sunnuntai 22. marraskuuta 2015

{ولا تقتلوا النَّفسَ الَّتي حرَّمَ الله إلاَّ بالحقِّ

قال الله تعالى: {ولا تقتلوا النَّفسَ الَّتي حرَّمَ الله إلاَّ بالحقِّ ومن قُتِلَ مظلوماً فقد جعلنا لوليِّه سُلطاناً فلا يُسْرِفْ في القتلِ إنَّه كان منصوراً(33)}
ومضات:
ـ الإسلام دين الحياة ودين السَّلام، وقتل النفس يُعَدُّ من أكبر الكبائر ويأتي بعد الشرك بالله سبحانه وتعالى، فالله عزَّ وجل هو واهب الحياة وليس لأحد أن يزهقها.
ـ القاتل يُقتَل ويجري عليه القصاص من قبل الحاكم المسؤول، ولا يُسمَح أبداً أن يَطالَ القصاص غير القاتل ممَّن لا ذنب لهم، كعادة (الأخذ بالثأر) الَّتي أبطلها الإسلام.
في رحاب الآيات:
لا يمكن للإنسان أن يحقِّق أهدافه، ويبلغ غاياته إلا إذا تمتَّع بحقوقه كاملة، وفي مقدِّمتها حقُّ الحياة وحقُّ التملك، وحقُّ صيانة العرض، وحقُّ الحرِّية وحقُّ المساواة وحقُّ التعلُّم. وكلُّ هذه الحقوق واجبة له من حيث أنه إنسان، بغضِّ النظر عن لونه أو دينه أو جنسه أو وطنه أو مركزه الاجتماعي، قال الله تعالى: {ولقد كرَّمنا بني آدمَ وحملناهُم في البَرِّ والبحرِ ورزقناهُم من الطَّيِّباتِ وفضَّلناهُم على كثيرٍ ممَّن خلقْنا تفضيلاً} (17 الإسراء آية 70). وقد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع فقال: «أيُّها الناس! إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلَّغت؟ اللهمَّ فاشهد» (متفق عليه).
وقد حرص الإسلام أشدَّ الحرص على حماية حياة الإنسان، فهدَّد من يستحلُّها بأشدِّ عقوبة بقوله تعالى: {ومن يَقْتُلْ مؤمناً متعمِّداً فجزاؤهُ جهنَّمُ خالداً فيها وغَضِبَ الله عليه ولعنَهُ وأعدَّ له عذاباً عظيماً} (4 النساء آية 93)، وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبَّهم الله في النار».
إن القتل يُشيع الفساد والخراب في البلاد، قال تعالى: {ولا تُفسدوا في الأرض بعد إصلاحها..} (7 الأعراف آية 56). ولو أنه أُبيح؛ لفتكَ القويُّ بالضعيف واختلَّ الأمن، وأصبحت الحياة حِكْراً على الأقوى والأغنى. وقد جعل الإسلام لكلِّ نفس حَرَماً آمناً لا يُمسُّ إلا بالحقِّ، وهذا الحقُّ الَّذي يبيح قتل النفس واضح لا غموض فيه، وليس متروكاً للرأي ولا متأثِّراً بالهوى. فمن قُتل مظلوماً بغير حقٍّ فقد جعل الله لوليِّه سلطاناً على القاتل، إن شاء سلَّمه للعدالة لتقتله جزاء فعلته، وإن شاء عفا عنه بِدِيَةٍ أو بلا دِيَة، ومع هذا ينهاه الإسلام عن الإسراف في القتل، أي أن يتجاوز القاتلَ إلى غيره ممن لا ذنب لهم، أو أن يقوم بالتمثيل بالقاتل أو تعذيبه. فالإنسان في شرع الله غير مفروض عليه مخالفة ما غُرس في فطرته من الرغبة العميقة في القصاص، لذلك يلبِّي الإسلام حاجات هذه الفطرة في الحدود المأمونة، ولا يتجاهلها، فلم يفرض التسامح فرضاً، إنما هو يدعو إليه ويؤثره، ويحبِّب فيه، ويؤجر عليه ولكن بعد أن يعطي وليَّ المظلوم حقَّ القصاص، فلوليِّ الدم أن يَقتصَّ أو يصفح، وفي هذا تهدئة للغليان والألم الَّذي تستشعره نفسه، ومن تقيَّد بما شرعه الله من القصاص نصره الله، ونصره الحاكم، وأيَّده الشرع.
ويستوي في الحرمة قتل المسلم أو الذِّمي، فقد روى البخاري عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل مُعاهَداً لم يَرِحْ رائحة الجنَّة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً».
وفيما يتعلَّق بقتل النفس فقد حذَّر الله جلَّ وعلا من أن يقتل الإنسان نفسه حيث قال في كتابـه الكريـم: {..ولا تقتلوا أنفسـكم إن الله كان بكم رحيمـاً} (4 النسـاء آية 29)، وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من تردَّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردَّى فيها خالداً مخلَّداً أبداً، ومن تحسَّى سُمّاً فقتل نفسه فسُمُّه في يده يتحسَّاه في نار جهنم خالداً مخلَّداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجَّأ بها (يضرب بها نفسه) في نار جهنم خالداً مخلَّداً فيها أبداً»، وهكذا فإن الإسلام قد حرَّم قتل النفس؛ وجعله من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله، فالله واهب الحياة، وليس لأحد غيره أن يتصرَّف فيها إلا بإذنه وضمن الحدود الَّتي رسمها.
سورة المائدة(5)
قال الله تعالى: {من أجْلِ ذلك كتبنا على بني إسرائِيلَ أنَّه من قتلَ نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنَّما قتلَ النَّاس جميعاً ومن أحياها فكأنَّما أحيا النَّاسَ جميعاً ولقد جاءتهُم رسُلُنا بالبيِّناتِ ثمَّ إنَّ كثيراً منهُم بعد ذلك في الأرض لمسرِفونَ(32)}
ومضات:
ـ الشريعة الإسلامية شديدة الحرص على توجيه سلوك الإنسان وأخلاقه، وحماية حياته من أي اعتداء، لذلك فهي تشدِّد على ضرورة اتحاد المنظومة البشرية في وجه أية عملية قتل غير مبررة شرعاً.
ـ ضرب الله تعالى في هذه الآية الكريمة مثلاً، ببني إسرائيل، بسبب تقديسهم للدم اليهودي واستباحتهم ما سواه خلال فترات التاريخ كلِّها ولغاية اليوم.
ـ شدَّد رسل الله على التعاليم المتعلِّقة بقدسية حياة الإنسان وكرامته، ولكن المتهاونين في تطبيق هذه التعاليم كثيرون، بسبب اعتدادهم بلونهم أو عرقهم أو انتمائهم الدِّيني.
في رحاب الآيات:
إن حقَّ الإنسان في الحياة هو أغلى الحقوق وأقدسها على الإطلاق لأن الحياة هي أثمن ما وهبه الله، وبدونها فإنه لا قيمة لأي شيء آخر يملكه مهما كان عظيماً. ولهذا فقد اعتبر الإسلام أن الاعتداء على هذا الحقِّ بالقتل هو أفظع جريمة يرتكبها الإنسان في حقِّ أخيه الإنسان، وقد أغلظ الله تعالى العقوبة عليها، وشدَّد في التحذير منها، وقيَّد إنزال عقوبة القتل بالفرد بشرطين صارمين لا يمكن الحياد عنهما وهما:
أوَّلاً: أن يكون القتل دفعاً للقتل أو جزاءً عليه. فمن يتعرَّض لاعتداء مباشر على حياته أو أهله أو ماله أو عرضه، لا رادَّ له إلا قتل المعتدي، يحقُّ له أن يقاتل ذلك المعتدي ليدفع أذاه. والقاتل بغير حقٍّ يُقتَل لقاء ما اقترفته يداه، منعاً من انتشار جريمة القتل النكراء بين الناس أو الاستهانة بأمرها.
ثانياً: أن يكون القتل منعاً للإفساد في الأرض. فيتعيَّن قتل من ينشر الفساد ويلجأ إلى القتل بدافع اللصوصية والاعتداء على الحرمات، أو يمارس تجارة المخدِّرات وأشباهها فينشر السموم بين صفوف الشباب الَّذين هم عماد المجتمع وبُناته الأقوياء، أو أن يخون وطنه ويتجسَّس لصالح أعدائه، فمثل هذا الإنسان يُعدُّ مصدر قلق وخطر يهدِّد حياة الآخرين، وفي قتله صيانة لحياتهم وأمنهم. والهيئة القضائية فقط هي الَّتي تنفِّذ قتله لا الأفراد، ولا يحقُّ لأيِّ جهة سواها، فردية كانت أو جماعية، أن تُنزِلَ الموت بأي إنسان مهما علا شأنها اجتماعياً أو سياسياً أو مادياً.ولكنَّ بعض الناس يخالفون هذا الضابط الدِّيني الَّذي يحفظ الحياة والكرامة الإنسانية، وينتهكون حرمات الله بالاعتداء على أرواح الأبرياء بغير حق.
لقد كان بنو إسرائيل ولا زالوا أوضح نموذج لهؤلاء الناس، فقد قام المنحرفون والمتطرِّفون منهم بقتل كثير من الأنبياء على مدار التاريخ، وحاول أشقياؤهم قَتْلَ الرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم لأنه كشف تحريفهم للتوراة وإضلالهم للناس. لذلك فقد خصَّهم الله تعالى بالذِّكر في هذه الآية، مصوِّراً حالهم الَّذي لم يتبدَّل منذ القرون الغابرة وحتى اليوم. فنحـن نجـد في عصرنــا هذا ـ عصر العلـم والحضـارة والرقي الفكري ـ أن الغلاة منهم والمتطرِّفين لا يزالون يستبيحون دماء الناس، وعلى مشهد من أعين العالم أجمع، دون رادع يثنيهم أو وازع يصرفهم عن جرائمهم، وفي كلِّ يوم نطالع خبراً جديداً عن مقتل العرب من سكان الأراضي المحتلة على أيديهم، وكأن دماء أولئك العرب مباحة، أو كأنهم ليسوا من جنس البشر، مع أنهم شركاؤهم في الإنسانية والعبودية لله الواحد الأحد، وأَتْباعٌ مثلهم لرسالة سماوية مقدَّسة تنزَّلت من عند الله ربِّ الناس أجمعين. وفي الوقت ذاته يُعظِّمون حرمة دمائهم، فيغضبون ويثورون إذا قُتِلَ يهودي واحد في أي بقعة من بقاع العالم وكأنهم قُتلوا جميعاً، ولا يزالون يطالبون بثأره ويلاحقون قاتله بعقدة الذنب إلى قيام الساعة.
وليست هذه الصورة بعيدة أبداً عما يمارسه بعض البيض هنا وهناك ضد الملوَّنين، حيث يرتعون في أحضان الرفاهية المادية، بينما يضطهدون الملوَّنين ولا يتورَّعون عن قتلهم إذا اقتضت مصالحهم ذلك، دون أن يطرف لهم جفن أو تتحرَّك ضمائرهم قيد أُنملة، وكأن هؤلاء الناس لا يستحقُّون الحياة، ولا يحقُّ لهم صيانتها.
أمَّا الإسلام، الدِّين الإنساني العالمي، فإنه يحفظ حقَّ الحياة لكلِّ إنسان مهما كان جنسه أو لونه أو عرقه أو انتماؤه الدِّيني، ويقرِّر عقوبة شديدة في حقِّ من يعتدي على هذه الحياة، وهي العذاب الشديد والطرد من رحمة الله، ويعتبره معتدياً على الإنسانية كلِّها، وبالتالي ففي حماية الفرد ـ وهو الجزء ـ حماية للإنسانية ككلّ، فمن سوَّلت له نفسه قتل إنسان بريء، لم يتورَّع عن قتل الآلاف لوجود نوازع الشر لديه. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن كرامة الفرد من كرامة أُمَّته، وقد يؤدي مقتل فرد من أفرادها على يد فرد من أمَّة أخرى، إلى نشوب حرب طاحنة بينهما، يُقتل فيها الآلاف وجميعهم ضحيَّة لفعل القاتل الأوَّل. ومن حفظ حياة إنسان بأن منع عنه القتل، أو نجَّاه من غرق أو حرق أو هلكة أو سوى ذلك، فكأنما أحيا الناس جميعاً، لأن بذرة الخير مزروعة في نفسه ولابدَّ أن تنمو وتزهر وتثمر ويعمَّ خيرها الناس جميعاً.
والله جلَّ وعلا لم يترك عباده تائهين في شعاب الحياة، بل أرسل إليهم الرسل بالآيات البيِّنات الَّتي تحذِّر وتنذر، وتحبِّب وترغِّب، ولكن ظلمة بعض النفوس حجبت نور الله عنها، فعشَّش الشيطان فيها واتخذها مطية له، فمشى أصحابها في الأرض يُهلكون الحرث والنسل، استعلاءً وغروراً، وحباً للسيطرة واستغلالاً لثروات غيرهم.
سورة النحل(16)
قال الله تعالى: {وإنْ عاقبْتُم فعاقبوا بمثلِ ما عُوقِبْتُم به ولئنْ صبَرتُم لهو خيرٌ للصَّابرين(126)}
ومضات:
ـ تكفل الشريعة الإسلامية للمؤمن عزَّته وكرامته، وتبيح له الاستعداد واستعمال القوَّة، ليتمكَّن من الدفاع عن نفسه وردِّ أي اعتداء عليه بمثله. وهي في الوقت ذاته تدعوه حين يملك القوَّة والإمكانات للردِّ الحاسم، إلى تمالك أعصابه والتحلِّي بالصبر، صبر الشجاعة مع القدرة لا صبر المهانة، وترغِّبه بالتجاوز عن خصمه والعفو عنه، عسى أن يثوب إلى رشده حين يرى عظمة الإسلام في منعته وفي عفوه.
في رحاب الآيات:
الإسلام دين العدل والاعتدال، دين السلم والمسالمة، إلا أنه يدفع عن نفسه وعن أهله البغي. لذلك يُقِرُّ القرآن الكريم وهو الدستور المتوازن الأمثل، في عدد من آياته قاعدة القصاص، وهي المعاملة بالمثل، صيانة للنفس البشرية وحماية لها؛ فالدفاع عنها في حدود القصد والعدل، يحفظ لها كرامتها وعزَّتها، فلا تهون في نفوس الناس. والله تعالى لا يترك دعوته مهينة مهيضة الجناح، والمؤمنون لا يقبلون الضيم وهم دعاة إلى الله ـ والعزَّة جميعاً لله ـ ثم إنهم أمناء على إقامة الحقِّ في الأرض، وتحقيق العدل بين الناس، وهداية البشرية إلى الطريق القويم؛ فكيف ينهضون بهذا كلِّه وهم يُعاقَبون ولا يُعاقِبون، ويُعْتَدَى عليهم فيستكينون؟. ومع تقرير مبدأ القصاص فإن القرآن يدعو إلى العفو والصبر مع الصفح عند القدرة، وذلك في الحالات الَّتي يكون فيها المسلمون قادرين على دفع الشر ووقف العدوان، ولكنَّهم يميلون إلى العفو والصبر، إذا كان أجمل وأعمق أثراً، وأكثر فائدة للدعوة، فأهواؤهم الشخصية لا وزن لها حين تميل مصلحة الدعوة إلى العفو والصبر.
إنَّ رسولَ الله محمَّداً صلى الله عليه وسلم هو المثل البشري الأعلى في ذلك، فقد أخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أُحُدْ عندما قُتِل حمزة ومُثِّل به: «لئن ظفرت بقريش لأمثِّلنَّ بسبعين رجلاً منهم، فأنزل الله تعالى: {وإن عاقبْتُم فعاقبوا بمثلِ ما عُوقِبْتُمْ به ولئن صبَرتُم لهو خيرٌ للصَّابرين} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل نصبر يارب. ولما مكَّنه الله تعالى منهم وفُتِحت مكَّة عفا عنهم جميعاً وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء». ومن هنا ندرك أنه على الرغم من أن ضبط الإنسان لانفعالاته هو من الصعوبة بمكان، وخاصَّة عندما يتعرَّض للاعتداء أو الإهانة، وعلى الرغم من وجود القوانين السماوية الَّتي تبيح للمُعتدى عليه ردَّ الاعتداء، ومعاقبة المعتدي بمثل ما اعتدى به، وردِّ المظالم إلى أهلها، فإن الله تعالى يرغِّب عباده بالتعالي والتسامي فوق الأحقاد، والتعامل مع الخصوم بالصبر والتسامح، أملاً بتحويل عداوتهم إلى محبَّة، وأذاهم إلى إصلاح، قال تعالى: {ولا تستوي الحسنةُ ولا السيئةُ ادفع بالَّتي هي أحسنُ فإذا الَّذي بينك وبينه عداوةٌ كأنَّه وليٌّ حميم} (41 فصلت آية 34).
الحمد لله رب العالمين ..

