الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد .. فهذه دراسة عن موقف الإسلام من
غير المسلمين، ويتضح بها احترام الإسلام لسائر الأديان السماوية، ووجوب
الإيمان بجميع الرسل والكتب السابقة، كما يتضح بها موقف الإسلام من غير
المسلمين في الحرب وفي السلم، والمساواة بين المسلمين وغير المسلمين في
سائر المعاملات، وسماحة الإسلام مع غير المسلمين، والتي كان الناس بسببها
يدخلون في دين الله أفواجاً، وأن الإسلام هو دعوة كل الرسل. اسأل الله
تعالى أن يوفقنا إلى ما فيه الخير والرشد والسداد.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛؛
احترام الإسلام لسائر الأديان السماوية:
احترم الإسلام جميع الأديان السماوية، وأرسل الله تعالى سيدنا محمداً صلى
الله عليه وسلم خاتماً للأنبياء والمرسلين، ومصدقاً لجميع الرسل الذين
كانوا قبله، وأنزل الله تعالى على رسوله القرآن الكريم تبياناً لكل شيء
ومصدقاً لما بين يديه من الكتب ومهيمناً عليها وحارساً أمينا لها.
وكان من عناصر الإيمان: الإيمان بجميع الرسل السابقين وبجميع الكتب السماوية قال تعالى:
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ
كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ
بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } (سورة البقرة الآية 285)
بل إن إيمان المؤمن لا يكون صحيحاً إلا إذا آمن بجميع الأنبياء السابقين،
وآمن بما أنزل الله تعالى عليهم من الكتب السماوية الصحيحة، قال تعالى:
{قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا
أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } (سورة
البقرة الآية 136)
ومادام كل مسلم مأموراً أن يؤمن بجميع الرسل السابقين وبجميع الكتب
السماوية، فلا يكون لديه تعصب، ولا كراهية لدين آخر أو نبي أو رسول، ولا
كراهية ولا حقد على أحد من أتباع الأديان الأخرى.
ووضع القرآن لأتباعه ما قضته الإرادة الإلهية منذ الأزل، من اختلاف الناس
في عقائدهم وأجناسهم وألوانهم، وذلك لحكمة يعلمها الحكيم الخبير.
قال سبحانه:
{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ
يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ "118" إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ
خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ
الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } (سورة هود، الآيتان: 118، 119)
وقال جل شأنه:
{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا
أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } (سورة يونس
الآية 99)
ولا يحجر الإسلام على أحد، ولا يكره أحدا على الدخول في عقيدته، قال الله تعالى:
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ
فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
(سورة البقرة الآية 256)
موقف الإسلام من غير المسلمين:
من المعلوم أن الإسلام هو دين السلام، لا يأمر بالحرب إلا في الضرورة
القصوى التي تستدعي الدفاع والجهاد في سبيل الله، ومع مشروعية الجهاد في
سبيل الله دفاعاً عن الدين والعقيدة والأرض والعرض، فإن الحرب في الإسلام
لها حدود وضوابط وللمسلمين أخلاقهم التي يتخلقون بها حتى في حربهم مع من
يحاربهم من غير المسلمين، فأمر الإسلام بالحفاظ على أموال الغير، وبترك
الرهبان في صوامعهم دون التعرض لهم، ونهى الإسلام عن الخيانة والغدر
والغلول، كما نهى عن التمثيل بالقتلى، وعن قتل الأطفال والنساء والشيوخ،
وعن حرق النخيل والزروع، وقطع الأشجار المثمرة، وأوصى أبو بكر الصديق رضي
الله عنه أسامة بن زيد عندما وجهه إلى الشام بالوفاء بالعهد وعدم الغدر أو
التمثيل، وعاهد خالد بن الوليد أهل الحيرة ألا يهدم لهم بيعة ولا كنيسة ولا
قصراً، ولا يمنعهم من أن يدقوا نواقيسهم أو أن يخرجوا صلبانهم في أيام
أعيادهم.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه رحيماً بغير المسلمين من أهل الكتاب، وكان
ينصح سعد بن أبي وقاص ـ عندما أرسله في حرب الفرس ـ بأن يكون حربه بعيداً
عن أهل الذمة، وأوصاه ألا يأخذ منهم شيئاً لأن لهم ذمة وعهداً، كما أعطى
عمر رضي الله عنه أهل إيلياء أماناً على أموالهم وكنائسهم وصلبانهم وحذر من
هدم كنائسهم، وأمر الإسلام بحسن معاملة الأسرى وإطعامهم قال تعالى:
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } (سورة الإنسان الآية 8)
بينما يعامل غير المسلمين أسرى المسلمين معاملة سيئة، فقد يقتلونهم وقد
يسترقونهم أو يكلفونهم أشق الأعباء والأعمال، فإن أسرى غزوة بدر الكبرى
عاملهم النبي صلى الله عليه وسلم خير معاملة، فوزعهم على الصحابة وأمرهم أن
يحسنوا إليهم، فكانوا يؤثرونهم على أنفسهم في الطعام وفي الغذاء، ولما
استشار أصحابه في شأن أسرى بدر، وأشار البعض بقتلهم، وأشار الآخرون
بالفداء، وافق على الفداء، وجعل فداء الذين يكتبون منهم أن يعلم كل واحد
منهم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة، وكان هذا أول إجراء لمحو
الأمية.
