينما بايعوا النبي -صلى الله
عليه وسلم- على نصره وأن يدفعوا عنه ما يدفعون عن أنفسهم وأسرهم وما أشبه
ذلك مما تعرفون في بيعتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهؤلاء أثنى
الله عليهم بالوفاء والصدق والبقاء على هذا العهد من غير تبديل.
قال وقوله تعالى: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} أي: وما غيَّروا عهدهم وبدَّلوا الوفاء بالغدر، بل استمروا على ما عاهدوا الله عليه، وما نقضوه كفعل المنافقين الذين قالوا: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا} [سورة الأحزاب:13]، {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأدْبَارَ} [سورة الأحزاب:15].
هذا العهد الذي لم
يبدلوه، سواء كان عهداً كلياً أو عهداً جزئياً، فهنا مَن عاهد أن لا يفر
مثلاً، ومن الناس من يعاهد ربه على أن ينفق، إن أعطاه الله مالاً أنفقه، {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ} [سورة التوبة:75]
فقد يعاهد الإنسان ربه على الإنفاق، ومنهم من يحصل منه نذر أنه إن حصل له
كذا فإنه يكون كذا وكذا، إذا نجاه الله -عز وجل- من كذا فإنه سيكون في حال
من العبادة أو صلة بالله -عز وجل- يصفها ويحددها، فكل ذلك مما يدخل في
العهد مع الله، ما يجب الوفاء به سواء كان من قبيل النذر أو لم يكن، تقول:
عهد عليّ أن أفعل كذا، مثلاً، أو أعاهد الله أن أتوب من هذا الذنب، ثم بعد
ذلك ينكث ويرجع في هذا العهد فلا يفي فيه، فالإنسان يخاف، {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا}،
فيثبت على عهده مع ربه، ويستقيم على ذلك من غير تبديل، وذلك أدق من حديث
عبد الله بن عمرو بن العاص في القصة المعروفة لما كان في حال من العبادة
يقوم الليل ويصوم النهار، ويقرأ القرآن كل ليلة، الشاهد أنه لما ترك
النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- على حال وهي أن يقرأ القرآن كل سبع ليالٍ وأن
يصوم صيام داود -عليه السلام-، فلما تقدمت به السن، وضعف كان يقرأ ورده
بالنهار، يستعين بذلك على قراءته بالليل، فضعف وشق عليه ولكنه كره أن يترك
شيئاً فارق عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وتمنى لو أنه أخذ برخصة رسول
الله -عليه الصلاة والسلام-، حتى في حال الضعف والشيخوخة، مع أن هذا لم يكن
من قبيل العهد، ولكنه فارق النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذا فكره أن
يغير، فكيف بالعهد؟!، والأمثلة على هذا كثيرة، بل بعضهم كره أن يترك عادته
من العبادة ولم يفارق على ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- أصلاً، في زمن
التابعين الحسن بن صالح مع أخيه مع أمه كانوا يقتسمون الليل أثلاثاً فلما
ماتت الأم صار يقتسمه مع أخيه، كرهوا أن يَخلو شيء من الليل فتتغير العادة
فيه في دارهم، فلما مات أخوه صار يصلي الليل كله، بصرف النظر عن أن هذا
مشروع أو غير مشروع، نحن ما نتحدث عن هذا، نتحدث عن جزئية، وهي أن هؤلاء
كانوا يلاحظون معنى، فكيف بالعهد؟
قال: وقوله تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}
أي: إنما يختبر عباده بالخوف والزلزال ليميز الخبيث من الطيب، فيظهر أمر
هذا بالفعل، وأمر هذا بالفعل، مع أنه تعالى يعلم الشيء قبل كونه، ولكن لا
يعذب الخلق بعلمه فيهم، حتى يعملوا بما يعلمه منهم، كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [سورة محمد:31]، فهذا علم بالشيء بعد كونه، وإن كان العلم السابق حاصلاً به قبل وجوده، وكذا قال الله تعالى: {مَّا
كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ
يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ
عَلَى الْغَيْبِ} [سورة آل عمران:179]، ولهذا قال تعالى هاهنا: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} أي: بصبرهم على ما عاهدوا الله عليه، وقيامهم به، ومحافظتهم عليه، {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ}:
وهم الناقضون لعهد الله، المخالفون لأوامره، فاستحقوا بذلك عقابه وعذابه،
ولكن هم تحت مشيئته في الدنيا، إن شاء استمر بهم على ما فعلوا حتى يلقوه
فيعذبهم عليه، وإن شاء تاب عليهم بأن أرشدهم إلى النزوع عن النفاق إلى
الإيمان، والعمل الصالح بعد الفسوق والعصيان، ولما كانت رحمته ورأفته
-تبارك وتعالى- بخلقه هي الغالبة لغضبه قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}.
قول الحافظ ابن كثير
-رحمه الله- هنا: فاستحقوا بذلك عقابه وعذابه يعني المنافقين ، ولكن هم تحت
مشيئته في الدنيا، إن شاء استمر بهم على ما فعلوا حتى يلقوه فيعذبهم عليه،
وإن شاء تاب عليهم بأن أرشدهم إلى النزوع عن النفاق، هذا جواب لسؤال مقدر
وهو: أن المنافقين لا يدخلون الجنة؛ لأن المنافق كافر في الباطن، فكيف قال
الله -عز وجل- هنا: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء}،
فعلقه بالمشيئة، مع أن المنافقين يستحقون الدخول في النار، وأن الله جعلهم
في الدرك الأسفل منها وأن الله حرم الجنة على الكافرين، فما وجه التعليق
بالمشيئة؟، هذا الجواب عنه، كلام ابن كثير هو جواب عن هذا السؤال، يكون هنا
إذاً: إن شاء استمر بهم على ما فعلوا حتى يلقوه فيعذبهم عليه، وإن شاء تاب
عليهم بأن أرشدهم إلى النزوع، فيكون المعنى {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء}
أي: لا يوفقهم للتوبة، فتحصل لهم الوفاة على هذه الحال من النفاق، وإن شاء
وفقهم للتوبة وقبِلها منهم، فهذا الجواب على هذا السؤال، وجه دخول الشرط
هنا إن شاء، مع أنهم لا يدخلون الجنة، مثل قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ} [سورة آل عمران:128]، {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} يعني يوفّقَهم للتوبة فيتوبوا فيقبلَ ذلك منهم، وفي قصة المنافقين في غزوة تبوك لما ذكر الله -عز وجل- حالهم واستهزاءهم وسخريتهم، {وَلَئِن
سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ
أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُُونَ * لاَ
تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن
طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طائفة} [سورة التوبة:65-66]،
بعضهم يقول: إن بعض هؤلاء الذين نزلت فيهم الآيات لم يكن منافقاً، إنما
كان معهم ولربما تبسم أو ضحك، ويذكرون أن بعضهم قد تاب من نفاقه، ذكروا هذا
في مخشي بن حُميِّر وقال: قعد بي اسمي واسم أبي يا رسول الله([9])، وأنه تاب ويكون ذلك ممن أراد الله -عز وجل- بقوله: {إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} [سورة التوبة:66]، فلا يشكل هذا.