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد ..

فهذه دراسة عن موقف الإسلام من غير المسلمين، ويتضح بها احترام الإسلام لسائر الأديان السماوية ..

ووجوب الإيمان بجميع الرسل والكتب السابقة ..

كما يتضح بها موقف الإسلام من غير المسلمين في الحرب وفي السلم ..

والمساواة بين المسلمين وغير المسلمين في سائر المعاملات ..

وسماحة الإسلام مع غير المسلمين، والتي كان الناس بسببها يدخلون في دين الله أفواجاً ..

وأن الإسلام هو دعوة كل الرسل .. اسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى ما فيه الخير والرشد والسداد ..

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..



احترام الإسلام لسائر الأديان السماوية :
احترم الإسلام جميع الأديان السماوية، وأرسل الله تعالى سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم خاتماً للأنبياء والمرسلين ..
ومصدقاً لجميع الرسل الذين كانوا قبله ..
وأنزل الله تعالى على رسوله القرآن الكريم تبياناً لكل شيء ومصدقاً لما بين يديه من الكتب ..
ومهيمناً عليها وحارساً أمينا لها ..

وكان من عناصر الإيمان : الإيمان بجميع الرسل السابقين وبجميع الكتب السماوية .. قال تعالى:
{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} ( البقرة 285)


بل إن إيمان المؤمن لا يكون صحيحاً إلا إذا آمن بجميع الأنبياء السابقين ..
وآمن بما أنزل الله تعالى عليهم من الكتب السماوية الصحيحة، قال تعالى :
{قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ( البقرة 136)


ومادام كل مسلم مأموراً أن يؤمن بجميع الرسل السابقين وبجميع الكتب السماوية، فلا يكون لديه تعصب ..
ولا كراهية لدين آخر أو نبي أو رسول، ولا كراهية ولا حقد على أحد من أتباع الأديان الأخرى ..

ووضع القرآن لأتباعه ما قضته الإرادة الإلهية منذ الأزل، من اختلاف الناس في عقائدهم وأجناسهم وألوانهم ..
وذلك لحكمة يعلمها الحكيم الخبير..

قال سبحانه:
{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ "118" إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } ( هود،118، 119)

وقال جل شأنه :
{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } ( يونس 99)

ولا يحجر الإسلام على أحد، ولا يكره أحدا على الدخول في عقيدته، قال الله تعالى :
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (البقرة 256)




موقف الإسلام من غير المسلمين :
من المعلوم أن الإسلام هو دين السلام، لا يأمر بالحرب إلا في الضرورة القصوى التي تستدعي الدفاع والجهاد في سبيل الله ..
ومع مشروعية الجهاد في سبيل الله دفاعاً عن الدين والعقيدة والأرض والعرض، فإن الحرب في الإسلام لها حدود وضوابط ..


وللمسلمين أخلاقهم التي يتخلقون بها حتى في حربهم مع من يحاربهم من غير المسلمين ..