ولم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمثل بأحد من أعدائه في الحروب مهما
كان أمره، ولما أشير عليه أن يمثل بسهيل بن عمرو لأنه كان يحرص على حرب
المسلمين وعلى قتالهم فأشير عليه أن ينزع ثنيتيه السفليين حتى لا يستطيع
الخطابة بعد ذلك لم يوافق النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بل رفض قائلاً:
لا أمثل به فيمثل الله بي، وإن كنت نبياً
وعندما حقق الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أمنيته بفتح مكة المكرمة ودخلها فاتحاً منتصراً ظافراً قال لقريش:
"ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا خيراً أخ كريم وابن أخ كريم، فقال صلى الله
عليه وسلم: اذهبوا فأنتم الطلقاء، لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لي ولكم"
ومن توجيهات الإسلام للمسلمين في الحرب:
1. أن يكون القتال في سبيل الله.
2. أن يكون القتال لمن يقاتلون المسلمين.
3. عدم الاعتداء، قال الله تعالى:
{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ
تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } (سورة البقرة الآية
190)
فالذين يعتدون على المسلمين ويقاتلونهم أمر المسلمون أن يقاتلوهم، ولكنه
قتال عادل بمعنى ألا يمثلوا بأحد وبلا تعذيب، حيث قال الله تعالى:
{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ
فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ
الْمُتَّقِينَ } (سورة البقرة الآية 194)
وهذا فيمن يقاتلون المسلمين، أما الذين لا يقاتلون من غير المسلمين فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن قتالهم:
فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "انطلقوا باسم
الله وبالله وعلى ملة رسول الله لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً صغيراً
ولا امرأة .." أبو داود، ج3 ص86 رقم 2614
وفي حديث آخر:
"سيروا باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليداً" سنن ابن ماجة، ج2 ص953
كما كان ينهى عليه الصلاة والسلام عن التعرض للرهبان وأصحاب الصوامع، وعن التمثيل والغلول،
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث
جيوشه قال: "اخرجوا باسم الله، قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، لا
تعتدوا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع"
مسند احمد، ج1 ص200
موقف الإسلام من غير المسلمين في حال السلم:
يقف الإسلام من غير المسلمين في حال السلم موقف الأمان، بل إنه لم ينه عن
البر بهم ماداموا لم يقاتلوا المسلمين، وإنما ينهى عن البر بالذين قاتلوا
المسلمين في دينهم وأخرجوهم من ديارهم وظاهروا على إخراجهم، فقال جل شأنه:
{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ "8" إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ
اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن
دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن
يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ "9"} (سورة الممتحنة
الآيتان: 8 ، 9)
ونهى القرآن الكريم عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، فقال الله سبحانه:
{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ
إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ
لَهُ مُسْلِمُونَ } (سورة العنكبوت الآية 46)
وقال سبحانه:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا
وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن
تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } (سورة آل عمران
الآية 64)
بل أمر الإسلام بالوفاء بالعهد حتى مع المشركين، قال تعالى:
{إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ
يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ
إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ
الْمُتَّقِينَ } (سورة التوبة الآية 4)
بل لو طلب المشرك من المسلم أن يجيره فعليه أن يجيره، بل ويبلغه مأمنه، كما قال الحق تبارك وتعالى:
{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى
يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } (سورة التوبة الآية 6)
ومن رعاية الإسلام لحقوق غير المسلمين رعايته لمعابدهم وكنائسهم، ومن
محافظته عليها ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما حان وقت الصلاة
وهو في كنيسة القيامة، فطلب البطريرك من عمر أن يصلي بها، وهم أن يفعل ثم
اعتذر ووضح أنه يخشى أن يصلي بالكنيسة فيأتي المسلمون بعد ذلك ويأخذونها من
النصارى على زعم أنها مسجد لهم، ويقولون: هنا صلى عمر.