{وَرَدَّ اللَّهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ
الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [سورة الأحزاب:25].
يقول تعالى مخبراً
عن الأحزاب لما أجلاهم عن المدينة، بما أرسل عليهم من الريح والجنود
الإلهية، ولولا أن جعل الله رسوله رحمة للعالمين لكانت هذه الريح عليهم أشد
من الريح العقيم التي أرسلها على عاد، ولكن قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}، فسلط عليهم هواءً فرّق شملهم، كما كان سبب اجتماعهم من الهَوَى.
يعني جمعهم الهوى وهم
أشتات، الأحزاب هؤلاء: يهود ومالأهم المنافقون وأشتات من العرب وأوزاع من
الوثنيين، لم يجمعهم إلا الهوى، يقول: ففرقهم الله بعقوبة تناسب الحال
والجناية والجنيّة التي اجتمعوا عليها، أو جمْعهم وهو اتباع الهوى، ومن
العقوبات ما تكون مناسبة للأعمال، قطع يد السارق؛ لأن جنايته بيده، فالحافظ
ابن كثير -رحمه الله- على هذا المَهْيع أن هؤلاء جمعهم الهوى ففرقهم الله
بالهوى، بصرف النظر عن كون هذا الملحظ يعني نجزم به أو لا، لكن هو يشير إلى
هذه الجزئية، يعني في المثال المعين لا يكون شأنك المثال إنما أصل المعنى،
تنتفع وتستفيد، طالب العلم يستفيد من الملحظ الذي يراعيه العالم، هذا الذي
تستفيد منه، أو من الأصل الذي يذكره والقاعدة، أما الصورة المعينة والمثال
المعين الذي يتحدث عنه فقد توافق وقد لا توافق، قد تقتنع فيه وقد لا تقتنع
فيه أنه يدخل فيه هذا أو لا يدخل، لكن في الأصل هذا الكلام هو ملحظ حسن،
وكثير من الناس يغفل عن هذا ويشتغل بالمثال، فتضيع عليه الفائدة.
قال: وهم أخلاط من
قبائل شتى، أحزاب وآراء، فناسب أن يرسل عليهم الهواء الذي فرق جماعتهم،
وردهم خائبين خاسرين بغيظهم وحَنَقهم، لم ينالوا خيراً لا في الدنيا مما
كان في أنفسهم من الظفر والمغنم، ولا في الآخرة بما تحملوه من الآثام في
مبارزة الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- بالعداوة، وهمهم بقتله، واستئصال
جيشه، ومَنْ هَمّ بشيء وصَدّق هَمَّه بفعله فهو في الحقيقة كفاعله.
وقوله -تبارك وتعالى-: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}
أي: لم يحتاجوا إلى منازلتهم ومبارزتهم حتى يجلوهم عن بلادهم، بل كفى الله
وحده، ونصر عبده، وأعزَّ جنده؛ ولهذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يقول: ((لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده))([10])، أخرجاه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه.
في قوله -تبارك وتعالى-: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا}، {بِغَيْظِهِمْ}، الغيظ: هو يقال للحنق والغضب، فالحنق والغضب هو الغيظ، فيحصل بالنصر التشفي كما قال الله -عز وجل-: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [سورة التوبة:14]، هذه أربعة أشياء منها التشفي؛ لأن شفاء النفس قهر عدوها، ولهذا في سورة البقرة في قوله: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} [سورة البقرة:50] قيده بهذا {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}، فإن هلاك العدو في حال كون عدوه يشاهده أبلغ في التشفي، يعني قد يبلغه الخبر أن عدوه هلك، لكن هل هذا كهلاكه وهو يشاهده؟ {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}، هذا أبلغ في التشفي، وأبلغ من ذلك أن يكون هذا الهلاك على يده، وهذه أعلى الصور، ولهذا قال: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [سورة التوبة:14]، فالعذاب يقع بالقتل والجرح والأسر، والخزي بما يقع للنفوس من الانكسار والذل والمهانة، ولكم النصر، والتشفي، {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ}
فالقلوب تحمل من الحنق والغيظ على أعداء الله -عز وجل- الشيء الكثير، فهذا
أمر لابد منه، وهو موجود لدى الكفار ولدى المسلمين، ولا يمكن أن ينخلع
الإنسان من هذا حتى ينخلع من إنسانيته، فهنا الله -تبارك وتعالى- قال: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ}
يعني: بحنقهم وغضبهم، ما حصل لهم التشفي جاءوا واجتمعوا وأنفقوا الأموال
وبذلوا ورابطوا شهراً حول المدينة، وما حصل لهم مطلوب، ما حصل لهم مقصد،
جاءوا للاستئصال، ما جاءوا مثل المجيء الأول في بدر ولا المجيء الثاني في
أحد، تلك كانت جولات تحقق أهدافاً معينة محددة، ولم يكن الهدف منها
الاستئصال، هذه المرة الهدف الاستئصال، فلم يحصل لهم لا هذا ولا هذا، يعني
لم يحصل لهم انتصار ولو محدوداً، ولم يحصل لهم استئصال أهل الإيمان، لم
يحصل مطلوبهم، فرجعوا بحنقهم، إنسان جاء يقاتل، جاء مشحون النفس، ثم بعد
ذلك لما لقي عدوه لم يتمكن من مواجهته لسبب أو لآخر، فرجع بحنقه، فهنا {لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} ما المقصود بالخير؟ الخير بالنسبة إليهم وإلا فهو شر، يعني لم يحصل مطلوبهم، إنما كان لهم من مجيئهم هذا التعب والخيبة.
