من الناحية الاجتماعية، تعتبر فنلندا من أفضل الأماكن في العالم لولادة النساء، بفضل الرعاية الصحية الفائقة التي توفرها مستشفياتها للنساء الحوامل، ولرضّعهنّ بعد الوضع. يحكي يونس، مهاجر مغربي مقيم في فنلندنا منذ 20 عاما، أنّ فنلندنا تُولي عناية خاصّة جدا للنساء الحوامل، ورعاية مماثلة للأطفال الصغار؛ ففي هذه الدولة الاسكندنافية الباردة لا تتهاون السلطات أبدا في العمل على نشوء مواطنيها في صحّة جيدة منذ مرحلة الولادة.
هناك، يحكي يونس، عندما يزداد الطفل لا يحتاج أبواه إلى الذهاب إلى مكتب الحالة المدنية، كما يحصل عندنا في المغرب، أو إلى البلدية أو إلى أي إدارة أخرى، بل يذهبان مباشرة بعد مغادرة المستشفى إلى بيتهما، فيما تتكلف السلطات بتسجيل الطفل في نظامها الالكتروني، والشيء الوحيد الذي يقوم به والدا الطفل هو وضع الاسم الذي اختاراه لطفلهما على ورقة تصلهما إلى غاية البيت، وتتكلف السلطات بالباقي.
الصحّة أوْلى الأولويات
هذا النظام المعتَمد في فنلندنا، يخوّل للسلطات أن تطلع على جميع المعلومات المتعلقة بمواطنيها، بنقرة زرّ فقط على الحاسوب، بما في ذلك الملف الصحّي للمواطنين، إذ أنّ المواطن بمجرّد أن يجلس إلى طبيب في مستشفى عمومي، يجد أنّ الطبيب على اطلاع تامّ بالملف الصحّي للمريض، والذي يتمّ تسجيل جميع المعلومات عنه في نظام إلكتروني.
فنلندنا، تَعتبر صحّة مواطنيها من أوْلى الأولويات، فمنذ السنة الأولى لولادة الطفل يتحتّم على والديْه أن يحملاه إلى المستشفى لإجراء فحص شامل على الفم والأسنان، ليس عن طيب خاطر، بل بشكل إجباري، ونفس الأمر بالنسبة للتلقيح؛ فما أن يصل موعده حتى تتمّ مراسلة أبوي الطفل من أجل إحضاره إلى المستشفى في حال ما إذا تهاونا أو قصّرا، وإذا لم يستجيبا تتمّ مهاتفتهما، إلى أن يستقدما طفلهما إلى المستشفى للتلقيح.
مستشفيات فنلدنا، يحكي يونس، تشبه فنادق خمس نجوم، وأطباؤها وممرضوها يتعاملون بمنتهى "الدّلال" مع المرضى، خصوصا الأطفال، الذين تقام لهم أنشطة ترفيهية، حيث ترسَل إليهم "بهلوانات" من أجل تخفيف معاناتهم وإدخال البهجة عليهم.
يقول يونس "إذا قارنتَ بين مستشفيات فنلدنا ومستشفيات المغرب، فمستشفياتنا أمام مستشفيات فنلندنا تشبه "بيت الخلاء"، ويضيف "هناك، تْبغي تنعس فالسبيطار، من شدّة نظافته وجودة الخدمات المقدمة بداخله، سواء في قاعات العلاج والتمريض، أو المرافق الصحية حيث تتوفر المستشفيات على حمامات نظيفة وجميع المرافق".
دولة الحق والقانون
في فنلدنا يُعتبر رئيس الدولة والوزراء مثل جميع المواطنين، يحكي يونس أنّ الوزراء هناك يستقلون الحافلة كأيها الناس، ويركبون الدراجات، ويضيف أنّ رئيسة الدولة بنفسها تتصرف كما يتصرف الجميع، تسير في الشارع العامّ مثل جميع الناس، وتتسوق من المتاجر الرخيصة.