ولم تتوقف معاملة المسلمين لغير المسلمين عند حد المحافظة على أموالهم
وحقوقهم، بل حرص الإسلام عبر عصوره على القيام بما يحتاجه أهل الكتاب وما
يحتاج إليه الفقراء منهم.
إن مثل هذه المعاملة من المسلمين لغير المسلمين تطلع العالم أجمع على أن
الإسلام ربى أتباعه على التسامح، وعلى رعاية حقوق الناس، وعلى الرحمة بجميع
البشر مهما اختلفت عقائدهم وأجناسهم.
وقد حفظت أجيال المسلمين قيمة هذه الرعاية الإسلامية لحقوق غير المسلمين،
لأنهم ما طبقوها إلا استجابة لتعاليم القرآن الكريم، وتوجيهات الرسول
العظيم عليه افضل الصلاة والسلام وقد طبقها في حياته فوعاها المسلمون جيلاً
فجيلاً، وطبقها الخلف عن السلف، والأبناء عن الآباء، فهاهو ذا عبد الله بن
عمر رضي الله عنهما: حدث مجاهد قال: "كنت عند عبد الله بن عمر، وغلام لم
يسلخ شاة، فقال: يا عمر إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي، وقال ذلك مراراً،
فقال له: كم تقول هذا؟ فقال إن رسول الله لم يزل يوصينا بالجار حتى خشينا
أنه سيورثه".
الحمد لله رب العالمين ..
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد ..
فهذه دراسة عن موقف الإسلام من غير المسلمين، ويتضح بها احترام الإسلام لسائر الأديان السماوية ..
ووجوب الإيمان بجميع الرسل والكتب السابقة ..
كما يتضح بها موقف الإسلام من غير المسلمين في الحرب وفي السلم ..
والمساواة بين المسلمين وغير المسلمين في سائر المعاملات ..
وسماحة الإسلام مع غير المسلمين، والتي كان الناس بسببها يدخلون في دين الله أفواجاً ..
وأن الإسلام هو دعوة كل الرسل .. اسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى ما فيه الخير والرشد والسداد ..
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
احترام الإسلام لسائر الأديان السماوية :
احترم الإسلام جميع الأديان السماوية، وأرسل الله تعالى سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم خاتماً للأنبياء والمرسلين ..
ومصدقاً لجميع الرسل الذين كانوا قبله ..
وأنزل الله تعالى على رسوله القرآن الكريم تبياناً لكل شيء ومصدقاً لما بين يديه من الكتب ..
ومهيمناً عليها وحارساً أمينا لها ..
وكان من عناصر الإيمان : الإيمان بجميع الرسل السابقين وبجميع الكتب السماوية .. قال تعالى:
{
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ
كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ
بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} ( البقرة 285)
بل إن إيمان المؤمن لا يكون صحيحاً إلا إذا آمن بجميع الأنبياء السابقين ..
وآمن بما أنزل الله تعالى عليهم من الكتب السماوية الصحيحة، قال تعالى :
{قُولُواْ
آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا
أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ( البقرة 136)
ومادام كل مسلم مأموراً أن يؤمن بجميع الرسل السابقين وبجميع الكتب السماوية، فلا يكون لديه تعصب ..
ولا كراهية لدين آخر أو نبي أو رسول، ولا كراهية ولا حقد على أحد من أتباع الأديان الأخرى ..
ووضع القرآن لأتباعه ما قضته الإرادة الإلهية منذ الأزل، من اختلاف الناس في عقائدهم وأجناسهم وألوانهم ..
وذلك لحكمة يعلمها الحكيم الخبير..
