أكدت المقارنات الدولية الزعم الفنلندي بأنها تمتلك أفضل نظام تعليمي في العالم، وأظهرت النتائج الأولية للدراسة التي
أجراها البرنامج الدولي للتقييم الطلابي (بيسا) على طلبة من أربعين دولة في العالم أن فنلندا أتت على رأس الدول من حيث
تدريس مادة الرياضيات والقراءة والعلوم بما فيها العلوم التطبيقية (التقنية والمهنية).
ِِوتجري (بيسا) دراستها كل ثلاث سنوات بين نظم التعليم في الدول المتقدمة منذ خمسة عشر عاماً، وتمولها منظمة
التعاون والتنمية الاقتصادية للدول الأوروبية.
ولكي نقترب من هذا الإنجاز الذي لفت أنظار خبراء نظم التعليم المتقدمة في العالم، ولنتأمل تاريخ هذه النهضة التعليمية
الاقتصادية وسرها، وفلسفة نظام التعليم، وطريقة العمل، والمميزات والنتائج والرؤى، لا بد لنا من المرور على شيء من
التاريخ حيث تحولت فنلندا من بلد اقتصاده زراعي إلى بلد ذي اقتصاد معرفي متقدّم في مدة قصيرة في قرابة ثلاثة عقود، وكان
التعليم هو أهم ركيزة في هذا التحول. ونظرة إلى فنلندا في حدود 1950م، نرى أن الاستثمار كان منصباً على صناعة المكائن،
والهندسة والصناعة المتعلقة بالغابات، وقد طرأ تطور في حقبة الثمانينات إذ توافق انبثاق عصر تخصيص الإنتاج والتجارة والبحث
الأكاديمي والتطوير مع الاقتصاد المعرفي وأصبحت فنلندا التي كانت في قاع ترتيب الدول المشاركة في منظمة التعاون
الاقتصادي والتنموي في السبعينات، في القمة.
كانت البداية في الثمانينات،
حيث بدأ النمو في قطاع التعليم بعد الثانوي وفي التسعينات تلاه نمو في التعليم الجامعي وما
وتعليم الكبار. وكان أهم أس من أسس نهضة التعليم أن تتاح الفرص للجميع في كل مستويات
بعده من التعليم المستمر
التعليم في كل مناطق فنلندا ورفع شعار «لن ننسى طفلاً» وتحت شعار «تعليم بلا نهاية»، وكانت نتيجة ذلك أن أصبح 99%
من الفنلنديين قد أنهوا التعليم الأولي الإلزامي وأنهى 95% منهم التعليم الثانوي وأصبح 90% منهم يتجهون إلى التعليم ما بعد
التعليم الجامعي أو المعاهد المهنية المتخصصة، ثم إن كل هذا التعليم المتاح للجميع مجاناً يدعمه القطاع الحكومي، لم يزد
الحمل على الطلاب ولا على أهاليهم لا جهداً ولا مالاً وأصبح المجتمع الفنلندي متوجهاً محباً لمواصلة التعليم يتخذه غاية لا
وسيلة للحصول على وظيفة. إضافة إلى ذلك، هناك بعض المدارس الأهلية التي لا تشجع عليها الحكومة ولا تعطي التراخيص
لفتحها بسهولة، والقانون لا يسمح لها بتسلم مقابل مادي للدراسة فيها من قبل الملتحقين بها، وتقدم لها الحكومة مساعدة
مالية مثلها مثل المدارس الحكومية. وتتبع نفس النظام، ولا توجد مدارس أهلية كثيرة، وأغلب هذه المدارس الأهلية هي من
مخلفات نظام التعليم القديم في فترة السبعينات وما قبلها، وليس هناك مدارس خاصة للموهوبين وأصحاب المواهب والكفايات.
لقد ردم التوجه الجديد في التعليم هوة التباين بين مستويات الطلاب ومستويات المدارس والمناطق، حيث كان العمل على ردم
هذه الهوة قراراً حكيماً، فجميع الطلاب يتشاركون نفس الفرص ويتعلمون تحت سقف واحد كل الموضوعات من رياضيات وعلوم
ولغات أجنبية، وعاد عليهم ذلك بتقارب مستواهم المتفوق في المهارات والاستيعاب وانعكس في نتائج المسابقات العالمية،
ليس هناك طلاب متفوقون في القمة وطلاب متدنون في القاع. إن المستوى متقدم وشامل الجميع. إن هذه الهوة أصبحت
تتلاشى بين الطلاب وبين الذكور والإناث والمدارس والمناطق بوضوح كلما تقدمت السنوات.