فأمر الإسلام ب :
  • الحفاظ على أموال الغير..
  • وبترك الرهبان في صوامعهم دون التعرض لهم ..
  • ونهى الإسلام عن الخيانة والغدر والغلول ..
  • كما نهى عن التمثيل بالقتلى ..
  • وعن قتل الأطفال والنساء والشيوخ ..
  • وعن حرق النخيل والزروع، وقطع الأشجار المثمرة ..
وأوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أسامة بن زيد عندما وجهه إلى الشام بالوفاء بالعهد وعدم الغدر أو التمثيل ..



وعاهد خالد بن الوليد أهل الحيرة ألا يهدم لهم بيعة ولا كنيسة ولا قصراً ..
ولا يمنعهم من أن يدقوا نواقيسهم أو أن يخرجوا صلبانهم في أيام أعيادهم ..

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه رحيماً بغير المسلمين من أهل الكتاب ..
وكان ينصح سعد بن أبي وقاص ـ عندما أرسله في حرب الفرس ـ بأن يكون حربه بعيداً عن أهل الذمة ..
وأوصاه ألا يأخذ منهم شيئاً لأن لهم ذمة وعهداً ..
كما أعطى عمر رضي الله عنه أهل إيلياء أماناً على أموالهم وكنائسهم وصلبانهم وحذر من هدم كنائسهم ..


وأمر الإسلام بحسن معاملة الأسرى وإطعامهم .. قال تعالى :
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } ( الإنسان 8)


بينما يعامل غير المسلمين أسرى المسلمين معاملة سيئة ..
فقد يقتلونهم وقد يسترقونهم أو يكلفونهم أشق الأعباء والأعمال ..
فإن أسرى غزوة بدر الكبرى عاملهم النبي صلى الله عليه وسلم خير معاملة ..
فوزعهم على الصحابة وأمرهم أن يحسنوا إليهم، فكانوا يؤثرونهم على أنفسهم في الطعام وفي الغذاء ..
ولما استشار أصحابه في شأن أسرى بدر، وأشار البعض بقتلهم، وأشار الآخرون بالفداء، وافق على الفداء ..
وجعل فداء الذين يكتبون منهم أن يُعلم كل واحد منهم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة ..
وكان هذا أول إجراء لمحو الأمية ..

ولم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُمَثـَّل بأحد من أعدائه في الحروب مهما كان أمره ..
ولما أشير عليه أن يمثل بسهيل بن عمرو لأنه كان يحرص على حرب المسلمين وعلى قتالهم فأشير عليه أن ينزع ثنيتيه السفليين حتى لا
يستطيع الخطابة بعد ذلك لم يوافق النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بل رفض قائلاً :
لا أمثل به فيمثل الله بي، وإن كنت نبياً

وعندما حقق الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أمنيته بفتح مكة المكرمة ودخلها فاتحاً منتصراً ظافراً قال لقريش:
ما تظنون أني فاعل بكم ؟
قالوا : خيراً أخ كريم وابن أخ كريم ..
فقال صلى الله عليه وسلم:
اذهبوا فأنتم الطلقاء، لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لي ولكم ..




من توجيهات الإسلام للمسلمين في الحرب:
1. أن يكون القتال في سبيل الله.
2. أن يكون القتال لمن يقاتلون المسلمين.
3. عدم الاعتداء، قال الله تعالى :

{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } ( البقرة 190)


فالذين يعتدون على المسلمين ويقاتلونهم أمر المسلمون أن يقاتلوهم ..
ولكنه قتال عادل بمعنى ألا يمثلوا بأحد وبلا تعذيب ..حيث قال الله تعالى :
{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } ( البقرة 194)

وهذا فيمن يقاتلون المسلمين، أما الذين لا يقاتلون من غير المسلمين فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن قتالهم :
فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة ..
أبو داود، ج3 ص86 رقم 2614

وفي حديث آخر:
سيروا باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليداً..
سنن ابن ماجة، ج2 ص953

كما كان ينهى عليه الصلاة والسلام عن التعرض للرهبان وأصحاب الصوامع، وعن التمثيل والغلول ..
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال:
اخرجوا باسم الله،قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله،لا تعتدوا،ولا تغلوا،ولا تمثلوا،ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامعمسند احمد، ج1 ص200




موقف الإسلام من غير المسلمين في حال السلم:
يقف الإسلام من غير المسلمين في حال السلم موقف الأمان، بل إنه لم ينه عن البر بهم ماداموا لم يقاتلوا المسلمين ..
وإنما ينهى عن البر بالذين قاتلوا المسلمين في دينهم وأخرجوهم من ديارهم وظاهروا على إخراجهم، فقال جل شأنه :
{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ 8 إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ9}( الممتحنة 8 ، 9)

ونهى القرآن الكريم عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، فقال الله سبحانه:
{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت 46)

وقال سبحانه:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } ( آل عمران 64)

بل أمر الإسلام بالوفاء بالعهد حتى مع المشركين، قال تعالى:
{إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}( التوبة 4)

بل لو طلب المشرك من المسلم أن يجيره فعليه أن يجيره، بل ويبلغه مأمنه، كما قال الحق تبارك وتعالى:
{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (التوبة 6)



ومن رعاية الإسلام لحقوق غير المسلمين رعايته لمعابدهم وكنائسهم ..
ومن محافظته عليها ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما حان وقت الصلاة وهو في كنيسة القيامة ..
فطلب البطريرك من عمر أن يصلي بها، وهم أن يفعل ثم اعتذر ..
ووضح أنه يخشى أن يصلي بالكنيسة فيأتي المسلمون بعد ذلك ويأخذونها من النصارى على زعم أنها مسجد لهم، ويقولون:هنا صلى عمر..

ولم تتوقف معاملة المسلمين لغير المسلمين عند حد المحافظة على أموالهم وحقوقهم ..
بل حرص الإسلام عبر عصوره على القيام بما يحتاجه أهل الكتاب وما يحتاج إليه الفقراء منهم ..

إن مثل هذه المعاملة من المسلمين لغير المسلمين تـُطلع العالم أجمع على أن الإسلام رَبَىَ أتباعه على التسامح، وعلى رعاية حقوق الناس، وعلى الرحمة بجميع البشر مهما اختلفت عقائدهم وأجناسهم ..

وقد حفظت أجيال المسلمين قيمة هذه الرعاية الإسلامية لحقوق غير المسلمين ..
لأنهم ما طبقوها إلا استجابة لتعاليم القرآن الكريم ..
وتوجيهات الرسول العظيم عليه أفضل الصلاة والسلام ..
وقد طبقها في حياته فوعاها المسلمون جيلاً فجيلاً، وطبقها الخلف عن السلف، والأبناء عن الآباء ..

فهاهو ذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: حدث مجاهد قال:
"كنت عند عبد الله بن عمر، وغلام لم يسلخ شاة، فقال:
يا عمر إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي، وقال ذلك مراراً ..
فقال له : كم تقول هذا؟
فقال إن رسول الله لم يزل يوصينا بالجار حتى خشينا أنه سيورثه " ..


هذا هو الاسلام ..

بسم الله الرحمن الرحيم ..


شملت رعاية التشريع الإسلامي كل من يعيش في ظلاله ..
وجعل العلاقة بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى مثالية وخاصة أهل الكتاب ،..
حيث أمر المسلمين بالعدل والبر بهم ، وأباح الزواج منهم ، وحرم الظلم ، وأمر بالإنفاق على من أصبح شيخا منهم ..

وبالنسبة لما يُثار حول الجزية فهي مبلغ بسيط جدا لا يقارن بالزكاة المفروضة على المسلمين ..
ولها سببها .. وهو حماية أهل الذمة من الاعتداء وتوفير الأمن لهم ..
فإذا لم يستطع المسلمون توفير هذه الحماية ردوا لهم أموالهم ، والتاريخ يشهد بذلك ..

يقول فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد الشرباصي الأستاذ بجامعة الأزهر رحمه الله :

حجة من لايريدون تطبيق الشرع .. ظلم أهل الذمة ..

لعل أكرم الصَّيَحات التي تردّدت في جنبات بلادنا خلال الأيام الأخيرة هي الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية الغرّاء؛ لأنها شريعة الحق، شريعة العدل، شريعة الله، والله ـ تبارك وتعالى ـ هو الأعلم بمصالح عباده، والأعلم بما يسعدهم في الأولى والآخرة:(صِبْغَةَ اللهِ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً ونحن له عابدون) (البقرة: 138)

ولعل أبرز عقبة يتعلَّل بها الجهلة أو المغرضون هو اصطناع التساؤل المتكرر الظّنين عن مصير أهل الذمة الذين لا يدينون بالإسلام أمام هذا التطبيق .. ولو علم هؤلاء وجهَ الحقِّ لأدركوا أن تطبيق الشريعة الغراء سيكون خيرًا لأهل الذِّمّة من حياة يسودُها الإعْراض عن شريعة الله والإلحاد في آياته، فالإسلام أرأَف بأهل الذِّمّة من أي نظام آخر؛ لأنّه دِين العَدالة والسماحة والإنصاف، وقد جاء بمُثل عُليا ومبادئ سامية في هذا المجال ..

الأخوة الإنسانية .. مبدأ إسلامي ..
إن الإسلام يقرر أوّلاً أن الناس كلهم بينهم وشيجة من وحدة الأصل البشري والأجهزة والأخوّة الإنسانيّة، والقرآن الكريم يقول في مطلع سورة النساء: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَها وبَثَّ مِنْهُمَا رِجالاً كَثِيرًا ونِساءً واتَّقُوا اللهَ الذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (الآية:1)

وهو يقرِّر حريّة الإعتقاد دون إكراه أو اعتساف فيقول: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ) (البقرة: 256)
ويقول مستنكرًا: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنينَ) (يونس: 99).
ويقول أيضًا: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤمِنْ ومَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: 29)




أهل الذمة يعيشون بحرية تامة كالمسلمين ..
وأهل الذِّمّة هم أهل الكِتاب الذين قبلوا أن يعيشوا بين المسلمين مسالمين، من يهود أو نصارى، وأن يؤدُّوا ما عليهم من جزية لحمايتهم والدفاع عنهم، مع بقائهم على دينهم ومُمارستهم لشعائرهم ..