قال سبحانه:
{وَلَوْ
شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ "118" إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } ( هود،118، 119)
وقال جل شأنه :
{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } ( يونس 99)
ولا يحجر الإسلام على أحد، ولا يكره أحدا على الدخول في عقيدته، قال الله تعالى :
{لاَ
إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ
يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (البقرة 256)
موقف الإسلام من غير المسلمين :
من المعلوم أن الإسلام هو دين السلام، لا يأمر بالحرب إلا في الضرورة القصوى التي تستدعي الدفاع والجهاد في سبيل الله ..
ومع مشروعية الجهاد في سبيل الله دفاعاً عن الدين والعقيدة والأرض والعرض، فإن الحرب في الإسلام لها حدود وضوابط ..
وللمسلمين أخلاقهم التي يتخلقون بها حتى في حربهم مع من يحاربهم من غير المسلمين ..
فأمر الإسلام ب :
الحفاظ على أموال الغير..
وبترك الرهبان في صوامعهم دون التعرض لهم ..
ونهى الإسلام عن الخيانة والغدر والغلول ..
كما نهى عن التمثيل بالقتلى ..
وعن قتل الأطفال والنساء والشيوخ ..
وعن حرق النخيل والزروع، وقطع الأشجار المثمرة ..
وأوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أسامة بن زيد عندما وجهه إلى الشام بالوفاء بالعهد وعدم الغدر أو التمثيل ..
وعاهد خالد بن الوليد أهل الحيرة ألا يهدم لهم بيعة ولا كنيسة ولا قصراً ..
ولا يمنعهم من أن يدقوا نواقيسهم أو أن يخرجوا صلبانهم في أيام أعيادهم ..
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه رحيماً بغير المسلمين من أهل الكتاب ..
وكان ينصح سعد بن أبي وقاص ـ عندما أرسله في حرب الفرس ـ بأن يكون حربه بعيداً عن أهل الذمة ..
وأوصاه ألا يأخذ منهم شيئاً لأن لهم ذمة وعهداً ..
كما أعطى عمر رضي الله عنه أهل إيلياء أماناً على أموالهم وكنائسهم وصلبانهم وحذر من هدم كنائسهم ..
وأمر الإسلام بحسن معاملة الأسرى وإطعامهم .. قال تعالى :
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } ( الإنسان 8)
بينما يعامل غير المسلمين أسرى المسلمين معاملة سيئة ..
فقد يقتلونهم وقد يسترقونهم أو يكلفونهم أشق الأعباء والأعمال ..
فإن أسرى غزوة بدر الكبرى عاملهم النبي صلى الله عليه وسلم خير معاملة ..
فوزعهم على الصحابة وأمرهم أن يحسنوا إليهم، فكانوا يؤثرونهم على أنفسهم في الطعام وفي الغذاء ..
ولما استشار أصحابه في شأن أسرى بدر، وأشار البعض بقتلهم، وأشار الآخرون بالفداء، وافق على الفداء ..
وجعل فداء الذين يكتبون منهم أن يُعلم كل واحد منهم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة ..
وكان هذا أول إجراء لمحو الأمية ..
ولم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُمَثـَّل بأحد من أعدائه في الحروب مهما كان أمره ..
ولما أشير عليه أن يمثل بسهيل بن عمرو لأنه كان يحرص على حرب المسلمين وعلى قتالهم فأشير عليه أن ينزع ثنيتيه السفليين حتى لا
يستطيع الخطابة بعد ذلك لم يوافق النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بل رفض قائلاً :
لا أمثل به فيمثل الله بي، وإن كنت نبياً
وعندما حقق الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أمنيته بفتح مكة المكرمة ودخلها فاتحاً منتصراً ظافراً قال لقريش:
ما تظنون أني فاعل بكم ؟
قالوا : خيراً أخ كريم وابن أخ كريم ..
فقال صلى الله عليه وسلم:
اذهبوا فأنتم الطلقاء، لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لي ولكم ..
من توجيهات الإسلام للمسلمين في الحرب:
1. أن يكون القتال في سبيل الله.
2. أن يكون القتال لمن يقاتلون المسلمين.
3. عدم الاعتداء، قال الله تعالى :
{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } ( البقرة 190)
فالذين يعتدون على المسلمين ويقاتلونهم أمر المسلمون أن يقاتلوهم ..