كل هذا يجعل الجميع يحس ألا فرق بين مواطن وآخر، خصوصا وأنّ القانون، في حال ارتكاب أي مخالفة، يطبّق على الجميع بدون محاباة لطرف دون آخر، وبمنتهي العدْل. ففي ما يتعلق بقانون السير مثلا، لا تطبّق الشرطة غرامة مالية محدّدة على جميع المواطنين، بل تعتمد معيار "الاستحقاق".
عندما يرتكب سائق سيارة مخالفة، تبحث الشرطة في دخْله السنوي، وعلى ضوئه تقرَّر الغرامة التي ستفرضها عليه، وطبعا لن تُطبَّق غرامة متساوية على من يصل دخله إلى 40 ألف أورو، وآخر لا يتعدّى دخله 10 آلاف أورو سنويا.
كلما كان الدّخل مرتفعا، ترتفع قيمة الغرامة، وكلما كان منخفضا تنخفض قيمة الغرامة؛ هذا الأمر يجعل المواطنين، يشعرون بالمساواة. يتذكّر يونس كيف أنّ مخالفة بسيطة ارتكبها بسيارته كلفته 300 أورو، ومع ذلك دفعها بصدر رحب، "دفعت الغرامة وما بقاش فيا الحال، لأنني أستحقها"، يقول يونس، مضيفا أنه كلما ازداد المرء غنى، تتضاعف قيمة الغرامة، التي لا تنزل عموما عن 120 أورو، "باش يحسّ بها الواحد".
الشرطيّ أحَبّ الناس
إذا كان المغاربة يشتكون من جهاز الأمن، الذي يحتلّ المراتب الأولى من بين المؤسسات التي تتفشّى فيها الرشوة، إلى جانب القضاء والصحّة، فإنّ الشرطة في فنلندنا، تحظى بحبّ كبير من طرف سكان تلك الدولة الاسكندنافية. وإذا كانت الصحافة في الدول الغربية تقيم كل سنة استطلاعات رأي لمعرفة أكثر الشخصيات التي يحبّها المواطنون، فإنّ الشخصية المحبوبة لدى الشعب الفنلدني، هي الشرطي.
علاقة المواطن الفنلدني بجهاز الشرطة تبدأ منذ الطفولة، حيث يتضمّن المقرر الدراسي للتعليم الابتدائي تدريس "مادّة الجريمة"، والتي يدرّسها للأطفال رجال شرطة بزيّهم الرسميّ داخل المدارس، من هنا تنشأ علاقة جيّدة بين المواطن الفنلندي وجهاز الشرطة، والأمن بشكل عامّ منذ الطفولة، ويتجذّر الوعي باجتناب الجريمة، التي تعتبر فنلندنا من بين الدول التي تقلّ فيها معدلات الجريمة بشكل كبير.
المساواة بين الجميع
كل هذه الخدمات التي توفرها الدولة لمواطنيها، يجعل مواطني فنلدنا يبادلون وطنهم حبّا، بمن في ذلك المهاجرين الأجانب، الذين لا يشعرون بأي فرق بينهم وبين المواطنين الأصليين. يقول يونس "في فنلدنا لا أحس بأي فرق مع الفنلدبين، نظرا للمساواة التي يحظى بها الجميع، وأيضا لكون الجالية المغربية هناك نشيطة ومندمجة، لاعتبار أنّ أغلها جاء عن طريق الدراسة، صحيح أننا نشعر بالحنين إلى الوطن ولكننا لا نحس بأي فرق بيننا وبين الفنلنديين".
فمن ناحية الحقوق، يبقى كل شخص لديه بطاقة إقامة مخوّلا للاستفادة من جميع الحقوق التي يستفيد منها المواطنون الأصليون، بما في ذلك مساعدات الدولة في حال عدم إيجاد العمل، أو العجز عن مزاولته، وكذا الرعاية الصحيّة وتوفير ضروريات الحياة، حيث تتفكل الدولة بأداء مصاريف البيت ودفع منح التغذية، والتي قد تصل في المجموع إلى 2000 أورو شهريا.