وقد وضع الإسلام قاعدتَه الذهبيّة المثاليّة في معاملة أهل الذِّمّة ـ والذِّمّة هي العهد والضمان والأمان ـ فقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم: "لَهُم مَا لَنا وعليهم ما علينا".

وتوسع الإسلام في عدله وفضله، فشرع أكثر من رابطة لحسن العلاقة بين المسلمين وأهل الذّمّة من أهل الكتاب فقال الله تعالى:
(اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وطَعَامُ الذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ والمُحْصَناتُ مِنَ المُؤمِناتِ والمُحْصَناتُ مِنَ الذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجورَهُنَّ مُحْصِنينَ غَيْرَ مُسَافِحينَ ولاَ مُتَّخِذِي أَخْدانٍ ومَنْ يَكْفُرْ بِالإِيْمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ)
(المائدة: 5)




البر والإحسان بأهل الذمة ..

وقرَّر القُرآن في مُحكم آياتِه أنَّ عَلاقة المودّة هي الأساس بين المسلمين والمخالفين لهم في الدين، إذا لم يكن هناك عدوان ولا طغيان، بل حثَّ الإسلامُ أتباعه على أن يعاملوا المخالفين في الدين المسالمين بالبر والقسط فقال القرآن :
(
لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وظَاهَرُوا عَلَى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ومَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة: 8 ـ9 )


ويأتي حديث سيدنا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ليقول : " من ظلم معاهدًا أو كلفه فوق طاقته فأنا حَجِيجُه" أي محاججه ومغالبه بإظهار الحجّة عليه ..

ولقد كرّم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ العَلاقة بين مجتمع الإسلام الذي يوجهه وقبط مصر، فتزوّج من مارية القبطية المصرية، وأوصى بالقبط خيرًا وأخبر أن " لهم نَسبًا وصهرًا" ..



حقيقة الجزية وأساس فرضها ..

وإذا كان الإسلام قد فرض جزءًا قليلاً من المال على أهل الكتاب يؤخذ باسم الجزية، فإنه قد فرض على المسلمين تبعاتٍ أكثرَ وأوسعَ ..
ومع ذلك أعفى من أداء هذا الجزء النِّساءَ والصبيانَ والمساكينَ والرُّهبان وذوي العاهات..
فلا تُجبى الجِزية من امرأة ولا فَتاة، ولا صبي، ولا فقير، ولا شيخ، ولا أعمى، ولا أعرج، ولا راهب، ولا مختل في عقله .. بل زاد الإسلام في فضله فتكفل بالإنفاق على من شاخ وعجز من أهل الذِّمة ..





وهذا هو خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز يكتب إلى عدي بن أرطاة عامله على البصرة: "أما بعد، فإنَّ الله ـ سبحانَه ـ إنّما أمر أن تؤخَذَ الجزيةُ ممّن رغِب عن الإسلام، واختار الكفر عِتيًّا وخُسرانًا مبينًا، فَضَعِ الجزيةَ على من أطاق حملَها، وخَلِّ بينهم وبين عمارة الأرض، فإنَّ في ذلك صَلاحًا لمعاش المسلمين، وقوة على عدوهم. وانظر من قِبلكَ من أهل الذّمة، مَن قد كَبُرَتْ سنُّه وضعفت قوتُه، وولَّت عنه المكاسب، فأجرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه. فلو أن رجلاً من المسلمين كان له مملوك كبُرت سنُّه، وضعفت قوته، وولَّت عنه المكاسب، كان من الحق عليه أن يَقُوته حتى يفرق بينهما موت أو عِتق، وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر - يقصد عمر بن الخطاب ـ مرَّ بشيخ من أهل الذِّمّة، يسأل على أبواب الناس، فقال: "ما أنصفناك، إن كنا أخذنا منك الجزية في شَبابك، ثم ضيَّعْناك في كِبَرِك". ثم أجرى عليه من بيت المال ما يُصلحه" ..



ولم تكن الجزية عقابًا من المسلمين لعدم دخول الذمي في الإسلام،ويشهد بذلك باحث مستشرق إنجليزي هو السير توماس أرنولد صاحب كتاب "الدعوة إلى الإسلام" الذي يقول فيه ما نصه: "لم يكن الغرض من فرض هذه الضريبة ـ يعني الجزية ـ على المسيحيِّين، كما يريدنا بعض الباحثين على الظنّ، لونًا من ألوان العقاب لامتناعهم عن قبول الإسلام، وإنما كانوا يؤدُّونها مع سائر أهل الذمة وهم غير المسلمين من رعايا الدولة الذين كانت تحول ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش في مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين " ..



ولما قدّم أهل الحيرة المال المتفق عليه، ذكروا صراحة أنهم إنما دفعوا هذه الجزية على شريطة " أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين وغيرهم "، وكذلك حدث أن سجل خالد في المعاهدة التي أبرمها مع بعض أهالي المدن المجاورة للحيرة قوله: " فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا " ..




رد الجزية عند عدم تحقيق الأمن .. وموقف فريد ..

ويمكن الحكم على مدى اعتراف المسلمين الصريح بهذا الشرط من تلك الحادثة التي وقعت في حكم الخليفة عمر .. لما حشد الإمبراطور هرقل جيشًا ضخمًا لصد قوات المسلمين المحتلة، كان لزامًا على المسلمين نتيجة لما حدث، أن يركِّزوا كل نشاطَهم في المعركة التي أحدقت بهم. فلمّا علم بذلك أبو عبيدة قائد العرب، كتب إلى عمّال المدن المفتوحة في الشام يأمرهم بأن يردُّوا عليهم ما جُبِيَ من الجزية من هذه المدن، وكتب إلى الناس يقول: "إِنَّما رددنا عليكم أموالَكم؛ لأنه بلغَنا ما جُمع لنا من الجموع وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط ، وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليكم" ..
وبذلك رُدت مبالغ طائلة من مال الدولة، فدعا المسيحيون بالبركة لرؤساء المسلمين، وقالوا: "ردكم الله علينا ونصركم عليهم (أي على الروم)، فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئًا وأخذوا كل شيء بقي لنا " ..





مقدار الجزية ..

ويقول الإمام أبو يوسف في كتابه: "الخراج" عن مقدار الجزية :
"وإنما تجب الجزية على الرجال منهم دون النساء والصبيان ..وعلى الموسِر ثمانية وأربعون درهمًا، وعلى الوسط أربعة وعشرون وعلى المحتاج الحراث العامل بيده اثنا عشر دِرهمًا، يؤخذ ذلك منهم في كل سنة، وإن جاؤوا بعَرَض قُبل منهم، مثل الدوابّ والمتاع وغير ذلك، ويؤخذ ذلك منهم بالقيمة .. ولا يؤخذ منهم في الجزية ميتة ولا خنزير ولا خمر " ..






ومعنى ذلك أن الإسلام يطالب بالجزية على حسب الطاقة، ويسمح بدفعها نقدًا أو عينًا، وهذا هو عمر بن الخطاب يقول: "مَن لم يطق الجزية خففوا عنه، ومن عجز فأعينوه، فإنا لا نريدهم لعام أو لعامين "..


الاسلام وموقفه من غير المسلمين

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد .. فهذه دراسة عن موقف الإسلام من غير المسلمين، ويتضح بها احترام الإسلام لسائر الأديان السماوية، ووجوب الإيمان بجميع الرسل والكتب السابقة، كما يتضح بها موقف الإسلام من غير المسلمين في الحرب وفي السلم، والمساواة بين المسلمين وغير المسلمين في سائر المعاملات، وسماحة الإسلام مع غير المسلمين، والتي كان الناس بسببها يدخلون في دين الله أفواجاً، وأن الإسلام هو دعوة كل الرسل. اسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى ما فيه الخير والرشد والسداد.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛؛

احترام الإسلام لسائر الأديان السماوية:
احترم الإسلام جميع الأديان السماوية، وأرسل الله تعالى سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم خاتماً للأنبياء والمرسلين، ومصدقاً لجميع الرسل الذين كانوا قبله، وأنزل الله تعالى على رسوله القرآن الكريم تبياناً لكل شيء ومصدقاً لما بين يديه من الكتب ومهيمناً عليها وحارساً أمينا لها.
وكان من عناصر الإيمان: الإيمان بجميع الرسل السابقين وبجميع الكتب السماوية قال تعالى:
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } (سورة البقرة الآية 285)
بل إن إيمان المؤمن لا يكون صحيحاً إلا إذا آمن بجميع الأنبياء السابقين، وآمن بما أنزل الله تعالى عليهم من الكتب السماوية الصحيحة، قال تعالى:
{قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } (سورة البقرة الآية 136)
ومادام كل مسلم مأموراً أن يؤمن بجميع الرسل السابقين وبجميع الكتب السماوية، فلا يكون لديه تعصب، ولا كراهية لدين آخر أو نبي أو رسول، ولا كراهية ولا حقد على أحد من أتباع الأديان الأخرى.
ووضع القرآن لأتباعه ما قضته الإرادة الإلهية منذ الأزل، من اختلاف الناس في عقائدهم وأجناسهم وألوانهم، وذلك لحكمة يعلمها الحكيم الخبير.
قال سبحانه:
{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ "118" إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } (سورة هود، الآيتان: 118، 119)
وقال جل شأنه:
{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } (سورة يونس الآية 99)
ولا يحجر الإسلام على أحد، ولا يكره أحدا على الدخول في عقيدته، قال الله تعالى:
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (سورة البقرة الآية 256)