ولكنه قتال عادل بمعنى ألا يمثلوا بأحد وبلا تعذيب ..حيث قال الله تعالى :
{الشَّهْرُ
الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ
الْمُتَّقِينَ } ( البقرة 194)
وهذا فيمن يقاتلون المسلمين، أما الذين لا يقاتلون من غير المسلمين فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن قتالهم :
فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة ..
أبو داود، ج3 ص86 رقم 2614
وفي حديث آخر:
سيروا باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليداً..
سنن ابن ماجة، ج2 ص953
كما كان ينهى عليه الصلاة والسلام عن التعرض للرهبان وأصحاب الصوامع، وعن التمثيل والغلول ..
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال:
اخرجوا باسم الله،قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله،لا تعتدوا،ولا تغلوا،ولا تمثلوا،ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامعمسند احمد، ج1 ص200
موقف الإسلام من غير المسلمين في حال السلم:
يقف الإسلام من غير المسلمين في حال السلم موقف الأمان، بل إنه لم ينه عن البر بهم ماداموا لم يقاتلوا المسلمين ..
وإنما ينهى عن البر بالذين قاتلوا المسلمين في دينهم وأخرجوهم من ديارهم وظاهروا على إخراجهم، فقال جل شأنه :
{لا
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ 8 إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ
اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن
دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن
يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ9}( الممتحنة 8 ، 9)
ونهى القرآن الكريم عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، فقال الله سبحانه:
{وَلَا
تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ
إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ
لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت 46)
وقال سبحانه:
{قُلْ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا
وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن
تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } ( آل عمران 64)
بل أمر الإسلام بالوفاء بالعهد حتى مع المشركين، قال تعالى:
{إِلاَّ
الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ
شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ
عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}( التوبة 4)
بل لو طلب المشرك من المسلم أن يجيره فعليه أن يجيره، بل ويبلغه مأمنه، كما قال الحق تبارك وتعالى:
{وَإِنْ
أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ
كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ
لاَّ يَعْلَمُونَ} (التوبة 6)
ومن رعاية الإسلام لحقوق غير المسلمين رعايته لمعابدهم وكنائسهم ..
ومن محافظته عليها ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما حان وقت الصلاة وهو في كنيسة القيامة ..
فطلب البطريرك من عمر أن يصلي بها، وهم أن يفعل ثم اعتذر ..
ووضح أنه يخشى أن يصلي بالكنيسة فيأتي المسلمون بعد ذلك ويأخذونها من النصارى على زعم أنها مسجد لهم، ويقولون:هنا صلى عمر..
ولم تتوقف معاملة المسلمين لغير المسلمين عند حد المحافظة على أموالهم وحقوقهم ..
بل حرص الإسلام عبر عصوره على القيام بما يحتاجه أهل الكتاب وما يحتاج إليه الفقراء منهم ..
إن
مثل هذه المعاملة من المسلمين لغير المسلمين تـُطلع العالم أجمع على أن
الإسلام رَبَىَ أتباعه على التسامح، وعلى رعاية حقوق الناس، وعلى الرحمة
بجميع البشر مهما اختلفت عقائدهم وأجناسهم ..
وقد حفظت أجيال المسلمين قيمة هذه الرعاية الإسلامية لحقوق غير المسلمين ..
لأنهم ما طبقوها إلا استجابة لتعاليم القرآن الكريم ..
وتوجيهات الرسول العظيم عليه أفضل الصلاة والسلام ..
وقد طبقها في حياته فوعاها المسلمون جيلاً فجيلاً، وطبقها الخلف عن السلف، والأبناء عن الآباء ..
فهاهو ذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: حدث مجاهد قال:
"كنت عند عبد الله بن عمر، وغلام لم يسلخ شاة، فقال:
يا عمر إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي، وقال ذلك مراراً ..
فقال له : كم تقول هذا؟
فقال إن رسول الله لم يزل يوصينا بالجار حتى خشينا أنه سيورثه " ..
بسم الله الرحمن الرحيم ..
شملت رعاية التشريع الإسلامي كل من يعيش في ظلاله ..
وجعل العلاقة بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى مثالية وخاصة أهل الكتاب ،..