قال: وفي قوله -تبارك وتعالى-: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبين قريش، وهكذا وقع بعدها، لم يغزهم المشركون، بل غزاهم المسلمون في بلادهم.
كما روى الإمام أحمد عن سليمان بن صُرَد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب: ((الآن نغزوهم ولا يغزونا))([11])، وهكذا رواه البخاري في صحيحه.
وفي قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} أي: بحوله وقوته ردهم خائبين لم ينالوا خيراً، وأعز الله الإسلام وأهله وصدق وعده، ونصر رسوله وعبده، فله الحمد والمنة.
{وَأَنزلَ الَّذِينَ
ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي
قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا *
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ
تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [سورة الأحزاب:26-27].
قد تقدم أن بني
قريظة لما قدمت جنود الأحزاب ونزلوا على المدينة نقضوا ما كان بينهم وبين
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من العهد، وكان ذلك بسفارة حُيَيّ بن أخطب
النَّضري -لعنه الله- دخل حصنهم، ولم يزل بسيدهم كعب بن أسد حتى نقض العهد،
وقال له فيما قال: ويحك، قد جئتك بعز الدهر، أتيتك بقريش وأحابيشها،
وغطفان وأتباعها، ولا يزالون هاهنا حتى يستأصلوا محمداً وأصحابه، فقال له
كعب: بل والله أتيتني بذُلِّ الدهر، ويحك يا حيي، إنك مشئوم، فدعنا منك،
فلم يزل يفتل في الذُّروة والغَارب حتى أجابه.
هذا مثل، يقال: يفتل في
الذروة والغارب، والذروة هي السنام، والغارب هو ما تحت الكتفين مما يلي
السنام، يعني أول السنام، مقدم السنام، هو يريد أن يقترب من عنق البعير،
والبعير شرس، ويريد أن يضع الخطام لهذا البعير، أو الزمام من أجل أن يقوده
وأن يتحكم فيه، فالبعير صعب لا يستطيع أن يقترب منه، فيمسح على رأسه، لا
يستطيع هذا، وإنما يبدأ يلاطفه ويسهله على السنام وما يلي الكتفين، مقدم
السنام، ما تحت الكتفين يعني من جهة السنام، فيزيل عنه القراد، والبعير
يأنس إذا أزيل عنه القراد، ويفتل في الوبر ويمسح عليه ويتلطف به حتى يسكن
ويأنس، ثم بعد ذلك يتوصل بهذا إلى أن يزم هذا البعير ويضع له الخطام ثم بعد
ذلك يقوده، فهذا يقال فيمن يحاور غيره لفتله عن رأيه، لصرفه عن رأيه، تارة
يكون ذلك بالمخادعة، وتارة يكون بصرف الكلام بوجوه يفتله بها عن رأيه،
يحاوره بطرق شتى، فهذا لم يزل به.
قال: فلم يزل يفتل
في الذُّروة والغَارب حتى أجابه، واشترط له حُيي إن ذهب الأحزاب ولم يكن من
أمرهم شيء أن يدخل معهم في الحصن، فيكون له أسوتهم.
يعني يلقى المصير الذي
يلقونه، يعني لا يتركهم يلاقون مصيرهم وحدهم، فهذا شرط اشترطه عليه، مع أن
حيي بن أخطب ما كان في المدينة، كان ممن أُجلي من بني النضير، كانت وقعة
بني النضير قبل قريظة.
قال: فلما نَقَضت
قريظةُ، وبلغ ذلك رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، ساءه، وَشَقَّ عليه
وعلى المسلمين جداً، فلما أيده الله ونَصَره، وكبت الأعداء وردَّهم خائبين
بأخسر صفقة، ورجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة مؤيداً
منصوراً، ووضع الناس السلاح، فبينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يغتسل
من وعثاء تلك المرابطة في بيت أم سلمة -رضي الله عنها- إذ تبدى له جبريل
معتجراً بعمامة من إستبرق، على بغلة عليها قطيفة من ديباج.
معتجراً بالعمامة يعني
أنه لفها على رأسه من غير أن يتحنك بها، معتجراً بالعمامة، يعني ترك طرفها
مما يلي وجهه، ولكنه لم يلتحِ بها، يعني عمائم العرب في الأصل تكون محنكة،
يعني من تحت الحنك، وعمائم أهل الكتاب تكون على الرأس من غير تحنيك، هذا في
الغالب بالنسبة لعمائم العرب، فجاء معتجراً بالعمامة: يعني قد لفها على
رأسه من غير أن يتحنك بها، من إستبرق على بغلة عليها قطيفة من ديباج، قطيفة
من ديباج، كساء مخمل من ديباج، هذا جبريل -صلى الله عليه وسلم-، ولا يقول
أحد من الناس: إن هذا يدل على جواز افتراش الديباج والإستبرق -وذلك من
الحرير-؛ لأن الجلوس عليه من جملة اللباس، ويدل عليه حديث أنس "من طول ما
لبس الحصير الذي قد اسود"، فاعتبر ما يجلس عليه، يقال له: إنه يلبس، أو
لبس، فلا يأتي أحد ويقول: هذا دليل على جواز وضع الفرش من الحرير باعتبار
أن جبريل -صلى الله عليه وسلم- جاء على بغلة عليها كساء من ديباج، هذا فهم
غير صحيح؛ لأن جبريل -عليه الصلاة والسلام- لا يرد عليه مثل هذه الخطابات
الشرعية التي وجهت للمكلفين من الإنس والجن.
قال: فقال: أوضَعتَ السلاح يا رسول الله؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((نعم))، قال: لكن الملائكة لم تضع أسلحتها، وهذا الآن رجوعي من طلب القوم، ثم قال: إن الله يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة([12])، وفي رواية فقال له: عَذِيرك مِن مقاتل، أوضعتم السلاح؟ قال: ((نعم))، قال: لكنا لم نضع أسلحتنا بعد، انهض إلى هؤلاء، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أين؟))،
قال: بني قريظة، فإن الله تعالى أمرني أن أزلزل عليهم، فنهض رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- من فوره، وأمر الناس بالمسير إلى بني قريظة، وكانت
على أميال من المدينة.