إن ما تصرفه الحكومة الفنلندية من ميزانية متوسطة على هذا التعليم العالي الجودة بالمقارنة أقل مما تصرفه نظم التعليم
المتقدمة في الدول الأخرى، ومع ذلك، فإن هناك سراً جعل نظام التعليم هذا أكثر تقدماً من منافسيه ورفع فنلندا إلى المرتبة
العليا معرفياً واقتصادياً وابتكاراً، ولقد أثبت تعليم فنلندا أن العبرة ليس بمقدار ما يصرف على التعليم ولكن بمدى كفاية وفاعلية
عملية التعليم نفسها.
ما الذي دفع فنلندا في هذا المسار؟
تقول وزيرة التعليم الفنلندي (تولا هاتانين): «ما الذي سيمكن دولة صغيرة مثل فنلندا أن تحقق أجوراً عالية واقتصاداً يعتمد على
الكفايات العالية وهي لا تستطيع أن تنافس مع دول الاقتصادات الآسيوية؟ إنها مسألة بقاء وليس لها من سبيل غير الاستثمار
في التعليم والتدريب». وتقول: إن التعليم والتدريب يستكشف وظائف جديدة ودائماً ما نحتاج إلى مهارات جديدة للقوى العاملة
ولذلك يتوجب علينا مواصلة هذا الاستثمار. لقد خرجت نتائج هذا التوجه بأن أصبح اقتصاد فنلندا متقدماً وأصبحت فنلندا شعاراً
لثقافة الابتكار.
فلسفة التعليم في فنلندا
هي إتاحة الفرصة لجميع الطلاب للمشاركة والتعلم. إنهم يشبهونها بالمشاركة في لعبة الهوكي.
وإنهم لا يختارون لاعبي الهوكي المهرة فقط ليلعبوا؛ الجميع يجب أن يلعب، ثم بعد أن تتاح الفرصة للجميع، يعرفون من هو
المتفوق والبارع. وهذا سيتيح الفرص للجميع بالتساوي وسيوسع شريحة المهرة، وأيضاً يعني أن تجعل كل أفراد المجتمع
مهرة ! ويقارن أحد الكتاب الأمريكان فلسفة التعليم في فنلندا بما هو موجود في أمريكا، فيقول: «إن التعليم في فنلندا غاية في
ذاته وليس وسيلة لسوق العمل ولا يحكمه سوق العمل. وهذا في حد ذاته أحد أهم ما يجب الالتفات إليه لمن يريد النمو
والتطور».
في معظم دول العالم يبدأ الطلاب بالالتحاق بالمدارس في سن الخامسة من العمر ويحضرون يوماً كاملاً، أما في فنلندا فيبدأ
الطلاب الالتحاق بالمدرسة في سن السابعة من العمر، ويحضرون نصف يوم فقط، وتستمر هذه المدة ستة عشر عاماً في ما
يسمى بمرحلة التعليم الأساسي الإلزامي. وهذه المرحلة تعتبر مرحلة دراسة واحدة على عكس التعليم الشائع في بريطانيا
مثلاً، حيث ينتقل الطلاب في عمر أحد عشر عاماً إلى المرحلة المتوسطة وغالباً ما تكون مدرسة أخرى. في فنلندا، لا حاجة
لأن ينتقل الطالب من مدرسته الابتدائية؛ فالطالب يبقى في مدرسته مع أساتذته وأقرانه والمجتمع المدرسي حتى سن
السادسة عشرة دونما الحاجة إلى اتخاذ قرار في تحديد التخصص والمدرسة الجديدة في هذه السن المبكرة. يقوم الطالب
وأسرته بتحديد التخصص عندما يكون عمره ستة عشر عاما وبعد أن يقضي هذه السنوات الدراسية في التعليم الموحد العام
الإلزامي. الطلاب يقررون في سن السادسة عشرة - وهم أكثر نضجاً حينها - وأهلهم إن كانوا يودون أن يواصلوا الدراسة في
الاتجاه الأكاديمي العالي أو أن يتوجهوا للتخصص التقني والمهني، وهذا لا ينفي أن هناك شبه خط فاصل بين السنوات الأولى
والسنوات الأخيرة في هذه المرحلة من التسع سنوات. في السنوات من 7-12 عاماً يدرس الطلاب مدرساً واحداً لكل صف كل
الموضوعات، أما بعد ذلك حتى نهاية التعليم العام، فيدرس الطلاب في فصول متعددة حيث يدرس كل مادة مدرس في فصل
وينتقل الطلاب بين الفصول وبين المدرسين السنوات الست الأولى هي ما يهم في التعليم الفنلندي. إنها فترة بناء المعرفة
والمهارات البسيطة والتعود على حياة التعلم لتعود عليهم بالفائدة في المراحل التي تليها. وهذا التعليم العام الإلزامي هو تعليم
مجاني تماماً، الوجبات والكتب والأدوات القرطاسية مجانية في فترة التعليم الإلزامي. وفي المرحلة الثانوية، على الطلاب أن
يدفعوا ثمن الكتب والأدوات. وهم على ذلك يدخلون الجامعات مجاناً بلا رسوم، أن ينتقلوا إلى التعليم الثانوي وبوسع الطالب أن
يتخرج منها. كما أن التعليم الثانوي ليس إجبارياً ولكن غالبية المتخرجين من التعليم العام يفضلونه.