موقف الإسلام من غير المسلمين:
من المعلوم أن الإسلام هو دين السلام، لا يأمر بالحرب إلا في الضرورة القصوى التي تستدعي الدفاع والجهاد في سبيل الله، ومع مشروعية الجهاد في سبيل الله دفاعاً عن الدين والعقيدة والأرض والعرض، فإن الحرب في الإسلام لها حدود وضوابط وللمسلمين أخلاقهم التي يتخلقون بها حتى في حربهم مع من يحاربهم من غير المسلمين، فأمر الإسلام بالحفاظ على أموال الغير، وبترك الرهبان في صوامعهم دون التعرض لهم، ونهى الإسلام عن الخيانة والغدر والغلول، كما نهى عن التمثيل بالقتلى، وعن قتل الأطفال والنساء والشيوخ، وعن حرق النخيل والزروع، وقطع الأشجار المثمرة، وأوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أسامة بن زيد عندما وجهه إلى الشام بالوفاء بالعهد وعدم الغدر أو التمثيل، وعاهد خالد بن الوليد أهل الحيرة ألا يهدم لهم بيعة ولا كنيسة ولا قصراً، ولا يمنعهم من أن يدقوا نواقيسهم أو أن يخرجوا صلبانهم في أيام أعيادهم.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه رحيماً بغير المسلمين من أهل الكتاب، وكان ينصح سعد بن أبي وقاص ـ عندما أرسله في حرب الفرس ـ بأن يكون حربه بعيداً عن أهل الذمة، وأوصاه ألا يأخذ منهم شيئاً لأن لهم ذمة وعهداً، كما أعطى عمر رضي الله عنه أهل إيلياء أماناً على أموالهم وكنائسهم وصلبانهم وحذر من هدم كنائسهم، وأمر الإسلام بحسن معاملة الأسرى وإطعامهم قال تعالى:
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } (سورة الإنسان الآية 8)
بينما يعامل غير المسلمين أسرى المسلمين معاملة سيئة، فقد يقتلونهم وقد يسترقونهم أو يكلفونهم أشق الأعباء والأعمال، فإن أسرى غزوة بدر الكبرى عاملهم النبي صلى الله عليه وسلم خير معاملة، فوزعهم على الصحابة وأمرهم أن يحسنوا إليهم، فكانوا يؤثرونهم على أنفسهم في الطعام وفي الغذاء، ولما استشار أصحابه في شأن أسرى بدر، وأشار البعض بقتلهم، وأشار الآخرون بالفداء، وافق على الفداء، وجعل فداء الذين يكتبون منهم أن يعلم كل واحد منهم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة، وكان هذا أول إجراء لمحو الأمية.
ولم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمثل بأحد من أعدائه في الحروب مهما كان أمره، ولما أشير عليه أن يمثل بسهيل بن عمرو لأنه كان يحرص على حرب المسلمين وعلى قتالهم فأشير عليه أن ينزع ثنيتيه السفليين حتى لا يستطيع الخطابة بعد ذلك لم يوافق النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بل رفض قائلاً:
لا أمثل به فيمثل الله بي، وإن كنت نبياً

وعندما حقق الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أمنيته بفتح مكة المكرمة ودخلها فاتحاً منتصراً ظافراً قال لقريش:
"ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا خيراً أخ كريم وابن أخ كريم، فقال صلى الله عليه وسلم: اذهبوا فأنتم الطلقاء، لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لي ولكم"

ومن توجيهات الإسلام للمسلمين في الحرب:
1. أن يكون القتال في سبيل الله.
2. أن يكون القتال لمن يقاتلون المسلمين.
3. عدم الاعتداء، قال الله تعالى:
{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } (سورة البقرة الآية 190)
فالذين يعتدون على المسلمين ويقاتلونهم أمر المسلمون أن يقاتلوهم، ولكنه قتال عادل بمعنى ألا يمثلوا بأحد وبلا تعذيب، حيث قال الله تعالى:
{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } (سورة البقرة الآية 194)
وهذا فيمن يقاتلون المسلمين، أما الذين لا يقاتلون من غير المسلمين فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن قتالهم:
فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة .." أبو داود، ج3 ص86 رقم 2614
وفي حديث آخر:
"سيروا باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليداً" سنن ابن ماجة، ج2 ص953
كما كان ينهى عليه الصلاة والسلام عن التعرض للرهبان وأصحاب الصوامع، وعن التمثيل والغلول،
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال: "اخرجوا باسم الله، قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، لا تعتدوا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع" مسند احمد، ج1 ص200

موقف الإسلام من غير المسلمين في حال السلم:
يقف الإسلام من غير المسلمين في حال السلم موقف الأمان، بل إنه لم ينه عن البر بهم ماداموا لم يقاتلوا المسلمين، وإنما ينهى عن البر بالذين قاتلوا المسلمين في دينهم وأخرجوهم من ديارهم وظاهروا على إخراجهم، فقال جل شأنه:
{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ "8" إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ "9"} (سورة الممتحنة الآيتان: 8 ، 9)
ونهى القرآن الكريم عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، فقال الله سبحانه:
{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } (سورة العنكبوت الآية 46)
وقال سبحانه:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } (سورة آل عمران الآية 64)
بل أمر الإسلام بالوفاء بالعهد حتى مع المشركين، قال تعالى:
{إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } (سورة التوبة الآية 4)
بل لو طلب المشرك من المسلم أن يجيره فعليه أن يجيره، بل ويبلغه مأمنه، كما قال الحق تبارك وتعالى:
{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } (سورة التوبة الآية 6)
ومن رعاية الإسلام لحقوق غير المسلمين رعايته لمعابدهم وكنائسهم، ومن محافظته عليها ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما حان وقت الصلاة وهو في كنيسة القيامة، فطلب البطريرك من عمر أن يصلي بها، وهم أن يفعل ثم اعتذر ووضح أنه يخشى أن يصلي بالكنيسة فيأتي المسلمون بعد ذلك ويأخذونها من النصارى على زعم أنها مسجد لهم، ويقولون: هنا صلى عمر.
ولم تتوقف معاملة المسلمين لغير المسلمين عند حد المحافظة على أموالهم وحقوقهم، بل حرص الإسلام عبر عصوره على القيام بما يحتاجه أهل الكتاب وما يحتاج إليه الفقراء منهم.
إن مثل هذه المعاملة من المسلمين لغير المسلمين تطلع العالم أجمع على أن الإسلام ربى أتباعه على التسامح، وعلى رعاية حقوق الناس، وعلى الرحمة بجميع البشر مهما اختلفت عقائدهم وأجناسهم.
وقد حفظت أجيال المسلمين قيمة هذه الرعاية الإسلامية لحقوق غير المسلمين، لأنهم ما طبقوها إلا استجابة لتعاليم القرآن الكريم، وتوجيهات الرسول العظيم عليه افضل الصلاة والسلام وقد طبقها في حياته فوعاها المسلمون جيلاً فجيلاً، وطبقها الخلف عن السلف، والأبناء عن الآباء، فهاهو ذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: حدث مجاهد قال: "كنت عند عبد الله بن عمر، وغلام لم يسلخ شاة، فقال: يا عمر إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي، وقال ذلك مراراً، فقال له: كم تقول هذا؟ فقال إن رسول الله لم يزل يوصينا بالجار حتى خشينا أنه سيورثه".


هذا هو الاسلام

وكانت الدولة الإسلامية كثيرًا ما تؤخر موعد تحصيل الجزية حتى تنضج المحصولات الزراعية فيستطيع أهل الذمة تأديتها دون أن يرهقهم ذلك، ويعلل أبو عبيدة حكمة التأجيل بقوله:
"وإنما وجه التأخير إلى الغلّة (المحصول) للرِّفق بهم ..



بل إن الخليفة عمر بن الخطاب قد قبل من نصارى "تغلب" أن يدفعوا المستحق عليهم دون أن يسمِّيها جزية، بل قبل منهم تسميتهم لهم صدقات ولذلك روى المؤرِّخون قولهم: كان عمر يجعل صدقات بني تغلب ـ وهي قبيلة عربية مسيحيّة ـ في فُقرائهم دون ضمِّها إلى بيت المال ..



ولقد تحدث التاريخ فقال: إن النعمان تكلم مع عمر فقال له: يا أمير المؤمنين، إن بني تغلب قوم عرب، يأنَفون عن الجزية، وليست لهم أموال، إنَّما هم أصحاب حرْث ومواشٍ، ولهم نكاية في العدو فلا تُعِن عدوَّك عليكم بهم، فصالَحهم عمر بن الخطاب على أن ضاعَف عليهم الصدقة..



ومن الممكن أن يقال إن أوضاع مجتمعنا الآن قد تغير الكثير منها، فأصبح أبناء الوطن كلهم يشتركون في الدفاع عنه، وفي أداء الضرائب، وفي ضوء هذا التغير يمكن علاج كثير من جوانب هذا الموضوع ..



هذا هو الاسلامالاسلام وموقفه من غير المسلمين

الاسلام وموقفه من غير المسلمين


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد .. فهذه دراسة عن موقف الإسلام من غير المسلمين، ويتضح بها احترام الإسلام لسائر الأديان السماوية، ووجوب الإيمان بجميع الرسل والكتب السابقة، كما يتضح بها موقف الإسلام من غير المسلمين في الحرب وفي السلم، والمساواة بين المسلمين وغير المسلمين في سائر المعاملات، وسماحة الإسلام مع غير المسلمين، والتي كان الناس بسببها يدخلون في دين الله أفواجاً، وأن الإسلام هو دعوة كل الرسل. اسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى ما فيه الخير والرشد والسداد.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛؛

احترام الإسلام لسائر الأديان السماوية:
احترم الإسلام جميع الأديان السماوية، وأرسل الله تعالى سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم خاتماً للأنبياء والمرسلين، ومصدقاً لجميع الرسل الذين كانوا قبله، وأنزل الله تعالى على رسوله القرآن الكريم تبياناً لكل شيء ومصدقاً لما بين يديه من الكتب ومهيمناً عليها وحارساً أمينا لها.
وكان من عناصر الإيمان: الإيمان بجميع الرسل السابقين وبجميع الكتب السماوية قال تعالى:
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } (سورة البقرة الآية 285)
بل إن إيمان المؤمن لا يكون صحيحاً إلا إذا آمن بجميع الأنبياء السابقين، وآمن بما أنزل الله تعالى عليهم من الكتب السماوية الصحيحة، قال تعالى:
{قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } (سورة البقرة الآية 136)
ومادام كل مسلم مأموراً أن يؤمن بجميع الرسل السابقين وبجميع الكتب السماوية، فلا يكون لديه تعصب، ولا كراهية لدين آخر أو نبي أو رسول، ولا كراهية ولا حقد على أحد من أتباع الأديان الأخرى.
ووضع القرآن لأتباعه ما قضته الإرادة الإلهية منذ الأزل، من اختلاف الناس في عقائدهم وأجناسهم وألوانهم، وذلك لحكمة يعلمها الحكيم الخبير.
قال سبحانه:
{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ "118" إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } (سورة هود، الآيتان: 118، 119)
وقال جل شأنه:
{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } (سورة يونس الآية 99)
ولا يحجر الإسلام على أحد، ولا يكره أحدا على الدخول في عقيدته، قال الله تعالى:
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (سورة البقرة الآية 256)