قوله: عذيرك من مقاتل،
يعني هات من يعذرك في هذا الفعل، يعني ما كان لك أن تفعل هذا، ما عذرك
فيه، والملائكة لم تضع أسلحتها؟، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كما هو معلوم
دخل يغتسل بعد الظهر، وفي بيت أم سلمة، وأمر بالمسير إلى قريظة وأن لا
يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة، فمشوا بعد الظهر.
وقريظة تقع في الجنوب الشرقي من المدينة، جانب الحرّة، الحرّة الشرقية، الجنوب الشرقي.
وذلك بعد صلاة الظهر، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة))([13])،
فسار الناس، فأدركتهم الصلاة في الطريق، فصلى بعضهم في الطريق وقالوا: لم
يُرد منا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا تعجيل المسير، وقال آخرون: لا
نصليها إلا في بني قريظة، فلم يُعَنِّف واحدا من الفريقين، وتبعهم رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم -رضي الله
عنه-، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، ثم نازلهم رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- وحاصرهم خمساً وعشرين ليلة، فلما طال عليهم
الحال، نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس -رضي الله عنه.
يعني هم لما طال عليهم
الحال طلبوا حكماً، قالوا: نريد حكماً، وأرسلوا شاس بن قيس للمفاوضة مع
النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكانوا يطلبون أن يحكم عليهم، أو أن يجرى
عليهم ما أجري على بني النضير، وبنو النضير كانوا حلفاء الخزرج، وعبد الله
بن أبيّ شخصية مرموقة جاهزة لمثل هذه المواقف يشفع لليهود ويتبناهم ويدافع
عنهم، ففي هذه القضايا يقوم فيها على وجه يرضي أعداء الله -عز وجل-، وهو
الذي شفع في بني قينقاع فلم يقتلوا، وأُجلوا عن المدينة، فهم طلبوا أن يجرى
عليهم ما أجري على مَن قبلهم من الإجلاء، فما أقرهم النبي -صلى الله عليه
وسلم- على هذا ولا وافقهم فكان آخر الأمر أنهم أرادوا النزول على حكم سعد
بن معاذ باعتبار أن هذا أفضل وأقرب الحلول من أجل النجاة، باعتبار أن سعد
بن معاذ هو سيد الأوس وقريظة حلفاء الأوس في الجاهلية، كما أن النضير حلفاء
الخزرج في الجاهلية، وكان بينهم منافسة، فالخزرج: عبد الله بن أبيّ كانت
مواقفه معروفة مع بني قينقاع، فهم أرادوا أن يحصلوا النجاة لأنفسهم فقالوا:
أقرب شخص حلفاؤنا من الأوس فنزلوا على حكم سعد بن معاذ -رضي الله تعالى
عنه-، بعد هذا الحصار الذي دام خمساً وعشرين ليلة، بخلاف النضير، قال الله
-عز وجل-: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [سورة الحشر:2]، فالأولية في قوله: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ}
تحتمل أن تكون زمانية، وتحتمل أن تكون مكانية، وإذا كانت مكانية فأول أرض
المحشر الذي هو أطراف الشام أدرعات التي أجلوا إليها، أو أن تكون زمانية
وهذا هو الشاهد فبعضهم يقول: لأول حشر الجيش لهم، يعني بمجرد ما حشر لهم
الجيش سقطوا، وهذا فيه نظر؛ لأن حصار النضير بعضهم قال: إنه استمر إلى إحدى
وعشرين ليلة، وبعضهم ذكر غير هذا، بعضهم يذكر نحو قريب من أسبوع، وبعضهم
يذكر قريباً من أسبوعين، الشاهد أنهم ما سقطوا من مجرد الحصار، لكن هؤلاء
أطول، هؤلاء جلسوا خمساً وعشرين ليلة، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ -رضي
الله تعالى عنه-، وكانوا كما مر بالأمس كانوا قريباً من ثمانمائة، وبعضهم
يقول: بين السبعمائة والثمانمائة، هؤلاء المقاتلون، من يقدر على حمل
السلاح، وبعضهم يقول: ستمائة، وبعضهم يقول: أربعمائة وخمسون، وبعضهم يقول:
الأسرى الذين أسروا وجيء بهم سبعمائة وخمسون رجلاً، وعبد الله بن أبيّ لما
اعترض على حكم النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما نقل عنه في هذا أنه قال:
يقتل أربعمائة دارع في صبيحة واحدة في غداة واحدة؟، يعني مقاتلين يلبسون
الدروع، كيف يقتل أربعمائة واحد في صبيحة واحدة؟! الشاهد أن هذه أعداد
مختلف فيها، ومثل هذا الإحصاء الناس يقدرون تقديرات، واليوم لما تسأل الناس
عن أي شيء، لو قلت له: كم تقدر عدد الذين يصلون معك في المسجد؟، فهذا
يقول: أربعمائة وهذا يقول: ألف، وهذا يقول: ثلاثمائة، وهذا يقول: خمسمائة،
كما هو مشاهد، فالناس في تقديراتهم يتفاوتون ويختلفون، فإذا كان هؤلاء
يمثلون قبيلة فكون الأسرى سبعمائة، وبعضهم يقول: سبعمائة وخمسون، الأسرى من
الرجال، والله أعلم.
قال: فلما طال عليهم
الحال نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس -رضي الله عنه-؛ لأنهم كانوا
حلفاءهم في الجاهلية، واعتقدوا أنه يحسن إليهم في ذلك، كما فعل عبد الله بن
أبيّ بن سلول في مواليه بني قينقاع، حين استطلقهم من رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، فظن هؤلاء أن سعداً سيفعل فيهم كما فعل ابن أبي في أولائك، ولم
يعلموا أن سعداً -رضي الله عنه-، كان قد أصابه سهم في أكحَله أيام الخندق،
فكواه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أكحله، وأنزله في قبة في المسجد
ليعوده من قريب، وقال سعد -رضي الله عنه- فيما دعا به: اللهم إن كنت أبقيت
من حرب قريش شيئاً فأبقني لها، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجُرها
ولا تُمتني حتى تُقرّ عيني من بني قريظة.
فافجرها يعني الجراحة
التي كانت في أكحله وهي عرق يقال له: الأكحل، فيقول: افجرها يعني: دماً،
فكان جرحه قد تماثل للشفاء، وجف فلما حكم فيهم ورجع مرة أخرى انفجر جرحه
وهو في خيمته في المسجد حتى سال الدم من الخيمة، فقالت امرأة لها خيمة
بجواره: ما هذا الدم الذي يأتي من قِبلكم؟ وتوفي -رضي الله تعالى عنه
وأرضاه.