لدى الطالب الفنلندي فترات عطل كثيرة وتصل مدة العطلة الصيفية إلى عشرة أسابيع، لكن هناك تأكيد على الجانب الأسري
الذي رجع بآثار إيجابية على عملية التعليم وعلى الثقافة والمجتمع الفنلندي. الطالب يتعلم القراءة والكتابة من أهله أكثر مما
يتعلمها من المدرسة، وهذا حفز الأهالي على المزيد من القراءة وحب الكتب والانشغال بها مع أبنائهم وأنفسهم. لقد أدى هذا
بالآباء إلى زراعة حب الكتاب والقراءة لدى الطلاب وساعد في ذلك دور المكتبات العامة كثيراً. لقد أصبحت القراءة والتعلم في
فنلندا فضيلة ومزية وأصبح الطلاب المراهقون يأملون في أن يتخرجوا ويلتحقوا بالتدريس. ولقد أحبوا التدريس والتعلم والتعليم
كباراً وصغاراً.
المدرسون يختارون ما يريدون أن يتعلموا وكيف يعلمونه للطلاب. إنهم يجدون متعة في الاختيار ويستمتعون بالحرية في التعليم
وكل ما في الأمر أنهم يحافظون ويتأكدون من سريان المعيار الحكومي على مناهجهم، إنهم يرفضون المنهج المكتوب وأصبحت
نقابة المدرسين التي تتوسع يوماً بعد يوم حجر عثرة أمام أي توجه يسعى لتقنين المناهج وترسيمها وكتابتها.
يقوم المدرسون باختيار موضوع للدراسة، وتستغرق الدراسة (7) أسابيع، إنهم يفضلون العمق والشمولية ويفضلون التجريب
العملي وتوفير المواد اللازمة للدراسة من الطبيعة التي حولهم في الجوار. ويفتح المجال على مصراعيه للطلاب والمدرسين
للتجريب والاستكشاف وجمع النتائج والبحث والاستعانة بالموسوعات الورقية والإلكترونية وكل السبل المعاصرة. وتنتهي
السبعة أسابيع، ويخرج الطلاب والمدرسون بخبرة هم أنتجوها كاملة عن موضوع درسوه بكل متعة وعناية.
مدرسو هذه المرحلة يجب أن يكون لديهم شهادة ماجستير حتى يضمنوا وظيفة دائمة. لقد كان برنامج تأهيل المدرسين مكوناً
من (3) سنوات في كلية المعلمين أو (4) أو (5) سنوات في دراسة البكالوريوس. كان ذلك في السبعينيات، ومنذ ذلك الوقت
وحرفة التدريس هي حرفة من يتمكن من البحث. المدرسون يلقون الثقة والاحترام العالي في المجتمع الفنلندي ولديهم حرية
اختيار المنهج وطرق التدريس، وتحظى نسبة قليلة فقط بقبول الانضمام إلى شريحة التدريس كل عام ليشكلوا نخبة النخبة
في المجتمع مما يساهم في تقديم مستوى متطور من التعليم والتدريب، ويواصل المدرسون دراساتهم ما بعد الماجستير
وهناك مدرسون كثر يحملون شهادات الدكتوراه.