موقف الإسلام من غير المسلمين:
من المعلوم أن الإسلام هو دين السلام، لا يأمر بالحرب إلا في الضرورة القصوى التي تستدعي الدفاع والجهاد في سبيل الله، ومع مشروعية الجهاد في سبيل الله دفاعاً عن الدين والعقيدة والأرض والعرض، فإن الحرب في الإسلام لها حدود وضوابط وللمسلمين أخلاقهم التي يتخلقون بها حتى في حربهم مع من يحاربهم من غير المسلمين، فأمر الإسلام بالحفاظ على أموال الغير، وبترك الرهبان في صوامعهم دون التعرض لهم، ونهى الإسلام عن الخيانة والغدر والغلول، كما نهى عن التمثيل بالقتلى، وعن قتل الأطفال والنساء والشيوخ، وعن حرق النخيل والزروع، وقطع الأشجار المثمرة، وأوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أسامة بن زيد عندما وجهه إلى الشام بالوفاء بالعهد وعدم الغدر أو التمثيل، وعاهد خالد بن الوليد أهل الحيرة ألا يهدم لهم بيعة ولا كنيسة ولا قصراً، ولا يمنعهم من أن يدقوا نواقيسهم أو أن يخرجوا صلبانهم في أيام أعيادهم.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه رحيماً بغير المسلمين من أهل الكتاب، وكان ينصح سعد بن أبي وقاص ـ عندما أرسله في حرب الفرس ـ بأن يكون حربه بعيداً عن أهل الذمة، وأوصاه ألا يأخذ منهم شيئاً لأن لهم ذمة وعهداً، كما أعطى عمر رضي الله عنه أهل إيلياء أماناً على أموالهم وكنائسهم وصلبانهم وحذر من هدم كنائسهم، وأمر الإسلام بحسن معاملة الأسرى وإطعامهم قال تعالى:
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } (سورة الإنسان الآية 8)
بينما يعامل غير المسلمين أسرى المسلمين معاملة سيئة، فقد يقتلونهم وقد يسترقونهم أو يكلفونهم أشق الأعباء والأعمال، فإن أسرى غزوة بدر الكبرى عاملهم النبي صلى الله عليه وسلم خير معاملة، فوزعهم على الصحابة وأمرهم أن يحسنوا إليهم، فكانوا يؤثرونهم على أنفسهم في الطعام وفي الغذاء، ولما استشار أصحابه في شأن أسرى بدر، وأشار البعض بقتلهم، وأشار الآخرون بالفداء، وافق على الفداء، وجعل فداء الذين يكتبون منهم أن يعلم كل واحد منهم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة، وكان هذا أول إجراء لمحو الأمية.
ولم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمثل بأحد من أعدائه في الحروب مهما كان أمره، ولما أشير عليه أن يمثل بسهيل بن عمرو لأنه كان يحرص على حرب المسلمين وعلى قتالهم فأشير عليه أن ينزع ثنيتيه السفليين حتى لا يستطيع الخطابة بعد ذلك لم يوافق النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بل رفض قائلاً:
لا أمثل به فيمثل الله بي، وإن كنت نبياً

وعندما حقق الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أمنيته بفتح مكة المكرمة ودخلها فاتحاً منتصراً ظافراً قال لقريش:
"ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا خيراً أخ كريم وابن أخ كريم، فقال صلى الله عليه وسلم: اذهبوا فأنتم الطلقاء، لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لي ولكم"

ومن توجيهات الإسلام للمسلمين في الحرب:
1. أن يكون القتال في سبيل الله.
2. أن يكون القتال لمن يقاتلون المسلمين.
3. عدم الاعتداء، قال الله تعالى:
{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } (سورة البقرة الآية 190)
فالذين يعتدون على المسلمين ويقاتلونهم أمر المسلمون أن يقاتلوهم، ولكنه قتال عادل بمعنى ألا يمثلوا بأحد وبلا تعذيب، حيث قال الله تعالى:
{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } (سورة البقرة الآية 194)
وهذا فيمن يقاتلون المسلمين، أما الذين لا يقاتلون من غير المسلمين فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن قتالهم:
فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة .." أبو داود، ج3 ص86 رقم 2614
وفي حديث آخر:
"سيروا باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليداً" سنن ابن ماجة، ج2 ص953
كما كان ينهى عليه الصلاة والسلام عن التعرض للرهبان وأصحاب الصوامع، وعن التمثيل والغلول،
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال: "اخرجوا باسم الله، قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، لا تعتدوا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع" مسند احمد، ج1 ص200

موقف الإسلام من غير المسلمين في حال السلم:
يقف الإسلام من غير المسلمين في حال السلم موقف الأمان، بل إنه لم ينه عن البر بهم ماداموا لم يقاتلوا المسلمين، وإنما ينهى عن البر بالذين قاتلوا المسلمين في دينهم وأخرجوهم من ديارهم وظاهروا على إخراجهم، فقال جل شأنه:
{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ "8" إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ "9"} (سورة الممتحنة الآيتان: 8 ، 9)
ونهى القرآن الكريم عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، فقال الله سبحانه:
{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } (سورة العنكبوت الآية 46)
وقال سبحانه:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } (سورة آل عمران الآية 64)
بل أمر الإسلام بالوفاء بالعهد حتى مع المشركين، قال تعالى:
{إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } (سورة التوبة الآية 4)
بل لو طلب المشرك من المسلم أن يجيره فعليه أن يجيره، بل ويبلغه مأمنه، كما قال الحق تبارك وتعالى:
{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } (سورة التوبة الآية 6)
ومن رعاية الإسلام لحقوق غير المسلمين رعايته لمعابدهم وكنائسهم، ومن محافظته عليها ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما حان وقت الصلاة وهو في كنيسة القيامة، فطلب البطريرك من عمر أن يصلي بها، وهم أن يفعل ثم اعتذر ووضح أنه يخشى أن يصلي بالكنيسة فيأتي المسلمون بعد ذلك ويأخذونها من النصارى على زعم أنها مسجد لهم، ويقولون: هنا صلى عمر.
ولم تتوقف معاملة المسلمين لغير المسلمين عند حد المحافظة على أموالهم وحقوقهم، بل حرص الإسلام عبر عصوره على القيام بما يحتاجه أهل الكتاب وما يحتاج إليه الفقراء منهم.
إن مثل هذه المعاملة من المسلمين لغير المسلمين تطلع العالم أجمع على أن الإسلام ربى أتباعه على التسامح، وعلى رعاية حقوق الناس، وعلى الرحمة بجميع البشر مهما اختلفت عقائدهم وأجناسهم.
وقد حفظت أجيال المسلمين قيمة هذه الرعاية الإسلامية لحقوق غير المسلمين، لأنهم ما طبقوها إلا استجابة لتعاليم القرآن الكريم، وتوجيهات الرسول العظيم عليه افضل الصلاة والسلام وقد طبقها في حياته فوعاها المسلمون جيلاً فجيلاً، وطبقها الخلف عن السلف، والأبناء عن الآباء، فهاهو ذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: حدث مجاهد قال: "كنت عند عبد الله بن عمر، وغلام لم يسلخ شاة، فقال: يا عمر إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي، وقال ذلك مراراً، فقال له: كم تقول هذا؟ فقال إن رسول الله لم يزل يوصينا بالجار حتى خشينا أنه سيورثه".

الحمد لله رب العالمين ..

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد ..

فهذه دراسة عن موقف الإسلام من غير المسلمين، ويتضح بها احترام الإسلام لسائر الأديان السماوية ..

ووجوب الإيمان بجميع الرسل والكتب السابقة ..

كما يتضح بها موقف الإسلام من غير المسلمين في الحرب وفي السلم ..

والمساواة بين المسلمين وغير المسلمين في سائر المعاملات ..

وسماحة الإسلام مع غير المسلمين، والتي كان الناس بسببها يدخلون في دين الله أفواجاً ..

وأن الإسلام هو دعوة كل الرسل .. اسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى ما فيه الخير والرشد والسداد ..

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..



احترام الإسلام لسائر الأديان السماوية :
احترم الإسلام جميع الأديان السماوية، وأرسل الله تعالى سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم خاتماً للأنبياء والمرسلين ..
ومصدقاً لجميع الرسل الذين كانوا قبله ..
وأنزل الله تعالى على رسوله القرآن الكريم تبياناً لكل شيء ومصدقاً لما بين يديه من الكتب ..
ومهيمناً عليها وحارساً أمينا لها ..

وكان من عناصر الإيمان : الإيمان بجميع الرسل السابقين وبجميع الكتب السماوية .. قال تعالى:
{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} ( البقرة 285)


بل إن إيمان المؤمن لا يكون صحيحاً إلا إذا آمن بجميع الأنبياء السابقين ..
وآمن بما أنزل الله تعالى عليهم من الكتب السماوية الصحيحة، قال تعالى :
{قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ( البقرة 136)


ومادام كل مسلم مأموراً أن يؤمن بجميع الرسل السابقين وبجميع الكتب السماوية، فلا يكون لديه تعصب ..
ولا كراهية لدين آخر أو نبي أو رسول، ولا كراهية ولا حقد على أحد من أتباع الأديان الأخرى ..