قال: فاستجاب الله
دعاءه، وقُدّر عليهم أن نزلوا على حكمه باختيارهم طلباً من تلقاء أنفسهم،
فعند ذلك استدعاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المدينة ليحكم فيهم،
فلما أقبل وهو راكب على حمار قد وطَّئوا له عليه.
يعني وضعوا له مثل الوطاء: ما يوضع على الحمار من أجل أن يركب.
قال: أقبل وهو راكب
على حمار قد وطَّئوا له عليه، جعل الأوس يلوذون به ويقولون: يا سعد، إنهم
مواليك، فأحسن فيهم، ويرققونه عليهم ويعطفونه.
يعني من أجل المنافسة كانوا يتبارون مع الخزرج في النجدة والأمور التي يحصلون فيها المجد.
قال: وهو ساكت لا
يرد عليهم، فلما أكثروا عليه قال -رضي الله عنه-: لقد آن لسعد ألا تأخذه في
الله لومة لائم، فعرفوا أنه غير مستبقيهم، فلما دنا من الخيمة التي فيها
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((قوموا إلى سيدكم))،
فقام إليه المسلمون، فأنزلوه إعظاماً وإكراماً واحتراماً له في محل
ولايته؛ ليكون أنفذ لحكمه فيهم، فلما جلس قال له رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: ((إن هؤلاء -وأشار إليهم- قد نزلوا على حكمك، فاحكم فيهم بما شئت))، فقال -رضي الله عنه-: وحكمي نافذ عليهم؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((نعم))، قال: وعلى مَنْ في هذه الخيمة؟ قال: ((نعم))،
قال: وعلى مَنْ هاهنا -وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وهو معرض بوجهه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إجلالاً
وإكراماً وإعظاماً- فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((نعم))، فقال -رضي الله عنه-: إني أحكم أن تقتل مُقَاتلتهم، وتُسبْى ذريتهم وأموالهم، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة))([14])، وفي رواية: ((لقد حكمتَ بحكم المَلك))([15])،
ثم أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالأخاديد فَخُدّت في الأرض، وجيء
بهم مكتفين، فضَرب أعناقهم، وكانوا ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة، وسَبى
مَنْ لم يُنبت منهم مع النساء وأموالهم، وهذا كله مقرر مفصل بأدلته
وأحاديثه، وبسطه في كتاب السيرة الذي أفردناه موجزاً وبسيطاً.
كتاب السيرة الذي أفردناه،
هذه الجملة تدل على أن ابن كثير -رحمه الله- هو الذي أفرده، وبعض الناس
يقول: هذا مستل من كتاب البداية والنهاية، فابن كثير -رحمه الله- هو الذي
فعل ذلك.
قال: وهذا كله مقرر مفصل بأدلته وأحاديثه، وبسطه في كتاب السيرة الذي أفردناه موجزاً وبسيطاً، ولله الحمد والمنة.
ولهذا قال تعالى: {وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ} أي: عاونوا الأحزاب وساعدوهم على حرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يعني:
بني قريظة من اليهود، من بعض أسباط بني إسرائيل، كان قد نزل آباؤهم الحجاز
قديماً طَمَعاً في اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في
التوراة والإنجيل، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه} فعليهم لعنة الله.
وقوله تعالى: {مِنْ صَيَاصِيهِم} يعني: حصونهم، كذا قال مجاهد، وعِكْرِمة، وعطاء، وقتادة، والسُّدِّي، وغيرهم من السلف.
الصياصي: جمع صيصة
بالكسر، والصيصة هي الحصن، ويقال: إن أصل ذلك يقال لقرن الوعل، ونحوه يدفع
به عن نفسه، فقيل ذلك للحصون؛ لأنه يُدفع بها يعني عمن فيها، أو من في
البلد.
قال: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}: وهو الخوف.
القذف هو الإلقاء السريع، {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ}،
والرعب أخص من الخوف، فهو خوف يملأ القلب، الخوف على درجات، كما أن الحب
على درجات، والرحمة على درجات كما هو معلوم، فالخوف أيضاً على درجات، هناك
خوف، هناك خشية، هناك رهبة، وهناك هلع ورعب، والنبي -صلى الله عليه وسلم-
يقول: ((نصرت بالرعب))([16])،
ما قال: نصرت بالخوف، فالرعب هو خوف يملأ القلب، قد يكون الخوف يساور
القلب، ولكنه لا يصل إلى هذه المرتبة، فإذا وصل إلى حد الامتلاء صار القلب
فارغاً من كل شيء إلا طلب الخلاص والنجاة والفرار، فأحسن أحواله أن يفر،
وقد لا تسعفه قواه فيقسط، ينهار يعني، من شدة الخوف يضطرب وقلبه يضرب بقوة،
ولم يعد محلاً صالحاً للتفكير والنظر في الأمور، فضلاً عن مواجهة العدو،
فأحسن الأحوال أن يفر، وإلا فقد يقعده ذلك فيرتمي بين يدي عدوه لا يستطيع
الحراك، يعني أن أطراف الإنسان وأعصاب الإنسان وعضلات الإنسان كلها تخور
فتخونه فيسقط، لا يستطيع أن يقوم؛ من شدة الخوف، هذا الرعب يملأ القلب، ((نصرت بالرعب مسيرة شهر))،
وانظر إلى خوف أعداء الله اليوم من الإسلام، مع أن المسلمين ضعفاء جداً،
ومع ذلك الخوف يكاد أن يقتلهم، وليس لهم حديث ولا شأن إلا في الحديث عن هذا
الخطر الداهم الذي يشعرون أنه لا حيلة لهم فيه، فكيف لو كان المسلمون
أقوياء؟!، كان أولائك جميعاً في المصحات النفسية، والله المستعان.
قال: لأنهم كانوا
مالئوا المشركين على حرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وليس مَنْ يعلم
كمن لا يعلم، وأخافوا المسلمين وراموا قتلهم ليَعزّوا في الدنيا، فانعكس
عليهم الحال، وانقلب إليهم القال، انشمر المشركون ففازوا بصفقة المغبون،
فكما راموا العز ذلّوا، وأرادوا استئصال المسلمين فاستُؤصلوا، وأضيف إلى
ذلك شقاوة الآخرة، فصارت الجملة أن هذه هي الصفقة الخاسرة؛ ولهذا قال
تعالى: {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً}، فالذين قُتلوا هم المقاتلة، والأُسراء هم الأصاغر والنساء.