حيث أمر المسلمين بالعدل والبر بهم ، وأباح الزواج منهم ، وحرم الظلم ، وأمر بالإنفاق على من أصبح شيخا منهم ..
وبالنسبة لما يُثار حول الجزية فهي مبلغ بسيط جدا لا يقارن بالزكاة المفروضة على المسلمين ..
ولها سببها .. وهو حماية أهل الذمة من الاعتداء وتوفير الأمن لهم ..
فإذا لم يستطع المسلمون توفير هذه الحماية ردوا لهم أموالهم ، والتاريخ يشهد بذلك ..
يقول فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد الشرباصي الأستاذ بجامعة الأزهر رحمه الله :
حجة من لايريدون تطبيق الشرع .. ظلم أهل الذمة ..
لعل أكرم
الصَّيَحات التي تردّدت في جنبات بلادنا خلال الأيام الأخيرة هي الدعوة إلى
تطبيق الشريعة الإسلامية الغرّاء؛ لأنها شريعة الحق، شريعة العدل، شريعة
الله، والله ـ تبارك وتعالى ـ هو الأعلم بمصالح عباده، والأعلم بما يسعدهم
في الأولى والآخرة:(صِبْغَةَ اللهِ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً ونحن له عابدون) (البقرة: 138)
ولعل أبرز عقبة
يتعلَّل بها الجهلة أو المغرضون هو اصطناع التساؤل المتكرر الظّنين عن مصير
أهل الذمة الذين لا يدينون بالإسلام أمام هذا التطبيق .. ولو علم هؤلاء
وجهَ الحقِّ لأدركوا أن تطبيق الشريعة الغراء سيكون خيرًا لأهل الذِّمّة من
حياة يسودُها الإعْراض عن شريعة الله والإلحاد في آياته، فالإسلام أرأَف
بأهل الذِّمّة من أي نظام آخر؛ لأنّه دِين العَدالة والسماحة والإنصاف، وقد
جاء بمُثل عُليا ومبادئ سامية في هذا المجال ..
الأخوة الإنسانية .. مبدأ إسلامي ..
إن الإسلام يقرر أوّلاً أن الناس كلهم بينهم وشيجة
من وحدة الأصل البشري والأجهزة والأخوّة الإنسانيّة، والقرآن الكريم يقول
في مطلع سورة النساء: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا
رَبَّكُمُ الذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْهَا
زَوْجَها وبَثَّ مِنْهُمَا رِجالاً كَثِيرًا ونِساءً واتَّقُوا اللهَ الذِي
تَسَاءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (الآية:1)
وهو يقرِّر حريّة الإعتقاد دون إكراه أو اعتساف فيقول: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ) (البقرة: 256)
ويقول مستنكرًا: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنينَ) (يونس: 99).
ويقول أيضًا: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤمِنْ ومَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: 29)
أهل الذمة يعيشون بحرية تامة كالمسلمين ..
وأهل الذِّمّة هم أهل الكِتاب الذين قبلوا أن
يعيشوا بين المسلمين مسالمين، من يهود أو نصارى، وأن يؤدُّوا ما عليهم من
جزية لحمايتهم والدفاع عنهم، مع بقائهم على دينهم ومُمارستهم لشعائرهم ..
وقد وضع الإسلام قاعدتَه الذهبيّة المثاليّة في معاملة أهل الذِّمّة ـ والذِّمّة هي العهد والضمان والأمان ـ فقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم: "لَهُم مَا لَنا وعليهم ما علينا".
وتوسع الإسلام في عدله وفضله، فشرع أكثر من رابطة لحسن العلاقة بين المسلمين وأهل الذّمّة من أهل الكتاب فقال الله تعالى:
(اليَوْمَ أُحِلَّ
لَكُمُ الطَّيِّباتُ وطَعَامُ الذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ
وطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ والمُحْصَناتُ مِنَ المُؤمِناتِ والمُحْصَناتُ
مِنَ الذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ
أُجورَهُنَّ مُحْصِنينَ غَيْرَ مُسَافِحينَ ولاَ مُتَّخِذِي أَخْدانٍ ومَنْ
يَكْفُرْ بِالإِيْمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ
الخَاسِرِينَ)
(المائدة: 5)
البر والإحسان بأهل الذمة ..