ووضع القرآن لأتباعه ما قضته الإرادة الإلهية منذ الأزل، من اختلاف الناس في عقائدهم وأجناسهم وألوانهم ..
وذلك لحكمة يعلمها الحكيم الخبير..

قال سبحانه:
{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ "118" إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } ( هود،118، 119)

وقال جل شأنه :
{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } ( يونس 99)

ولا يحجر الإسلام على أحد، ولا يكره أحدا على الدخول في عقيدته، قال الله تعالى :
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (البقرة 256)




موقف الإسلام من غير المسلمين :
من المعلوم أن الإسلام هو دين السلام، لا يأمر بالحرب إلا في الضرورة القصوى التي تستدعي الدفاع والجهاد في سبيل الله ..
ومع مشروعية الجهاد في سبيل الله دفاعاً عن الدين والعقيدة والأرض والعرض، فإن الحرب في الإسلام لها حدود وضوابط ..


وللمسلمين أخلاقهم التي يتخلقون بها حتى في حربهم مع من يحاربهم من غير المسلمين ..

فأمر الإسلام ب :
  • الحفاظ على أموال الغير..
  • وبترك الرهبان في صوامعهم دون التعرض لهم ..
  • ونهى الإسلام عن الخيانة والغدر والغلول ..
  • كما نهى عن التمثيل بالقتلى ..
  • وعن قتل الأطفال والنساء والشيوخ ..
  • وعن حرق النخيل والزروع، وقطع الأشجار المثمرة ..
وأوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أسامة بن زيد عندما وجهه إلى الشام بالوفاء بالعهد وعدم الغدر أو التمثيل ..



وعاهد خالد بن الوليد أهل الحيرة ألا يهدم لهم بيعة ولا كنيسة ولا قصراً ..
ولا يمنعهم من أن يدقوا نواقيسهم أو أن يخرجوا صلبانهم في أيام أعيادهم ..

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه رحيماً بغير المسلمين من أهل الكتاب ..
وكان ينصح سعد بن أبي وقاص ـ عندما أرسله في حرب الفرس ـ بأن يكون حربه بعيداً عن أهل الذمة ..
وأوصاه ألا يأخذ منهم شيئاً لأن لهم ذمة وعهداً ..
كما أعطى عمر رضي الله عنه أهل إيلياء أماناً على أموالهم وكنائسهم وصلبانهم وحذر من هدم كنائسهم ..


وأمر الإسلام بحسن معاملة الأسرى وإطعامهم .. قال تعالى :
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } ( الإنسان 8)


بينما يعامل غير المسلمين أسرى المسلمين معاملة سيئة ..
فقد يقتلونهم وقد يسترقونهم أو يكلفونهم أشق الأعباء والأعمال ..
فإن أسرى غزوة بدر الكبرى عاملهم النبي صلى الله عليه وسلم خير معاملة ..
فوزعهم على الصحابة وأمرهم أن يحسنوا إليهم، فكانوا يؤثرونهم على أنفسهم في الطعام وفي الغذاء ..
ولما استشار أصحابه في شأن أسرى بدر، وأشار البعض بقتلهم، وأشار الآخرون بالفداء، وافق على الفداء ..
وجعل فداء الذين يكتبون منهم أن يُعلم كل واحد منهم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة ..
وكان هذا أول إجراء لمحو الأمية ..

ولم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُمَثـَّل بأحد من أعدائه في الحروب مهما كان أمره ..
ولما أشير عليه أن يمثل بسهيل بن عمرو لأنه كان يحرص على حرب المسلمين وعلى قتالهم فأشير عليه أن ينزع ثنيتيه السفليين حتى لا
يستطيع الخطابة بعد ذلك لم يوافق النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بل رفض قائلاً :
لا أمثل به فيمثل الله بي، وإن كنت نبياً

وعندما حقق الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أمنيته بفتح مكة المكرمة ودخلها فاتحاً منتصراً ظافراً قال لقريش:
ما تظنون أني فاعل بكم ؟
قالوا : خيراً أخ كريم وابن أخ كريم ..
فقال صلى الله عليه وسلم:
اذهبوا فأنتم الطلقاء، لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لي ولكم ..




من توجيهات الإسلام للمسلمين في الحرب:
1. أن يكون القتال في سبيل الله.
2. أن يكون القتال لمن يقاتلون المسلمين.
3. عدم الاعتداء، قال الله تعالى :

{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } ( البقرة 190)


فالذين يعتدون على المسلمين ويقاتلونهم أمر المسلمون أن يقاتلوهم ..
ولكنه قتال عادل بمعنى ألا يمثلوا بأحد وبلا تعذيب ..حيث قال الله تعالى :
{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } ( البقرة 194)

وهذا فيمن يقاتلون المسلمين، أما الذين لا يقاتلون من غير المسلمين فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن قتالهم :
فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة ..
أبو داود، ج3 ص86 رقم 2614

وفي حديث آخر:
سيروا باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليداً..
سنن ابن ماجة، ج2 ص953

كما كان ينهى عليه الصلاة والسلام عن التعرض للرهبان وأصحاب الصوامع، وعن التمثيل والغلول ..
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال:
اخرجوا باسم الله،قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله،لا تعتدوا،ولا تغلوا،ولا تمثلوا،ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامعمسند احمد، ج1 ص200




موقف الإسلام من غير المسلمين في حال السلم:
يقف الإسلام من غير المسلمين في حال السلم موقف الأمان، بل إنه لم ينه عن البر بهم ماداموا لم يقاتلوا المسلمين ..
وإنما ينهى عن البر بالذين قاتلوا المسلمين في دينهم وأخرجوهم من ديارهم وظاهروا على إخراجهم، فقال جل شأنه :
{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ 8 إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ9}( الممتحنة 8 ، 9)

ونهى القرآن الكريم عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، فقال الله سبحانه:
{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت 46)

وقال سبحانه:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } ( آل عمران 64)

بل أمر الإسلام بالوفاء بالعهد حتى مع المشركين، قال تعالى:
{إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}( التوبة 4)

بل لو طلب المشرك من المسلم أن يجيره فعليه أن يجيره، بل ويبلغه مأمنه، كما قال الحق تبارك وتعالى:
{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (التوبة 6)



ومن رعاية الإسلام لحقوق غير المسلمين رعايته لمعابدهم وكنائسهم ..
ومن محافظته عليها ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما حان وقت الصلاة وهو في كنيسة القيامة ..
فطلب البطريرك من عمر أن يصلي بها، وهم أن يفعل ثم اعتذر ..
ووضح أنه يخشى أن يصلي بالكنيسة فيأتي المسلمون بعد ذلك ويأخذونها من النصارى على زعم أنها مسجد لهم، ويقولون:هنا صلى عمر..

ولم تتوقف معاملة المسلمين لغير المسلمين عند حد المحافظة على أموالهم وحقوقهم ..
بل حرص الإسلام عبر عصوره على القيام بما يحتاجه أهل الكتاب وما يحتاج إليه الفقراء منهم ..

إن مثل هذه المعاملة من المسلمين لغير المسلمين تـُطلع العالم أجمع على أن الإسلام رَبَىَ أتباعه على التسامح، وعلى رعاية حقوق الناس، وعلى الرحمة بجميع البشر مهما اختلفت عقائدهم وأجناسهم ..

وقد حفظت أجيال المسلمين قيمة هذه الرعاية الإسلامية لحقوق غير المسلمين ..
لأنهم ما طبقوها إلا استجابة لتعاليم القرآن الكريم ..
وتوجيهات الرسول العظيم عليه أفضل الصلاة والسلام ..
وقد طبقها في حياته فوعاها المسلمون جيلاً فجيلاً، وطبقها الخلف عن السلف، والأبناء عن الآباء ..

فهاهو ذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: حدث مجاهد قال:
"كنت عند عبد الله بن عمر، وغلام لم يسلخ شاة، فقال:
يا عمر إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي، وقال ذلك مراراً ..
فقال له : كم تقول هذا؟
فقال إن رسول الله لم يزل يوصينا بالجار حتى خشينا أنه سيورثه " ..
      بسم الله الرحمن الرحيم ..


شملت رعاية التشريع الإسلامي كل من يعيش في ظلاله ..
وجعل العلاقة بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى مثالية وخاصة أهل الكتاب ،..
حيث أمر المسلمين بالعدل والبر بهم ، وأباح الزواج منهم ، وحرم الظلم ، وأمر بالإنفاق على من أصبح شيخا منهم ..

وبالنسبة لما يُثار حول الجزية فهي مبلغ بسيط جدا لا يقارن بالزكاة المفروضة على المسلمين ..
ولها سببها .. وهو حماية أهل الذمة من الاعتداء وتوفير الأمن لهم ..
فإذا لم يستطع المسلمون توفير هذه الحماية ردوا لهم أموالهم ، والتاريخ يشهد بذلك ..

يقول فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد الشرباصي الأستاذ بجامعة الأزهر رحمه الله :

حجة من لايريدون تطبيق الشرع .. ظلم أهل الذمة ..

لعل أكرم الصَّيَحات التي تردّدت في جنبات بلادنا خلال الأيام الأخيرة هي الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية الغرّاء؛ لأنها شريعة الحق، شريعة العدل، شريعة الله، والله ـ تبارك وتعالى ـ هو الأعلم بمصالح عباده، والأعلم بما يسعدهم في الأولى والآخرة:(صِبْغَةَ اللهِ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً ونحن له عابدون) (البقرة: 138)

ولعل أبرز عقبة يتعلَّل بها الجهلة أو المغرضون هو اصطناع التساؤل المتكرر الظّنين عن مصير أهل الذمة الذين لا يدينون بالإسلام أمام هذا التطبيق .. ولو علم هؤلاء وجهَ الحقِّ لأدركوا أن تطبيق الشريعة الغراء سيكون خيرًا لأهل الذِّمّة من حياة يسودُها الإعْراض عن شريعة الله والإلحاد في آياته، فالإسلام أرأَف بأهل الذِّمّة من أي نظام آخر؛ لأنّه دِين العَدالة والسماحة والإنصاف، وقد جاء بمُثل عُليا ومبادئ سامية في هذا المجال ..