كلام ابن كثير -رحمه الله- هنا مثل كلامه الأول؛ لأن العقوبة من جنس الجناية، والمتكبرون يحشرون أمثال الذر.
قال: وروى الإمام
أحمد عن عطية القرظي قال: عُرضتُ على النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم قريظة
فشكوا فيَّ، فأمر بي النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ينظروا: هل أنبتّ بعد؟
فنظروا فلم يجدوني أنبتّ، فخلي عني وألحقني بالسبي([17]).
وكذا رواه أهل السنن وقال الترمذي: حسن صحيح، ورواه النسائي أيضاً عن عطية بنحوه.
وقوله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} أي: جعلها لكم مِن قتلكم لهم {وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤوهَا} قيل: خيبر، وقيل: مكة، رواه مالك عن زيد بن أسلم، وقيل: فارس والروم، وقال ابن جرير: يجوز أن يكون الجميع مراداً، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}.
قوله: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤوهَا} قيل: خيبر، خيبر فتحت بعد وقعة قريظة بسنة وشهر، والقول بأنها خيبر قال به جماعة من السلف كابن زيد ومقاتل بن حيان، ويزيد بن رومان.
قال ابن كثير: وقيل: مكة، رواه مالك عن زيد بن أسلم، وبه قال أيضاً قتادة، وقيل: فارس والروم، وهذا قال به الحسن البصري، قال ابن جرير: يجوز أن يكون الجميع مراداً، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}، هذا -يعني قول ابن جرير- هو الأقرب -والله أعلم-، {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤوهَا}،
ما هذه الأرض التي لم نطأها؟ تَصدُق على ما حصل للمسلمين من الفتوح بعد
ذلك، فمن ذلك خبير، وبعضهم كابن عاشور حمل ذلك على الأرض التي لم تفتح
بالقوة، يعني: ما فتحت عنوة، فقال: هذا المراد به أرض النضير، باعتبار أن
أرض النضير فتحت بعد ذلك، بهذا الاعتبار، {وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤوهَا}، يعني لم يحصل لكم بعدُ الاستيلاء عليها، ليس معناها أنكم ما مشيتم فيها، وإنما المقصود الاستيلاء والغلبة، {تَطَؤوهَا}، وإلا فكانوا يذهبون إلى النضير ويذهبون إلى فارس والروم وخيبر تجارة وغير ذلك، قال: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}، الأرض أعم من الديار، {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ}
كل الأرض بما فيها الفضاء الذي يتبع هؤلاء، وأما الديار فيمكن أن يكون
ذلك باعتبار ما كان عامراً منها، وما يحتفّ بها من المزارع ونحو ذلك.
{يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ
سَرَاحًا جَمِيلا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ
أَجْرًا عَظِيمًا} [سورة الأحزاب:28-29].
هذا أمر من الله
-تبارك وتعالى- لرسوله -صلى الله عليه وسلم- بأن يخَيّر نساءه بين أن
يفارقهن، فيذهبن إلى غيره ممن يَحصُل لهن عنده الحياةُ الدنيا وزينتها،
وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال، ولهن عند الله تعالى في ذلك الثواب
الجزيل.
كلام ابن كثير -رحمه
الله-: أمر من الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- بأن يخير نساءه بين أن
يفارقهن فيذهبن، هنا الفراق يعني الطلاق، فيكون التخيير هنا بين الطلاق
والبقاء معه، والقول الآخر: أن التخيير أن يخترن، خيرهن بين الدنيا
والآخرة، وتأمل الآيات، مع أن القول الثاني: أنه خيرهن بين الدنيا والآخرة
قال به جماعة من السلف، ويستدلون على هذا بما جاء عن علي -رضي الله تعالى
عنه- عند الإمام أحمد في المسند من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خيرهن
بين الدنيا والآخرة ولم يخيرهن بالطلاق، أنه ما خيرهن بالطلاق، لكن هذا
الأثر ضعفه ابن كثير ورد هذا القول، واختار أن التخيير إنما هو بين الطلاق
والبقاء معه، والمختصر أبقى على هذا، يعني اختيار ابن كثير: بين أن
يفارقهن، فيذهبن إلى غيره.
والقول أنه خيرهن بين
الدنيا والآخرة قال به الحسن البصري -رحمه الله- وقتادة وغيرهما، والذي
عليه كثير من أهل العلم من المحققين أن التخيير كان بين الطلاق وغيره، وهو
الذي ذكره الحافظ ابن كثير، فقوله: {أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} خيرهن بين الدنيا والآخرة، {أُمَتِّعْكُنَّ} يعني: أن يعطيهن من متاع الدنيا وأن يوسع عليهن في العطاء، والواقع الذي يظهر -والله أعلم- أن قوله: {أُمَتِّعْكُنَّ} أن المقصود به ما يعطى للمطلقة من المتعة التي أمر الله -عز وجل- بها، {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} [سورة البقرة:236]، وذلك ما يعطى للمطلقة جبراً لخاطرها، وهو أمر تناساه الناس اليوم إلا من رحم الله -عز وجل-، جبراً لخاطرها بحسب الغنى والفقر، {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ}،
والتسريح بمعنى التخلية، بصرف النظر هل التسريح يدل على الطلاق دلالة
صريحة، أو أنه يحتمل؟، بصرف النظر، لكن لا شك أنه يُعبَّر عن الطلاق
بالتسريح، يقال: سرّح امرأة يعني طلقها، ولكن ذلك لا يعني هذا المعنى
بالضرورة في كل الأحوال، لكنه يقال فيه ويطلق عليه، فهنا {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ}
فيحتمل أن يكون التسريح بمعنى التطليق، ويحتمل أن يكون كما يقال: يعني
بمثابة رفع اليد، يعني التخلية، وذلك أن المرأة إذا طلقت وشارفت على انتهاء
العدة فكما قال الله -عز وجل-: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [سورة البقرة:229]، ليس المقصود {تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}؛ لأن هنا معنى التسريح قطعاً {تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}
ليس الطلاق؛ لأنه ليس معناه أن المرأة إذا شارفت انتهاء العدة أنها تطلق
مرة ثانية، فهذا غير مراد، وإنما المقصود التخلية، يعني أنها حينما كانت في
حباله وعصمته قبل الطلاق وبعد الطلاق الرجعي يعني في فترة العدة فهي
لازالت في عصمته وحباله وتحت يده ويستطيع أن يراجعها ولا خيار لها في هذا،
فإذا شارفت انتهاء العدة فإما أن يمسك بأن يراجع بمعروف، وإما أن يرفع يده،