وقرَّر القُرآن في مُحكم آياتِه أنَّ عَلاقة المودّة هي الأساس بين المسلمين والمخالفين لهم في الدين، إذا لم يكن هناك عدوان ولا طغيان، بل حثَّ الإسلامُ أتباعه على أن يعاملوا المخالفين في الدين المسالمين بالبر والقسط فقال القرآن :
(لاَ
يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ولَمْ
يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ
الذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ
وظَاهَرُوا عَلَى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ومَنْ يَتَوَلَّهُمْ
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة: 8 ـ9 )
ويأتي حديث سيدنا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ليقول : " من ظلم معاهدًا أو كلفه فوق طاقته فأنا حَجِيجُه" أي محاججه ومغالبه بإظهار الحجّة عليه ..
ولقد كرّم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ العَلاقة بين
مجتمع الإسلام الذي يوجهه وقبط مصر، فتزوّج من مارية القبطية المصرية،
وأوصى بالقبط خيرًا وأخبر أن " لهم نَسبًا وصهرًا" ..
حقيقة الجزية وأساس فرضها ..
وإذا كان الإسلام قد فرض جزءًا قليلاً من المال على أهل الكتاب يؤخذ باسم الجزية، فإنه قد فرض على المسلمين تبعاتٍ أكثرَ وأوسعَ ..
ومع ذلك أعفى من أداء هذا الجزء النِّساءَ والصبيانَ والمساكينَ والرُّهبان وذوي العاهات..
فلا تُجبى الجِزية من امرأة ولا فَتاة، ولا صبي، ولا فقير، ولا شيخ، ولا أعمى، ولا أعرج، ولا راهب، ولا مختل في عقله .. بل زاد الإسلام في فضله فتكفل بالإنفاق على من شاخ وعجز من أهل الذِّمة ..
وهذا هو خامس الراشدين
عمر بن عبد العزيز يكتب إلى عدي بن أرطاة عامله على البصرة: "أما بعد،
فإنَّ الله ـ سبحانَه ـ إنّما أمر أن تؤخَذَ الجزيةُ ممّن رغِب عن الإسلام،
واختار الكفر عِتيًّا وخُسرانًا مبينًا، فَضَعِ الجزيةَ على من أطاق
حملَها، وخَلِّ بينهم وبين عمارة الأرض، فإنَّ في ذلك صَلاحًا لمعاش
المسلمين، وقوة على عدوهم. وانظر من قِبلكَ من أهل الذّمة، مَن قد كَبُرَتْ
سنُّه وضعفت قوتُه، وولَّت عنه المكاسب، فأجرِ عليه من بيت مال المسلمين
ما يصلحه. فلو أن رجلاً من المسلمين كان له مملوك كبُرت سنُّه، وضعفت قوته،
وولَّت عنه المكاسب، كان من الحق عليه أن يَقُوته حتى يفرق بينهما موت أو
عِتق، وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر - يقصد عمر بن الخطاب ـ مرَّ
بشيخ من أهل الذِّمّة، يسأل على أبواب الناس، فقال: "ما أنصفناك، إن كنا
أخذنا منك الجزية في شَبابك، ثم ضيَّعْناك في كِبَرِك". ثم أجرى عليه من
بيت المال ما يُصلحه" ..
ولم تكن الجزية عقابًا من المسلمين لعدم دخول الذمي في الإسلام،ويشهد
بذلك باحث مستشرق إنجليزي هو السير توماس أرنولد صاحب كتاب "الدعوة إلى
الإسلام" الذي يقول فيه ما نصه: "لم يكن الغرض من فرض هذه الضريبة ـ يعني
الجزية ـ على المسيحيِّين، كما يريدنا بعض الباحثين على الظنّ، لونًا من
ألوان العقاب لامتناعهم عن قبول الإسلام، وإنما كانوا يؤدُّونها مع سائر
أهل الذمة وهم غير المسلمين من رعايا الدولة الذين كانت تحول ديانتهم بينهم
وبين الخدمة في الجيش في مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين "
..
ولما قدّم أهل الحيرة
المال المتفق عليه، ذكروا صراحة أنهم إنما دفعوا هذه الجزية على شريطة " أن
يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين وغيرهم "، وكذلك حدث أن سجل خالد في
المعاهدة التي أبرمها مع بعض أهالي المدن المجاورة للحيرة قوله: " فإن
منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا " ..