الأخوة الإنسانية .. مبدأ إسلامي ..
إن الإسلام يقرر أوّلاً أن الناس كلهم بينهم وشيجة من وحدة الأصل البشري والأجهزة والأخوّة الإنسانيّة، والقرآن الكريم يقول في مطلع سورة النساء: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَها وبَثَّ مِنْهُمَا رِجالاً كَثِيرًا ونِساءً واتَّقُوا اللهَ الذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (الآية:1)

وهو يقرِّر حريّة الإعتقاد دون إكراه أو اعتساف فيقول: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ) (البقرة: 256)
ويقول مستنكرًا: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنينَ) (يونس: 99).
ويقول أيضًا: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤمِنْ ومَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: 29)




أهل الذمة يعيشون بحرية تامة كالمسلمين ..
وأهل الذِّمّة هم أهل الكِتاب الذين قبلوا أن يعيشوا بين المسلمين مسالمين، من يهود أو نصارى، وأن يؤدُّوا ما عليهم من جزية لحمايتهم والدفاع عنهم، مع بقائهم على دينهم ومُمارستهم لشعائرهم ..


وقد وضع الإسلام قاعدتَه الذهبيّة المثاليّة في معاملة أهل الذِّمّة ـ والذِّمّة هي العهد والضمان والأمان ـ فقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم: "لَهُم مَا لَنا وعليهم ما علينا".

وتوسع الإسلام في عدله وفضله، فشرع أكثر من رابطة لحسن العلاقة بين المسلمين وأهل الذّمّة من أهل الكتاب فقال الله تعالى:
(اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وطَعَامُ الذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ والمُحْصَناتُ مِنَ المُؤمِناتِ والمُحْصَناتُ مِنَ الذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجورَهُنَّ مُحْصِنينَ غَيْرَ مُسَافِحينَ ولاَ مُتَّخِذِي أَخْدانٍ ومَنْ يَكْفُرْ بِالإِيْمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ)
(المائدة: 5)




البر والإحسان بأهل الذمة ..

وقرَّر القُرآن في مُحكم آياتِه أنَّ عَلاقة المودّة هي الأساس بين المسلمين والمخالفين لهم في الدين، إذا لم يكن هناك عدوان ولا طغيان، بل حثَّ الإسلامُ أتباعه على أن يعاملوا المخالفين في الدين المسالمين بالبر والقسط فقال القرآن :
(
لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وظَاهَرُوا عَلَى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ومَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة: 8 ـ9 )


ويأتي حديث سيدنا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ليقول : " من ظلم معاهدًا أو كلفه فوق طاقته فأنا حَجِيجُه" أي محاججه ومغالبه بإظهار الحجّة عليه ..

ولقد كرّم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ العَلاقة بين مجتمع الإسلام الذي يوجهه وقبط مصر، فتزوّج من مارية القبطية المصرية، وأوصى بالقبط خيرًا وأخبر أن " لهم نَسبًا وصهرًا" ..



حقيقة الجزية وأساس فرضها ..

وإذا كان الإسلام قد فرض جزءًا قليلاً من المال على أهل الكتاب يؤخذ باسم الجزية، فإنه قد فرض على المسلمين تبعاتٍ أكثرَ وأوسعَ ..
ومع ذلك أعفى من أداء هذا الجزء النِّساءَ والصبيانَ والمساكينَ والرُّهبان وذوي العاهات..
فلا تُجبى الجِزية من امرأة ولا فَتاة، ولا صبي، ولا فقير، ولا شيخ، ولا أعمى، ولا أعرج، ولا راهب، ولا مختل في عقله .. بل زاد الإسلام في فضله فتكفل بالإنفاق على من شاخ وعجز من أهل الذِّمة ..





وهذا هو خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز يكتب إلى عدي بن أرطاة عامله على البصرة: "أما بعد، فإنَّ الله ـ سبحانَه ـ إنّما أمر أن تؤخَذَ الجزيةُ ممّن رغِب عن الإسلام، واختار الكفر عِتيًّا وخُسرانًا مبينًا، فَضَعِ الجزيةَ على من أطاق حملَها، وخَلِّ بينهم وبين عمارة الأرض، فإنَّ في ذلك صَلاحًا لمعاش المسلمين، وقوة على عدوهم. وانظر من قِبلكَ من أهل الذّمة، مَن قد كَبُرَتْ سنُّه وضعفت قوتُه، وولَّت عنه المكاسب، فأجرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه. فلو أن رجلاً من المسلمين كان له مملوك كبُرت سنُّه، وضعفت قوته، وولَّت عنه المكاسب، كان من الحق عليه أن يَقُوته حتى يفرق بينهما موت أو عِتق، وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر - يقصد عمر بن الخطاب ـ مرَّ بشيخ من أهل الذِّمّة، يسأل على أبواب الناس، فقال: "ما أنصفناك، إن كنا أخذنا منك الجزية في شَبابك، ثم ضيَّعْناك في كِبَرِك". ثم أجرى عليه من بيت المال ما يُصلحه" ..



ولم تكن الجزية عقابًا من المسلمين لعدم دخول الذمي في الإسلام،ويشهد بذلك باحث مستشرق إنجليزي هو السير توماس أرنولد صاحب كتاب "الدعوة إلى الإسلام" الذي يقول فيه ما نصه: "لم يكن الغرض من فرض هذه الضريبة ـ يعني الجزية ـ على المسيحيِّين، كما يريدنا بعض الباحثين على الظنّ، لونًا من ألوان العقاب لامتناعهم عن قبول الإسلام، وإنما كانوا يؤدُّونها مع سائر أهل الذمة وهم غير المسلمين من رعايا الدولة الذين كانت تحول ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش في مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين " ..



ولما قدّم أهل الحيرة المال المتفق عليه، ذكروا صراحة أنهم إنما دفعوا هذه الجزية على شريطة " أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين وغيرهم "، وكذلك حدث أن سجل خالد في المعاهدة التي أبرمها مع بعض أهالي المدن المجاورة للحيرة قوله: " فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا " ..




رد الجزية عند عدم تحقيق الأمن .. وموقف فريد ..

ويمكن الحكم على مدى اعتراف المسلمين الصريح بهذا الشرط من تلك الحادثة التي وقعت في حكم الخليفة عمر .. لما حشد الإمبراطور هرقل جيشًا ضخمًا لصد قوات المسلمين المحتلة، كان لزامًا على المسلمين نتيجة لما حدث، أن يركِّزوا كل نشاطَهم في المعركة التي أحدقت بهم. فلمّا علم بذلك أبو عبيدة قائد العرب، كتب إلى عمّال المدن المفتوحة في الشام يأمرهم بأن يردُّوا عليهم ما جُبِيَ من الجزية من هذه المدن، وكتب إلى الناس يقول: "إِنَّما رددنا عليكم أموالَكم؛ لأنه بلغَنا ما جُمع لنا من الجموع وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط ، وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليكم" ..
وبذلك رُدت مبالغ طائلة من مال الدولة، فدعا المسيحيون بالبركة لرؤساء المسلمين، وقالوا: "ردكم الله علينا ونصركم عليهم (أي على الروم)، فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئًا وأخذوا كل شيء بقي لنا " ..





مقدار الجزية ..

ويقول الإمام أبو يوسف في كتابه: "الخراج" عن مقدار الجزية :
"وإنما تجب الجزية على الرجال منهم دون النساء والصبيان ..وعلى الموسِر ثمانية وأربعون درهمًا، وعلى الوسط أربعة وعشرون وعلى المحتاج الحراث العامل بيده اثنا عشر دِرهمًا، يؤخذ ذلك منهم في كل سنة، وإن جاؤوا بعَرَض قُبل منهم، مثل الدوابّ والمتاع وغير ذلك، ويؤخذ ذلك منهم بالقيمة .. ولا يؤخذ منهم في الجزية ميتة ولا خنزير ولا خمر " ..






ومعنى ذلك أن الإسلام يطالب بالجزية على حسب الطاقة، ويسمح بدفعها نقدًا أو عينًا، وهذا هو عمر بن الخطاب يقول: "مَن لم يطق الجزية خففوا عنه، ومن عجز فأعينوه، فإنا لا نريدهم لعام أو لعامين "..



وكانت الدولة الإسلامية كثيرًا ما تؤخر موعد تحصيل الجزية حتى تنضج المحصولات الزراعية فيستطيع أهل الذمة تأديتها دون أن يرهقهم ذلك، ويعلل أبو عبيدة حكمة التأجيل بقوله:
"وإنما وجه التأخير إلى الغلّة (المحصول) للرِّفق بهم ..



بل إن الخليفة عمر بن الخطاب قد قبل من نصارى "تغلب" أن يدفعوا المستحق عليهم دون أن يسمِّيها جزية، بل قبل منهم تسميتهم لهم صدقات ولذلك روى المؤرِّخون قولهم: كان عمر يجعل صدقات بني تغلب ـ وهي قبيلة عربية مسيحيّة ـ في فُقرائهم دون ضمِّها إلى بيت المال ..



ولقد تحدث التاريخ فقال: إن النعمان تكلم مع عمر فقال له: يا أمير المؤمنين، إن بني تغلب قوم عرب، يأنَفون عن الجزية، وليست لهم أموال، إنَّما هم أصحاب حرْث ومواشٍ، ولهم نكاية في العدو فلا تُعِن عدوَّك عليكم بهم، فصالَحهم عمر بن الخطاب على أن ضاعَف عليهم الصدقة..



ومن الممكن أن يقال إن أوضاع مجتمعنا الآن قد تغير الكثير منها، فأصبح أبناء الوطن كلهم يشتركون في الدفاع عنه، وفي أداء الضرائب، وفي ضوء هذا التغير يمكن علاج كثير من جوانب هذا الموضوع ..



وخلاصة القول أن تطبيق الشريعة الإسلامية الغراء ضمان أي ضمان لأهل الذّمّة، حيث تتوافر لهم في ظلاله العدالة والسماحة والبر والإنصاف ..