يعني يخلي، لا يكون له بعد ذلك سلطان عليها، فيكون ذلك تسريحاً، فالتسريح
يأتي بهذا المعنى –التخلية-، فهنا في هذه الآية: {أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ}
يمكن أن يكون بهذا المعنى، لكن ذلك يكون من توابع الطلاق فيكون الطلاق قد
وقع، فهذا يقتضي أنه خيرهن بين الطلاق والبقاء معه، وهذا ظاهر كلام شيخ
الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وإن لم يجزم فيما يتصل بمعنى التسريح هنا؛
لأنه يحتمل ويمكن أن يقال: إنه من توابع وآثار الطلاق، لكن ليس المقصود أنه
خيرهن بين الدنيا والآخرة، فإن البقاء معه يقتضي أن يكنّ على حال من البعد
عن التوسع في الملاذ والمباحات فلا يصلح له ما يصلح لغيره، فكان أزواج
النبي -صلى الله عليه وسلم- بعدما فتح الله عليه هذه الفتوح في قريظة
والنضير، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعيش في ضيق من العيش، فاجتمع
نساؤه عليه يطالبنه بالتوسيع عليهن في النفقة، ما العلاقة في ذكر هذا بعد
غزوة الأحزاب وقريظة؟، لما فتحت قريظة الآن صار هناك أموال هناك توسعة،
فاجتمع أزواجه مطالبات بتحسين الأوضاع والأحوال المعيشية، ظناً منهن أن تلك
حالة عارضة اقتضاها الحال وأنه لمّا وسع الله عليه، فكان ذلك يقتضي التوسع
في الملاذ والمباحات، فخيرهن الله -تبارك وتعالى- بين البقاء معه على
التقلل من الدنيا أو التطليق، لاحظ هنا {أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا}،
والسراح الجميل يقال فيه ما يدخل تحت هذا المعنى، السراح الجميل الذي لا
يكون معه جرح للمشاعر، لا يكون معه إساءة، لا يكون معه منع للحقوق، لا يكون
معه مضايقات بأولاد أو بغيرهم، لا يُسمعها ما تكره، لا يأخذ من متاعها، لا
يأخذ من مالها، لا يلجئها إلى أن تطلب الطلاق منه بحال تضرر فيها، فتفتدي
وهو لا يريدها، يعني كل هذا من السراح الجميل، تسريح الكرام يعني تذهب
المرأة في حال من الكرامة، فابن كثير -رحمه الله- يقول: بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره، ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها ظاهر كلام ابن كثير أنه إذا طلقها يجوز لغيره أن يتزوجها، وهذا قال به طائفة من أهل العلم، لكن الله -تبارك وتعالى- يقول: {وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا} [سورة الأحزاب:53]، وسيأتي الكلام على هذه المسألة في موضعه.
قال: فاخترن -رضي الله عنهن وأرضاهن- الله ورسوله والدار الآخرة، فجمع الله تعالى لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة.
روى البخاري عن
عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه قالت: فبدأ بي رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((إني ذاكر لك أمرا، فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك))، وقد عَلمَ أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه، قالت: ثم قال: ((وإن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ} إلى تمام الآيتين))، فقلت له: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة([18]).
وكذا رواه معلقاً، وزاد: قالت: ثم فعل أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل ما فعلت.
وروى الإمام أحمد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: خيرَنَا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فاخترناه، فلم يعدَّها علينا شيئاً([19]). أخرجاه من حديث الأعمش.
هو هذا، يعني الآن هذا
الحديث عند الإمام أحمد وأصله في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم-
خيرهن ولم يعد ذلك طلاقاً، هذا لفظ مسلم، فدل ذلك على أن التخيير كان بين
الدنيا والآخرة، أو بين الطلاق والبقاء معه؛ لأن الفقهاء اختلفوا في
التخيير هل يعد طلاقاً أو لا، فجاء هذا بألفاظ متعددة في الصحيحين وغيرهما،
لكن من أصرح ذلك ما جاء في مسلم "ولم يَعدّ ذلك طلاقاً" هنا لم يَعدّ ذلك
شيئاً، يعني: طلاقاً.
قال: وروى الإمام
أحمد عن جابر -رضي الله عنه- قال: أقبل أبو بكر -رضي الله عنه- يستأذن على
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والناس ببابه جلوس، والنبي -صلى الله عليه
وسلم- جالس: فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر -رضي الله عنه- فاستأذن فلم يؤذن له،
ثم أذن لأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فدخلا والنبي -صلى الله عليه وسلم-
جالس وحوله نساؤه، وهو -صلى الله عليه وسلم- ساكت، فقال عمر -رضي الله
عنه-: لأكلمن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعله يضحك، فقال عمر: يا رسول
الله، لو رأيت ابنة زيد -امرأة عمر- سألتني النفقة آنفاً، فوَجَأتُ عنقها.
فوجأت عنقها يعني: إذا طعن فيه بيده، وجَأتُ عنقها: طعن فيه بيده يعني دفع فيه بيده.
قال: فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه وقال: ((هن حولي يسألنني النفقة))،
فقام أبو بكر -رضي الله عنه- إلى عائشة ليضربها، وقام عمر -رضي الله عنه-
إلى حفصة، كلاهما يقولان: تسألان النبي -صلى الله عليه وسلم- ما ليس عنده؟
فنهاهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلن: والله لا نسأل رسول الله
بعد هذا المجلس ما ليس عنده، قال: وأنزل الله -عز وجل- الخيار، فبدأ بعائشة
-رضي الله عنها- فقال: ((إني أذكر لك أمرًا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك))، قالت: وما هو؟ قال: فتلا عليها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ}
الآية، قالت عائشة -رضي الله عنها-: أفيك أستأمر أبويّ؟ بل أختار الله
ورسوله، وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترتُ، فقال -صلى الله عليه
وسلم-: ((إن الله تعالى لم يبعثني معنفاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً، لا تسألني امرأة منهن عما اخترتِ إلا أخبرتُها))([20])، انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري، فرواه هو والنسائي.