رد الجزية عند عدم تحقيق الأمن .. وموقف فريد ..
ويمكن الحكم على مدى اعتراف المسلمين الصريح بهذا الشرط
من تلك الحادثة التي وقعت في حكم الخليفة عمر .. لما حشد الإمبراطور هرقل
جيشًا ضخمًا لصد قوات المسلمين المحتلة، كان لزامًا على المسلمين نتيجة لما
حدث، أن يركِّزوا كل نشاطَهم في المعركة التي أحدقت بهم. فلمّا علم بذلك
أبو عبيدة قائد العرب، كتب إلى عمّال المدن المفتوحة في الشام يأمرهم بأن
يردُّوا عليهم ما جُبِيَ من الجزية من هذه المدن، وكتب إلى الناس يقول:
"إِنَّما رددنا عليكم أموالَكم؛ لأنه بلغَنا ما جُمع لنا من الجموع وإنكم
قد اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما
أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط ، وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله
عليكم" ..
وبذلك رُدت مبالغ طائلة
من مال الدولة، فدعا المسيحيون بالبركة لرؤساء المسلمين، وقالوا: "ردكم
الله علينا ونصركم عليهم (أي على الروم)، فلو كانوا هم لم يردوا علينا
شيئًا وأخذوا كل شيء بقي لنا " ..
مقدار الجزية ..
ويقول الإمام أبو يوسف في كتابه: "الخراج" عن مقدار الجزية :
"وإنما تجب الجزية على الرجال منهم دون النساء والصبيان ..وعلى
الموسِر ثمانية وأربعون درهمًا، وعلى الوسط أربعة وعشرون وعلى المحتاج
الحراث العامل بيده اثنا عشر دِرهمًا، يؤخذ ذلك منهم في كل سنة، وإن جاؤوا
بعَرَض قُبل منهم، مثل الدوابّ والمتاع وغير ذلك، ويؤخذ ذلك منهم بالقيمة
.. ولا يؤخذ منهم في الجزية ميتة ولا خنزير ولا خمر " ..
ومعنى ذلك أن الإسلام
يطالب بالجزية على حسب الطاقة، ويسمح بدفعها نقدًا أو عينًا، وهذا هو عمر
بن الخطاب يقول: "مَن لم يطق الجزية خففوا عنه، ومن عجز فأعينوه، فإنا لا
نريدهم لعام أو لعامين "..
وكانت الدولة الإسلامية
كثيرًا ما تؤخر موعد تحصيل الجزية حتى تنضج المحصولات الزراعية فيستطيع
أهل الذمة تأديتها دون أن يرهقهم ذلك، ويعلل أبو عبيدة حكمة التأجيل بقوله:
"وإنما وجه التأخير إلى الغلّة (المحصول) للرِّفق بهم ..
بل إن الخليفة عمر بن
الخطاب قد قبل من نصارى "تغلب" أن يدفعوا المستحق عليهم دون أن يسمِّيها
جزية، بل قبل منهم تسميتهم لهم صدقات ولذلك روى المؤرِّخون قولهم: كان عمر
يجعل صدقات بني تغلب ـ وهي قبيلة عربية مسيحيّة ـ في فُقرائهم دون ضمِّها
إلى بيت المال ..
ولقد تحدث التاريخ
فقال: إن النعمان تكلم مع عمر فقال له: يا أمير المؤمنين، إن بني تغلب قوم
عرب، يأنَفون عن الجزية، وليست لهم أموال، إنَّما هم أصحاب حرْث ومواشٍ،
ولهم نكاية في العدو فلا تُعِن عدوَّك عليكم بهم، فصالَحهم عمر بن الخطاب
على أن ضاعَف عليهم الصدقة..
ومن الممكن أن يقال إن
أوضاع مجتمعنا الآن قد تغير الكثير منها، فأصبح أبناء الوطن كلهم يشتركون
في الدفاع عنه، وفي أداء الضرائب، وفي ضوء هذا التغير يمكن علاج كثير من
جوانب هذا الموضوع ..
وخلاصة
القول أن تطبيق الشريعة الإسلامية الغراء ضمان أي ضمان لأهل الذّمّة، حيث
تتوافر لهم في ظلاله العدالة والسماحة والبر والإنصاف ..