لكن من هذا الذي سيبحث عن عمل إذا وفرت له الدولة كل شروط العيش؟ يجيب يونس عن هذا السؤال بالقول "الشعب الفنلدني لا يحبّ الكسل، ثمّ إن الحكومة لا تترك المواطنين جالسين في بيوتهم دون فعل أي شيء. إذا كان المواطن عاطلا عن العمل يوفّرون له تكوينا، حتى يكون مؤهلا للاندماج في سوق الشغل، وحتى إذا رفض فكرة العمل بصفة نهائية، فإن الحكومة تنهج معه سياسة تخفيض التعويضات تدريجيا، إلى أن يجد نفسه مجبرا على العمل رغما عنه".
أجور جيّدة وضرائب مرتفعة
فنلندنا من بين الدول التي ترتفع فيها نسبة الدّخل السنوي للأفراد، حيث تتراوح الأجور ما بين 10 أوروهات للساعة، و 16 أورو، وقد تصل إلى 30 أورو، حسب الأٌقدمية.
وبالموازاة مع ارتفاع الأجور، فإنّ الضرائب المطبّقة على الدخل ايضا تكون مرتفعة. يحكي يونس أن مجموع الضرائب عن الدخل التي دفعها خلال السنة الماضية وصلت إلى 10 آلاف أورو، عن مجموع دخله السنوي الذي وصل إلى 41 ألف أورو. ومع ذلك، يبدو مرتاحا، لأنه كلما ارتفع حجم الضرائب عن الدخل كلما كانت تعويضات التقاعد أكبر، "إضافة إلى ذلك، الضرائب اللي كاندفعها كانشوفها قدّامي، إيلا مْرض الواحد ومحتاج لعملية واخا تكلّف 100 مليون الدولة غادي تخلّصها". يشرح يونس برضا واضح.
هذه الرعاية التي يحظى بها المواطن الفنلندي، حسب المتحدث ذاته، تجعل الإنسان يعيش في سعادة، ويزداد إخلاصا لبلده، حتى وإن كان مواطنا غير أصليّ ويحمل الجنسية أو أوراق الإقامة فقط.
الخدمات المقدمة من طرف فنلندنا لمواطنيها، تشمل كذلك السكن، فإذا كان أصحاب شركات العقار في المغرب ينهبون جيوب المواطنين، ويبيعون المتر الواحد بأسعار خيالية، بعد أن يكونوا قد اقتنوه من الدولة بـ"ثمن البطاطا"، فإنّ الحكومة الفنلندية توفّر لمواطنيها مساكن منخفضة التكلفة، حيث تتوفر البلديات على مشاريع عقارية، عبارة عن منازل، وتبيعها للمواطنين بأسعار أقلّ من الأسعار التي تطبّقها شركات العقار الخاصة.
الحرص على راحة مواطني فنلندنا جعل حكومتها تعفي مواطنيها من أداء فواتير الماء، الذي يستفيدون منه بالمجان، ولا يؤدّون إلا فواتير الكهرباء والأنترت والهاتف. بخصوص الهاتف، يؤكد يونس أنه، وعلى الرغم من ارتفاع مؤشر القدرة الشرائية للمواطن الفنلندي، إلا أنّ أسعار المكالمات هناك منخفضة جدا، إذ لا يتجاوز سعر الاشتراك في "فورفي" 12 ألف دقيقة 10 أورو فقط، إضافة إلى رسائل هاتفية بلا حصْر.
أما عن علاقة المسؤولين بالمواطنين، فجميع المسؤولين، بمن في ذلك الوزراء، تتوفر أرقامهم الهاتفية للعموم، ويمكن لأي مواطن أن ينادي أيّ مسؤول في أي لحظة، دونما حاجة إلى وساطة أو موعد، ففي فنلندنا تبدو الأمور شفافة، لذلك لا داعي للوساطة ولا "للدفع المسبق" من أجل الحصول على خدمة ما، أو مقابلة مسؤول. "هنا الرشوة ما تشمّهاش، وما عمّر تطيح ليك على بالك أنك تعطيها شي نهار". .
Ei kommentteja:
Lähetä kommentti