هنا في هذا الموضع في
نزول هذه الآيات في سورة الأحزاب هذا التخيير بسبب المطالبة بالتوسعة في
النفقة، والروايات التي أوردها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- مع قوله -تبارك
وتعالى-: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ} [سورة التحريم:5]، والروايات التي نزل بسببها قوله: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ}،
وذلك في قصة التحريم لما حرم النبي -صلى الله عليه وسلم- كما هو المشهور
الذي عليه عامة أهل العلم وأكثر الروايات أنه حرم العسل، وصح في بعضها أن
ذلك بسبب تحريم الجارية، فالروايات متشابهة هنا، والمقام يحتاج إلى شيء من
التحرير والتأمل، في القصة المعروفة لما دخل عمر، استأذن، كان غلام أسود
على الباب فلم يأذن له النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم استأذن ثانية لما
وجد الناس يبكون، فقال: أجاءت الروم؟ فقالوا: طلق النبي -صلى الله عليه
وسلم- نساءه، ثم بعد ذلك أذن له فدخل، فأراد أن يُضحك النبي -صلى الله عليه
وسلم-، فذكر له خبره مع امرأته، وفي قصة سورة التحريم، {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ}،
وأن عمر -رضي الله عنه- قال لهن ذلك، فنزلت الآية موافقة لقوله -رضي الله
عنه-، فهنا في مطالبتهن بالتوسعة بالنفقة، وهناك في قصة التحريم وتظاهر
أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- "وإن تظاهرا عليه" وما حصل في ذلك،
فالمقام يحتاج إلى تأمل وتحرير ونظر في الروايات، فهو لا يخلو من إشكال،
وما وقفتُ على من حرر هذا المقام، يحتاج إلى شيء من الوقت.
وقوله -تبارك وتعالى-: {إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}
هنا الإرادة معدّاة للحياة الدنيا، هناك مقدر، يعني يحمل على أعم المعاني،
يعني متاع الحياة الدنيا، لذّات الحياة الدنيا وما شابه ذلك، يعني يحمل
على معنىً عام، يعني المقدر يكون ما يدل على العموم، {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}،
تعالين، الأصل في هذا أن يقوله من كان في مكان مرتفع لمن كان في مكان دونه
ليرتفع إليه، ثم صار ذلك يستعمل في الطلب والنداء مطلقاً، {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}، {وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ}، يعني تؤثرن رضاه، تردن ما عنده، {وَرَسُولَهُ} يعني: البقاء معه وطلب مرضاته -عليه الصلاة والسلام-، تؤثرن ذلك على متاع الحياة الدنيا، والله أعلم.
[1]
- رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،
باب ومن سورة الأحزاب، برقم (3202)، وابن ماجه، افتتاح الكتاب في الإيمان
وفضائل الصحابة والعلم، فضل طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه-، برقم (127)،
وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7363).
[2]
- رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب إذا اضطر الرجل إلى النظر في
شعور أهل الذمة والمؤمنات إذا عصين الله وتجريدهن، برقم (2915)، ولفظه: ((ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم))،
وعلقه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب من لم يرَ إكفار من قال ذلك
متأولا أو جاهلا، (5/2264)، والحاكم في المستدرك، برقم (6966)، والبيهقي في
شعب الإيمان، برقم (9371).
[3]
- رواه الترمذي، كتاب المناقب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب في
مناقب عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، برقم (3701)، وأحمد في المسند، برقم
(20630)، وحسنه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (6064).
[4] - رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الأحزاب، برقم (4506)، وأحمد في مسنده، برقم (21640).
[5] - رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الأحزاب، برقم (4505).
[6]
- رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، برقم (1903)،
والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ومن
سورة الأحزاب، برقم (3200)، والنسائي في السنن الكبرى، برقم (8291).
[7]
- رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،
باب ومن سورة الأحزاب، برقم (3202)، وابن ماجه، افتتاح الكتاب في الإيمان
وفضائل الصحابة والعلم، فضل طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه-، برقم (127)،
وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7363).
[8]
- رواه البخاري، كتاب الرقائق، باب في الحوض، برقم (6211)، ومسلم، كتاب
الفضائل، باب إثبات حوض نبينا -صلى الله عليه وسلم- وصفاته، برقم (2304)
واللفظ له.
[9] - انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/524).
[10]
- رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، برقم (3890)،
ومسلم، كتاب الحج، باب ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره، برقم (1344)،
وأحمد في المسند، برقم (8490)، واللفظ له.
[11]
- رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، برقم (3884)،
وأحمد في المسند، برقم (18308)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط
الشيخين، يحيى: هو ابن سعيد القطان، وعبد الرحمن: هو ابن مهدي، وسفيان: هو
الثوري، وأبو إسحاق: هو السبيعي، وقد صرح بالسماع".
[12] - رواه أحمد في المسند، برقم (25097)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (67).
[13]
- رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء،
برقم (904)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم
الأمرين المتعارضين، برقم (1770).
[14] - الطبقات الكبرى لابن سعد (2/75)، وصححه الألباني في إرواء الغليل، (5/274)، برقم (1453).
[15]
- رواه البخاري، كتاب الاستئذان، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-:
(قوموا إلى سيدكم)، برقم (5907)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال
من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم، برقم
(1768).
[16] - رواه البخاري، في أول كتاب التيمم، برقم (328)، ومسلم، في أول كتاب المساجد ومواضع الصلاة، برقم (523).
[17]
- رواه أحمد في المسند، برقم (19421)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله
ثقات رجال الشيخين، غير صحابيه، فقد روى له أصحاب السنن، هشيم: هو ابن بشير
السلمي".
[18]
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الأحزاب، برقم (4507)،
ومسلم، كتاب الطلاق، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية،
برقم (1475).
[19]
- رواه البخاري، كتاب الطلاق، باب من خير أزواجه، برقم (4962)، ومسلم،
كتاب الطلاق، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية، برقم
(1477)، وأحمد في المسند، برقم (24181).
[20] - رواه أحمد في المسند، برقم (14516)، وقال محققوه: إسناده صحيح، والنسائي في السنن الكبرى، برقم (9208).
Ei kommentteja:
Lähetä kommentti