المدارس في فنلندا غالبيتها مدارس صغيرة وليس عدد الطلاب قليلاً في الفصول مقارنة بالمدارس في الدول الأخرى. فالطلاب
يصل معدل عددهم في الصف الواحد (30) طالباً. في فنلندا يتلقى الطلاب ما معدله (5500) ساعة دراسية سنوياً مقارنة
بمدارس دول متقدمة في التعليم تصل إلى (8000) ساعة سنوياً، كما هو الحال في كوريا الجنوبية مثلاً. والطلاب لا يقضون
كثيراً من الوقت في الواجبات المدرسية، ففي كوريا، هناك (30) ساعة تدريس أسبوعياً و(10) ساعات في الأشغال والواجبات
ما بعد المدرسة مقارنة بفنلندا حيث لا تتجاوز عدد الساعات في التدريس (25) ساعة أسبوعياً ويعمل الطلاب ما مقداره (5)
ساعات على الأشغال والواجبات المدرسية. وفوق هذا، هذه حصيلة العملية التعليمية وللمدارس حرية اختيار المنهج وطرق
التدريس وتدشين العملية التعليمية. هناك ثقة وحرية في الاختيار، وهناك جمعيات تتكون من الطلاب والمدرسين والمهتمين
بالتعليم مما يجعل علاقة الطلاب بالمدرسين قريبة وشفافة وهذا يفعل ظاهرة البحث والتعلم والاستكشاف والمهارات
الأكاديمية للطلاب. إنه جو من اللعب والتعلم بطرق جديدة ومبتكرة. ولقد تحولت المدارس إلى أماكن للتعلم والاهتمام العلمي
بدلاً عن كونها مبانٍ للتدريس والتلقين والنجاح والرسوب وسوق العمل والوظيفة...!
ليس في فنلندا اختبارات !
ليس هناك اختبارات عامة للطلاب خلال التسع السنوات الأولى، ولكن يقومون بتقييم الأداء بناء على اختيار 10% من كل
شريحة عمرية وتجرى الاختبارات وتحتفظ المدارس بالنتائج بكل سرية. بعد السنة الخامسة لا يسمح قانونياً بوضع درجات
للطلاب ولا يسمح بالمقارنة بينهم. المدرسون يضعون اختباراتهم الخاصة ولا يأخذونها من مؤسسات خارج المدرسة. ولا تقارن
المدارس مع بعضها وتبقى النتائج سرية حتى يطلبها مجلس التعليم الوطني لغرض تحسين التعليم. نتائج الاختبارات في
التعليم الثانوي والمهني، أن (5%) متفوقون و(5%) في النسبة الدنيا، والقطاع الذي بينهما هو المتوسط، وتستخدم هذه
النتائج لدخول الجامعات، وعليها يحدد دخول الطلاب في تخصصات العلوم الطبيعية أو الاجتماعية.
لقد كان كل التركيز في التعليم الفنلندي، على عملية التعلم بدلاً عن الاهتمام بتحضير الطلاب للتمكن من مواد دراسية،
والتقدم للاختبارات والنجاح، وإن أي طريقة جديدة وابتكار لتوسيع عملية التعلم وتقوية فاعليتها مرحب فيه ومشجع بقوة.
لقد استغرق منهم كل ذلك عقداً من الزمن وحسب، لتدريب المدرسين ووضع الأموال والوقت لإعادة هيكلة كل شيء لتعود
عليهم بالنتائج المأمولة، ثم توالت الخطى تتقدم في خط تصاعدي متسارع شكل ركيزة اقتصادية ومعرفية مدهشة تتطلع لها
الحكومات، لتستفيد من هذه التجربة الرائدة والفريدة. إن رأسمال فنلندا كان المواطن، من حيث تعليمه وتدريبه وقيمة معارفه
ومهاراته، هو ما صنع فنلندا اليوم ووضعها عالمياً في الموقع المشرف الذي تتجه له الأنظار في مجال التعليم العام والتعليم
التطبيقي والتدريب التقني والمهني.
ختاماً، أملنا بعد هذا العرض السريع الموجز عن تجربة فنلندا الفريدة في ميدان التعليم والتدريب، أن نقرأ أسرار هذه التجربة
الرائدة قراءة متأنية، ونفيد منها بما يناسب تطلعاتنا في هذا البلد، الذي يبحث وبشغف عن تطور لا يقل أهمية عن الذي وصلته
فنلندا أو غيرها من الدول المتقدمة في مجال التعليم والتدريب.
Ei kommentteja:
Lähetä kommentti